خاتمة

إذا كانت كتابات اسپينوزا، بشكلها ومضمونها اللذين عرضناهما في هذا البحث، يقبلان شتى أنواع الاختلافات في التفسير، فإن التطور اللاحق الذي مرت به فلسفة اسپينوزا بعد وفاته يقدم أمثلة ملموسة للنمط الذي تسير عليه هذه الاختلافات، ففلسفة اسپينوزا كانت في وقتها أشبه باختراع سابق لأوانه، وكما أن استغلال الطاقة البخارية لم يتطور بعد أن اكتشف «هيرو Hero» السكندري١ مبادئه الأولى منذ ألفَي عام؛ لأن الظروف التاريخية والاجتماعية لم تكن قد بلغت من النضج في ذلك الوقت ما يسمح لها باستيعاب هذا الاكتشاف، فإن فلسفة اسپينوزا لم تُحدِث أثرها الأكبر في العصر الذي ظهرت فيه لأن ذلك العصر لم يكن على استعداد بعدُ لتقبُّل مثل هذه الأفكار. وكان لا بُدَّ من مرور قرن كامل قبل أن تتهيأ الظروف التي تجعل قبول فلسفة اسپينوزا أمرًا ممكنًا. وظل اسپينوزا مُهمَلًا، لا يُذكَر إلا باللعنات طوال هذا القرن، حتى أعيد اكتشافه على يد الفيلسوف الألماني «ياكوبي Jacobi» في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وألَّف هذا الأخير في عام ١٧٨٥م كتابًا عن مذهب اسپينوزا في صورة رسائل موجهة إلى مندلسون (Über die Lehre des Spinozas, in Briefen an den Herrn Moses Mendelssohn).
واتضح من هذا الكتاب أن اسپينوزا كان من أقوى العوامل التي أثرت في تفكير شخصية لها مكانتها الكبيرة في الفكر الألماني، هي شخصية «لسترج Lersstrg»، ثم مجَّده «جوته» في كتابه «الشعر والحقيقة»، وأصبح اسمه على لسان الشعراء والفلاسفة والأدباء في ذلك العصر، واعترف فشته وشلنج صراحة بفضل اسپينوزا عليهما، بينما قال هيجل «إما أن يكون المرء اسپينوزيًّا أو لا يكون فيلسوفًا على الإطلاق.»٢ وفي الوقت ذاته كان هناك تأثير موازٍ له في الأدباء والمفكرين الفرنسيين الذين مهدوا للثورة الفرنسية، وتأثير آخر في الشعراء الرومانتيكيين الإنجليز، ثم جاء بعد ذلك طوفان الأبحاث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والقرن العشرين.

في هذا التطور كان كل عصر، وكل مفكر، يجد في اسپينوزا ما يريد أن يجده فيه؛ فقد تجاهله الجميع في الوقت الذي كانت لا تزال فيه للصورة التقليدية للعقائد سيطرتها، ثم أصبح تأثيره هائلًا على الأدباء بوجه خاص في العصر الذي كان يقبل نوعًا من التأليه الرومانتيكي للطبيعة الشاملة. وبعد أن أصبح اسمه راسخًا في عالم الفكر، أخذت المذاهب — وأحيانًا العقائد — تتجاذبه وتفسره على النحو الذي يلائمها.

وكان هذا الاكتشاف اللاحق من أقوى العوامل التي أدت إلى تعدد تفسيرات فلسفة اسپينوزا وتباينها إلى حد التعارض التام. وقد لاحظ «كاسيرر» هذه الظاهرة، ونبَّه إليها؛ إذ أشار إلى أن اسپينوزا — على خلاف معظم الفلاسفة الآخرين — لم يمارس تأثيره الأكبر في ميدان الفلسفة خلال حياته، أو بعد وفاته بفترة قصيرة، ولم تظهر بعده مدرسة، ولم يتأثر العالم بفكره إلا بعد «إعادة اكتشافه» في عصر متأخر، ولا سيما في القرن التاسع عشر. وهكذا مارس اسپينوزا تأثيره في عصر مختلف تمامًا عن عصره، يتحدث بلغة مختلفة ويفهم الألفاظ فهمًا مغايرًا.٣ وليس أدل على صعوبة تخلُّص شُرَّاح اسپينوزا من خطأ إقحام مذاهبهم الخاصة في شروحهم له، من أن كاسيرر نفسه — الذي نبَّه إلى هذه الصعوبة، وأخذ على عاتقه أن يفهم ألفاظ اسپينوزا كما فهمها هو ذاته، ويفسِّره من خلال عصره نفسه، لا من خلال ما أقحمته العصور التالية بطلانًا في تفكيره — قد أدخل في تفسيره لاسپينوزا بعض العناصر الكانْتيَّة، فأكد أن نقطة بدايته الأساسية كانت هي قوى الروح التي تفهم العالم من ذاتها، لا من أي مصدر خارجي، وتستخلص من مبادئها الذاتية معرفة للعالم بطريقة ضرورية مطلقة.٤ وهكذا وقع هو ذاته في الخطأ الذي نبَّه إليه.

ولسنا نزعم أن هذا البحث قد تخلَّص تمامًا من عنصر «الإسقاط» الذاتي، ولكنا نستطيع أن نقول إن العامل الأساسي الذي تحكَّم في تفسيرنا الخاص لاسپينوزا هو الرغبة في تحقيق أكبر قدر ممكن من الاتساق بين أفكار ذلك الفيلسوف الذي كان يزن كلماته بميزانٍ دقيق، والذي كان يستحيل في رأينا، أن يكون قد وقع في التناقض الذي يعزوه إليه مفسروه عادة عندما يشرحون ألفاظه وتعبيراته ذات المظهر اللاهوتي بمعانيها الحرفية.

وفي سبيل تحقيق ذلك الاتساق تقدَّمنا بذلك الفرض الذي كان كثير من شُرَّاح اسپينوزا يرفضونه رفضًا قاطعًا، وكان غيرهم يقبلونه جزئيًّا ولا يطبقونه تطبيقًا عامًّا، وهو أن اسپينوزا «تعمَّد» أن يضفي على معانيه الثورية مظهرًا لاهوتيًّا أو وسيطيًّا يقلل من وقعها على نفوس المتعصبين، ولكنه في الوقت ذاته قدم إلى القارئ اليقظ كل الإرشادات الكفيلة بنقل معانيه الحقيقية إليه. وقد يرفض الكثيرون مثل هذا التفسير لأسباب أخلاقية — قدَّمنا الرد الكافي عليها في الموضع المناسب — ولكن أحدًا لا يستطيع أن ينكر أن أفضل معيار للمفاضلة بين التفسيرات، في حالة فيلسوف تتضارب شروحه من النقيض إلى النقيض، هو معيار الاتساق، وأن فلسفة اسپينوزا لا تظهر متسقة من بدايتها إلى نهايتها إلا في ظل تفسير يفصل تمامًا بين مظهر ألفاظه ومعانيها الحقيقية، ويستعيض عن الرموز اللاهوتية، في منهجه الرياضي، بمعانٍ تتمشى مع الروح العلمية التي كان اسپينوزا من أعظم، ومن أول، من تحدَّثوا باسمها وصدُّوا عنها هجمات التعصب والجهل. وفي رأينا أن هذا الدفاع عن الروح العلمية كان هو الخيط الجامع بين كل أطراف فلسفة اسپينوزا، وأن كلَّ مَن جعلوه متهاونًا، أو مترددًا، أو متناقضًا مع نفسه، في هذا الدفاع، قد أساءوا إليه، وأن هذه الإساءة كانت — لسوء الحظ — متعمَّدة في كثير من الأحيان، لتحقيق أغراض لا صلة لها بالبحث العلمي النزيه. ولو كان هذا البحث قد ساهم في كشف هذا التشويه — المقصود منه وغير المقصود — لكان قد حقق بذلك أغراضه كاملة.

١  عالم رياضي وفلكي وطبيعي يوناني عاش في الإسكندرية في القرن الأول قبل الميلاد، وله أبحاث هندسية هامة واختراعات عملية مفيدة، من بينها آلة بخارية بسيطة وساعة مائية.
٢  Lectures in the Hist. of Phil. Vol. III. p. 283.
٣  Cassirer: Spinozas Stellung … (op. cit.) S. 327, 328.
٤  Ibid. S. 333.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤