الفصل الثامن

اسپينوزا واليهودية

(١) الآراء المختلفة في مصادر تفكير اسپينوزا

ينبغي أن نشير منذ البداية إلى أن المنهج الذي اتبعناه في تفسير فلسفة اسپينوزا يؤدي إلى نظرة جديدة كل الجِدة إلى مشكلة المؤثرات المختلفة في فلسفته؛ فهذا المنهج مبني على محاولة إيجاد تفسير متسق لهذه الفلسفة، وهي محاولة لا نحجم فيها عن الغرض الذي خشي الكثيرون أن يقولوا به — وإن يكن البعض قد لمَّحوا إليه — وهو أن اسپينوزا كان يتعمد استخدام لغة لاهوتية مدرسية ليُخفي معانيه الثورية التي تقف مع المجال اللاهوتي والمدرسي على طرفي نقيض. وقد مضينا في تطبيق هذا الفرض من البداية إلى النهاية، وأدى هذا التطبيق إلى اختفاء التناقض الصارخ الذي نُسب إلى اسپينوزا في كثير من الأحيان، وإلى ظهور فلسفته في صورة مذهب فكري محكم يؤمن كل الإيمان بالعلم ويستبعد تمامًا كل عنصر غائي أو فوق الطبيعي، حتى في الحالات التي يبدو فيها موغلًا في الصوفية، ومن المؤكَّد أن النتائج الناجحة التي يؤدي إليها تطبيق الفرض هي وحدها دليل قوي على سلامة الفرض ذاته، فضلًا عما يستند إليه الفرض أيضًا من أدلة مباشرة مستمَدة من كتابات اسپينوزا وظروف حياته وعصره. ولا بد في بحث مبني على الفرض القائل إن الشكل الظاهري لكثير من كتابات اسپينوزا لا يعبِّر عن معانيها الحقيقية، من أن تتخذ مشكلة المؤثرات التي يُرَدُّ إليها تفكيره دلالة جديدة كل الجِدة؛ ذلك لأن الطريقة المتبعة في رد تفكير اسپينوزا إلى مذاهب معينة سابقة عليه، هي الكشف عن أوجه شبه بين قضايا معينة لديه، وبين قضايا أخرى في هذه المذاهب، أو بين ترتيب العرض عنده وترتيبه في كتابات أصحاب هذه المذاهب (وهذا هو ما فعله ولفسون بتفصيل مرهق في كتابه «فلسفة اسپينوزا»)، ولكن هذا التقريب يتعلق، كما هو واضح، ﺑ «الشكل الظاهري» لكتابات اسپينوزا. وقد كان اسپينوزا يستخدم بالفعل في كتاباته ألفاظ المَدْرَسِيِّين وتعبيرات العصور الوسطى وقضايا الفلاسفة اليهود القدماء والعبارات اللاهوتية المألوفة، ولكن هذا كله لا يعدو أن يكون متعلقًا بالوجه الظاهري لكتاباته. أما المعاني الحقيقية لهذه الكتابات فكانت تدور في مجال مختلف تمامًا، مجال جديد كل الجِدة بالنسبة إلى كل ما عُرف في هذه التيارات التي يُفترض أنه تأثَّر بها.

ونستطيع أن نقول إن اسپينوزا قد «تعمَّد» هذا التأثر الشكلي الظاهري، ويبدو في رأينا أنه عندما أراد أن يدوِّن أفكاره العلمية التي تعد ثورية حقًّا بالنسبة إلى العصر الذي عاش فيه، قد تساءل: كيف أعبِّر عن هذه الأفكار الجريئة بأقل الأساليب استفزازًا لأصحاب النزعات التقليدية ولرجال الدين؟ وكان الجواب الواضح هو أن أفضل الوسائل هي اتباع نفس الأسلوب الذي اعتاد هؤلاء أن يكتبوا به. وهكذا كان لا بُدَّ له من بذل مجهود مضاعف؛ أي أن يكتب بأسلوب ظاهره لاهوتي، ويحتفظ في نطاق هذا الأسلوب ذاته بكل المعاني الانقلابية التي تضمنتها فلسفته الخاصة. وهذا يفسِّر لنا الجهد المضني الذي بذله في صياغة كتاب «الأخلاق» وترتيب قضاياه واحدة بعد الأخرى على النحو الذي يفي بهذين الغرضين معًا؛ وعلى هذا الأساس فإن الجهود التي يبذلها معظم شُرَّاح اسپينوزا في سبيل تتبُّع الأصول التي استُمِدت منها فلسفته ما هي إلا جهود تتعلق ﺑ «شكل» كتاباته فحسب. وكل ما يحرزونه في هذا الصدد من نجاح لا يدل على براعة على الإطلاق؛ إذ إنه قد «تعمَّد» أن يقرِّب كتاباته من كتابات الآخرين بقدر استطاعته، في الوقت الذي كان يعلم فيه أن هدفه مختلف تمامًا عن كل ما قالوا به. وإذن فلا بد، تبعًا لتفسيرنا هذا، من أن تتضاءل إلى حدٍّ بعيد أهمية مشكلة المؤثرات في تفكيره.

وقد أرجع بعض الشُّراح فلسفة اسپينوزا إلى ديكارت، ورأوا أن موقع اسپينوزا في عالم الفكر هو موقع فيلسوف ينتمي إلى المدرسة الديكارتية أو إلى الفترة الديكارتية في تاريخ الفلسفة. وهذا الرأي يرجع، على الأرجح، إلى هيجل، الذي قال في مستهل بحث له عن اسپينوزا إنه «قد سار بالمبدأ الديكارتي حتى آخر نتائجه المنطقية.»١ ومع ذلك فقد بيَّنَّا من قبلُ أن قضاء اسپينوزا التام على ثنائية المادة والروح، وإنكاره بالتالي ثنائية الله والطبيعة، واستبعاده كل نوع من الغائية (التي استبقى ديكارت عناصر منها في فلسفته النظرية، وإن يكن قد استبعدها بدروه في نظرياته العلمية الميكانيكية)، فضلًا عن تحديد موقفه من السلطة الدينية تحديدًا أوضح وأجرأ كثيرًا من ديكارت — كل ذلك يجعل من المحال أن يكون تأثير ديكارت هو التأثير الحاسم لديه، وإن كان من المستحيل في ذلك العصر، بطبيعة الحال، أن يتجاهل أي مفكر شخصية ديكارت الضخمة في عالم الفلسفة. وهكذا رأينا هيجل نفسه يضيف إلى تأثير ديكارت مؤثرات أخرى شرقية، هي المؤثرات اليهودية. ولقد سبق أن اقتبسنا رأي «لاشيزري Lachièze-Rey» الذي انتهى من دراسته المقارنة إلى القول بضآلة أهمية المؤثرات الديكارتية في فلسفة اسپينوزا. ونضيف إلى ذلك، في هذا المجال، قول «هفدنج»: «إن اسپينوزا لم يكن ديكارتيًّا على الإطلاق، ولكنه تعلَّم الكثير من ديكارت، وانتفع من كثير من أفكاره، كما استخدم مصطلحه الفلسفي إلى حد معين.»٢
ومع ذلك فمن المؤكد أن محاولة التقريب بين اسپينوزا وبين ديكارت تعد أمرًا مشروعًا بالقياس إلى المحاولات الأخرى التي تُبذَل للتقريب بين اسپينوزا وبين مذاهب فلسفية أو دينية أخرى لا توجد بينه وبينها أية صلة حقيقية. فبين اسپينوزا وديكارت يوجد على الأقل ذلك العالَم الجديد الذي اكتُشِف منذ عصر النهضة الأوروبية، عالم «الطبيعة» الذي تغنَّى به الشعراء وتوغَّل فيه الفنانون دون خوف واكتشف بقاعِه الملاحون المستكشفون وبحث في أسراره وقوانينه العلماء. ولكن ماذا نقول في تلك المحاولات التي تُبذَل للتقريب بين فلسفة اسپينوزا ومذهب كالأفلاطونية المحدثة مثلًا؟ إنها ليست محاولات عابرة، بل هي تظهر لدى مجموعة من شرَّاحه المتعمقين: منهم مثلًا «پولوك Pollock»،٣ ومنهم «بروشار Brochard»، الذي يؤكد وجود قرائن قوية على تأثر اسپينوزا بأفلوطين لأنهما معًا «يتفقان على تصوُّر الله على أنه علة فاعلة، وقوة تستمد المعلولات الكثيرة من ذاتها وبقدرتها الخاصة، وبفعلها المستمر تحتفظ الأشياء بوجودها … فمن الواضح أن فكرة القوة هي التي تخطر في أكثر الأحيان بذهنه في كل جوانب فلسفته.»٤ بل ويذهب إلى حد القول: «إن النفوس [عند اسپينوزا] تشارك في الذهن الإلهي، وتوجد فيه بالفعل، لا من حيث هي تكوِّن النفس البشرية بوجه عام، وإنما من حيث هي نفوس فردية تعبِّر عن ماهية جسم معين. ومثل هذه النظرية موجودة لدى أفلوطين.»٥ ويتحدث «موريس كوهن» عن «التراث الأفلاطوني المحدث العظيم الذي تشبَّع به ذهن اسپينوزا.»٦ وعن تمكُّن اسپينوزا من الاحتفاظ «بجميع القيم البشرية العظيمة للأفلاطونية المحدثة والروحية بوجه عام.»٧

مثل هذه المحاولات للتقريب بين فلسفة اسپينوزا وبين الأفلاطونية المحدثة هي في رأينا محاولات ساذجة تمامًا. فمن العبث إضاعة الجهد في تلمُّس أوجه شبه سطحية بينه وبين مثل هذه التيارات الفكرية، في الوقت الذي ينطق فيه محتوى فلسفته بالتنافر التام بين آرائه وبين مثل هذا المذهب الحافل بالغائية وتشبيه الطبيعة والعالم بالإنسان وكراهية العلم والمعقولية. وإذا كانت هذه المحاولات تُبذل من أجل إثبات العلم أو سعة الاطلاع، فإن ذلك يتم قطعًا على حساب العقل والمنطق السليم، ففكرة «القوة» التي اعتقد بروشار أنها طاغية في فلسفة اسپينوزا، هي أبعد التصورات عن ذهنه؛ لأنها تنطوي على نظرة إلى الكون من خلال الإنسان. ونظرية اسپينوزا في العلاقة بين النفس والجسم، وفي فكرة النفس بوجه عام، هي أبعد ما تكون عن تفكير أفلوطين؛ إذ كان كل هدف اسپينوزا هو أن يقضي على القول بكيان مستقل للنفس، كما لو كانت «دولة داخل دولة». وأبعد الأمور عن ذهن اسپينوزا أن يقول بنفسٍ كُلِّيَّة في الكون أو بغير ذلك من مظاهر تشبيه الكون بالإنسان. هذا إلى أن فكرة مشاركة النفوس الفردية في النفس الكلية كانت عند أفلوطين وسيلةً لإثبات خلود النفس بالمعنى التقليدي الذي رفضه اسپينوزا رفضًا صريحًا قاطعًا. أما الجزم بأن اسپينوزا قد «تشبَّع» بالأفلاطونية المحدثة فقولٌ لا يقوم عليه أي دليل؛ لأنه إذا كان قد تعرَّف على هذا التراث من خلال مَن درسَهم من مفكري العصور الوسطى، فليس معنى ذلك أنه قد «تشبَّع به» أو آمن به على الإطلاق، بل إن كل الدلائل تدل على أنه قد نبذه في نفس اللحظة التي نبذ فيها المبادئ الأساسية لتفكير العصور الوسطى. وإنه لمن الغريب حقًّا أن يقرب شارح — على أساس تشابُه سطحي أو بناء على تفسيره الخاص لنصوص معينة — بين فيلسوف عقلي دقيق مثل اسپينوزا وبين مذهب آخر تتغلغل الغائية في كل جوانبه، ويحتشد بالأفكار اللاعقلية واللاعلمية، ﮐ «المبادئ أو العلل البذرية»، و«التعاطف» الكوني، والقوى الخفية التي تزخر بها الطبيعة؛ أعني مذهبًا لا يمكن أن يقال عنه سوى أنه نكسة شديدة للمعقولية اليونانية واتجاهاتها العلمية السليمة.

•••

ولكن هذه المحاولات كلها هينة إلى جانب محاولة أخرى كانت أوسع انتشارًا بكثير، بذلها عدد كبير من شُرَّاح اسپينوزا اليهود — وإن لم يخلُ الأمر من بضعة مفكرين غير يهود ساروا في الاتجاه نفسه — للتقريب بين فلسفته وبين التراث اليهودي، بل للنظر إليه على أنه يُمثِّل مظهرًا رئيسيًّا من مظاهر ذلك التراث. هذه المحاولة لا تقوم، في رأينا، على سوء تفسير فحسب، بل هي مبنية أيضًا على سوء النية، وعلى استغلال متعمد للعلم في سبيل إرضاء نزعات عنصرية معينة، وهو أسوأ أنواع التشويه في البحث العلمي.

ويتفاوت هؤلاء الشُّراح في درجة وطريقة تقريبهم بين فلسفة اسپينوزا وبين اليهودية؛ فبعضهم يتجاهل معظم نصوص اسپينوزا ويركز اهتمامه على نص واحد أو نصَّين منتزعين من سياقهما، ليؤكد تأكيدًا لا عقليًّا قاطعًا أنَّ اسپينوزا ظل مفكرًا يهوديًّا من البداية إلى النهاية. وبعضهم الآخر لا يصل ذهنه إلى هذا الحد من السطحية وضيق الأفق — وإن يكن لا يقل عن الأولين تعصبًا — فيحاول أن يتحايل على النصوص ويطوعها لأغراضه الخاصة بطريقة فيها شيء من الدهاء، ولكن هدفها، آخر الأمر، هو أيضًا إثبات يهودية تفكير اسپينوزا على حساب الحقائق القاطعة، وسوف نعرض فيما بعدُ أمثلة عديدة لهذين النوعين من الشُّرَّاح، ولكن ستصادفنا أمثلة أخرى غير قليلة لشرَّاح كانوا هم أنفسهم من اليهود، ولكنهم لم يستطيعوا مسايرة الأنماط السابقة من المفكرين، وسلَّموا بأن تفكير اسپينوزا لا يمكن أن يُعَد جزءًا من التراث اليهودي على الإطلاق.

وسوف نبدأ بحثنا بالواقعة الأساسية في هذا الموضوع وهي واقعة طرد اسپينوزا من المجتمع الديني اليهودي؛ أي توقيع أحبار اليهود لعقوبة «الحرم» عليه، وهي واقعة يتجاهلها، أو يخفف من شأنها، معظم الشُّراح اليهود، وإن كانت قاطعة الدلالة؛ إذ إن اليهودية الدينية قد طردت اسپينوزا من صفوفها رسميًّا، ولم يعبأ هو ذاته بهذا الطرد، بل بادر إلى تغيير اسمه من صيغته اليهودية «باروخ» إلى مقابله اللاتيني «بندكتوس» ولم يتراجع عن موقفه هذا إلى النهاية؛ لذلك كان من الضروري أن نبدأ بحثنا في العلاقة بين اسپينوزا وبين التراث اليهودي بإيضاح هذه الواقعة الرئيسية.

(٢) طرد اسپينوزا من الطائفة اليهودية

يناقش «فوير Feuer» الأسباب التي أدت إلى توقيع عقوبة «الحرم» على اسپينوزا، فيستبعد أن تكون تلك الأسباب دينية فحسب؛ فالاختلافات في المعتقدات اللاهوتية وحدها ليست في نظره تفسيرًا كافيًا لهذا الطرد؛ فقد قدمت إليه رشوة لتغيير موقفه، ولو كانت المسألة خلافًا في العقائد وحدها لما حاولت الطائفة اليهودية تقديم هذه الرشوة إليه. فلا بد إذن أن الأمر كان متعلقًا بأفعال لا بعقائد. وهو يرى أن السبب الحقيقي لهذا الطرد هو نزعة اسپينوزا التحررية في آرائه السياسية الاجتماعية، وهي نزعة تعد خطرًا على الاتجاه المحافظ بين رجال الدين اليهود. «فاسپينوزا كان ذا نزعة عالمية، يحتقر فكرة الشعب المختار. وقد اجتذبته، قبل كل شيء، الآراء الدينية المتحررة، وكانت آراؤه السياسية والاقتصادية مضادة تمامًا لآراء قادة الطائفة اليهودية؛ فقد كان كبار اليهود ذوي نزعة ملكية، مخلصين لأسرة أورانج، وعلى علاقة طيبة بالحزب الكلڨيني، وبحملة أسهم شركتَي الهند الهولندية الشرقية الغربية. أما اسپينوزا فكان جمهوريًّا متحمسًا، من أتباع «يان ديڨيت» … وقد ارتبط بالجماعة السياسية التي دعت إلى فض الشركات التجارية الكبرى، وأعجب بالاقتصاد الجمهوري الذي انتقد الاحتكارات …»٨ ويواصل «فوير» كلامه قائلًا «لقد كانت الأخلاق التجارية متغلغلة في قيم كبار الطائفة اليهودية في أمستردام إلى حد أن أوامر البورصة كانت تقترب في سلطتها من الأوامر الإلهية، بينما كانت شركتا الهند الشرقية والغربية أشبه ما يكونان بالوسائط الإلهية المختارة.»٩ «ولقد كان في وسع قادة يهود أمستردام أن يتسامحوا مع الخلاف اللاهوتي، ولكنهم لم يكونوا قادرين على التسامح مع شخص متحرر سياسيًّا واقتصاديًّا.»١٠ وقد بحث «فوير» بعد ذلك، تبريرًا لرأيه هذا، في تاريخ حياة أفراد المجتمع الديني اليهودي الذي حكم بطرد اسپينوزا، وانتهى إلى أنهم يُمثِّلون مجموعةً من أكبر أثرياء اليهود: منهم كبار حمَلة أسهم شركة الهند الغربية والشرقية، والأعضاء البارزون في بنك أمستردام والبورصة، وكبار تجار البلاد — إلى جانب عدد من رجال الدين المتزمتين بطبيعة الحال.١١

والنتيجة الواضحة التي تُستخلص من هذا التحليل هي أن اسپينوزا لم يُطرد لعقائده وآرائه فحسب، بل طُرد لأن أفكاره الاقتصادية والاجتماعية كانت تهدد المصالح التجارية المسيطرة على يهود أمستردام تهديدًا مباشرًا. وهذا تعليل طريف ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار، ولكنه لا يعبِّر عن الحقيقة الكاملة؛ فمع اعترافنا التام بأن اسپينوزا لم يكن ذلك الناسك المنعزل عن مجرى الأحداث في مجتمعه، فلسنا نرى ما يدعو إلى الاعتقاد بأن اسپينوزا قد ساهم بالفعل في حركة عملية من شأنها تهديد مصالح اليهود المالية بالخطر. وحتى كتاباته ذاتها كان أخطر ما فيها هو فلسفتها العامة، وليس ما تتضمنه من آراء اقتصادية أو اجتماعية، ومن الجائز أن اسپينوزا كان في محادثاته الخاصة يعبِّر عن آراء من هذا النوع — بل إن هناك قرائن كثيرة تدل على أن آراءه الخاصة كانت على الأرجح من هذا النوع — ولكن لم تصل هذه الآراء أبدًا، سواء في صورتها النظرية أو من حيث انتقالها إلى الواقع العملي، إلى حد تهديد المصالح القائمة؛ فاسپينوزا بالفعل لم يكن منعزلًا، ولكنه أيضًا لم يكن ثائرًا سياسيًّا أو مصلحًا اقتصاديًّا أو صاحب دعوة عملية إلى تغيير الأوضاع، وطالما أن الأمر قد اقتصر على أفكار خاصة، ولم ينتقل إلى حيز العمل التنظيمي الصريح، بل لم ينعكس على كتاباته ذاتها إلا بطريق غير مباشر إلى حد بعيد، فمن الصعب أن نتصور أن تكون مثل هذه المخاوف الاقتصادية هي سبب طرده من الطائفة اليهودية.

وقد بحث كاتب يهودي آخر في الأسباب التي يُحتمل أن يكون اسپينوزا قد طُرد من أجلها من الطائفة اليهودية في مقال حديث العهد سنورد فيما يلي تلخيصًا له. وقد استند كاتب هذا المقال إلى وثائق عثر عليها حديثًا في إحدى مكتبات مانشستر بإنجلترا.١٢ فقد كشفت هذه الوثائق عن وجود نزاع حاد بين يهود أمستردام في ذلك العصر، حول مسألة خلود العقل. ويستدل المؤلف من هذا النزاع على أن الجو الروحي لليهودي الذي نشأ فيه اسپينوزا كان معاديًا للتفكير الفلسفي، وفي هذا الضوء ينبغي أن يُنظر إلى طرد اسپينوزا.١٣ ويشير المؤلف إلى أن هذه الوثائق عبَّرت بصراحة عن خوف رجال الدين اليهودي من أن يظن المسيحيون أنهم يتهاونون في أركان دينهم. ولم يكن ذلك في الواقع خوفًا من أن يكوِّن المسيحيون رأيًا سيئًا عن اليهود فحسب، بل كان أيضًا خوفًا من أن تتخذ السلطات المسيحية تدابير إيجابية ضد اليهود.١٤
ويشرح مؤلف هذا المقال القانون الأساسي الذي كان مطبقًا في الدولة الهولندية على جميع اليهود، واسمه قانون Remonstrantie، الذي وضعه «جروتيوس» سنة ١٦١٨م، وينص على وجوب اعتراف جميع اليهود البالغين أمام السلطات علنًا بإيمانهم بإله واحد خالق حاكم للكون، تتوجب عبادته، وبموسى والأنبياء، وبحياة أخرى يكافأ فيها المحسن ويعاقَب المسيء. ومن مواد القانون أن كل يهودي ينكر ذلك يكون معرضًا لعقوبة الموت أو العقاب البدني حسب شدة الجريمة. ونص في حيثيات هذه المواد على أن المقصود هو ردع الملحدين الذين كانوا يظهرون من آنٍ لآخر بين صفوف اليهود. ويؤكد كاتب المقال إن السياسة التي كانت مطبقة بالفعل في العهد الجمهوري الذي طُرد فيه اسپينوزا كانت، رغم ذلك، سياسة متسامحة إلى حدٍّ بعيد، ومع ذلك كان الأحبار والربانيون في الطائفة اليهودية متمسكين بنص القانون يخشون أي انحراف عنه. وهكذا يرى أن «المعمد» اليهودي قد حكم على اسپينوزا بالطرد مخالفًا بذلك السياسة المتسامحة الجديدة للحكومة، وليس أدل على ذلك من أن «ديڨيت»، الزعيم الجمهوري، قد منح اسپينوزا معاشًا بعد طرده، وأن الحكومة حرَّمت على المحافل اليهودية ممارسة حق فرض عقوبة «الحرم» بضع سنوات بعد ذلك.١٥
وأخيرًا، يرى كاتب المقال إن السبب الذي أدى مباشرةً إلى الطرد في الوقت الذي حدث فيه، هو أن مسألة إعادة اليهود إلى إنجلترا كانت موضوع بحث في تلك الفترة، وكان «منسي بن إسرائيل»، وهو رئيس المجمع الذي حكم بطرد اسپينوزا، مهتمًّا بنفسه بهذه المسألة، وسافر من أجلها إلى لندن للتفاوض فيها؛ وعلى ذلك «فقد كان من غير المعقول ألا يدرك كبار الطائفة اليهودية في أمستردام التأثير الذي يمكن أن يُحدِثه في إنجلترا تسامحهم مع الفلاسفة المعروفين بالمروق والهرطقة؛ إذ لم تكن إنجلترا في ذلك الوقت متسامحة مثل هولندا مع هؤلاء الناس.»١٦ ويرى كاتب المقال إن هذا العامل قد يكون هو الذي يعلل صمت اسپينوزا فترة طويلة بعد طرده من الطائفة اليهودية؛ إذ إنه لم يكتب «البحث اللاهوتي السياسي» إلا سنة ١٦٧٠م، بعد أن تمت عودة اليهود في إنجلترا واستقرارهم فيها؛١٧ أي إنه لم يشأ أن يزيد الطين بِلَّة بإحراج مركز اليهود الهولنديين أثناء مفاوضاتهم مع الإنجليز.

هذا التعليل المباشر، إذا كان صحيحًا، فإنه لا يُعفي الطائفة اليهودية من تهمة التعصب وضيق الأفق الشديدين، ومن الواضح من المقال الذي لخَّصنا نقاطه الرئيسية أن هذه الطائفة كانت تفوق الدولة الحاكمة ذاتها كثيرًا في التعصب وخنق حرية الفكر، وأنها إذا كانت قد اضطهدت اسپينوزا — وأذلَّت مِن قبله «أورييل داكوستا» حتى دفعته إلى الانتحار — فقد كان ذلك راجعًا إلى مزيج من ضيق الأفق الذي جعلها ترفض أي رأي مخالف، ومن الخوف أو الجبن المفرط الذي جعلها تتوهم أن السلطات الحاكمة ستُحمِّلها جريرة ما يعلنه بعض أفرادها من الآراء المتحررة، فكانت تُسارع إلى التبرؤ منهم خوفًا من أن تحل عليها النقمة، مع أن السلطات الحاكمة ذاتها كانت أوسع منها أفقًا إلى حدٍّ بعيد.

وليس من الظواهر الغريبة أن تعمل سلطة دينية ما على طرد مفكر ذي آراء مخالفة لها من صفوفها. وتغدو هذه الظاهرة أقل غرابة إذا كانت هذه السلطة هي المجامع الدينية اليهودية؛ فهنا تتكرر نفس الظاهرة المألوفة طوال التاريخ اليهودي، وهي مقابلة العداوة الخارجية بالمزيد من التعصب، بدلًا من مقابلتها بالمزيد من التفاهم والسعي إلى القضاء على أسباب العداوة ذاتها. ويصل الأمر إلى حد ممارسة هذا التعصب على أفراد الطائفة ذاتهم لو بدر منهم أي ميل إلى الخروج عن تعاليمهم التي لا يقبلها العقل السليم، وبذلك يمارسون نفس الاضطهاد الذي لا يكفون عن الشكوى منه. وكما قال «فوير»: «فإن المأساة الحقيقية هي أن اليهود المضطهدين قد تشبَّعوا بعناصر من التعصب الذي يتمثل في مضطهديهم، وإن المرء ليمتلَّكه الأمل دائمًا في أن يسلك المظلومون مسلك الأبطال، ولكنه يُصدم إذ يلمس مدى التشابه بينهم وبين من يضطهدونهم، ويدرك حقًّا أن الناس جميعًا على شاكلة واحدة.»١٨

ولكن الظاهرة الغريبة حقًّا هي أن يعمد اليهود في العصور التالية إلى إعادة «تبنِّي» هذا المفكر الذي طردوه من بين صفوفهم، والذي اختلف معهم في الأسس الأولى لعقيدتهم وطريقتهم في الفكر والحياة، وتبرَّأ منهم مثلما تبرَّءوا منه، وغيَّر اسمه اليهودي عمدًا؛ فقد كان الأجدر بهم، في رأيي، أن يظلوا على عدائهم له إلى النهاية، ويأخذوا على عاتقهم مسئولية الصراع الفكري معه مثلما فعلوا ذلك أثناء حياته، طالما أن نفس عقيدتهم، ونفس طريقتهم في الفكر والحياة، ما زالت على ما هي عليه إلى حدٍّ بعيد، ولكن الذي حدث أن اسپينوزا أصبح، في عصر متأخر، وبعد أن «أعيد اكتشافه» في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر بوجه خاص، شخصية ضخمة في عالم الفكر — أصبح فيلسوفًا رفيع المكانة، بحيث يكون من المخجل أن يقال إن الطائفة التي كان ينتمي أصلًا إليها قد طردته واضطهدته، وتبرأت منه، وأنه قابل ذلك بموقف مماثل تجاهها، وبحيث يكون مما يُشرف أية طائفة أن يُنسب إليها. وهكذا بدأت فجأة، بعد قرنين من وفاته، لم يحفل به خلالهما اليهود على الإطلاق؛ لأن مكانته في عالم الفلسفة لم تكن قد توطدت بعدُ؛ بدأت محاولة من أغرب المحاولات في تاريخ الفكر، اشتركت فيها مجموعة كبيرة من الشُّراح اليهود، «لإعادة ضم» اسپينوزا، طريد اليهودية، إلى صفوفها، وتحوير فلسفته على أعجب نحو بحيث تغدو في النهاية متأثرة باليهودية ومنتمية إلى تراثها!

وكان لا بُدَّ لتحقيق هذا العرض من التخلص، على نحو ما، من تأثير واقعة طرد اسپينوزا من الطائفة اليهودية. وهكذا عمل اليهود على الإقلال من أهمية هذا الطرد؛ فقال «جبهارت Gebhardt» إن «الحرم» اليهودي يفترق عن الطرد excummunication الكاثوليكي في أن الخير شامل يسري على كل زمان ومكان ما لم يُرفع. أما الأول فهو «محلي» ينطبق على المجتمع الخاص الذي يعيش فيه اليهودي، بحيث إنه إذا انتقل إلى مجتمع آخر فيه طائفة يهودية أخرى، تعيَّن إصدار «حرم» جديد عليه، وأكد أن اسپينوزا خلال السنوات السبع التي عاشها في لاهاي لم يكن محرَّمًا عليه الاختلاط بطائفتها اليهودية، وأن مرور ٢٥٠ عامًا (وقت كتابته هذا الكلام) على وفاة اسپينوزا يجعل ذلك الطرد غير ذي موضوع،١٩ وكان ذلك ردًّا منه على خبر طريف أشار إليه في مستهل مقاله هذا، نشرته صحيفة برلينية، عند الاحتفال بمرور قرنين ونصف على وفاة اسپينوزا (أي سنة ١٩٢٧م)، وقالت فيه إن طرد اسپينوزا ما زال قائمًا، وأن أحبار الطائفة اليهودية في أمستردام لم يرفعوا بعد حكمهم بطرده ولعنتهم عليه، وبذلك يُعد اسپينوزا حتى ذلك الحي طريدًا في نظر الطائفة اليهودية التي حرصت كل الحرص على أن تحتفل بعد هذه الفترة الطويلة بذكراه. وقد تلقفت هذا الخبر الصحافة الأوربية على أنه «فضيحة عالمية» وسخرت كثيرًا من حرص اليهود على الاحتفال بذكرى طريدهم.٢٠
وعلى هذا النحو ذاته يقل باحث يهودي آخر، هو، هو «رخمان Rakhman» من أهمية الطرد، فيقول: «إن هذا الطرد ليس على الإطلاق أمرًا نادرًا بين اليهود، ولا هو بالأمر المخيف بالقدر الذي يصوره به بعض الباحثين في صدد حديثهم عن طرد اسپينوزا؛ ففي التلمود يعاقب على الذنوب الآتية بالطرد: نقد أفعال الرباني (حتى بعد وفاته)، وإطلاق لقب مهين ثابت على صديق، وخرق قواعد الأخلاق الاجتماعية، وإيواء كلب مسعور، والحنث بيمين الله … إلخ.»٢١
وهكذا صوروا الأمر كما لو كانت مسألة الطرد عابرة لا قيمة لها، بل إن بعضهم حاول أن يتجاهل المسألة ويصرف عنها نظر القارئ، ويظهر ذلك بوضوح في كتاب «ليون روث Roth» عن اسپينوزا،٢٢ إذ لم يُشِر فيه إلى واقعة الطرد إلا إشارة عابرة، ولم يحاول على الإطلاق أن يناقش دلالتها بالنسبة إلى ما يقول بوجوده من مؤثرات يهودية في تفكير اسپينوزا.
ومن الطريف أن «بن جوريون» قد ساهم بدوره في عملية الإقلال من أهمية واقعة طرد اسپينوزا من صفوف اليهود، وفي تأكيد انتمائه إليهم بأي ثمن، فقال في رسالة بعث بها إلى مؤلف كتاب «اسپينوزا والديمقراطية الغربية» في ٤ أكتوبر سنة ١٩٥٤م، ونشرت في مقدمة الكتاب: «ربما كان لطرد اسپينوزا ما يبرره في ظروف العصر وذلك المكان … ولكن مثلما أن إدانة المحكمة الأثينية لسقراط لم تجعل من ذلك الفيلسوف اليوناني العظيم شخصًا غير يوناني، فإن طرد أحبار أمستردام في القرن السابع عشر لاسپينوزا لا يمكن أن يحرم الأمة اليهودية من أعظم مفكريها وأكثرهم أصالة.»٢٣ وهكذا ارتكب بن جوريون — في هذه الحالة أيضًا — مغالطة واضحة عندما قارن بين إدانة سقراط التي لم تصدر إلا عن محكمة مدنية لا عن سلطة دينية، والتي لم تكن مسألة احتفاظ سقراط بجنسيته أو حرمانه منها موضوعًا فيها على الإطلاق، وبين هذا الطرد الديني الذي أعلنته أكبر سلطة يهودية في ذلك الحين، ولعنت فيه اسپينوزا وحرمت كتبه، وظل اسمه يُلعن بعد ذلك في الأوساط اليهودية حتى اتضح أنه «مفكر عظيم»، فانقلب الموقف رأسًا على عقب.
وأخيرًا؛ فقد أشار «ياسپرز» في كتابٍ حديث له إلى تقرُّب إسرائيل إلى اسپينوزا في ذكراه؛ فبعد مرور ثلاثمائة عام على طرد اسپينوزا (أي في سنة ١٩٥٦م)، أرسلت إسرائيل إلى لاهاي حجرًا تذكاريًّا من الجرانيت مُهدًى إلى ذكرى اسپينوزا، وكتبت عليه «أهلُك Dein Volk»، ويعلق ياسپرز على ذلك قائلًا: إن اسپينوزا كان يعجب حقًّا لو علم ذلك؛ إذ لا يستطيع أي شعب أو دولة أن يزعم أن إنسانًا له مكانة اسپينوزا ينتمي إليه وحده، وإنما هو ينتسب إلى الإنسانية جمعاء.٢٤

وهكذا كانت المحاولة تنطوي منذ بدايتها على اتجاه إلى طمس هذه الحقيقة التاريخية الأساسية أو الإقلال من أهميتها، وترمي إلى إرغام العالم على الاعتراف بانتساب اسپينوزا إلى التراث اليهودي، لا لشيء إلا لواقعة عرضية هي مولده لأبوين يهوديين، بينما كانت وقائع حياته، وعناصر فكره، تنطق كلها بابتعاده التام عن هذا التراث. وفي سبيل ذلك قيل إن الطرد الذي عُذِّب من أجله «أورييل داكوستا» حتى انتحر — حادث تافه عارض، وأن تغيير اسپينوزا لاسمه أمر لا قيمة له (بل إن الكثيرين من الشُّراح اليهود ما زالوا يسمونه «باروخ» رغمًا عنه!) وأن إعلانه الانفصال عن اليهودية وإصراره على عدم الرجوع إليها، رغم استخدام سلاحَي الرشوة والتهديد بالقتل (حسب الروايات القديمة عن حياته) كل ذلك لا يحول دون استمرار الحكم عليه بأنه «أعظم مفكري الأمة اليهودية وأكثرهم أصالة»!

(٣) محاولات التقريب بين اسپينوزا واليهودية وتفنيدها

ظهرت هذه المحاولات بقوة في القرن التاسع عشر، وإن كنا نجد في القرن الثامن عشر ناقدًا قديمًا لاسپينوزا، هو «ڨاختر Georg Wachter» يُرجع تعاليم اسپينوزا إلى مذهب «القبَّالة Cabbale»٢٥ اليهودي الذي انتشر في العصور الوسطى. وقد تحمَّس لهذه الفكرة في القرن التاسع عشر الفيلسوف الألماني «يول Joel» في كتابه Joel «منشأ نظرية اسپينوزا Zur Genesis der Lehre Spinozas» ثم حاول «فروينتال Freudenthal» ومن بعده «جبهارت Gebhardt» أن يبنياها على أساس من البحث الدقيق، وتدفَّق بعد ذلك سيل الشُّراح اليهود الآخرين الذين حاولوا أن يُدخلوه قسرًا ضمن التراث اليهودي.
ونستطيع أن نجد بين الشُّراح اليهود اتجاهات مختلفة في موقفهم من مسألة انتساب اسپينوزا إلى اليهودية، يمكننا أن نقسمها بوجه عام إلى الفئات الآتية:
  • (أ)
    فئة المتعصبين اللاعقليين، وهي فئة يستدعي موقفها كثيرًا من التدبر والتفكير في مدى الضراوة التي يمكن أن تتخذها العنصرية اليهودية إذا ما أرادت إثبات امتياز الشعب اليهودي وتفوقه على حساب العقل والمنطق السليم. وأصحاب هذه الفئة لا يقدمون حججًا عقلية، وإنما يتحدثون في هوس وجنون عن عظمة الأمة اليهودية وضرورة انتساب اسپينوزا إليها، وتظهر أوضح أمثلة هذه الفئة في مقال كتبه «هاري واتون Harry Waton» بعنوان «المسألة اليهودية وفلسفة اسپينوزا» يقول فيه: «إن اسپينوزا والأمة اليهودية هما شيء واحد في الماهية وفي المصير.»٢٦ ويقول أيضًا: «إن ما كشفه اسپينوزا صراحة هو ماهية اليهودية وروحها.»٢٧ وفي المقال نجد أحكامًا مثل «إن الأمة اليهودية تحتل من الهرم البشري قمته، والأمة اليهودية هي العنصر «الصدوق» (أي الأمين المخلص Zaddik) في الجنس البشري. وقد خُلق العالم كله من أجل الأمة اليهودية.»٢٨ فهل يستغرب أحد — بعد هذه التصريحات العنصرية الهستيرية — إذا قيل إن اليهود لا يفترقون عن مضطهديهم من أعداء السامية في شيء، بل إذا قيل إنهم هم الذين يستفزون العالم إلى هذا الاضطهاد؟!
  • (ب)
    والفئة الثانية تتألف من المذبذبين الذين يعلمون حق العلم من دراستهم لاسپينوزا أن أفكاره الحقيقية لا تتفق مع اليهودية، ولكنهم في الوقت نفسه يريدون إرضاء نزعاتهم العنصرية التي تدفعهم إلى تأكيد هذا الاتفاق. وهكذا يظلون يؤكدون الاتفاق تارة وينفونه تارة أخرى دون أية محاولة لاتخاذ موقف صريح من المسألة. ومن أوضح أمثلة هذه الفئة «رخمان Rakhman» الذي أستطيع أن أقول إن مقاله عن «اسپينوزا واليهودية» من أعجب ما قرأت! فهو يؤكد في البداية تأثر اسپينوزا باليهودية، ويأتي بقائمة طويلة من العناصر التي يفترض فيها وجود هذا التأثير، ثم يعود فيؤكد وجود اختلافات أساسية بين تفكير اسپينوزا وبين نفس المصادر اليهودية التي قال بها، وهي اختلافات بلغت من الأهمية حدًّا كان من الواجب معه، لمجرد تنبُّهه إليها، أن ينفي وجود أي تأثير لها عليه. ومع ذلك يعود مرة أخرى، وبعد ذلك مباشرةً، فيقول (في ص٥٩-٦٠ من المقال المذكور): «إن كتاب الأخلاق هو أكثر ما أنتجته اليهودية من الكتب كمالًا ونضجًا.» وبعد ذلك مباشرةً (ص٦٠) يقول: إن اسپينوزا لا يمكن أن يُعَد فيلسوفًا يهوديًّا بالمعنى الدقيق، وإن اسپينوزا لا ينتمي إلى شعب بعينه، وإنما إلى البشرية جمعاء. كل هذه المواقف المترددة المذبذبة تقع في صفحات مقال قصير، ينتقل فيه المؤلف من الضد إلى الضد على نحوٍ إن دل على شيء فإنما يدل على العجز عن تحمُّل المسئولية الأدبية لموقف صريح واضح.
  • (جـ)

    وهناك فئة ثالثة لا يترك أفرادها آراءهم المتضادة هكذا جنبًا إلى جنب دون محاولة لإزالة التناقض بينها، بل يأخذون موقفًا ويتحملون مسئوليته: وهذا الموقف هو أن اسپينوزا قد تأثَّر فعلًا بالتراث اليهودي، ثم يحاولون دعم هذا الموقف بالأسانيد. ومن المؤكد أن الكثيرين ممن ينتمون إلى هذه الفئة قد تنبهوا أيضًا إلى وجود عناصر تتنافى مع التراث اليهودي، ولكنهم تحايلوا على هذه العناصر، وأساءوا تفسيرها في كثير من الأحيان، وسوف نناقش حجج هذه الفئة فيما بعدُ بالتفصيل، ولكن يكفي أن نقول الآن: إن آراءها تتسم بمسحة علمية؛ ولذلك فهي لا تدعو إلى الازدراء كالفئتين السابقتين. وإلى هذه الفئة ينتمي عدد كبير من شُرَّاح اسپينوزا اليهود المشهورين، مثل فرويدنتال، وجبهارت، وولفسون وروث.

  • (د)
    وأخيرًا فإن أكثر هذه الفئات اليهودية أمانة هي تلك التي تمكنت من تغليب الحقيقة على الميول العنصرية، وإنكار وجود مؤثرات يهودية في تفكير اسپينوزا، وهي تتفاوت من شُرَّاح ينكرون هذا التأثير جزئيًّا، مثل «واكسمان Waxman»، إلى آخرين ينكرونه تمامًا، مثل «كاسيرر»، و«فوير» و«ليوشتراوس».٢٩
وسوف نعرض في الأقسام التالية في هذا الفصل أمثلة للعناصر الرئيسية التي يقال: إنَّها مشتركة بين اسپينوزا وبين اليهودية، ونفند كلًّا منها في نفس الوقت. وينبغي أن يلاحظ على هذا التفنيد أمران:
  • (أ)

    أننا لسنا بحاجة إلى رد فعل مفصل على كل حجة من الحجج التي تساق للتقريب بين اسپينوزا وبين اليهودية؛ إذ إن جميع فصول هذا الكتاب يمكن أن تعد ردودًا مفصلة على هذه الحجج، ويكفي أن يرجع القارئ إلى الصفحات التي عولج فيها أي موضوع تدور حوله الحجة المعينة في هذا الكتاب، ليجد فيها حتمًا الرد الحاسم على هذه الحجج.

  • (ب)

    أننا سنلجأ في كثير من الأحيان إلى مواجهة مفكر يهودي بمفكر يهودي آخر يقول برأي مضاد. وكما قلنا من قبلُ؛ ففي وسعنا أن نجد كثيرًا من المفكرين اليهود الذين امتنعوا عن السير في هذه المحاولة العقيمة، واستنكروها لأنهم يدركون أن القضية خاسرة منذ البداية، وفي هذه المواجهة بين المؤيدين والمنكرين نستطيع أن نجد الرد الكافي في كثير من الأحيان.

(٣-١) المؤثرات المستمدة من حياته

يفترض كثير من الشُّراح اليهود أن نشأة اسپينوزا في بيئة يهودية، وتلقِّيه العلم في مدرسة عبرية، ودراسته لشخصيات وأفكار الفلاسفة واللاهوتيين اليهود في العصور الوسطى، كل هذه كانت عوامل حاسمة في تكوين شخصيته الفلسفية، وفي صبغ أفكاره بصبغة تتمشى مع التراث اليهودي. وهكذا يتحدث «روث Roth» عن اسپينوزا فيصفه بأنه «لم يكن نتاجًا لهولندا في القرن السابع عشر فحسب، بل كان أيضًا ثمرة كاملة لعبرانية قديمة العهد»،٣٠ ويشير إلى أهمية الأدب واللاهوت العبريَّين في تكوين شخصيته،٣١ وهو يعلل اتجاه اسپينوزا المزدوج بين العلم والدين — وهو الاتجاه المبني على تفسير «روث» الخاص لفلسفته — بأنه يرجع إلى تأثره بالتيارات العلمية الضخمة الموجودة في عصره، وكذلك إلى نشأته «في بيئة تدين بأشد الأديان تمسكًا وأخلاقية»٣٢ … ويرى أن هذا التعليل هو مفتاح شخصية اسپينوزا، وهو الحل الصحيح لمشكلة مصادر تفكيره، وهو الذي يلقي الضوء الصحيح على مكانته في تاريخ الفكر.
وبمثل هذا يقول «رخمان»، مؤكدًا أهمية التعليم العبري في تكوين شخصية اسپينوزا: «فكون اسپينوزا أبرز الطلاب في مدرسة نموذجية في أكثر المجتمعات اليهودية ثقافة في ذلك العصر، وبقاؤه في هذه البيئة التقليدية حتى سن الثانية والعشرين، هو في ذاته كافٍ لربطه باليهودية بألوف الروابط، وذلك رغم تأثير العالم الخارجي والمذاهب الغربية، بل ورغم رغبته الشخصية في التحرر بطريقة نهائية حاسمة من جميع المؤثرات.»٣٣

ومثل هذه الشواهد، في ذاتها، غير كافية، ولا يمكن أن يعوَّل عليها؛ إذ إن نشأته وتعليمه في بيئة يهودية أمر معترَف به من الجميع، ولكن ليست له في ذاته أية دلالة؛ لأنه قد يؤدي إلى الثورة على التراث اليهودي مثلما يؤدي إلى الخضوع له. وقد يأتي بنتيجة سلبية مثلما يؤدي إلى نتيجة إيجابية، وهل يستطيع أحد أن يقول إن فلسفة ديكارت أو كانْت أو هيجل ترتد أساسًا إلى المسيحية لأنهم نشئُوا في بيئة مسيحية وتعلَّموا في مدارس مسيحية؟ وهل مجرد النشأة والتعليم وحدها كافية لتوجيه الفيلسوف الناضج، أم أن كثيرًا من كبار المفكرين يتميزون بالثورة على البيئة التي نشئُوا فيها والتعاليم التي تلقنوها في حداثتهم؟ إن الدراسة الفعلية لتفكير اسپينوزا تُثبت بوضوح أن هذا التأثير، إن وجد، كان تأثيرًا سلبيًّا فحسب؛ أي إن معارضته لهذه المؤثرات الأصلية كانت هي نقطة بداية انطلاقه في طريق التفكير المستقل.

ومع ذلك فإن هؤلاء المفسرين يجزمون بأن مجرد كون اسپينوزا قد درس الفلسفة اليهودية واللاهوت اليهودي في العصور الوسطى، معناه أنه قد تأثر حتمًا بهذه الاتجاهات، وبالفعل نجد في قائمة الكتب التي احتوتها مكتبة اسپينوزا بعد وفاته، وهي القائمة التي أوردها وحلَّلها «ڨيو Vulliaud»،٣٤ مجموعة كاملة من تفسيرات اللاهوتيين اليهود للعهد القديم، تدل على أنه قد استوعب هذا التراث استيعابًا كاملًا. وهكذا يتلمَّس الشُّراح أوجه شبه لفظية بين فلسفة اسپينوزا وفلسفة «ابن جرسون Gersonides» و«ابن ميمون Maimoides» و«سعدية Saadiya» و«كرسكاس  Crescas»، بل وذلك المذهب الذي جمع كل عناصر اللامعقولية والشعوذة وأضافها إلى التراث اليهودي، مذهب «القبالة».٣٥

هذه الآراء لا تستحق في رأينا مناقشة تفصيلية؛ لأننا نرجح أن اسپينوزا قد تعمَّد استخدام لغة هذه المذاهب أو ألفاظها، ولكن اتجاهه الحقيقي كان مختلفًا عنها تمامًا، والعالم الذي كانت تدور فيه أفكاره كان عالمًا علميًّا تسوده المعقولية الدقيقة والضرورة الصارمة، بينما كان عالم هؤلاء الفلاسفة واللاهوتيين هو عالم الغائية أو التصوف أو اللاهوت الذي يتأمل الكون من خلال صورة البشر. ويكفي أن يكون الموقف العام للطرفين على هذا القدر من التناقض لكي تكون محاولة التقريب ذاتها عميقة؛ إذ إن التأثر الحقيقي ليس هو التأثر بلفظ أو جملة أو قضية أو حتى بلغة كاملة، وإنما هو التأثر بالعناصر والاتجاهات الفكرية الرئيسية فحسب، وعلى أية حال فإن شارحًا مثل «رخمان» يعود (في مقاله المتقلب الذي أشرنا إليه من قبل)، فيرد على نفسه مؤكِّدًا وجود اختلافات أساسية بين اسپينوزا وبين مختلف المفكرين اليهود في نزعاتهم الروحية الصوفية وتغليبهم اللاهوت على الفلسفة وتأكيدهم لفكرة الإله (ص٥٧) — وهي كلها فوارق أساسية كانت وحدها كفيلة بإنكار وجود أي تأثير.

ولنفرض جدلًا أن اسپينوزا قد تأثر بلاهوتيي العصور الوسطى من اليهود؛ فهل يُعَد ذلك تأثرًا منه بالتراث اليهودي، إن «ولفسون» و«روث» و«رخمان» يعترفون، هم أنفسهم، بأن لاهوتيي العصور الوسطى من اليهود قد تأثروا بتيارات فلسفية غير يهودية، أهمها الفلسفة اليونانية التي أتتهم عن طريق الفلاسفة العرب، وعلى رأسهم ابن رشد، فكانت النتيجة هي قولهم بأفكار خارجة عن التراث اليهودي التقليدي، مثل فكرة قِدم العالم (وبالتالي إنكار الخلق من لا شيء)، وإنكار المعجزات، والتفرقة بين العامة والخاصة من حيث إن الأولين يأخذون بحرفية الدين والأخيرين يؤمنون بالعقل. ويؤكد «رخمان» أن معظم المصادر السابقة كان يُعَد غير مشروع أو مغضوبًا عليه في البيئة اليهودية التقليدية.٣٦ والمعنى الوحيد لذلك هو أن اسپينوزا إذا كان قد تأثر بهذه التيارات فهو لم يتأثر بها لأنها يهودية، بل لأنها خرجت — جزئيًّا — على اليهودية؛ فالعناصر التي يمكن أن يكون قد استمدها من تفكير هؤلاء الفلاسفة هي أقل العناصر صلة بالتراث اليهودي التقليدي، وهي العناصر التي ظهرت في تفكيرهم لا لأنهم من اليهود، بل «رغم» كونهم من اليهود. وهناك فارق هائل بين التأثر بتعاليم يهودية وبين التأثر بأشخاص يهود، فلا يمكن أن يقال اليوم عمن يتأثر باقتصاديات ماركس أو علم نفس فرويد أو فيزياء أينشتين، إنه متأثر باليهودية؛ لأن نظريات هؤلاء الثلاثة لا تنتمي إلى التراث اليهودي، وصفة اليهودية في شخصياتهم عارضة تمامًا بالنسبة إلى نظرياتهم.
أما مذهب القبَّالة الذي يقال: إن اسپينوزا قد تأثر به؛ فقد يرى البعض شبهًا بين صوفيته الشاملة وبين بعض قضايا اسپينوزا إذا ما فُهمت فهمًا حرفيًّا، ولكن أي إدراك لموقف اسپينوزا العام، وأي تحليل دقيق لنفس النظريات التي يقال إنها مشابهة لهذا المذهب، يكشف عن اختلاف أساسي بين وجهتَي النظر إلى حدٍّ يدهش معه المرء من مدى التواء تفكير أولئك الذين قربوا بين معقولية اسپينوزا وحتميته الدقيقة وبين شطحات «القبَّالة» وتخريفاتها. ويكفي في هذا حكم اسپينوزا نفسه، الذي قال، في نص من تلك النصوص الي يتجاهلها عادةً معظم المتعصبين من الشُّراح اليهود: «لقد قرأت وعرفت بعض الكتابات التافهة لمذهبة القبَّالة، الذي يثير حمقه في نفسي دهشةً لا تنقطع.»٣٧

وكما قلنا من قبلُ، فمجرد دراسة اسپينوزا لتعاليم لاهوتيي العصور الوسطى من اليهود واستيعابه التام لها لا يدل في ذاته على شيء، بل إن كل الدلائل تدل على أنه أتى بنتيجة عكسية؛ أي إن التناقض والتهافت والافتقار التام إلى المعقولية في هذه التعاليم، هو الذي مهَّد له طريقه الخاص الذي سار فيه مستقلًّا تمامًا عنها. وأغلب الظن أن هذه التعاليم كانت — منذ اللحظة التي أعلن فيها ثورته على الطائفة اليهودية — تستفزه وتتحدى منطقه العقلي إلى الحد الذي جعله يضع لتفكيره غاية ولفلسفته هدفًا هو انتقادها وهدم الأسس التي تجعل ظهورها، هي وأمثالها من المذاهب، ممكنًا.

وعلى هذا الأساس يمكننا أن ننظر إلى علاقة اسپينوزا بهذه المؤثرات المزعومة في ضوء جديد: فتعالج فلسفة اسپينوزا من حيث هي رد فعل على المذاهب اليهودية اللاهوتية والفلسفية في العصور الوسطى، ومن حيث هي نتيجة لانفصاله عن هذه المذاهب وخروجه عليها. وقد عبَّر «فوير» عن هذا المعنى تعبيرًا رائعًا حين قال: «لقد أدَّت القرون التي مر بها اليهود وهم في اضطهاد وفرار من بلد إلى آخر ومن قارة إلى أخرى، إلى جعلهم يفقدون المعقولية ويفتقرون إلى حب الإنسانية؛ فانطووا على أنفسهم متشبثين بحلم ظهور المسيح الجبار، الذي يستطيع بمعجزاته الوفيرة أن يجعل الدائرة تدور على مضطهديهم. ولقد كان حلم البعث وتحقيق الرسالة هذا مزيجًا من التضخيم المَرَضي للذات، و«الپارانويا»، و«نرجسية» المضطهدين؛ فهو «فكرة غير كافية»، كما كان اسپينوزا خليقًا بأن يسميها. أما اسپينوزا، الذي كان ذا ذهن علمي متحرر، والذي تخلَّص من روابط البيئة التي نشأ فيها، وحاول أن يندمج في عالم أوروبا الجديد، فلم تكن لديه طاقة باقية لفهم أهله (اليهود) فهمًا عطوفًا. ولو كان أقل قسوة في تحكيم «الحبل السُّري» الذي كان يربطه بأهله، لما ظهرت فلسفته إطلاقًا، على الأرجح.»٣٨

(٣-٢) المؤثرات في فلسفته

سوف نحلل فيما يلي بعض النواحي الرئيسية التي يُفترض أن اسپينوزا قد تأثر فيها بالتراث اليهودي في صورته الدينية المباشرة أو اللاهوتية أو الفلسفية. وكما قلنا من قبلُ، فإن التفنيد الحاسم لمحاولات التقريب هذه إنما يكون في الرجوع إلى أجزاء هذا البحث التي تعالج كل موضوع يقال بوجود مثل هذا التشابه فيه؛ إذ إن إجراء هذه المقارنة في ضوء التفسير الذي قدمناه ها هنا هو أفضل الوسائل لإظهار التضاد الحقيقي التام بين اسپينوزا وبين التراث اليهودي.

ففي رأي فرويدنتال أن مذهب «وحدة الوجود» عند اسپينوزا لا يرجع إلى عناصر أفلاطونية محدثة، ولا يكفي تفسيره من خلال فلسفة «برونو Bruno»، وإنما هو يفسَّر على أساس تأثر اسپينوزا بالتراث اليهودي.٣٩ ومن المؤكد أن السؤال الأكبر في هذا الصدد هو ما إذا كان اسم «وحدة الوجود pantheism» ينطبق بحق على فلسفة اسپينوزا أم لا ينطبق؛ فالتسمية صحيحة طالما أن فكرة «الله» تؤخذ عنده بمعناها الحرفي. أما إذا فُهمت على النحو الذي عرضناه في هذا البحث، لأصبحت التسمية باطلة تمامًا، ولانهار بالتالي أساس حجة «فرويدنتال».
ويقول «روث» بوجود تشابُه مماثل في فكرة وحدة الطبيعة عند اسپينوزا؛ فهو يحلل عقيدة التوحيد العبرية فيرى أنها ترتبط بفكرة وحدة الظواهر الطبيعية، ويتلمس فيها التالي صبغة علمية. وفي رأيه أن المفكرين اليهود في العصور الوسطى قد عملوا على نقل الاهتمام من وحدة الله إلى وحدة الطبيعة، وبذلك رفعوا البحث العلمي، والبحث وراء الاطراد في تركيب الأشياء، إلى مرتبة الواجب الديني الأعلى. وهكذا تكون دراسة اسپينوزا للفلسفة اليهودية في العصور الوسطى هي التي أدت به إلى ذلك «الإدماج الجريء للعلم في محراب الدين ذاته».٤٠ كما يرى فرويدنتال أن نظرة اسپينوزا إلى الطبيعة كانت مماثلة لنظرة اليهود إلى إلههم، ««فالطبيعة المؤلَّهة» كانت، كإله اليهودية، أشمل وأكمل موضوع لحبنا، وهي الموضوع الذي نهب له أنفسنا بكل ما نملك، وفي ذلك تكون الطاعة الحقيقية لله، وكذلك خلاصنا وسعادتنا الأزلية.»٤١ والمشكلة في هذا كله هي أن معاني اسپينوزا تُفسر حرفيًّا على النحو الذي يخدم أغراض هؤلاء الباحثين، بل إن تعاليم اليهودية ذاتها تُزيف؛ إذ يُنسب إلى اليهودية، ولا سيما في صورتها التي اتخذتها في العصور الوسطى، اتجاه علمي للتقريب بينها وبين اسپينوزا، الذي يُفترض أنه جلب العلم إلى محراب الدين، مع أنه في واقع الأمر قد حوَّل المعاني الدينية، بطريقة بارعة — ومع احتفاظه بنفس ألفاظها وتعبيراتها — إلى معانٍ علمية، وبذلك يكون الأصح أن يقال عنه إنه جلب الدين إلى محراب العلم.
ويرى «برييه» أن توحيد اسپينوزا بين الله أو بين الذهن الإلهي وبين موضوع هذا الذهن لا بُدَّ أنه يرجع إلى موسى بن ميمون، أو أحد شُرَّاح كتاب «الزهار Zohar» (أي أصحاب مذهب «القبَّالة»)، وأن هذه القضية في أصلها أفلوطينية وصلت إليه بتوسُّط هذه المؤثرات.٤٢ ومع ذلك فقد رأينا «فرويدنتال» من قبلُ ينكر أهمية مثل هذه المؤثرات الأفلوطينية، ويؤكد أهمية التأثير اليهودي المباشر. وفضلًا عن ذلك فمن الواضح أن فكرة اسپينوزا الحقيقية في هذا الصدد كانت ترمي إلى عكس النتيجة التي تُستخلص من كلام «برييه»، وكل ما في الأمر أنه صاغها في لغة تقترب إلى حد كبير من لغة المدرسين. أما «بروشار» فيرى، تمشيًا مع موقفه العام في تأكيد الأهمية الأساسية للفكر اليهودي في فلسفة اسپينوزا، أن «إله اسپينوزا هو الإله اليهودي» يهوا Jehova «بعد إدخال تحسينات أساسية عليه»،٤٣ وهذا بطبيعة الحال رأيٌ تُكذبه كل كلمة قيلت في هذا البحث؛ ومن ثم فلا داعي لتنفيده في هذا الموضع.
ومن أعجب ما قرأت في هذا الصدد محاولات بعض الشُّراح اليهود الذين سعَوا إلى التقريب بين التراث اليهودي وبين فلسفة اسپينوزا في أفكار كانت هي الوسيلة الأساسية التي استخدمها اسپينوزا في محاربة هذا التراث. وسأضرب لذلك مَثلين؛ فنقد اسپينوزا لتشبيه الآلهة بالإنسان، وهو النقد الذي كان وسيلته الكبرى إلى محاربة العناصر الأسطورية في التراث اليهودي، والذي طالما ردده في صدد هذا التراث في «البحث اللاهوتي السياسي» — هو في نظر «رخمان»، مستمد من التراث اليهودي ذاته! فهو يقول: «إن مقاومة كل نوع من التشبيه بالإنسان هي عنصر أساسي في اليهودية؛ إذ يردد اليهودي يوميًّا: أشهد أن الله ليس بدنًا ولا يشبَّه لنا في أية صورة منظورة.»٤٤ وهذا هو التزييف بعينه؛ إذ توجد، إلى جانب العبارة السابقة، عشرات النصوص التشبيهية الصريح في العهد القديم ذاته، وهي النصوص التي طالما اقتبسها اسپينوزا وأكد أنها لا تصلح إلا للعقلية العامية.
وقد لاحظ باحث يهودي آخر، هو «هيلر Heller»، الاختلاف الأساسي بين تفكير اسپينوزا واليهودية في هذا الصدد؛ إذ أشار إلى أن الإنسان في اليهودية هو مركز الكون، وكل ما في الطبيعة موجود من أجله، بينما كان دور الإنسان في الكون، عند اسپينوزا، ضئيلًا، والطبيعة ذاتها في نظره لا أخلاقية Amoral.٤٥ وهذا، دون شك، نفي مباشر لكل تشبيه بالإنسان.
ومع ذلك فإذا كان «هيلر» قد أدرك، بحقٍّ، استحالة التقريب بين اسپينوزا واليهودية في صدد نقد الأول لتشبيه الآلهة بالإنسان، فإنه هو ذاته يقع في خطأ لا يقل عن ذلك فداحة؛ إذ يرى (وهذا هو المثل الثاني الذي أضربه لمثل هذه الأخطاء) أن فكرة مادية الله عند اسپينوزا يمكن أن ترد إلى أصول يهودية؛ لأن الله في اليهودية كثيرًا ما كان يتخذ صبغة مادية.٤٦ وموضع الغرابة هنا هو أن هذه الصبغة المادية التي كان يتخذها الله في اليهودية كانت هي ذاتها راجعة إلى ما في اليهودية من تشبيه للآلهة بالإنسان (وهو التشبيه الذي سبق أن تنبه المؤلف إلى عدم تمشيه مع تفكير اسپينوزا!) وواقع الأمر أن الفكرة لم تكن عند اسپينوزا إلا إشارة أخرى منه إلى أن المعنى الحقيقي لفكرة الله عنده هو مجموع الطبيعة؛ وبذلك يكون بين الطرفين أشد أنواع التناقض.
ولندَع مفكرًا يهوديًّا آخر، هو «واكسمان»، يرد على هاتين المحاولتين السابقتين، فيقول: «إن مذهب اسپينوزا، مجردًا من لغته الشبيهة باللاهوتية، لا يكتفي بوصف إله مجرد من كل مسحة من التشخيص — أعني آلة لا متناهية، إن جاز هذا القول — وإنما يعزو أيضًا إليه الامتداد، الذي هو الخاصية الأساسية للمادة، بوصفها إحدى الصفات الإلهية … وهذه هي بعينها الأفكار التي كانت الفلسفة اليهودية في جميع صورها تنفر منها.»٤٧
ولقد تعرضت فكرة «الحب الإلهي» لدى اسپينوزا لسوء فهم كثير، لم يسلم منه معظم شراحه من اليهود وغير اليهود معًا، وأرجعت هذه الفكرة إلى أصول صوفية أو لاهوتية أو لا عقلية متعددة. من بينها، بطبيعة الحال، الأصول اليهودية. وهكذا يوافق «چواكيم» على التقريب بين فكرة الحب الإلهي عند اسپينوزا وبين نظيرتها لدى «ليون العبري Leone Ebreo» في كتابه «محاورات في الحب Diologhi d’Amore»،٤٨ وتتردد محاولات التقريب هذه لدى عدد كبير من شُرَّاح اسپينوزا، وهي كلها تعتمد، كما هو واضح، على تفسير حرفي للفكرة على نحو يتيح إضفاء صبغة صوفية عليها. أما إذا أخذت الفكرة بالمعنى المضاد لمعناها الحرفي، على النحو الذي عرضناها به في هذا البحث، فلن يعود لمثل هذه المحاولات أي مجال. ومرة أخرى، نقتبس في تفنيد محاولات التقريب هذه رأيًا سليمًا في مقال «واكسمان» الذي أشرنا إليه من قبلُ، قال فيه: «… إن ماهيته (أي هذا الحب) هي أعلى أنواع المذهب العقلي الذي يدرك الارتباط العِلِّيَّ الضروري بين كل الأشياء. وصحيح أن هذا النوع من الحب قد يؤدي إلى طمأنينة النفس، التي ينتج عنها رضاء رواقي ونوع من السرور الناجم عن شعور الإنسان بمعرفة شاملة لكل شيء، ولكنه لن يؤدي إلى أي شيء عدا ذلك، ومن الأمور الواضحة بذاتها أن الحب اليهودي لله ينطوي على أكثر من ذلك بكثير؛ إذ إنه انفعالي يجعل الله نوعًا من الشخصية …
ومع ذلك فإذا تحدثنا عن شكل الحب العقلي عند اسپينوزا ففي وسعنا قطعًا أن ننتهي إلى أن اسپينوزا كانت تتملكه رغبة لا شعورية في استبقاء التعبيرات التي كانت تعني الكثير ليهود عصره، وربما له هو ذاته في شبابه الأول.»٤٩

وهذا رأي سليم تمامًا، وكل ما في الأمر أن هذه «الرغبة اللاشعورية» التي تحدَّث عنها في الفقرة الأخيرة كانت في رأينا رغبة «متعمدة» في استخدام نفس الاصطلاحات اللاهوتية التقليدية للتعبير عن أكثر المعاني ابتعادًا عنها، بحيث يكون قد حارب اللاهوت التقليدي بنفس سلاحه، بينما تبدو كتاباته في شكلها الظاهر متمشية مع التيار اللاهوتي العام.

•••

ولقد حاول كثير من الشُّراح اليهود أن يقرِّبوا بين كتاب اسپينوزا الرئيسي «الأخلاق»، وبين التراث اليهودي، واتخذت محاولاتهم هذه صورًا شتى، سنعرض الآن طرفًا منها:

فاستهداف اسپينوزا، في كتابه الرئيسي، غاية أخلاقية (على عكس الغاية العلمية التي استهدفها ديكارت)، يُعَد في نظر «روث Roth» مظهرًا من مظاهر تأثير اليهودية في تفكيره: «إن اهتمام اسپينوزا بالأخلاق موروث؛ فهو سليل شعب لم يعبأ، منذ أقدم الأزمنة، بالنظريات المجردة إلا قليلًا، بينما اهتم كل الاهتمام بالسلوك العملي، وهو نتاج أدب يسوده مثال التقوى، وتاريخ يُمثِّل صيحة واحدة طويلة في طلب العدالة؛ فهو قد ظل رغم ذاته، ورغم طائفة أمستردام، ابنًا لأهل الكتاب «في أعماق نفسه».»٥٠ ويزيد رأيه وضوحًا بعد قليل، فيقول: «إن المشكلة التي بدأ بها اسپينوزا، وهي مشكلة السلوك، ما هي إلا البحث الإنجيلي القديم عن «طريق للحياة». والعقيدة العقلية التي وجد فيها حلًّا لهذه المشكلة، والتي ينبغ فيها الانفعال، الذي هو الدين، من المعرفة، التي هي العلم، هي من خلق الفلسفة اليهودية في العصور الوسطى. وهكذا دخل اسپينوزا الفكر الحديث مهيأ على هذا النحو.»٥١

مثل هذه الأحكام الخاطفة، الفجة، هي في رأينا مثال واضح للتشويه الذي يمكن أن يفسد به التعصب التفكير؛ فهذا الكاتب يريد أن يقرِّب بين اسپينوزا وبين المؤثرات اليهودية «رغم ذاته، ورغم طائفة أمستردام»؛ أي رغم الطرد (الذي كان يتعمد أن يتجنب الإشارة إليه). فما هي إذن شواهده على ذلك التقارب؟ أهي الاهتمام بالأخلاق؟ إن هذا الاهتمام حظ مشترك بين عدد كبير من الفلاسفة، ومنهم مثلًا أفلاطون، وكانْت، والرواقيون. ومع ذلك لم يكن واحد من هؤلاء من «أهل الكتاب!» ومع كلٍّ، فمن قال إن اسپينوزا لم يكن يعبأ بالنظريات المجردة؟! وماذا نقول في المواقف العلمية العامة التي يزخر بها كتاب «الأخلاق»؟ إن «روث» يفترض أولًا وجود سمة واحدة تُميز اليهود من أقدم العصور، وتطبع نفسها حتمًا على تفكير كل فيلسوف ينتمي إلى جنسهم، حتى لو كان ذلك «رغمًا عنه» — وهذا وحده افتراض «عنصري» لا يقوم على أساس علمي متين. ثم هو يجزم بأن هذه السمة هي الاهتمام «بالأخلاق»، وهو تأكيد يقبل كثيرا من المناقشة؛ إذ ليس هذا الاهتمام مميزًا لمفكري اليهود على الدوام، كما أن وجوده لدى مفكر لا يعني تأثره بمؤثرات يهودية. وأخيرًا فإن نظرة واحدة إلى «طريق الحياة» كما رسمه اسپينوزا تقنعنا بأنه كان هو نقيض طريق الحياة كما أوضح معالمه التراث اليهودي.

ومثل هذه الاعتراضات تسري على رأي «كايزر Kayser» الذي بنى على حجة مماثلة، قال فيها: «[إن كتاب «الأخلاق»] يعيد إحياء نمط من الفلسفة الدينية لا يؤلف معرفة، وإنما يؤلف حكمة، فالطابع الأخلاقي والديني الأساسي لكتاب «الأخلاق» كان يعني عودة ظهور القوى الروحية القديمة لليهودية.»٥٢ ومن الغريب أن المؤلف ذاته يتولى مهمة الرد على نفسه بعد صفحات قلائل إذ يقول: «إن تحرر الفلسفة من اللاهوت … قد تحقق هنا بالفعل … فاسپينوزا وحده هو الذي فتح للعقل عالمًا خاصًّا به، وتلك هي الطريقة الوحيدة التي أمكن بها قيام الفلسفة والعلم على نحو مستقل عن كل عقيدة لاهوتية وعن سلطة الكنيسة.»٥٣
ويقدم «واكسمان» ردًّا أعمق على القول بأن الاتجاه العام لكتاب «الأخلاق» يكشف عن تأثر باليهودية، فيقول: «إذا ما نظرنا إلى الاهتمام بالحياة — أو الاهتمام بالطبيعة — على أنه من سمات الروح العبرية، فإن اسپينوزا يكون إلى هذا الحد قد خضع لتأثير العنصر اليهودي. ولكنا إذا تأملنا السعي إلى السعادة، الذي يؤلف القوة الدافعة لفلسفته، في ضوء التراث اليهودي، والفكر اليهودي، وحالة اليهودية في عصره، لوجدناه أبعد ما يكون عن اليهودية؛ فالفلاسفة اليهود لم يكونوا يسعون أبدًا إلى السعادة؛ إذ إنها معطاة لهم في التوراة وفي الحياة اليهودية … ولم يتعين على اسپينوزا أن يلتمس طريقًا جديدًا للسعادة إلا بعد أن نفصل انفصالًا قاطعًا عن الكنيس اليهودي وتعاليمه.»٥٤
ويتحدث «رخمان Rakhman» عن اتجاه اسپينوزا إلى الإقبال على الحياة، والبعد عن التشاؤم، فيرى فيه تأثرًا بالأخلاق اليهودية، التي هي في رأيه مبتعدة عن الزهد: «فمن العناصر الأساسية في اليهودية مكافحة الزهد والاكتئاب.»٥٥ وقبل أن يفكر المرء في الرد على هذا التقريب الزائف المبني على عرض باطل لماهية التفكير الأخلاقي اليهودي، يجد، كما هي العادة، مفكرًا يهوديًّا آخر تولى عنه مشقة الرد، وفسر ماهية هذا التفكير الأخلاقي اليهودي تفسيرًا مضادًّا، يغدو فيه هذا التفكير متعارضا مع اتجاهات الفلسفة الأخلاقية عند اسپينوزا؛ إذ يشير «هيلر» إلى التعارض بين دعوة الأخلاق الاسپينوزية إلى السرور وتأكيد الحياة، وبين عناصر التذلل والخضوع التي تظهر بقوة في الأخلاق اليهودية.٥٦ ويؤكد التضاد بين تأكيد العهد القديم للخطيئة، وبين نفي اسپينوزا للشعور بالذنب أو تبريره له منطقيًّا، ويتحدث بعد ذلك عن خلو الطبيعة من القيم الأخلاقية عند اسپينوزا، على حين يكون الإنسان، بقيمه البشرية، مركزًا للكون في الأخلاق اليهودية.٥٧

وأخيرًا؛ فقد سبق أن رأينا كثيرًا من الكتَّاب يؤكدون وجود طابع مزدوج، لاهوتي وعلمي، في كتاب «الأخلاق»، ومن الطبيعي أن يستغل الشُّراح اليهود هذا الطابع المزدوج المزعوم، ليؤكدوا أن العنصر اللاهوتي فيه يرجع إلى التأثر بالتراث اليهودي، وهو تأثر بلغ من قوته، في رأيهم، أنه فرض ذاته على تفكير اسپينوزا العلمي على نحو بدت معه فلسفة اسپينوزا آخر الأمر ذات مظهر متناقض.

ويعبِّر «فرويدنتال» عن هذا الطابع فيقول: «إن الاتجاه اللاهوتي التفاؤلي للأخلاق الاسپينوزية واضح الظهور في هذا الكتاب (الأخلاق)، وهو اتجاه يتعارض مع الحتمية الجامدة في فلسفته النظرية، بقدر ما يتمشى مع النظرة اليهودية إلى العالم.»٥٨ وهو يعلل هذا الظاهرة بقوله: «وتفسير ذلك هو أن عادات ذهنية معينة، كانت سائدة لدى أسلافه منذ آلاف السنين، ومألوفة لديه منذ صباه، قد أدت به إلى الانحراف عن الطريق المستقيم لمذهبه؛ إذ ليس في وسع أحد أن يستقل استقلالًا تامًّا عن تصورات وأحكام وعادات قومه، ولا بد أن يظهر هذا الاعتماد بوضوح أيضًا لدى من انشق في أهم الأمور — كما فعل اسپينوزا — عن تراث أجداده.»٥٩
ويتحدث «ولفسون» في مقدمة كتابه «فلسفة اسپينوزا» عن ذلك الطابع المزدوج المميز لكتاب الأخلاق، فيقول إن للكتاب مؤلفًا صريحًا يضع القضايا والبديهات والتعريفات ويستخدم المنهج الهندسي، ويسميه «بندكتوس». ولكنَّ للكتاب أيضًا مؤلفًا خفيًّا يظهر أحيانًا في «الملحوظات»، ويحفل ذهنه بالتراث الفلسفي للعصور الوسطى، ويسميه «باروخ»، ثم يقول: «وبندكتوس هو أول المحدثين، وباروخ آخر الوسيطيين.»٦٠ وهكذا يردد «ولفسون» بدوره الفكرة القائلة أن فلسفة اسپينوزا جمعت بين الطابع العلمي، المميز للفكر الحديث، والطابع اللاهوتي، المميز للعصور الوسطى، ولا جدال في أن اختياره اسم «باروخ» رمزًا لهذا الاتجاه الوسيطي الذي يفترض وجوده لدى اسپينوزا، يعني أن مؤثرات العصور الوسطى كانت في نظره مؤثرات يهودية في المحل الأول.

وفي وسعنا أن نقول: إنَّ هذا الكتاب بأسْره ليس إلا محاولة لتفنيد الزعم بوجود هذا الطابع المزدوج في فلسفة اسپينوزا؛ وعلى ذلك فلا ضرورة لنقده في هذا المجال؛ إذ إن أي نقد كهذا لا بُدَّ أن يؤدي إلى إثارة مسألة تفسير فلسفة اسپينوزا بأسْرها، وهي الفلسفة التي نعتقد أنها كانت متسقة إلى حدٍّ بعيد، أو أنها إن كانت تفتقر في مواضع فرعية إلى الاتساق؛ فهي على الأقل متسقة في هذه المشكلة الرئيسية: مشكلة الاختيار بين الاتجاهات العلمية الحديثة والاتجاهات اللاهوتية الوسيطية. فاسپينوزا في رأينا لم يكن مترددًا في هذا المجال على الإطلاق، بل إنه اختار طريقه منذ البداية على نحو حاسم، وكان في اختياره منحازًا بكل قواه إلى الاتجاه العلمي الحديث، الذي لم يكتفِ بتأييده، وإنما ارتفع في معظم الأحيان عن المستوى العام لمعاصريه في تفكيرهم الفلسفي في العلم.

•••

ومن الحيل الأخيرة التي يلجأ إليها بعض الشُّراح للتقريب بين اسپينوزا وبين التراث اليهودي، القول بأنه كان مصلحًا يهوديًّا، وتمتاز محاولة التقريب هذه بأنها تنطوي على اعتراف بوجود عناصر كثيرة في تفكيره خرجت على التراث اليهودي، ولكنها تعلل هذا الخروج على التراث بأنه محاولة لإصلاحه — وبذلك يتحقق هدف الربط بين اسپينوزا وبين التيار اليهودي العام، بل وتصبح انتقادات اسپينوزا لهذا التراث وسيلة لتحقيق هذا الهدف.

ويعرض «دنر Dunner» هذه الفكرة بوضوح إذ يقول: «إن القليلين هم الذين أدركوا أنه (أي اسپينوزا) أجرأ مصلح في اليهودية، وأنه أبرز فيلسوف يهودي حديث، يقف بمعزل عن التيار العام للفلسفة الأوربية، ويلتمس الخلاص في هذا العالم بإحلال العقل محل الوحي والطاعة العمياء للسلطة، دون أي تخلٍّ عن تلك الصرامة الأخلاقية التي يتميز بها الأنبياء، وابن ميمون، ومن بعدهم، موسى مندلسون، وسجمنت فرويد، وألبرت أينشتين، وكبار المفكرين اليهود جميعهم.»٦١ ومن المؤكد أن المؤلف إنما أقحم فكرة «المصلح» هذه لكي يوفِّق بين رغبته في إدماج اسپينوزا في التراث اليهودي العام، وبين النواحي الرئيسية التي يعلم أنه خالف فيها ذلك التراث. وقد عدَّد المؤلف هذه النواحي بالفعل، ولو وضع المرء قائمة واحدة بها، لما بقي من اليهودية شيء، ولكانت الصورة النهائية لتفكيره مضادة تمامًا لليهودية — ومع ذلك يؤكد المؤلف انتماء تفكيره إلى اليهودية، لمجرد كونه ينتمي «عنصريًّا» إليها، تمامًا كما أكد انتماء «فرويد» و«أينشتين» إلى التراث اليهودي، وكأن في التحليل النفسي أو في فيزياء النسبية عناصر يهودية على التخصيص!
ويظهر هذا الاتجاه إلى تأكيد يهودية اسپينوزا تأكيدًا عنيدًا لا يبالي بالحقائق الواضحة، لدى «ناحوم سوكولوڤ Soklow»، الذي عبَّر عنه أوضح تعبير عندما قال عن فلسفة اسپينوزا إنها «يهودية بعمق، حتى في حملتها على اليهودية».٦٢

ولست أدري ماذا يستطيع المرء أن يرد به على مثل هذه الطريقة في التفكير، فهنا نصِل إلى الحجة التي لا يمكن الرد عليها، لا لأنها معقولة، بل لأنها تفتقر تمامًا إلى المعقولية. إن الشارح اليهودي في هذه الحالة يقول: ما دام اسپينوزا يهوديًّا بمولده؛ فهو منا، مهما انتقَدَنا، ومهما حمل علينا، ومهما تضمنت فلسفته من عناصر تهدم التراث اليهودي من أساسه — إنه يهودي لأننا نريده لأنفسنا، سواء أراد القارئ أم لم يُرِد، وسواء شاء اسپينوزا ذاته أم لم يشأ!

وكل ما نستطيع أن نقوله ردًّا على ذلك هو: أن الأساس الوحيد للتقريب بين اسپينوزا واليهودية في هذه الحالة يغدو هو الأساس العنصري؛ أي إن اليهود يفترضون أن مجرد انتماء اسپينوزا إلى عنصرهم لا بُدَّ أن يصبغ تفكيره بصبغة اليهودية، وإذا كانت هذه النزعة العنصرية هي آخر ما يمكنهم الالتجاء إليه من الحيل، فلا مفر للمرء من أن يشير، في معرض الرد عليهم، إلى أن هذه النزعة ذاتها هي التي ظلت دائمًا موضوعًا لشكواهم من خصومهم؛ فهم منذ أقدم العصور يأخذون على خصومهم تأكيدهم لفكرة العنصرية، ومع ذلك فهم لا يترددون في تأكيد هذه الفكرة ذاتها إذا ما شعروا بأنها تخدم مصالحهم.

•••

ولكي لا يظل حكمنا هذا مبنيًّا على أساس التخمين وحده، سنقدم مثالًا محسوسًا لمدى تشابُه طريقتَي التفكير اليهودية والمعادية السامية في هذا الصدد، فسوف نضرب مثلًا لشارح نازي يقرب بين اسپينوزا وبين اليهودية على نفس النحو الباطل الذي حاول به الشُّراح اليهود ذلك، وسنشير إلى أوجه الشبه القوي بين اليهود وأعدائهم في طريقة المقارنة بين اسپينوزا واليهودية، بحيث لا يكون للمرء مفر من أن يستنتج أن الطرفين معًا وجهان لقطعة عملة واحدة، كما يقول التعبير الإنجليزي المعروف؛ فالوسيلة، وهي تأكيد العوامل العنصرية، واحدة في الحالتين، والهدف ذاته واحد، وهو تأكيد العوامل العنصرية، واحدة في الحالتين، والهدف ذاته واحد، وهو تأكيد انتماء اسپينوزا إلى اليهودية، وإن يكن هذا التأكيد يرمي في الحالة الأولى إلى تمجيد اليهودية عن طريق نسبة اسپينوزا إليها، ويرمي في الحالة الثانية إلى الحط من شأن اسپينوزا عن طريق ربطه بعنصر تنصبُّ عليه الكراهية.

ففي بحث «جرونسكي Grunsky» عن اسپينوزا (وهو يختار له عنوانًا ذا دلالة، هو «باروخ اسپينوزا»؛ أي إنه تمسَّك باسم باروخ كما فعل كثير من الشُّراح اليهود المتعصبين، ضاربًا عرض الحائط، مثلهم، بتخلي اسپينوزا عن هذا الاسم)، يستمد من حياة اسپينوزا وشخصيته وقائع يعتقد أنها تقرِّب بينه وبين اليهودية؛ فهو يقارن بين تشبيه اسپينوزا لنفسه بالثائر «مازاينلو»، وبين ذلك الحرص والحذر الشديدين الذين كان يبديهما في كتاباته، واستخدامه كلمة «حذار Cante» شعارًا له، ويؤكد أنه كان يهرب من كل صراع علني هربه من الطاعون، ولم يوقع باسمه الكامل سوى واحد فقط من مؤلفاته، هو ذلك الذي لم يعرض فيه آراءه الخاصة. وقد ألَّفه ليكون وسيلة إلى لفت أنظار كبار الساسة في عصره، مثل ديڨيت.٦٣
ويستغل هذا الكاتب كثيرًا تلك الحقيقة التي كانت عندئذٍ قد كشفت حديثًا، وهي أن اسپينوزا كان في شبابه تاجرًا ناجحًا، على عكس ما قاله عنه «كوليروس» من أنه كان فقيرًا ذا ميراث ضئيل، ويشكك في كونه قد تخلى عن ميراثه كما قال، ويرى أن زهده المزعوم في المال ربما كان قناعًا أخفى وراءه معاملاته المالية والتجارية.٦٤
وهو يشبِّه علاقة الضرورة القائمة بين الصفات والجوهر، عند اسپينوزا، بعلاقة الضرورة القائمة بين كلمات التوراة وبين الله في اليهودية،٦٥ وهو تشبيه واضح السطحية، ولا يمكن أن يستدل منه على أي تأثر بتعاليم اليهودية التقليدية.
ولكن الأبلغ من ذلك دلالةً أنه بدوره يجعل من اسپينوزا «مصلحًا لليهودية»؛ فكتاب الأخلاق في نظره هو «التوراة الجديدة»، وهي توراة تصلح للناس جميعًا، متميزة في ذلك عن التوراة القديمة التي كانت تصلح «لشعب مختار» فحسب. وفائدة هذا التجديد في نظره هي أن الجميع سيقبلونه، بحيث يؤدي بغير اليهود إلى الانزلاق دون أن يشعروا إلى التفكير اليهودي، بعد أن كان اليهودي هو الذي يسعى إلى التشبه بغير اليهودي.٦٦ ومثل هذا التفسير لأفكار اسپينوزا وأهدافه واضح الزيف لا يحتاج تفنيده إلى جهد كبير؛ فالمؤلف النازي لا يفترق في ابتعاده عن الروح العلمية الصحيحة عن الشُّراح اليهود، وهو بدوره يحاول أن يتخلص من حملة اسپينوزا الواضحة على خرافات التراث اليهودي — وهي حملة تؤدي إلى إحباط كل محاولة تُبذل للتقريب بينه وبين ذلك التراث — بالقول (كما فعل Dunner من قبلُ) إنه كان يسعى إلى إصلاح التراث اليهودي، وهو يعلم أن اسپينوزا قد انتقد فكرة «الشعب المختار» عند اليهود انتقادًا عنيفًا، فيتخلص من هذه الصعوبة بالقول إنه ألف «توراة جديدة» لاجتذاب الجميع لا اليهودية على التخصيص، وإيقاعهم في حبائل اليهودية (ولست أدري أين تكون اليهودية عندئذٍ، إذا كانت هذه «التوراة الجديدة» المزعومة ذات نزعة إنسانية شاملة). وبهذا التزييف لأفكار اسپينوزا يتغلب أيضًا على حقيقة أخرى تقف في وجه تفسيره؛ وهي حقيقة طرد اسپينوزا من الطائفة اليهودية؛ إذ إن هذا الطرد ليس في نظره إلا طرد أنصار التوراة القديمة لصاحب التوراة الجديدة!
وأخيرًا، فإنه يجعل من اسپينوزا عدوًّا للأمة الألمانية؛ إذ إنه شوَّه أفكارًا ألمانية أصيلة، مثل أفكار «چوردانو برونو» (!) وعلى حين أن غاية التفكير الجرماني هي الجمع بين روح البحث الطبيعي وبين الروح الصوفية، فإن اسپينوزا سعى إلى فصل هذين العنصرين كلٍّ عن الآخر.٦٧
وكما فعلنا من قبلُ عندما رددنا على ادعاءات الشُّراح اليهود بأقوال شُرَّاح يهود آخرين، فسوف نرد على مزاعم هذا الباحث «الجرماني» بأقوال باحث ألماني آخر لم يُخْفِ حماسته لاسپينوزا، بل أكد فضله على الأمة الألمانية — ذلك هو «برونر Brunner»، الذي قال «إن الاهتداء إلى أفكار اسپينوزا قد حدث في نفس الوقت الذي مر فيه التاريخ الألماني بأهم فتراته، وهي فترة إعلان وتحرير كل ما هو عظيم نبيل في الروح الألمانية، ولا يمكن أن ينكر الدور الذي لعبته أفكار اسپينوزا في هذا الصدد إلا من يعجز عن فهم الدور الذي تلعبه الأفكار الحية، ويتجاهل الثورة الشاملة التي أثارتها عندئذٍ إعادة كشف اسپينوزا، الذي بعث في نفوس الجميع توترًا وانفعالًا شديدين، وجعل كل النفوس الحية في ذلك العصر أنصارًا له، فهؤلاء، عندما اكتشفوا اسپينوزا، إنما اكتشفوا أنفسهم في واقع الأمر.»٦٨ والحقيقة الواضحة التي يشير إليها «برونر» في هذا الصدد، هي تأثير اسپينوزا الهائل في التكوين الفكري لعدد من أكبر الشخصيات في عالم الفكر والأدب الألماني: مثل «ياكوبي Jacobi» و«جوته Goethe» و«نوڨالس Novalis» — عدا شلنج وفشته وهيجل وعشرات غيرهم من الأدباء والفلاسفة الألمان — ومثل هذا التأثير، الذي اعترف به هؤلاء جميعًا اعترافًا صريحًا، كفيل وحده بالرد على كل المزاعم التي يسوقها ذوو الآفاق الضيقة، كهذا المؤلف النازي الحريص على نقاء الأمة الألمانية وعلى تطهيرها من شوائب اسپينوزا وأمثاله!

والأمر الذي لا بُدَّ أنه قد اتضح للقارئ من خلال هذه المقارنة، هو التشابه العجيب بين المفكرين الذين يدَعون التعصب اللاعقلي يتحكم في تفسيراتهم، سواء أكان هذا التعصب يهوديًّا أم معاديًا للسامية. ولعل هذه المقارنة قد كشفت أيضًا عن ناحية أخرى نرى لزامًا علينا أن ننبه إليها القارئ: وهي أن نقدنا للاتجاه اليهودي في تفسير اسپينوزا لم يكن راجعًا إلى كون هذا الاتجاه يهوديًّا، وإنما إلى كونه متعصبًا على غير أساس من العلم والحقيقة. فلو كان اسپينوزا في نظرنا مفكرًا يؤمن باليهودية ويعبِّر عن مبادئها وقيمها في فلسفته، لما ترددنا في إعلان ذلك، ولكن فلسفته بدت لنا — تبعًا للتفسير الذي قدمناه لها — مضادة تمامًا للأسس الأولى التي قام عليها اللاهوت اليهودي، ومستهدفة غايات تبتعد كل الابتعاد عن غايات الوسيطيين جميعًا، من فلاسفة ورجال دين، وإن يكن قد تعمَّد عرضها في صورة تبدو فيها متمشية مع هذه الاتجاهات. ولما كنا لا نقبل إقحام اعتبارات التعصب في التفسير الفلسفي؛ فقد حرصنا على أن ننتقد المفسرين اليهود الذين توخَّوا في تفسيراتهم مشاعرهم الدينية أو العنصرية قبل أن يتوخوا الحقيقة الفلسفية. وهناك دليلان حاسمان على أن انتقادنا هذا لم يكن مدفوعًا بمشاعر الكراهية أو التعصب، وإنما كان دفاعًا عن الروح العلمية الصحيحة فحسب: أولهما أننا اقتبسنا، وسوف نقتبس في بقية هذا الفصل، أقوال شُرَّاح يهود آخرين دون أن نبدي أي اعتراض عليها، بل أبدينا لها، على العكس من ذلك، كل ما تستحقه من احترام وتقدير؛ لأنها في رأينا نزيهة وليست مدفوعة بالتعصب، وثانيهما أننا انتقدنا التعصب المُعادي للساميَّة بنفس القوة التي انتقدنا بها التعصب اليهودي، وهاجمنا بنفس القوة تشويهات الشُّراح النازيين الذين حاولوا أن يقحموا اسپينوزا قسرًا في صفوف اليهودية. وليس بعد هذا دليل على أن انتقاداتنا كانت مستوحاة من روح النزاهة العلمية وحدها.

(٤) استقلال اسپينوزا عن التراث اليهودي

أكد كثير من شُرَّاح اسپينوزا، كما ذكرنا من قبلُ، أن تفكيره كان مستقلًّا عن التراث اليهودي، ومثل هؤلاء الشُّراح في رأينا أعمق فهمًا للاتجاه الحقيقي لتفكيره، وتفسيرهم — فيما يتعلق بهذه المسألة على الأقل — يتفق مع التفسير الذي عرضناه في هذا البحث، ومن هؤلاء «رويس Royce» الذي قال عن اسپينوزا إنه: «كان منتميًا إلى عصره أكثر مما كان يهوديًّا. فتفكيره كان أوثق صلة بتفكير ديكارت وغيره من المفكرين الأوروبيين البارزين، منه بأي مذهب يهودي.»٦٩ ومثل هذا الرأي يظهر أيضًا لدى «ريڨو Rivaud»، الذي أكد تأكيدًا قاطعًا أن اسپينوزا قد انفصل عن الأمة اليهودية التي تنكرت له انفصالًا تامًّا، وتعلَّق بهولندا وانغمس في سياستها ودافع عن حزب «ديڨيت» الجمهوري، وفسَّر ماهية الدين ذاتها تفسيرًا علميًّا.٧٠
ولكن الأهم بكثير، في رأينا، من تعديد أقوال مثل هؤلاء الشُّراح في استقلال اسپينوزا عن اليهودية، أن نورد آراء بعض الشُّراح اليهود الذين أكدوا هذا الاستقلال تأكيدًا قاطعًا، وأحبطوا بذلك المحاولات المقابلة التي رأينا غيرهم من اليهود يبذلونها للربط بين تفكير اسپينوزا وبين ذلك التراث بأي ثمن، ومن هؤلاء الشُّراح اليهود «ڨيل Weill» الذي انتقد استغلال بعض شُرَّاح اسپينوزا لنصوص أو صيغ معينة لديه لكي يقربوا — رغمًا عنه — بينه وبين اليهودية عامةً، أو بينه وبين بعض الكتاب أو أصحاب المذاهب اليهودية. وهو يرى أن هذا التقارب — إن وجد — ليست له إلا أهمية ثانوية: «فلمذهب اسپينوزا قطعًا من الأصالة والعمق ما يجعله متحررًا من كل أصل أو تأثير معترف به أو غير معترف.»٧١ كذلك يقول «واكسمان»: «إن النتائج التي انتهى إليها اسپينوزا تتعارض تعارضًا أساسيًّا، لا مع المبادئ الأساسية لليهودية فحسب، بل أيضًا مع صورتها المعدلة كما عبَّر عنها الفلاسفة اليهودية.»٧٢
وقد أشار «ليوشتراوس» إلى ابتعاد اسپينوزا عن اليهودية ومناصرته للمسيحية، وأكد أن الهدف الأساسي «للبحث اللاهوتي السياسي» هو «تحرير المسيحية من تراثها اليهودي».٧٣ أما «كاسيرر» فقد أكد ابتعاد اسپينوزا عن التراثين الدينيين اليهودي والمسيحي معًا، ورأى أنه كان ذا تجربة خاصة في ميدان العقيدة، وهي تجربة كانت مبنية على أساس العقل، وينبغي ألا تشبَّه بأي دين معين، لأنها فريدة في نوعها.٧٤
وأخيرًا؛ فقد استشهد بعض المفسرين بآراء العالم اليهودي الكبير «أينشتين»، الذي كان من أكبر المعجبين باسپينوزا، وأوردوا هذه الآراء في سياق يوحي لأول وهلة بأن أينشتين كان يرى في اسپينوزا ممثلًا للتراث اليهودي، وأستطيع أن أؤكد إنني لم أجد فيما اطلعت عليه مما كتبه أينشتين عن اسپينوزا كلمة واحدة توحي، ولو من بعيد، بأنه كان يربط بين اسپينوزا وبين التراث اليهودي على التخصيص. فإعجابه به لم يكن يرجع إلى أية اعتبارات ضيقة كهذه، وإنما كان يمجد فيه، قبل كل شيء، العالم والإنسان. ولقد تحدَّث أينشتين عن اهتمام اسپينوزا بالبحث عن العلل الحقيقية لكل ما يحدث في الطبيعة الجامدة وفي الإنسان، وعلَّق على ذلك الاهتمام قائلًا: «لقد وجد في دراسة هذه العلاقة العِلِّية دواء للخوف، والحقد، والمرارة، ووجد فيها الدواء الوحيد الذي يليق بمن كان إنسانًا روحيًّا بحق. وأثبت تبريره لهذا الاعتقاد، لا عن طريق تلك الصيغ الواضحة الدقيقة التي عبَّر بها عن أفكاره فحسب، بل أيضًا عن طريق تشكليه لحياته في صورةٍ مُثلى.»٧٥ هذا هو ما قاله أينشتين في مقدمة لكتابٍ وضعه باحث يهودي واضح التعصب. ولست أعتقد أنه كان من قبيل المصادفة وحدها أن يتحدث في هذه المقدمة عن العلم بوصفه دواء «للخوف والحقد والمرارة»، وأن يصف هذا الدواء بأنه وحده «الذي يليق بمن كان إنسانًا روحيًّا بحق». بل إن المرء ليستطيع أن يستشف من وراء ذلك مقارنة خفية بين طريقة اسپينوزا في التخلص من الخوف والحقد والمرارة — وهي مشاعر كان لها قطعًا تأثيرها في حياته بسبب تعصب الأوساط اليهودية وغير اليهودية المعاصرة له — وبين الطريقة التي يتبعها غيره من اليهود عندما يمرون بهذه المشاعر ذاتها. فاسپينوزا يتغلب على الخوف والحقد بالعلم، الذي يفتح له أبواب الكون على مصراعيه، والذي تكون نتيجته حبًّا للطبيعة الشاملة عبَّر عنه رمزيًّا بفكرة «الحب العقلي لله»، فما أجدر بقية اليهود بأن يلجئوا إلى هذه الطريقة ذاتها، بدلًا من أن يبالغوا في الخوف، ويزيدوا الحقد والمرارة اشتعالًا! هذا — في اعتقادي — هو ما كان أينشتين يرمي إليه بهذه الكلمات البالغة الدلالة، ولكنه، على أية حال، كان أوسع أفقًا من أن يسير في طريق أولئك الذين حاولوا أن يربطوا، قسرًا، بين اسپينوزا وبين التراث اليهودي على التخصيص.

•••

وعلينا أخيرًا، قبل أن نختم هذا الفصل، أن نختبر بعض النصوص التي تتناول رأي اسپينوزا المباشر في اليهودية، ولنسارع فنكرر ما قلناه من أن معظم الشُّراح اليهود الذين يسعون إلى الربط بين تفكير اسپينوزا والتراث اليهودي يتجاهلون واقعة طرده من الطائفة اليهودية وانفصاله عنها طوال حياته الناضجة (أي منذ سن الرابعة والعشرين حتى وفاته)، أو يقللون من أهمية هذه الواقعة، مع أنها — مهما كانت قيمة طقوسها — دليل قاطع على عصيانه الروحي للطائفة التي نشأ فيها. وكونه لم يحاول في أي وقت أن يتراجع عن موقفه، أو يسترضي السلطات الدينية اليهودية، دليل حاسم على ترحيبه هو ذاته بهذا الطرد، وعلى أنه بذل كل ما استطاع من جهد لإزالة آخر المؤثرات اليهودية في تفكيره.

ومع ذلك فإن أمثال هؤلاء الشُّراح المتعصبين يستشهدون بنصوص قليلة جدًّا، لا تعدو في الواقع أن تكون نصًّا أو اثنين، يشتمُّون فيها نوعًا من العطف على اليهود. وتتردد هذه النصوص القليلة ذاتها لدى عشرات من كتَّابهم على نحوٍ يبعث على السخرية حقًّا. وهم يُسرفون في تأويل هذه النصوص إلى حد تشويهها تمامًا، وإخراجها نهائيًّا من سياقها. ولنتأمل هذه النصوص القليلة لنرى إلى أي حد يمكن أن تُفهم على أنها تتضمن بالفعل عطفًا على الأمة اليهودية:

  • (١)
    ففي الرسالة رقم ٣٣، تحدَّث «أولدنبرج» إلى اسپينوزا عن إشاعة كانت رائجة في ذلك الحين، مؤداها أن الإسرائيليين المشتَّتين منذ أكثر من ألفي عام سيعودون إلى وطنهم. وطلب أولدنبرج رأي اسپينوزا في هذه المسألة، كما أراد أن يعرف رأي يهود أمستردام في هذا النبأ «الذي لو صح، لكان فيه إيذان بهزَّة ضخمة في العالم بأسره.» وكان أولدنبرج يشير في هذه الرسالة إلى حركة قومية ظهرت بين اليهود بعد ظهور شخص بينهم يُدعى «شبتاي زفي Sabbatai Zevi»، ادَّعى أنه سيتوَّج ملكًا على القدس بعد سنتين، وآمن به كثير من اليهود، ولكن الذي حدث خلال هاتين السنتين هو أنه قُبض عليه في القسطنطينية، وخابت آمال أتباعه اليهود عندما علموا أنه أشهر إسلامه بعد ذلك.٧٦
    ومن المؤسف أن رد اسپينوزا على هذه الرسالة — وهو رد كان كفيلًا بأن يُلقي مزيدًا من الضوء على رأيه الحقيقي في مسألة تكوين دولة يهودية — هذا الرد إما مفقود أو لم يُرسَل على الإطلاق، وظلت المراسلات بينه وبين أولدنبرج منقطعة بعد ذلك فترة طويلة. ومع ذلك فإن «كايزر» يتطوع — من تلقاء ذاته — بتقديم رد يتلاءم مع أماني اليهودية المتعصبة؛ إذ يقول إن هذا الرد ربما كان موجودًا في فقرة من كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» يقول فيها اسپينوزا: «بل إنني لأذهب إلى حد الاعتقاد بأنه لو لم تكن مبادئ عقيدتهم (أي اليهود) قد أضعفت عقولهم، ولو سنحت الفرصة وسط التغيرات التي تتعرض لها أحوال البشر بسهولة؛ فقد يُنشئون مملكتهم من جديد. وقد يختارهم الله مرة ثانية.» ويهلل «كايزر» لهذا النص، الذي يتكرر الاستشهاد به في عشرات من مؤلفات الشُّراح اليهود المتعصبين، ويقول: لقد ظل باروخ اسپينوزا جزءًا من الأمة التي نبذه معلموها المتحمسون قبل ذلك بعشر سنوات.»٧٧

    ومن الملاحظ أولًا أنه ليس من الروح العمية في شيء أن يبني المرء حكمًا عامًّا على نص واحد، ويتجاهل آلاف النصوص الأخرى التي تشهد بطريقة قاطعة على خروج اسپينوزا على التراث اليهودي، بل وعلى كل تراث لاهوتي بوجه عام. وثانيًا، فمن الضروري لفهم هذا النص، أن يُوضح رأي اسپينوزا الخاص في فكرة «المملكة أو الإمبراطورية»، وفكرة «اختيار الله لليهود»، وهو رأي عرضه اسپينوزا مرارًا في هذا الكتاب نفسه، ويختلف تمامًا عن المعاني التي يستخلصها «كايزر» وأمثاله منه — معاني العودة إلى الدولة القديمة وإحياء مجد إسرائيل! وثالثًا، فإن هذا النص السابق، الذي استشهد به، كما قلنا، عدد كبير من شُرَّاح اسپينوزا اليهود، منتزع من سياق لا شأن له على الإطلاق بتمجيد اليهود، بل إنه على العكس من ذلك يتضمن انتقادًا مريرًا لهم.

    أما معنى «اختيار الله لليهود» فإن اسپينوزا لا يكفُّ عن القول بأن هذا الاختيار لا يرجع إلى امتيازهم في الفضيلة أو العقيدة أو في أية صفة أخرى، وإنما كان المعنى الوحيد لهذا الاختيار هو أن دولتهم القديمة خضعت لقوانين تكفل تنظيمًا سليمًا للمجتمع فحسب؛ فالاختيار هنا لا يعني إلا سلامة نظام الحكومة فحسب. أما فكرة امتياز شعب على شعب — أو على بقية الشعوب — فإن اسپينوزا يرفضها بشدة. ويقول اسپينوزا في هذا الصدد: «وهكذا نستنتج أنه، لما كان الفضل الإلهي يعم جميع الناس على السواء. ولما كان الله لم يختر العبريين إلا من حيث تنظيمهم الاجتماعي وحكومتهم، فإن اليهودي الفرد، إذا ما نُظر إليه بمعزل عن تنظيمه الاجتماعي وحكومته، لا يملك أية موهبة يخصه بها الله عن سائر البشر، ولا يوجد فارق يميز اليهودي عن غير اليهودي.»٧٨

    وسنورد فيما يلي السياق الذي ورد فيه النص الذي استشهد به «كايزر» لتأييد مزاعمه:

    «… لا يوجد على الإطلاق في الوقت الحالي أي شيء يستطيع به، اليهود أن يباهوا به غيرهم من الشعوب.

    أما استمرار اليهود كل هذا الوقت بعد تشتتهم وضياع ملكهم، فليس فيه ما يدعو إلى العجب؛ إذ إنهم قد انفصلوا عن كل أمة أخرى إلى حد جلب عليهم كراهية الجميع، ولم يتحقق ذلك الانفصال فقط عن طريق طقوسهم الخارجية، وهي طقوس تتعارض مع شعائر الأمم الأخرى، بل تحقق أيضًا عن طريق علامة الختان التي يحرصون كل الحرص على مراعاتها.»٧٩ ويضرب اسپينوزا بعد ذلك مثلًا بيهود إسبانيا الذين أُرغموا على التحول إلى المسيحية، ثم عوملوا معاملة حسنة، فاندمجوا في السكان بمضي الزمن، بحيث تلاشت كل الفوارق بينهم وبين هؤلاء. أما يهود البرتغال الذين أُرغموا أيضًا على التحول إلى المسيحية، ولكنهم اضطُهِدوا وعوملوا معاملة سيئة؛ فقد ظلوا محتفظين بهويَّتهم. وفي هذا الصدد يأتي النص الذي اقتبسه «كايزر» من قبلُ، وتسبقه العبارة الآتية: «إن علامة الختان وحدها لها من الأهمية ما يجعلها تكاد تكون كافية، في اعتقادي، لحفظ الأمة إلى الأبد، بل إنني لأذهب إلى حد الاعتقاد بأنه …» (إلى آخر النص الذي سبق اقتباسه.)٨٠

    وإذن؛ فقد ورد هذا النص في سياق انتقد فيه اسپينوزا اليهود بشدة، وأكد فيه أن ما يسمونه «بمعجزة البقاء» عبر العصور الطويلة لا ترجع إلا إلى ما جلبوه على أنفسهم من كراهية الآخرين؛ فهي ليست معجزة على الإطلاق وإنما هي مظهر اعتلال وانحراف. وقد دلل اسپينوزا على ذلك بمقارنته بين يهود عوملوا معاملة حسنة فتلاشوا — بوصفهم يهودًا، لا بوصفهم أفرادًا — بينما احتفظ آخرون بهويتهم عندما اضطهدوا؛ أي إن هذه الكراهية التي يجلبها اليهود على أنفسهم، والتي تسبب اضطهاد الآخرين لهم، هي التي تعمل على بقائهم، ولولاها لاندمجوا كغيرهم من الشعوب المتطورة عبر التاريخ. وليس معنى الاندماج على الإطلاق أن تتلاشى الشعوب، وإنما أن تخضع فقط لتطور التاريخ خلال الزمان، وتستفيد من مزايا الاختلاط والانصهار مع غيرها، كما حدث لعشرات من الأمم القديمة التي لم يعُد لها وجود بصورتها الأثرية، لا لأنها قد فَنَت، بل لأنها قد انصهرت واختلطت بغيرها عبر الزمان، وأفادها هذا الخضوع لمنطق التطور فائدة لا تُقدَّر، ومن الواضح كل الوضوح، من هذا السياق، أن اسپينوزا يعيب على اليهود — بعد أن خرج من طائفتهم — تحجُّرهم وافتقارهم إلى التكيف مع المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها، حتى إنهم حرصوا على تمييز أنفسهم بعلامة الختان حتى يظل جنسهم منفصلًا عن غيره، وبعد كل هذا الانتقاد، وفي ضوء المعنى الخاص الذي أوضحناه من قبلُ لفكرة «الاختيار الإلهي»، يأتي النص الذي اقتبسه «كايزر» وكثيرون غيره، ليدللوا به على عطف اسپينوزا على الأمة اليهودية. ومن المؤكد أن واحدًا من هؤلاء الشُّراح لم يكن يجهل السياق الذي ورد هذا النص فيه، ولا بد أن التعصب وحده هو الذي جعلهم يلجئون إلى اقتطاعه من سياقه المخالف تمامًا لما توحي به سطوره القليلة، حتى يؤيدوا به دعواهم الخاسرة.

  • (٢)
    والنص الآخر، الذي طالما استشهد به المفسرون اليهود، وارد في رسالة اسپينوزا رقم ٧٦ إلى «ألبرت برج Albert Burgh»، وفي هذه الرسالة يتحدث عن اليهود فيقول: «إن أكثر ما يباهون به، هو أن منهم شهداء يزيدون على ما لدى أية أمة أخرى منهم، وأن كل يوم يشهد أعددًا جديدة ممن يتحملون العذاب من بينهم، بسبب عقيدتهم، بقلب راسخ إلى حد يبعث على الدهشة. وتلك ليست أسطورة؛ فقد عرفت بنفسي، من بين الكثيرين ممن عرفت، شخصًا يُدعى يهودا Judas، ويُلقَّب بالمخلِص  Fidèle، أخذ يُنشد وسط اللهيب، في وقتٍ ظنَّه فيه الناس ميتًا، هذا النشيد: إليك يا رب أقدِّم روحي … ومات وهو ينشد.»

    هذا النص يبدو في نظر الكثيرين، كما قلنا، معبِّرًا عن عطف اسپينوزا على اليهود، ولكن هل هو بالفعل كذلك؟ لنتأمل السياق الذي ورد فيه: إن الرسالة موجَّهة إلى كاثوليكي شديد التعصب، هو «ألبرت برج»، ويناقش فيها اسپينوزا الحجة التي سبق أن تقدَّم بها هذا الأخير، وأيَّد بها عقيدته الكاثوليكية على أساس أن الملايين من الناس يؤمنون بها، وأنها ظلَّت محتفظة بكيانها عبر العصور دون انقطاع. والرد الذي يأتي به اسپينوزا هو أن اليهود المتعصبين بدورهم يلجئون إلى هذه الحجة دائمًا؛ فهم، كما جاء في الرسالة ذاتها قبل ذلك، «يُشِيدون، بنفس القدر من الغرور، بكنيستهم، التي ظلت حتى اليوم ثابتة راسخة، رغم ما يبديه نحوها غير اليهود والمسيحيون من عداوة مريرة. وهم يحتجون خاصةً بقِدمهم، ويدَّعون بصوت واحد أن لديهم تراثًا تلقَّوه من الله ذاته، وأنهم هم وحدهم حفظة كلمة الله المكتوبة وغير المكتوبة … ولكن أكثر ما يفخرون به، هو أن بينهم شهداء (إلى آخر النص الذي اقتبسناه من قبل) …» ومن الواضح عندما يوضع النص في سياقه هذا أن المقصود به الرد على حجة كاثوليكي متعصب بما يماثلها لدى اليهود، لإثبات أن الموقفين معًا باطلان، والمقصود من الأمثلة الأخيرة (التي استشهد بها الشُّراح اليهود) هو إثبات وجود أمة أخرى لا يقل أفرادها عن الكاثوليكيين تمسكًا بعقيدتهم واحتفاظًا بها مهما كانت الظروف، وتكملة الحجة، كما هو واضح من السياق، هو كما يأتي: إنك تظن أنك صاحب الدين الحق لأن عقيدتك باقية، ولكن هناك أناسًا آخرين، هم اليهود، لديهم كل الأسباب التي تجعلهم يؤكدون أنهم أشد الناس تمسكًا بعقيدتهم. فهل يكون لهؤلاء بدورهم أن يزعموا أن دينهم هو الحق؟ الواقع أنه لا الكاثوليكية، ولا اليهودية، يحق لها أن تدعي احتكار الحقيقة لنفسها، ومن الممكن الإتيان دائمًا، في كل حالة تلجأ فيها إحدى العقائد إلى الحجة القائلة بقدرتها على البقاء، بأمثلة أخرى لعقائد مخالفة لا تقلُّ عنها قدرة على البقاء، ولكن لا هذه ولا تلك يحق لها، كما قلنا، أن تدعي لنفسها احتكار الحقيقة.

    ولقد تعرَّض اسپينوزا، من جرَّاء حملته على فكرة «الشعب المختار» هذه، لانتقاد بعض معاصريه، ممن كانوا يعدون هذا النقد، بما فيه من خروج على بعض تعاليم العهد القديم، منطويًا على مساس بتعاليم الإنجيل بأسره. وهكذا يلاحظ «لامبرت دي ڨلتهويزن» في الرسالة رقم ٤٢ الموجهة إلى اسپينوزا، أن هذا الأخير أنكر فكرة اختيار اليهود أو تفضيلهم على بقية الأمم، وأكد أن ممارسة الفضائل الأخلاقية أجدى من ممارسة شعائر العقيدة اليهودية ذاتها. ويلوم صاحب الرسالة اسپينوزا لأنه جعل أمم الأرض كلها سواء، وأفراد البشر جميعًا متماثلين، في القدرة على فعل الخير والتحلي بالفضائل — وهي كلها أفكار تخالف تعاليم العهد القديم كما فهمها اليهود مخالفة أساسية.

    ومن المؤكد أن اسپينوزا قد عبَّر، في نصوص متعددة، عن انتقاده لفكرة «الشعب المختار» هذه بكل وضوح، ولكن من المؤسف أن الشُّراح اليهود الذين حرصوا على الربط بين فلسفته وبين التراث اليهودي، لم يتعرضوا لهذه النصوص قط، بل تجاهلوها كما لو كانت لا تنتمي إلى كتابات فيلسوفنا هذا على الإطلاق، ولنتصور ماذا يمكن أن يقوله هؤلاء الشُّراح في نص صريح كهذا: «إن السعادة والبركة الحقيقية لكل شخص إنما تكون فقط في تمتُّعه بما هو خير، لا في مباهاته بأنه هو وحده الذي يتمتع به، دون كلِّ مَن عداه. أما ذلك الذي يعتقد أنه أكثر من غيره سعادة لأنه يتمتع بنعم يفتقر إليها الآخرون، أو لأنه أكثر غبطة أو أسعد حظًّا من أقرانه، فإنه جاهل بطبيعة السعادة والبركة الحقة، ولا يمكن أن يكون السرور الذي يحس به إلا صبيانيًّا، أو حسودًا خبيثًا. مثال ذلك أن سعادة الإنسان الحقة لا تكون إلا في الحكمة ومعرفة الحقيقة، وهي لا تكون أبدًا في شعوره بأنه أحكم من الآخرين، أو بأن الآخرين يفتقرون إلى مثل هذه المعرفة؛ فمثل هذه الأمور لا تزيد من حكمته أو سعادته الحقة؛ وعلى ذلك فإن كلَّ مَن يغتبط لأسباب كهذه، إنما يغتبط لتعاسة الآخرين، وبذلك يكون خبيثًا وشريرًا لا يعرف السعادة الحقة ولا طمأنينة الحياة الصحيحة.»٨١

    هذه الكلمات الرائعة، وردت في فصلٍ يتناول موضوع اقتصار النبوة أو عدم اقتصارها على العبرانيين. ومعناها الواضح هو أنه حتى لو كان اليهود ممتازين عن غيرهم بحق، فإن تباهيهم بهذا الامتياز يكفي لجعلهم أشرارًا؛ إذ إن المرء يسعد بتمتُّعه بالخير، لا بإدراكه أن الآخرين محرومون منه. فهنا نقد أساسي لفكرة الشعب المختار، مبنيٌّ على القول بأن الفكرة ذاتها ليست مما تشرُف به أية أمة أو يفخر به أي فرد يعرف معنى الأخلاقية؛ إذ إنها تنطوي على مقارنة فيها حطٌّ من شأن الآخرين، وليس الحط من شأن الآخرين من شيم الفضلاء حقًّا. هذا فضلًا عما تتضمنه الفكرة من أنانية واضحة، تظهر في الاغتباط بافتقار الآخرين إلى السعادة التي يتمتع بها هذا الشعب ذاته، والأنانية صفة بعيدة كل البُعد عن الفضيلة الحقة، وبعبارة أخرى: ففكرة «الشعب المختار» فكرة مناقضة لذاتها؛ لأن مَن بلغ أسمى درجات الفضيلة لن يجد لذة في تأكيد تميُّزه عن الآخرين، ولأن مجرد النظر إلى الآخرين على أي نحو ينطوي على الحط من شأنهم معناه أنك لم تعد كامل الفضيلة، ولم تعد «مختارًا».

    أما أولئك الذين احتفلوا في إسرائيل — كما ذكرنا من قبلُ — بمرور ثلاثمائة عام على طرد اليهود لاسپينوزا، فأرادوا ردَّ اعتباره بتشييد نُصب كتبوا عليه «أهْلُكَ!» — فسوف يجدون في كتابات اسپينوزا نصوصًا عديدة نستطيع أن نستدل منها بكل وضوح على رأيه في الدولة اليهودية القديمة، وبالتالي في الدولة الحديثة التي أُسِّست لكي تكون إحياء للقديمة أو استمرارًا لها، فاسپينوزا قد أكد تأكيدًا قاطعًا أن الدين ينبغي أن ينفصل عن الدولة، وأن الهيئات الدينية ينبغي أن تترك للدولة الكلمة الأخيرة في الشئون الدينية، وأن الأحكام التي يفرضها الله على الناس لا ينبغي أن تصدر إلا من خلال الحكام الزمنيين،٨٢ وأن الدولة مبنية على عقد بشري، وسلطتها مستمدة من سيادتها لا من الأوامر الإلهية.٨٣ أما في الدولة اليهودية القديمة؛ فقد خلط اليهود بين السلطتين الإلهية والزمنية بعد أن ولَّوا موسى على أساس أنه هو المعجزة الإلهية بينهم، واختاروا خلفاءه على أساس هذا التقرب إلى الله: «وبعد أن نقلوا حقهم إلى الله، اعتقدوا أن دولتهم تنتمي إلى الله، وأنهم هم أنفسهم أبناء الله، ونظروا إلى الأمم الأخرى على أنها عدوة الله، وعاملوها بكراهية شديدة … فلم يكن شيء أبغض إلى نفوسهم من التعهد بالولاء لأجنبي، والوعد بإطاعته …

    وهكذا نظر العبرانيون إلى حبهم لبلادهم، لا على أنه وطنية فحسب بل على أنه تقوى أيضًا، ومجَّدوه وأذكوه بطقوسهم اليومية حتى لم يَعُد مفرٌّ من أن يُعَد جزءًا من طبيعتهم، شأنه شأن كراهيتهم لبقية الأمم.»

    وهكذا كان اسپينوزا، الذي مر بتجربة التربية اليهودية واستوعب الثقافة اليهودية استيعابًا تامًّا حتى طُرِد، أقدر الناس على تشخيص العلل الحقيقية في نفسية اليهود: كراهية الشعوب الأخرى التي غدَت جزءًا من طبيعتهم، ورفض الاندماج في أي بلد آخر أو إبداء فروض الولاء له، والخلط بين السلطة الإلهية وسلطة الحكم في دولتهم القديمة، وهو خلط لا بُدَّ أن ينعكس أيضًا على دولتهم الحديثة. ولو صدر مثل هذا الكلام من شخص غير يهودي لأصبح موقعه في تاريخ الفكر اليوم في قمة «أعداء السامية». وهذا بالفعل ما اتهمت به الطائفة اليهودية اسپينوزا أثناء حياته. ولكنه بعد وفاته بقرنين أو ثلاثة أصبح فجأة، في نظر معظم شراحه اليهود، مدافعًا عن التراث اليهودي، ومتعلقًا بالأمة اليهودية، وزُيف العلم وشوهت الحقيقة لكي يُضَم إلى التراث اليهودي مفكر كان عظيمًا بحق، ولكن أعظم ما فيه كان تحديه لكل تراث سابق عليه!

١  Hegel: Lectures on the Hist. of phil. (op. cit.) vol. III, p. 252.
٢  H. Höffding: Hist. of Modern phil. (op. cit.) vol. I, p. 296.
٣  Spinoza, His Life and Philosophy. (op. cit.) p. 272.
٤  Brochard: Le Dieu de Spinoza, in “Etudes …” (op. cit.) p. 365.
٥  Ibid. p. 366.
٦  The Intellectual Love of God (op. cit.) p. 334.
٧  Ibid. p. 335.
٨  Spinoza and the Rise of Liberalism. p. 5.
٩  Ibid. p. 6.
١٠  Ibid. p. 5.
١١  Ibid. p. 25.
١٢  Jacob Teicher: “Why was Spinoza Banned?” in: The Menorah Journal, Autumn-Winter, 1957.
١٣  Ibid. p. 45.
١٤  Ibid. p. 47-48.
١٥  Ibid. p. 55-56.
١٦  Ibid. p. 59.
١٧  Ibid. p. 60.
١٨  Feuer: Spinoza. (op. cit.) p. 32.
١٩  Carl Gebhardt: “Spinozas Bann”, in “Der Morgen”, III. Jahrg, 1927. §. 146–148.
٢٠  Ibid. S. 144.
٢١  D. Rakhman: Spinoza and Judaism. in Spinoza in Soviet philosophy. (op. cit.) p. 49.
٢٢  Leon Roth: The Phil. of Spinoza.
٢٣  انظر تصدير كتاب: Joseph Dunner: Baruch Spinoza and Western Democracy. New York (Philosophical Library) 1955.
٢٤  K. Jaspers: Die Grossen Philosophen (op. cit.) S. 884.
٢٥  هذه التسمية تشتق من العبرية من لفظ مشابه للفظ «قبِل» في العربية، بمعنى تلقَّى أو استقبل، وهي تعني استقبال المعرفة وتلقِّي الحقيقة.
٢٦  Horry Waton: “The Jewish Question and Spinoza’s Philosophy,” in “Spinoza: Addresses and Messages …” p. 41.
(مجموعة الخطب والمقالات التى نشرها معهد اسپينوزا بأمريكا بمناسبة مرور ثلاثمائة سنة على مولد اسپينوزا، سنة ١٩٣٢م.)
٢٧  Ibid. p. 54.
٢٨  Ibid. p. 45.
٢٩  ستُعرض آراء هؤلاء الشُّرَّاح والمراجع التي وردت فيها هذه الآراء في بقية أقسام هذا الفصل.
٣٠  Roth: The Phil. of Spinoza p. 222.
٣١  Ibid. p. 235.
٣٢  Ibid.
٣٣  Rakhman: Spinoza and Judeism, p. 48.
٣٤  Paul Vulliaud: Spinoza d’après les livres de sa bibliothéque. Paris, 1934.
٣٥  Freudenthal: Spinoza, Leben und Lehre (Bd. 2) S. 88-89 & Rakhman (op. cit.) p. 52-53. انظر أيضًا كتاب ولفسون «فلسفة اسپينوزا» الذي كان بجزئيه محاولةً لإثبات أهمية هذه المؤثرات.
٣٦  Spinoza and Judaism. p. 57-58.
٣٧  TTP. p. 140.
٣٨  Feuer: Spinoza and the Rise of Liberalism. p. 30.
٣٩  Freudenthal: Spinoza, Leben und Lehre (Bd. 2) S. 81–86.
٤٠  Roth: Spinoza. p. 233.
٤١  Freudenthal, op. cit. S. 87.
٤٢  Bréhier: Hist. de la phil. (tome II), p. 159.
٤٣  Brochard: Le Dieu de Spinoza (op. cit.) p. 370.
٤٤  Rakhiman: Spinoza and Judaism. p. 50.
٤٥  Bernard Heller: In Spinozism Compatible with Judaism? p. 27-28.
٤٦  Ibid. p. 10F.F.
٤٧  Waxman: Boruch Spinoza’s Relation to Jewish Philosophy and to Judaism. In “The gewish Quarterly Review”. Vol. 19. (928-29) p. 416.
٤٨  Studies in the “Ethics” … p. 178, note.
انظر مثلًا مقال Spinoza and Judaism, Rakhman (ص٥٥-٥٦).
٤٩  Waxman: (op. cit.) p. 429-430.
٥٠  L. Roth: Spinoza. p. 234.
٥١  Ibid. p. 235.
٥٢  Kayser: Baruch Spinoza … p. 292.
٥٣  Ibid. p. 296.
٥٤  Waxman, (op. cit.) p. 414-415.
٥٥  Rakhman (op. cit.) p. 54-55.
٥٦  Bernard Heller. IS Spinozism Compatible with Judaism? p. 23.
٥٧  Ibid. p. 27.
٥٨  Freudenthal: Spinoza, Leben und Lehre. Bd. 2. S. 87.
٥٩  Ibid.
٦٠  Wolfson: The phil. of Spinoza. Vol. I, p. VII.
٦١  J. Dunner: Spinoza and Western Democracy. p. 39.
٦٢  Nahum Sokolow: “Spinoza the Jew”, in: The Jewrish Review. No. III Dec. 1932–March 1933. p. 41.
٦٣  H. A. Grunsky: Baruch Spinoza: in: Forschungen zur judenfrage. (op. cit.) S. 88.
٦٤  Ibid. S. 92.
٦٥  Ibid. S. 102-103.
٦٦  Ibid. S. 110.
٦٧  Ibid. S. 115.
٦٨  Constantin Brunner: Spinoza contre Kant (Trad. Fransçaise). p. 26.
٦٩  Josiah Royce: The Spirit of Modern Philosophy. (op. cit.) p. 45.
٧٠  A. Rivaud: Hist. de la philosophie. (op. cit.) p. 324.
٧١  Julien Weill: Spinoza et le Judaisme … p. 161–163.
٧٢  Waxmam: Baruch Spinoza … (op. cit.) p. 415.
٧٣  Leo Strauss: Persecution and Art of Writing … p. 167.
٧٤  Ernst Cassirer: Spinozas Stellung … (op. cit.) S. 346–348.
٧٥  Albert Einstein Introduction to: R. Kayser: Spinoza: Portrait of a Spiritual Hero. (op. cit.) p. XI.
٧٦  F. Pollock: Spinoza, his Life and Philosophy. p. 28.
٧٧  Keyser: Spinoza … p. 202.
٧٨  TTP. p. 49.
٧٩  Ibid. p. 55.
٨٠  Ibid. p. 56.
٨١  TTP. p. 43.
٨٢  TTP. p. 245.
٨٣  Ibid. p. 212.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤