رواية ورواية

قال محدثي: كنت في ذلك الوقت غارقًا في دروسي، فقد رسبت — كما تعلم — في الامتحان، وأبيح التقدم له مرة أخرى، فعدت من البلد ونزلت على أقربائي هؤلاء وشرعت أستعد لأداء الامتحان في المواد التي أخفقت فيها، وكانت أربعًا تضاف إليها ثلاث أخرى اخترتها طمعًا في «المجموع»، فعكفت على دروسي وأقبلت على تحصيلها، وما أكثر ما كنت أفني ليلي بالسهر في مراجعتها! فكانت «سميحة» تزجرني عن ذلك وتقول إن سهر الليل يهد القوى ويكثف العقل، وأن عمل النهار أوفر عائدة وأرفق بالجسم والعقل، وكانت هي قد فازت «بالبكالوريا» ولم تتلكأ عندها مثلي، ووثبت منها إلى كلية الطب، ولم تكن قد قضت فيها غير عام واحد، ولكنها — مذ التحقت بها — أصبحت تتحدث عن الصحة والعلل وطبابها كأنها جالينوس، وكنت أحبها غير أن دروسي شغلتني عنها، وكانت معي في البيت فلا داعي للشعور بالوحشة وفراغ الدنيا حول المرء، وكنت إذا تعبت أقوم فأتمشى في البيت وأدور بالغرف — فما ثم غيرها — وقد أتلبث شيئًا عند سميحة وهي مستلقية على سريرها — أو على الأصح نائمة كقاعدة فوقه — وفي يدها قصة تزجي بها الفراغ، وكانت تحب الروايات البوليسية مثلي، فلا يفوتها شيء مما ينقل إلى العربية في هذا الباب، وأنا مثلها وعسى أن يكون هذا هو الذي دهورني ولكنه لم يدهورها، فلا أدري ما علة إخفاقي وسر نجاحها … لا تعترض … إني أعرف ما تريد أن تقول ولهذا أقول لك إنها ليست أذكى مني وإن كان لا يسعني إلا أن أعترف أنها أمضى عزمًا وأقوى إرادة وأقوم طريقًا إلى غايتها حين تكون لها غاية، وما أظن بها إلا أنها أرادت أن أعشقها فعشقتها، ولكن الذي يحيرني أنها تأبى عليَّ راحة القلب واطمئنان البال، ولا تنفك تظهر لي النفور من هذا الحب والكراهة له والزهد فيه، وأحسب أن هذه هي طباع المرأة، فهي تعني «أريد» حين تقول «لا أريد» … ما علينا … انتهى الامتحان واستطعت أن أنام مرتاحًا، ووسعني أن أدير عيني فيما حولي، وأن أجعل لقلبي حظًّا بعد طول الحرمان، ولكن سميحة كانت تنفيني عن البيت وتقول لي إني أتلف صحتي، فبي حاجة إلى الهواء الطلق، وكان هذا صحيحًا لا شك فيه، ولكن هذه «الأستاذية» التي كانت تتكلفها معي كانت تثقل على نفسي، وكانت تخرج معي أحيانًا، ولكن كما يخرج المعلم مع تلاميذه الصغار إلى حدائق الحيوان أو مرصد حلوان، فلا أشعر أني مع الفتاة التي أحبها، ولا أجد متعة أستفيدها من هذه الرحلات التي يطيب فيها الغزل عادة، والتي كنت أمني نفسي وأحلم، وقد قلت لها مرة ونحن في حديقة الأرمان: «يا ستي ما هذا الحال المقلوب.»

قالت: «أي حال … ما لك …؟»

قلت: «لكأني أسير مع شرطي.»

فلم تضحك — وكنت أظنها ستفعل — فغاظني ذلك فقلت: «أليس حالًا مقلوبًا أن نضحك في المطبخ ونعبس في الحديقة الحالية …؟!»

فسألتني مستغربة: «المطبخ … متى ضحكنا في المطبخ؟»

فقلت لها بضجر: «لا تكوني حرفية … إنما أعني البيت وأنت تعرفين ما أعني فلا تغالطي.»

قالت: «إن البيت ليس من مرادفاته المطبخ.»

فسكت ولم أقل شيئًا — وماذا عسى أن أقول؟

وحدث مرة أخرى وكنا معًا — على ما يبدو للناس أما في الحقيقة فقد كان كل منا وحده — فضاق صدري فقلت: أرفِّه عن نفسي بالغناء، فرفعت صوتي وانطلقت أغني:

يا بت أنا بدي أبوسك
بس أبوسك
وأطرب وأحظى بكئوسك
رقي شوية

فلم يرعني إلا قولها: «ليس أضر من الخمر ولا أقتل.»

فقلت: «يا ستي إن المراد بالكئوس هنا الشفاه الرقيقة وبالخمر الريق العذب.»

فقالت: «اخص …»

فقلت مندهشًا: «اخص …؟»

قالت: «اخص …»

قلت: «طيب …»

وهذا يريك من أي معدن صيغت سميحة، ولكني على هذا كنت أحبها حبًّا عظيمًا؛ لأني كنت واثقًا أن هذه قشرة نشرتها كلية الطب على صفحة معدنها الصافي، وستزول ولا شك مع الأيام.

وصح ظني، فقد كانت — كما قلت لك — تحب الروايات البوليسية حبًّا جمًا، وكنت قد فرغت من الامتحان كما أسلفت فوسعني أيضًا أن أعود إلى هذه الروايات، وكان قد صدر منها أخيرًا رواية طويلة في مجلدين اسمها «السم في الدسم»، فاشتريتهما وغرقت فيهما — أعني في المجلد الأول — واستغنيت بهما عن هذه النزهات والرحلات التي لم أكن أفيد منها أي متعة، بل كنت أفيد منها التنغيص، وكنت أخفيهما عن عينها مخافة أن تسطو عليهما، وكانت الرواية قد نفدت بسرعة فلا سبيل إلى نسخة أخرى غير التي كانت معي إذا هي ضاعت فلا عجب إذا كنت قد حرصت عليها وضننت بها، ولا أكتمك أن نفسي حدثتني أن أعذبها — أعني سميحة — بعد أن أفرغ من الرواية وأعرف سر الجريمة، وذلك بأن أخايلها بها وأحرك نفسها لها، ولا أمكنها منها، ولماذا لا أعذبها كما عذبتني! … ثم إن تعذيب المرأة أحيانًا لا يكون من القسوة، فقد وجدت على ضآلة تجربتي وقلة خبرتي أنها تستحلي هذا — أعني المكايدة — إذا لم تخرج إلى الإيلام ولم تجاوز الحدود المعقولة … ومع ذلك من يدري فلعلها تستعذب العذاب بلا قيد أو شرط … لا أدري.

وفي أحدى الليالي عدت من مأدبة كنت مدعوًّا إليها مع لفيف من إخواني وأندادي أقيمت لتوديع واحد منا مسافر إلى إنجلترا لإتمام تعليمه هناك، فلما رجعت إلى البيت دخلت غرفتي وأنا أمنِّي النفس بساعة جميلة أقضيها مع الروائي البارع الذي أبدع ذهنه صوغ هذه القصة الممتعة، وإذا بها قد اختفت … وكنت قد دسستها بين المرتبتين المطروحتين على السرير، فإن أقاربي هؤلاء يخافون الفيران والصراصير فيكدسون المراتب على السرر فتعلو جدًّا ويحتاج المرء إلى كرسي يصعد عليه، ولم أشك في أن سميحة سرقت روايتي وأنها تنعم بها في سريرها على عادتها حين تريد القراءة، وكانت الساعة الحادية عشرة فقدرت أن تكون قد قطعت مرحلة طويلة وبلغت العقدة التي لا يمكن أن يستريح القلب إذا لم يقف على حلها، فمضيت إلى غرفتها ونقرت ودخلت فقالت: «نعم، خير إن شاء الله.» فقلت وأنا أرفع نفسي لأجلس على حرف السرير — فإنه عالٍ كما قلت لك:«أوه لا شي … إنما جئت لأتحدث معك قليلًا.»

قالت بجفوة: «ليس هذا وقت الحديث فقم من فضلك.»

قلت: «بل قولي إنك تقرئين رواية السم في الدسم … أليست بديعة؟»

فاطمأنت، لظنها أني فرغت منها ففي وسعها الآن أن تمضي في قراءتها من غير أن تخاف أن أقطع عليها — بالسرقة أو الخطف — حلاوة المتعة، ورأيت أمارات هذا الاطمئنان في وجهها ففرحت، فإن الانتقام يكون أوقع إذا خيب أملًا قويًّا، وأطلت الحديث فسئمتْ واشتهت أن تعود إلى روايتها وقالت: «هل تنوي أن تنام هنا الليلة … إذا كنت تنوي هذا فقل لي لأنتقل إلى غرفة أخرى.»

ونهضتْ عن السرير ومضت إلى الشرفة ففتحتها وأطلَّت منها، فلمحتُ الرواية تحت الوسادة فما أسرع ما دسستها في جيبي ثم قلت وأنا أمضي إلى الباب: «إذا كنت تكرهين وجودي إلى هذا الحد فإني ذاهب إلى حيث …»

فقالت من الشرفة: «ألقت»، وضحكت.

فلم يسوؤني ذلك، فإن الذي يضحك أخيرًا يضحك كثيرًا كما يقول الإنجليز على ما حدثنا معلمنا. وأوصدتُ باب غرفتي بالمفتاح واستوثقت منه بهزه مرارًا وبقوة لأرى هل يستطيع محنق مغيظ أن يكسره، ثم قعدت على كرسي وراء الباب ورحت أنتظر.

ولم يطل انتظاري فقد اهتز الباب، فصحت وأنا أتكلف الفزع: «من؟»

قالت: «افتح من فضلك.»

قلت: «إذا كنت تنوين أن تقضي الليل في هذه الغرفة فقولي لي لأنتقل إلى سواها.»

قالت: «لا تكن فظًّا … لماذا سرقت الرواية …؟»

قلت: «بضاعتنا ردت إلينا … هل عرفت من القاتل؟ … لعلك تظنين أنه «رودلف» … كما كان المحققون يتوهمون … كلا يا فتاتي … إن السر أعمق وأخفى من ذلك وإن الروائي لبارع حقًّا … والآن أرجو أن تذهبي فقد بلغت الفصل الذي يشقى صبر المرء إذا لم يتمه في مثل لمح البصر … اذهبي ونامي يا حبيبتي واحلمي بالصيني فإن له لدخلًا في الأمر وعلاقة بالسر.»

قالت: «صحيح؟»

قلت: «طبعًا … لقد عرفت ذلك منذ دقيقة واحدة.»

قالت: «ألا تخبرني من القاتل؟ … إني أكاد أجن ولا أستطيع أن أنام حتى أعرف هذا، فكن لطيفًا وأخبرني.»

قلت: «حتى تكوني أنت لطيفة.»

قالت: «ماذا تطلب؟ … قل وخذ، وهات الرواية.»

قلت: «الرواية كلها … لا … إن ثمنها غالٍ جدًّا … على أني بعد التفكير العميق أرى أن المساومة لا تليق ولهذا أرفض كل ما تعرضينه كائنًا ما كان.»

قالت برقة: «ترفض أن تعلم أني … أني … أني … أحبك (بصوت خافت).»

فانتفضت واقفًا وصحت: «إيه؟»

قالت: «لا تَصِح هكذا …»

ووضعت فمها في ثقب المفتاح وهمست: «يا عبيط … إني أحبك … هل تفهم … وأنوي أن أتزوجك على رغم أنفك … فنضع لهذه المنافسة السخيفة حدًّا ونستطيع أن نقرأ الروايات البوليسية كلها معًا … تقرأ لي فأسمع … وأقرأ لك فتسمع.»

فاعترضت وقلت: «ولكني قد أحب أن أسرع وأقلب بضع صفحات ليطمئن قلبي، أو تحبين أنت ذلك فيقع الخلاف.»

قالت: «كلا … على كل حال … سأكون واثقة أن الرواية باقية في البيت، فأنا أتعهد لك أن أقدمك على نفسي وأتركك تسرع أو تبطئ كما تحب … وحسبي أن تترك لي فتات المائدة.»

فأثر في نفسي هذا الإخلاص والإيثار … وأي إيثار أعظم وأي تضحية أكبر من أن تتركني أقرأ — أو أتم — رواية بوليسية قبلها …؟ هذا إخلاص وإيثار لم يسمع — أو على الأقل لم أسمع أنا بمثلهما — فلا عجب إذا كنت قد فتحت الباب بسرعة وفتحت مع الباب ذراعي لها فدخلت في ذراعي قبل أن تدخل من الباب.

وكان لا بد أن أجزيها إخلاصًا بإخلاص وإيثارًا بإيثار، فقدمت إليها الرواية وقلت: «اقرئيها قبلي يا نور العين.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤