الفصل الثاني

في واشنطن

السبت ١٩ ديسمبر

قامت الطائرة التي تقلُّني إلى واشنطن لقضاء عطلة عيد الميلاد في منتصف الساعة الحادية عشرة صباحًا؛ وكان يجلس أمامي في الطائرة زوجان صغيران في السن؛ فالزوج لا يزيد أبدًا عن العشرين، ولا يمكن أن تزيد الزوجة عن الثامنة عشرة، ولم يكونا يستطيعان الصبر على عدم التقبيل فترة طويلة؛ وإني لأرجِّح أنهما عروسان في طريقهما إلى مكانٍ يقضيان فيه شهر العسل … كانا يميلان أحدهما على الآخر، فيتلاصق الخدان أو يتساند الرأسان، ثم يهوي الشاب على زوجته الطفلة تقبيلًا في عنقها وذراعها وخدها وشفتها؛ وتنتظر هي قليلًا ثم ترد له التقبيل تقبيلًا مثله … هكذا قَطَعَا الطريق إلى واشنطن، فأخذتني والله حسرة شديدة على مصر؛ فهذه علامات لا أستهين بها في التدليل على ما في المجتمع من صحة نفسية؛ لماذا يا ربي لا يجوز هذا في مصر؟ أنا لا أريد أن يكون هذا بين العاشقين، بل أريده بين الزوجين … مَنْ ذا الذي ابتلانا بهذه الصرامة الظاهرية التي حطَّمت أعصابنا وخرَّبت عقولنا وأتلفت تفكيرنا، وجعلت عيشنا كله سلسلة من تحريمات؛ تحريم إثر تحريم؟

كانت الشمس غاية في الإشراق واللمعان، وكان الجو غاية في الصفاء، وغاية في البرودة إلا في الأماكن المغلقة طبعًا؛ لأن كل مكان هنا فيه تدفئة …

وأعود إلى الزوجين الشابين فألاحظ أنهما من ذوي المناظير، وكنت آسف لهما حين يدنوان بوجهيهما للتقبيل فيصطك منظار بمنظار؛ إن لبس المنظار يهدم جزءًا كبيرًا من حلاوة الغزل بالعين، ويُنقِص من لذة التقبيل؛ وإني لأحسدكم يا مَن سلمت عيونكم فلا تلبسون المناظير، أحسدكم على أن أعينكم تتلاقى كما أراد لها الله أن تتلاقى بغير حواجز من زجاج.

وصلتُ إلى واشنطن في الساعة الواحدة، ولم أكد أقذف بحقيبتي في غرفتي بالفندق حتى خرجت كالنَّهِم يريد أن يرى كل شيء في لحظة واحدة! … نظرت إلى خريطة المدينة وصممتُ لنفسي طريقًا أسير فيه؛ فأنا في المدن التي أزورها لا أركب بل أسير على قدمي ساعات وساعات لأرى كل شيء أستطيع رؤيته.

مررتُ بالبيت الأبيض لأنه مجاور للفندق، وعبرتُ الميدان الواسع … فالسَّعة في الشوارع والميادين قد بلغت حدًّا يتحدى المشاة! … عبرتُ الميدان الواسع الواقع أمام البيت الأبيض قاصدًا إلى النُّصْب التَّذكاري لواشنطن، وهو على شكل مسلة كبيرة عالية، تصعد إلى قمتها من داخلها بمصعد أو بسُلَّم؛ وصعدت بالمصعد إلى قمة المسلة، وفي المصعد مذياع يدير شريطًا مسجلًا يستغرق الزمن الذي نقطع فيه المسافة إلى القمة، ويحكي للزائرين عن هذا النُّصْب التَّذكاري بعض تفصيلات؛ ومن قمة المسلة أشرفت على واشنطن في هذا الجو الرائق المشرق …

وقصدت بعد ذلك إلى متحف التاريخ الطبيعي الذي يبهر العين بناءً ومحتوى، ولست أنوي كتابة تفصيلات ما رأيته هناك، وحسبي أن أذكر قاعةً وقفت عند معروضاتها الفنية مسحورًا مفتونًا؛ قاعة كُتِب عليها اسم «هربرت وورد» وهو نحات (١٨٦٣–١٩١٩م)، وفي هذه القاعة عُرضت بعض التماثيل التي نَحَتَهَا الفنان ليمثل بها بعض جوانب الحياة في القبائل البدائية؛ فسبحان مَنْ أنطق الحجر تحت إزميل هذا الفنان العجيب! تمثال «شيخ القبيلة» جالسًا القرفصاء وحربته في يده، وتمثال «حاملة الحطب» لامرأة تحمل على كتفها حزمة من حطب، وتمثال «الهاربون» وهو رجل حمل طفليه وراح يعدو فَزِعًا، وتمثال «الساحر»، وتمثال «الحزين» وهو رجل وقف مطأطئ الرأس مسندًا إياه على زنديه، وتمثال «أفريقيا النائمة»: زنجية مستلقية في استرخاء، وتمثال «واضع الخطة»: رجل جلس القرفصاء، وراح يخطِّط الأرض بإصبعه …

الأحد ٢٠ ديسمبر

أخذت أتصفَّح في الصباح جريدة «واشنطن بوست»، وجدتها على نفس النظام والتقسيم الذي وجدت عليه الجرائد المحلية في كولمبيا بولاية كارولاينا الجنوبية؛ فالجريدة ذات عشرة أجزاء، كل جزء منها يساوي حجم «الأهرام» عندنا حين تكون في أكبر حالاتها: قسم عام للحوادث السياسية، وقسم للسيدات، وآخر للألعاب، وآخر للفنون والآداب، وآخر للأطفال، وآخر للأسواق التجارية، وآخر لوسائل التسلية من إذاعة وسينما ومسرح … إلخ إلخ.

وهذا موضوع يحسُن عنده أن أذكر حقيقة عن المقالة الصحفية هنا كيف تتولَّى توزيعها شركات صحفية خاصة؛ وكنت قد قرأت عنها في مصر لكني لم أفهمها فهمًا جيدًا إلا هنا … فهنالك شركات تشتري من الكاتب الصحفي مقالتَه، فلا تكون العلاقة بين الكاتب والصحيفة علاقة مباشرة، بل يكون بينهما هذه الشركة تجمع مقالات الكتَّاب وتوزعها على الصحف في شتى أنحاء البلاد، وبهذا يُتاح للمقالة الواحدة أن تُنْشَر في وقت واحد في ثلاثين أو أربعين صحيفة في شتى الجهات؛ وهنالك تنظيم للتوزيع من شأنه ألا تُنْشَر المقالة الواحدة في جريدتين تصدران في بلد واحد؛ وبهذا يمكن للجرائد المحلية أن تنشر مقالات أكبر الكُتَّاب في نفس اليوم الذي تصدر فيه المقالة في صحف واشنطن ونيويورك؛ لأن ثمن المقالة بالنسبة للجريدة يكون عندئذٍ أقل جدًّا مما كانت تدفعه لو كتب لها الكاتب وحدها، وفي الوقت نفسه يكون أجر الكاتب عن المقالة الواحدة مبلغًا جسيمًا؛ لأنه حين يبيعه لشركة النشر فإنما يبيعه ليُنْشَرَ في عشرات الصحف مرة واحدة.

هل يمكن قيام نظام كهذا في مصر؟ فيكتب الكاتب مقالة لتُنْشَرَ في كل جرائد الأقاليم، وبهذا ترتفع جرائد الأقاليم من جهة، ويزداد إيراد الكاتب من جهة أخرى؟ … إنك تسأل هذا السؤال فسرعان ما يأتيك الجوانب، وهو أن ذلك مستحيل عندنا الآن، لسبب بسيط وهو ألا قراءة ولا قراء؛ وبالتالي ليس هناك في الأقاليم صحف تُذْكَر، وبضع جرائد قليلة تصدر في القاهرة كافية أن تغطي حاجات القطر كله! … ربما نجح المشروع لو فكَّرنا فيه على أساس اتخاذ البلاد العربية كلها وحدة صحفية.

لا تكاد الآن تدخل دكانًا أو مطعمًا أو بيتًا إلا وجدت فيه زينة عيد الميلاد أشكالًا وألوانًا؛ وقد ذهبتُ عصرًا مع الأستاذ «خ» إلى مطعمٍ بعيد في مكان جميل هادئ منعزل لنشرب الشاي في ذلك الفردوس الأرضي! فكان المطعم مزدان النوافذ بكراتٍ ملونة؛ مزدان الجدران والموائد بالألوان الفاقعة … وذلك يثير سؤالًا كبيرًا عن الذوق الأمريكي في وجوهٍ كثيرة، فلا شك في ميل الأمريكيين إلى الألوان الصارخة التي هي من علامات الذوق البدائي، أفيكون إذَن لوجود الزنوج بينهم أثر في تشكيل أذواقهم؟ إنك ترى هذه الزخارف الزاعقة في ألوانها، وتسمع موسيقى الجاز التي هي في صميمها موسيقى زنجية، وتشهد الرقص الذي يرقصه كثيرون من الشبان الأمريكيين وهو قريب جدًّا من الرقص الزنجي، ثم تجد الألوان الصارخة في ثيابهم؛ فأربطة الرقبة فاقعة غريبة التلوين والرسوم، والجوارب تميل إلى الألوان العالية؛ فهي شديدة اللون الأحمر أو اللون الأزرق … إلخ، وأقراط النساء فيها نزوع ملحوظ نحو الفن البدائي … أفلا يجوز — كما قلت — أن يكون هذا كله نتيجة وجود الزنوج؟ قد يكون، وقد يكون ذلك نتيجة تفرعت عن مبدأ أعم وهو أن الأمريكيين شعب لا يضع على نفسه الضواغط النفسية، ولا يقيِّد نفسه بالحواجز بغير موجب ولا داعٍ؛ هو شعب في نفسه انطلاق في التعبير، فإن كان من طبيعة النفس إذا تُرِكَت على سجيتها أن تحب هذه الألوان التي لا تزمُّتَ فيها، ففيمَ التحفُّظ والتكلُّف وردع الطبائع باللُّجُم والشكائم؟!

الإثنين ٢١ ديسمبر

قصدت هذا الصباح إلى متحف الفن، فكان أول ما لقيت فيه بهوه الأوسط؛ وهناك وقفت مشدوهًا أمام هذه العظمة وهذا الجلال، لو كنت تركت لخيالي أن يصوِّر لنفسه بهوًا يبلغ من الجلال أقصاه، لما استطاع الخيال أن يتصوَّر شيئًا يُذْكَر بالقياس إلى هذا الواقع الذي أراه الآن وألمسه: هذه العُمُد الرخامية السوداء، وهذه الأرض الرخامية السوداء، وهذه النافورة في الوسط وفي أعلاها تمثال صغير أسود، والماء منبثق يتلألأ بأضواءٍ ملقاةٍ عليه من مصادر لا تراها …

وقفت لحظة أفكِّر لنفسي ماذا أرى من أجزاء المتحف؟ وكيف أرى؟ وسرعان ما صممت ألا أكون جشعًا؛ لأن ذلك قد يقتضي أن أنظر بالعين إلى أشياءَ كثيرةٍ دون أن أعيَ شيئًا، والأفضل أن أتخيَّر القليل، ثم أُتقِن النظر إلى ما أتخيَّره، وأخذتُ لنفسي فنَّ القرن التاسع عشر والقرن العشرين؛ في أمريكا أولًا، وفي إنجلترا ثانيًا، وفي فرنسا ثالثًا … إذا كان المتحف ونظامه يتيح لي هذا التقسيم.

كان الفن الأمريكي في النصف الأول من القرن التاسع عشر أمْيَل إلى تصوير أشخاص، استرعى نظري من بينها صورٌ رسمها «ستيوارت» … ولاحظت مما رأيت من صور أن الفن الأمريكي قد أخذ في نهاية القرن يميل تدريجًا نحو رسم الطبيعة بدل الأشخاص، كصورة «منظر أمريكي» للفنان «إنِّس»، وكالصور الكثيرة التي رسمها فنانهم العظيم «هومر» عن البحر وما يتصل به؛ ومن أجمل ما رأيته ﻟ «هومر» صورة وقفت أمامها مدة طويلة من شدة إعجابي بها، وهي صورة بطتَيْن طائرتَيْن: إحداهما في وضع معتدل، والأخرى في وضع مقلوب.

نتاج الفن الأمريكي ليس مجموعًا كله في مكان واحد من المتحف؛ فعليك أن تتعقَّبه بين مزيج من نتاج كثير مختلف الأصول، وأكثر ما تراه ممتزجًا به هو نتاج الفن الإنجليزي؛ إذ ترى آيات من هذا الفن معروضة هناك، رسمها الفنانون «رينولدز» و«جينز بره» و«رومني» و«ريبرن» و«تيرنر» وغيرهم.

وطابع الفن الإنجليزي — كما هي الحال في الفن الأمريكي — في القرن التاسع عشر هو الصور الكبيرة لأشخاصٍ من علية القوم حينئذٍ؛ وتعليل ذلك بالطبع هو أن القرن التاسع عشر كان عصر أرستقراطية تتركَّز اجتماعاتها في «الصالونات» لا في الطبيعة المكشوفة، والمنازل إبان تلك الفترة — أعني منازل الكبراء — كانت فسيحة الغرف عالية الجدران؛ ولما كان الفن دائمًا — أعني قبل عصرنا الحالي — خادمًا للطبقة الممتازة في المجتمع، فقد كان الشغل الشاغل لفناني ذلك العصر أن يصوِّروا أفراد تلك الطبقة لتُوضَع صورهم على جدران منازلهم؛ وإذَن فقد كان حتمًا أن تكون الصور كبيرة متناسبة مع الغرف الفسيحة والجدران العالية … لست أدَّعي أنني ذو ذوق ممتاز في التقدير الفني، لكنني على كل حال أثبت خبرتي، وهي أني قليل الإعجاب بالفن الذي يصوِّر أشخاصًا مهما يبلغ من الجودة والإتقان.

وانتقلت من مجموعة القرن التاسع عشر إلى مجموعة أخرى من الفن الحديث وما سبقه بقليل، فكان الانتقال مفاجئًا والاختلاف بين المجموعتين بعيدًا، وهنا أطلت الوقوف، وأمعنت النظر عند بعض الفنانين بُغيةَ أن أتشبَّع بخصائص الفن الجديد.

أطلت الوقوف جدًّا عند صور «بيكاسو» و«ماتيس» وكلاهما — كما هو معروف — من رواد الحركة الجديدة في التصوير، وحاولت أن أفهم وأن أقدِّر ما أراه … والمفتاح في تقدير الفن الحديث هو ألا تسأل عن الصورة التي تنظر إليها: «صورة ماذا؟» خذ الصورة على أنها نهاية في ذاتها، هي صورة كما أن الشجرة شجرة، والنهر نهر، والقمر قمر؛ فليست الصورة تصوِّر شيئًا من وجهة النظر الحديثة في الفن، بل هي صورة بمعنى أنها تقدِّم للعين مزيجًا متسقًا متناغمًا من ألوان، فإن وجدتْ عينُك في الصورةِ هذا الاتساقَ اللونيَّ فهي جميلة، وإذَن فالسؤال الرئيسي عن أي صورة حديثة هو: «هل يسرني أن أنظر إلى هذه الصورة؟» … وإنه من لطيف ما يُرْوَى في هذا الصدد ما قاله «ماتيس» لسيدة وقفت تشهد صورة رسمها، والصورة لامرأة كما هو ظاهر، لكنها امرأة مرسومة على نحوٍ بعيدٍ عن واقع الحياة بُعدًا لا يستسيغه مَن لا يستسيغ الفن الحديث؛ فسألته السيدة متعجبة: كيف يمكن أن تقول إن هذه امرأة؟ فأجابها «ماتيس»: يا سيدتي ليست هذه امرأة، إنها صورة.

أقول إني أطلت الوقوف عند «بيكاسو» و«ماتيس»، وحاولتُ الفهم والتقدير أولًا، فأعجبني كثير من نتاجهما؛ فلا يزال منطبعًا في ذهني صورة لامرأة عارية الظهر تصفِّف شعرها، من رسم «ماتيس» وصورة «مأساة» من رسم «بيكاسو» … لكنَّ هناك صورًا كنت أَعجَبُ عجبًا لا ينقطع: ماذا فيها مما يجعلها فنًّا ممتازًا؟ مثلًا صورة «بيكاسو» لزوجته، وهي صورة يُخيَّل إليك أن مبتدئًا قد رسمها بالطباشير، وصورة «لبيكاسو» أيضًا اسمها «عاشقان».

وكذلك أطَلْتُ الوقوف والدراسة عند جماعة «الانطباعيين» لدرجة أني بعدئذٍ أخذت أختبر نفسي، فأحكم على الصورة لأي فنان هي قبل أن أقرأ اسم فنانها، وكثيرًا ما كنت أصيب الحكم؛ لأني ركزتُ انتباهي في الخصائص التي يتميَّز بها كلٌّ من هؤلاء «الانطباعيين»: «ديجا» و«رنوار» و«سيزان».

هدَّني التعب من كثرة المشي والوقوف؛ فقد كنت أستخسر الجلوس دقيقة واحدة حتى أستغل وقتي فلا يضيع … لكن هدَّني التعب، وأحسست الألم في عظامي وعضلاتي حتى أوشكت أن أفقد القدرة على الحركة … ودخلتُ مطعمًا للغداء، فجلست أمام النَّضَد الكبير، وجلستْ على المقعد المجاور لي سيدة شديدة الجاذبية تستلفت النظر بهندامها وعطرها، وما كادت تأتي المناوِلة من خلف النَّضَد لتسألها ماذا تريد حتى أسرع مناوِلٌ وسمعته يهمس للمناوِلة أن تترك له هذه الزبونة يخدمها هو؛ فتركتْها له وهي تبتسم ابتسامةَ الفاهمة؛ وجاء المناوِل وانحنى قليلًا كأنما هو ينصت لما تطلبه الزبونة، والورقة والقلم في يده على هيئة مَن يكتب ما يُمْلَى عليه، لكن المرأة بدأت حديثها للمناوِل همسًا، تقص له في اهتمامٍ أمرًا خاصًّا بينهما؛ وكان المناوِل يسمع في انتباه شديد ويدَّعي أنه يكتب «طلبات الزبونة» في الورقة التي بيده، ثم يذهب ليعود فيسمع جزءًا آخر، وهكذا.

الثلاثاء ٢٢ ديسمبر

جعلت غايتي اليوم زيارة «قاعة فِلب التذكارية» وهي معرض للفن الفرنسي والأمريكي الحديث … وقاعة فِلب هذه منزل كبير جيد التأثيث — أعني أنه ليس في بنائه على هيئة المعارض — عُلِّقت على جدرانه في غرف الطابق الأرضي والطابق الأول صور لعدد كبير من الفنانين، لكل فنان غرفة على وجه التقريب، وكان مسلَّطًا على كل صورة ضوءان: من أعلى ومن أسفل، وهذه الأضواء هي كل ما في البيت من إضاءة؛ ولذلك فالضوء خافت يتناسب مع ما فُرِشَ به المنزل من أثاث وسجاجيد، وتعاون كل شيء هناك على أن يجعل من «القاعة» دارًا هي الفتنة كلها والسحر كله.

للفنان الفرنسي «موريس أوترلو» معرض يملأ غرفتين، وهي كلها صور رسمها بين عامي ١٩٠٣م و١٩١٤م، وهي فترة تُسمى في حياته بالفترة البيضاء؛ لأن اللون الأبيض غالب على الصور كلها، وكلها تقريبًا رسوم لشوارع وكاتدرائيات في باريس، وهو من رجال المدرسة الانطباعية في الفن؛ ولقد أُعْجِبْتُ أشد إعجاب بكل صورة من مجموعة صوره … كنت أقف أمام كل صورة وأتخيَّلها قد عُلِّقَت على هذا الجدار أو ذاك من منزلي بالقاهرة، فأتصوَّر أنها تُكْسِب البيت كله جمالًا وروعة؛ فالمزيج اللوني في الصور غاية في الاتساق، وتشعر بالنغم اللوني شعورًا قويًّا، مما يؤكد وجهة النظر الجديدة في فن التصوير، وهي أن تكون «موسيقى للعين».

انتقلتُ إلى غرفةٍ بها مجموعة لفنانٍ حديث هو «براك» يغلب على صوره اللون القاتم: الأسود أو الرمادي القاتم أو البني الغامق، وتلوينه يشبه أن يكون حائطًا مطليًّا بالجير … جلست على مقعد أمام إحدى صوره، فيها صورة منضدة معوجة القوائم متموجة الأجزاء في غير انتظام، ولا تدري ماذا على المنضدة؛ فعليها بقع لونية مختلفة، تتبين خلالها سكينتين … إنني أشعر بدافع يدفعني أن أقوم لأقرأ اسم الصورة أسفلها، وهذا معناه أني لم أتشرَّب بعدُ بروح الفن الحديث؛ لأنني لو تشرَّبت هذا الفن لما اهتممتُ أبدًا ماذا يكون اسم الصورة، خشية أن أنخدع فأظن أن اسمها دالٌّ على ما تُصوِّره، مع أنه لم يَعُد الفنان الحديث يصوِّر بصورته شيئًا خارج نفسه؛ الصورة الحديثة مزيج من ألوانٍ يُحدِث نغمًا منظورًا، ومن ثَمَّ فليس هناك ما يمنع الفنان أن يرسم المنضدة معوجة القوائم متموجة السطح؛ لأنه لا يصوِّر منضدة، إنما يتخذ من المنضدة وما عليها تُكأةً يعتمد عليها في مزج الألوان كما توحي بذلك نفسه ومزاجه وذوقه الخاص.

وكذلك أعجبتني صورة ﻟ «براك» فيها كرسي من كراسي الخيرزان مقعده خشبيٌّ، والكرسيُّ منظورٌ إليه من أعلى، وعلى قرصه الأحمر دورق وكوب، ويتدلَّى على المقعد ما يشبه الحبال المعقدة بعُقَد بيضاء، ويمتد على جانبها فرع من ورق الشجر الأخضر … الصورة لا تمثل شيئًا من الواقع، هذا بديهي ظاهر، وإذَن فهي مزيجٌ لونيٌّ، وعلى الرائي أن ينظر إليها من هذه الوجهة وحدها … وسيجدها مزيجًا لونيًّا بلغ الغاية من جمال التناسق والتناغم.

ودخلتُ غرفة رابعة فيها مجموعة لفنان حديث اسمه «بول كلي» فلم أستسغ منها صورة، على الرغم من رياضتي لنفسي على استساغتها، على أنه قد لفت نظري أسماء صوره؛ فصورة اسمها «الأغنية العربية»، وأخرى اسمها «ممثل المسرح الشرقي».

وغرفة خامسة دخلتها فرضيتُ عن نفسي حين وجدتني أنظر إلى أول صورة فيها وأقول: لا بد أن تكون هذه للفنان الأمريكي «هومر»، ثم أجدني قد أَصبتُ، وإلى الصورة الثانية وأقول: وهذه تشبه فن «إنِّس» فأصيب الحكم مرة أخرى.

ودخلت غرفة سادسة فيها صورة ﻟ «فان جوخ» و«رنوار» و«ديجا»، وها هنا أيضًا لم أخطئ الحكم في صورة واحدة؛ فقد كنت أحكم على كل صورة قبل أن أقرأ اسم صاحبها، محاولًا أن أستغل خبرتي ودراستي في تمييز الأعمال الفنية بخصائصها.

وعدتُ فنزلتُ إلى الطابق الأرضي حيث طُفتُ ببعض غرفه، وهناك رأيت صورة «ديجا» المشهورة التي تصوِّر تمشيط الشعر؛ ففيها ثلاث نساء في أوضاع مختلفة، أمسكتْ كلٌّ منهن بشعرها ومالت بجسدها فوقفتْ وقفةَ مَن تمشِّط شعرها؛ وصورة صغيرة أخرى ملأتني فتنةً وإعجابًا لفنان اسمه «سيورا» واسمها «كاسر الحجر»، وهي تصوِّر عاملًا أمسك بفأسه وانحنى يكسر بها الحجر، ليس في الصورة تفصيلات؛ فهي تكاد لا تزيد عن بقعة من اللون بغير أجزاء؛ ومع ذلك فالحياة والحركة فيها يراهما حتى مَن ليست له خبرة بالنقد الفني.

وجلست أستريح في هذا الجو الفاتن الساحر، كأنما يصعب على نفسي أن تخرج من هذه الدار التي أُتْرِعَت بالفن بناءً وأثاثًا وجدرانًا.

لم أكد أفرَغُ من الغداء حتى بدأتُ جولة كبيرة رأيت فيها مراكز الحكم والثقافة في واشنطن … وأول دار زرتُها هي دار المحفوظات؛ تدخلها من مدخلٍ فخمٍ تقوم فيه العُمُد الضخمة، فإذا أنت في بهوٍ مستديرٍ تعلوه قبةٌ عالية، ومع دوران البهو يدور صفٌّ من صناديق الزجاج المضاءة، عُرِضَ فيها أهم الوثائق التاريخية في حياة الولايات المتحدة، صُدِّرت بالوثيقة الكبرى وثيقة الاستقلال التي هي أساس الدستور، والتي تبدأ: «نحن الشعب …» وعند المدخل داخل البهو صفَّان من أعلام، هي أعلام الولايات الثمانية والأربعين بحثتُ فيها عن عَلَم كارولاينا الجنوبية كأني من أهلها، فرأيته بما عليه من نخلة تتخذها شعارًا لها؛ وخرجنا من البهو الدائري إلى ممر طويل ينحني بانحناء البهو الذي تعلوه القبة، وفي هذا الممر فجوات في الحائط على الجانبين، مغطاة بألواح الزجاج ومضاءة، لكل ولاية منها فجوة تضع فيها أهم وثائقها الإقليمية.

وقصدت بعد ذلك إلى مبنى المحكمة العليا — وهنا ألاحظ أن القائمين بالحكم في الولايات المتحدة هيئات ثلاث: رئيس الجمهورية ورجاله، والكونجرس بمجلسيه للشيوخ والنواب، ثم المحكمة العليا — وبناء المحكمة العليا حديث أُقيم سنة ١٩٣٥م، وهو من المرمر الأبيض، وقيل إنه صُنِعَ من المرمر ليكون رمزًا لصفاء القضاء ونقائه، وقد بُنِيَت الدار على النمط اليوناني الروماني في فن العمارة، هذا النمط الذي يسحق نفسك سحقًا، أو إن شئت فقل هو النمط الذي يسمو بنفسك سموًّا بفخامة عُمُده وبما في أجزاء البناء من تناغم واتساق؛ تصعد إليه بسُلَّم عريض، وتجد عند المدخل تمثالين رائعين، حتى إذا ما دنوت من الباب وجدت عند أعلاه هذه العبارة:

مساواة في العدالة في ظل القانون …

وادخُلْ معي إلى هذه الصالة الفسيحة وكلها — كسائر البناء — من المرمر الأبيض الناصع؛ وانظرْ إلى كل شيء أمامك وعلى جانبيك وفوق رأسك؛ انظر إلى صفوف العُمُد المرمرية الجميلة، وإلى السقف وقد زُخْرِفَ بمربعات حمراء، كل مربع منقوش نقشًا بارزًا بزهرة اللوتس، وإلى صفين من ثريات مضاءة … انظر إلى هذا كله وقُل: ما أجلَّ الإنسان وما أعظمه!

وهنا تولانا أحد رجال المحكمة فطاف بنا في أرجائها … والمحكمة العليا مؤلَّفة من تسعة قضاة، وهي لا تنظر إلا في القضايا التي يكون فيها احتكام لقواعد الدستور؛ ولذلك لا يأتي إليها جناةٌ ولا شهودٌ وليس فيها محلفون؛ كل ما فيها تسعة قضاة ومحامون.

ودخلنا قاعة المحكمة، هذه القاعة التي تضطرك إلى حبس أنفاسك في صدرك لروعتها التي تأخذ بالألباب! هي قاعة مستطيلة تتدلى على جوانبها كلها ستائر من القطيفة الحمراء السميكة؛ وفُرِشَت أرض القاعة بالقطيفة الحمراء السميكة التي تغوص فيها القدم، وصُفَّت فيها المقاعد مكسوة بالقطيفة الحمراء؛ جلستُ هناك ونظرتُ أمامي إلى ما يشبه مصطبة المسرح، وُضِعَ عليها منضدة كبرى، وخلف المنضدة رُصَّت مقاعدُ تسعة للقضاة التسعة؛ وأول ما تلاحظه فيها هو اختلاف تلك المقاعد شكلًا وحجمًا … لماذا؟ لأن لكل قاضٍ عند تعيينه أن يجيء بالكرسي الذي يريحه؛ لهذا ترى مقعدًا كبيرًا وآخر صغيرًا، ترى مقعدًا عاليًا وآخر وطيئًا … وقال لنا محدثنا هناك متفكهًا إن يابانيًّا زار واشنطن وعاد إلى بلاده يكتب ملاحظاته في سلسلة من مقالات، فقال عن هذه المقاعد إنهم في الولايات المتحدة يتيحون للأكفاء أن يختاروا كراسيهم، وليست الكراسي عندهم هي التي تختار الرجالَ؛ والكاتب بالطبع يلعب على كلمة «كراسي» التي تعني «وظائف» كما تعني «مقاعد».

ومقاعد القاعة كلها، والحاجز الذي يفصل المقاعد عن المنصة، صُنِعَت جميعًا من الخشب الماهوجني الجميل، والسقف مزخرف بمربعات حمراء برزت فيها نقوش وردية اللون تمثِّل زهور اللوتس.

وانتقلنا من قاعة المحكمة إلى قاعة المداولات، وهي قائمة صُنِعَت جدرانها الداخلية من خشب لا تشبع من جمال منظره، ووُضِعَ في وسطها مربع من مناضدَ خضراءَ أُحيطت بمقاعدَ جلديةٍ ضخمةٍ فخمةٍ، وتدلَّى من سقف القاعة نجفتان بلوريتان كبيرتان جدًّا، وقد قيل لنا إن هذه الغرفة أصبحت تُسمى «غرفة المداولات الدولية»؛ ففيها اجتمع مندوبو الأمم المتحدة لأول مرة حين أرادوا وضع دستور الأمم المتحدة عقب الحرب الماضية.

وذهبتُ بعد زيارتي للمحكمة العليا إلى الكابتول الذي يجتمع فيه مجلسا الشيوخ والنواب: والكابتول هو سُرَّة واشنطن؛ أي أن المدينة صُمِّمَت على أن تتلاقى طرقها عند مبنى الكابتول؛ وللكابتول جانبان: أحدهما للشيوخ، والآخر للنواب.

بدأت بزيارة جناح الشيوخ، عليك أن تصعد إليه سُلمًا رخاميًّا عظيمًا، أمامه تمثال كبير ﻟ «فرانكلن»، ثم تصعد أول جزء من السُّلم فترى صورة على الحائط؛ أعني رسمًا حائطيًّا، إلا أنه محاط بإطار فخم جميل، وهي تصوِّر موقعة مع الإنجليز … الجمال والروعة والفخامة والضخامة حولك من كل ناحية، فلا تدري أين تجيل البصر …

دخلنا قاعة الشيوخ، وجلسنا في مقاعد الزائرين، وهي مغطاة كلها بالحرير الأحمر المزخرف، والمقاعد في شرفة تدور مع الجدران الأربعة، وتطل من حيث أنت إلى أسفل إلى أرض القاعة حيث يجلس الأعضاء؛ والأعضاء يجلسون على مكاتب منفصلة وليست مقاعدهم بالصفوف المتلاصقة المقاعد؛ وعددُ الشيوخ ستة وتسعون شيخًا، لكل ولاية من الولايات شيخان ينوبان عنها مهما اختلفت الولايات في عدد سكانها، وتنقسم القاعة قسمين بينهما ممشى؛ فالجزء اليمين للجمهوريين، والجزء اليسار للديمقراطيين، وفي المقدمة مقعدان: أحدهما لزعيم الأغلبية والآخر لزعيم الأقلية؛ ويجلس الأعضاء بترتيب أقدميتهم في العضوية، فيجلس الأحدث في الصفوف الخلفية ويجلس الأقدم في الصفوف الأمامية، وكلما قدُم العهد بعضو وخلا له مكان أماميٌّ تقدَّم إليه … وعلى مقربة من السقف وبامتداد الجدران الأربعة وُضِعَ عشرون تمثالًا نصفيًّا لأول عشرين ممن تولَّوا رئاسة هذا المجلس؛ ورئيس الشيوخ هو دائمًا نائب رئيس الجمهورية، وفي وسط السقف مصباح مربع الشكل في مسطح واحد مع السقف نفسه، وعليه نقشٌ هو نفسه النقش الذي يمثل الخاتم الرسمي للدولة، فإذا أُضيء المصباح ظهرت خطوطه … وبين الشيوخ امرأة واحدة، وليس فيهم أحد من الزنوج.

قصدنا بعد ذلك إلى مجلس النواب في الجناح الآخر من مبنى الكابتول، وفي طريقنا بين المجلسين مررنا تحت قبة البناء، قبة الكابتول العالية … قف هنا تحت القبة وانظر، إنني لم أرَ الدنيا كلها لكني لا أعرف كيف يمكن أن يكون في الدنيا بأسرها بناء يضارع هذا البناء في فخامته المعجزة؟! القبة عالية علوًّا لا يطوف ببالِ مَن لم يقف تحتها؛ جدرانها من الداخل زُخْرِفَت بلوحات زيتية كبيرة جدًّا تمثل سلسلة من مناظر تاريخ الولايات المتحدة: وصول كولمبس إلى الأرض الجديدة، وصول الحجاج المهاجرين لأول مرة من أوروبا إلى أمريكا، الحرب مع الإنجليز واستسلام الإنجليز … إلخ؛ وكذلك تُرى حول حافة القبة السفلى — عند بدء اتصالها بالقاعدة — نقوشٌ بارزة تمثل أيضًا مشاهد من تاريخ الولايات المتحدة … لا يسع الرائي بالطبع سوى أن يتذكَّر قبة كنيسة القديس بطرس في روما، وقبة كنيسة القديس بولس في لندن، ولا أذكر أن إحدى هاتين تفوق قبة الكابتول فخامةً وجمالًا.

اجتزنا هذا البهو الذي تغطيه القبة الكبرى، ودخلنا من باب على جانبه تمثالان ضخمان من البرنز: أحدهما لواشنطن والآخر لجفرسن، ودخلنا في بهوٍ آخر تعلوه قبة أخرى، لكنها طبعًا أصغر من الأولى … هذا البهو الدائري قد رُصَّ حول دائرته ستة وتسعون تمثالًا كلها بالحجم الطبيعي، لكل ولاية من الثمانية والأربعين تمثالان اختارتهما الولاية من عظماء أبنائها؛ ولذلك سُمِّيَ البهو ببهو التماثيل.

وبعدئذٍ صعدنا سُلمًا رخاميًّا إلى حيث مجلس النواب، وكما هي الحال في السُّلم المؤدي إلى مجلس الشيوخ ترى أمامك وأنت صاعد صورةً حائطيةً كبيرةً، إلا أن الصورة هنا تمثِّل زحف الأمريكيين غربًا زحفًا ينهزم أمامه الهنود الأصليون من سكان البلاد، فترى في الصورة معركة دائرة على قمم جبال روكي، وهنالك على أعلى قمة منها وقف رائد ينظر إلى وادي كالفورنيا كأنما يبشِّر قومه بزحف جديد نحو الغرب …

نحن الآن في قاعة مجلس النواب: قاعة مستطيلة في أعلاها وعلى مدار جدرانها شرفة للزائرين؛ ومقاعد النواب صفوف متلاصقة المقاعد، رُصَّت في أنصاف دوائر، وتنشق نصفين يفصلهما ممشًى، الجزء اليمين للجمهوريين واليسار للديمقراطيين؛ ومقعدان أماميان لرئيسَي الأغلبية والأقلية؛ والنواب يبلغون — فيما أذكر — ٤٣٥ نائبًا ليس لهم ترتيب في طريقة الجلوس أمامًا وخلفًا، ما دام العضو يجلس في النصف المخصص لحزبه؛ وليس بين الأعضاء إلا محايد واحد، وفيهم إحدى عشرة امرأة؛ وبين النواب زنجيان؛ وعلى مقربة من السقف وعلى طول الجدران الأربعة حُفِرَت في الحوائط تماثيلُ على شكل الأنواط لكبار المفكرين في تاريخ البشر بصفة عامة ممن أنتجوا شيئًا من باب القانون والتشريع … وفي هذه القاعة يجتمع المجلسان حين يجتمعان معًا، وفيها يخطب رئيس الجمهورية حين يلقي خطابه في الكونجرس.

خرجتُ من الكابتول وأنا في حالة تشبه الذهول من هذه العظمة كلها، ونظرت من الخارج إلى البناء في مجموعه، فرأيتُ هناك على قمته وعلى رأس القبة الكبرى تمثال امرأة تمثِّل الحرية، كأنما ارتفعت هكذا في السماء لتتعاقد مع الآلهة ألا يدخر الإنسان جهدًا في سبيل حريته.

وعُدنا الطريق بعد ذلك إلى حيث مكتبة الكونجرس، وهي مقابِلَة للكابتول، بُنِيَت في أول القرن التاسع عشر (١٨٠٣م) … هي أكبر مكتبة في العالم، هكذا قال دليلنا — ولم يستثنِ حتى مكتبة المتحف البريطاني بلندن — ففيها عشرة ملايين من الكتب، ولها ملحق جديد خصصوه للأقسام الشرقية، ومنها القسم العربي.

تصعد إليها سُلَّمًا عريضًا إلى حيث مصطبةٍ فسيحةٍ تقوم عليها صفوف مع عُمُد رفيعة نهضت في واجهة البناء جليلة، ثم تدخل خلال باب من أبوابها الثلاثة الضخمة … ليتني ادخرتُ كل ما في جعبتي من ألفاظ التفخيم والتضخيم والجمال والجلال والروعة لأقولها كلها في وصف وقفة تقفها في هذه المكتبة العجيبة! ماذا أقول؟ مهما قلت فلن أعين خيالًا على أن يتصوَّر الواقع؛ فلا بد من رؤية العين، وحتى إن رأت العين، فلن ترى إلا جزءًا من ألف جزء مما في هذه المكتبة من روعة فنية.

تدخل أول ما تدخل في بهو فسيح، وتنظر إلى سقفه وإلى جدرانه فيذكرك بصالة بنك مصر في القاهرة من حيث الزخرف، وقد وُضِعَت وسط هذه الصالة شجرة عيد ميلاد مضاءة بثريات الكهرباء، فأينما دخلت في واشنطن هذه الأيام ألفيت شجرة عيد الميلاد مزدانة مضيئة.

أصعد السلم الرخامي الجميل إلى بهوٍ فيه معروضات في صناديق مغطاة بالزجاج، أهم ما فيها وأول ما تراه منها نسخةٌ من إنجيل مطبوع، هي أول طبعة للإنجيل (سنة ١٤٥٥م)، ويقابلها في صندوق آخر نسخة خطية مكتوبة في نحو الزمن نفسه، لكن الكتابة الخطية على صورة الطباعة حتى ليفوتك أنها مخطوطة إذا لم ينبئوك بهذا؛ وعُمُد هذا البهو تذكِّرك بقصر فرساي في جانب منه، ومن هذا البهو تدخل إلى شرفة دائرية تطلُّ منها على حجرة المطالعة، وهي قاعة تعلوها قبة كبيرة وها هنا الوقفة التي لا يكفيها كل ما في لغات الأرض من ألفاظ تصف الجمال والجلال …

اللهم إني آمنت بأن عظمة الأمم في عظمة فنونها؛ إن أمريكا بلاد جديدة ليس فيها ما في أوروبا من قصور وكاتدرائيات، لكن الأمريكيين بجديدهم الذي أقاموه وشيدوه قد أقاموا الدليل على أنهم — إلى جانب تفوقهم العلمي — في طليعة الطليعة من حيث فن العمارة في مختلف أشكاله.

الأربعاء ٢٣ ديسمبر

كانت غايتي صباح اليوم أن أزور «متحف كور كوران للفن»، وهو معرض للفنانين الأمريكيين بصفة خاصة، بالإضافة إلى آثار كثيرين من رجال الفن في أوروبا … ليس البناء ملفتًا للنظر بفخامة أو جمال، وهو يقع خلف البيت الأبيض، به طابقان، خُصِّصَ أولهما لرجال الفن في واشنطن نفسها؛ فهو معرض محلي صِرف، يعرض في كل عام حصيلة الفن في منطقة واشنطن؛ وأما الطابق الثاني فهو معرض عام.

طفتُ بالطابق الأول مسرعًا بعض الشيء؛ لأن نظرة سريعة تدلك على أن الفنانين جميعًا بغير استثناء يرسمون لوحاتهم في جو المدرسة الحديثة، التي تراعي البناء اللوني في الصورة أكثر من أي شيء آخَر.

ثم صعدتُ الطابق الأعلى، ولم أكد أفرَغ من قاعة عرض فيها لوحات مستعارة من الفن الأوروبي، حتى تبينت أن الساعة قد جاوزت الحادية عشرة، فلا بد أن أُسْرِعَ بالذهاب إلى الدكتورة «ز» حسب الموعد، ثم أعود إلى المعرض بعد المقابلة لأدرس محتواه على مهل.

قابلت «ز» … ما أسرع ما تصبح المرأة العجوز شابة والمرأة الشابة عجوزًا! إن الإنسان في هيئته يتغيَّر ألف مرة في العام الواحد … لقد كنت رأيتُ «ز» منذ ثلاثة أشهر فرأيتها إذ ذاك امرأة متقدمة في السن حتى لتكاد أن تخرج من عداد النساء؛ لكني رأيتها اليوم فدهشت للشباب الذي دبَّ فيها، ولا أعلم إن كنتُ مصيبًا في نظري إليها هذه المرة أو تلك … كانت اليوم مَرِحة بدرجة ملحوظة؛ وأعتقد أن الوجه في حالة المرح يزيل عن ملامحه كثيرًا جدًّا من آثار السنين، وفي حالة العبوس يضيف إلى السن سنًّا أخرى.

وعدتُ إلى معرض كور كوران لأستأنف دراستي على مهل؛ رأيت غرفة بأسرها تعرض صور الفنان الفرنسي «كورو»، وصوره كلها ذات طابع واحد، حتى ليُخيَّل إليَّ الآن أني أميِّز صوره لو رأيتها؛ فالصورة عنده كتلة متداخلة الأجزاء من شجر لا تميز فيه فروعًا ولا أوراقًا، واللون الأخضر فيها دائمًا يميل نحو ظلٍ خفيفٍ من الاصفرار، ثم يغلب أن يضع شخوصًا إنسانية صغيرة الحجم في وسط الصورة، ومن هذه الشخوص يتخذ اسم صورته، كصورة «ركوب القارب» وصورة «التهامس بالسر» وصورة «رقص الحور» … وله بين الصور صورة تختلف عن البقية تصميمًا وإن لم تختلف عنها روحًا، هي صورة «الغجرية تعزف على الماندولين».

لم أكد أنتقل مسرعًا بعد ذلك من سائر الغرف التي عُرِضَ فيها الفن الأوروبي إلى اللوحات الأمريكية حتى أحسست بالنقلة المفاجئة من جو إلى جو؛ فها هنا — في أول غرفة دخلتها من غرف الفن الأمريكي — مجموعة من الصور معظمها مضيء باللون الفضي اللامع، وقد كان اللون السائد في اللوحات الأوروبية أمْيَل إلى القتام.

على أن الفن الأمريكي ليس كله متشابهًا؛ لأنني أرى من فنانيهم كل مدرسة وكل مذهب، كأنما يساير الفن الأمريكي الفن الأوروبي خطوة في إثر خطوة؛ فالفن الأمريكي في القرن التاسع عشر يتجه اتجاهات الفن الأوروبي إذ ذاك: فرسم لأشخاص في النصف الأول من القرن، وتدرُّج بعد ذلك إلى رسم المناظر الطبيعية في النصف الثاني … خذ مثلًا صورة «أمازون وطفلاها» للفنان «لويتزة» (١٨١٦–١٨٦٨م)، وصورة «الشاطئ عند باترسي» للفنان «وسلر» (١٨٣٤–١٩٠٣م)، وصورة «السيدة والكلب» للفنانة «كاسات»، وغيرها وغيرها … لماذا لا تكون هذه أو تلك لفنان أوروبي؟

لست أرى حدودًا قومية تفصل الفن الأمريكي وتميزه من سواه، يتأثر بنفس المؤثرات التي تؤثر في الفن الأوروبي، فتجد من رجال الفن الأمريكي في القرن التاسع عشر فريق الواقعيين وفريق الانطباعيين وفريق العاطفيين … ولماذا نتوقع شيئًا غير هذا ما دامت الأمة الأمريكية نفسها خليطًا من أوروبيين؟ إنني لا أرى الأمة الأمريكية قد أحست بعدُ «بأمريكيتها» إحساسًا قويًّا، فما بالك بإحساسهم في القرن التاسع عشر؟ إنني حتى اليوم أسمع الناس ينسبون أنفسهم إلى أصولهم الأوروبية في أول حديث لهم معك؛ كنت بالأمس مع السيدة «د» فكان أول ما قالته لي عند نفسها إنها أيرلندية.

ومن أكثر الصور التي وقفت عندها وقفة الإعجاب الشديد، صورة ﻟ «إنِّس» واسمها «الخريف في مونتكلير» وصورة ﻟ «ونزلو هومر» واسمها «ضياء على البحر»؛ ففي هذه الصورة ترى امرأة وقفت وحدها في إجلال على شاطئ البحر ويملأ جسم المرأة حيزًا كبيرًا من الصورة، حتى لترى البحر وراءها وكأنه «أرضية» فقط لإبراز شخصها، كأنما يريد الفنان أن يضع الإنسان بجماله وقوة إرادته وجلال شخصه إلى جانب الطبيعة بموجها وصخرها؛ لتكون الغلبة للإنسان! فمَنْ ذا ينظر إلى هذه الصورة ويقول إن البحر أقوى أو إن صخور الشاطئ أصلب؟ … إنه الإنسان صاحب القوة والسطوة والجمال.

وتنظر بعد ذلك إلى الفن الأمريكي في القرن العشرين، فتنتقل نقلة واضحة لا تخطئها عين الأعمى، وأنا أَعُدُّ نفسي من عميان النقد الفني ولا ريب … فهنا يغلب على الصورة أن تكون «صورة» لا «تصويرًا»؛ إذ إن الألوان هنا لا تُسْتَخْدَم لتُقلِّد الطبيعة في أزهارها وحقولها وغروب الشمس وشروقها، بل تُسْتَخْدَم لإحداث التناغم اللوني من ناحية، والتعبير عن مزاج الفنان من ناحية أخرى … كيف كان يمكن أن نقول عن فنان يرسم صورة لرجل من الأغنياء والنبلاء ليتقاضى أجر رسمه إنه كان يعبِّر عن مزاجه في فنه؟ إن الفنان لم يكن يعبِّر عن شيء كثير من نفسه الخاصة اللهم إلا قدرته على التصوير، كأنه آلة كاميرا … لكن ما هكذا الفنان في عصرنا الحاضر، الذي يمزج الألوان ليعبِّر عن مزاجه هو دون أي شيء آخر، مهما يكن محتاجًا إلى مال: إنه يمزج الألوان بنفس الروح التي يلعب بها الطفل برمال الشاطئ.

فهذا مثلًا «إفَرْ جُد» (١٩٠١م–…) في صورته «الجانب المشمس من الطريق» التي ترى فيها شارعًا وفيه بضعة زنوج، وترى امرأة بيضاء واحدة وقفت على سُلَّم دارها، ثم ترى تخطيطًا كثيرًا بالطباشير الأبيض على الأرض، وتبحث في الصورة عن «الجانب المشمس» فلا تراه؛ إذ لا شمس هناك ولا ظل، لكن أثر هذا الطباشير الأبيض، ووجود الفتاة البيضاء في ركن الصورة، يوحي إلى الرائي بهذا المعنى؛ معنى الضوء مجاورًا للظلام؛ فمَنْ ذا أراد الفنان أن يرضيه بصورته هذه؟ لا أحد، إنما أراد أن يمزج اللون ويبني أجزاء الصورة على نحوٍ يسرُّه هو ويمتعه قبل أن يسرَّ ويمتع أحدًا سواه.

ومن أعجب الصور التي رأيتها صورة ﻟ «جيميسُن» (١٩١٢م–…) اسمها «الأسرة»، رسمها على هيئة خليط متداخل من جلود الثعابين، لا تتبين فيها شيئًا بذاته أبدًا، حتى إذا ما بعدت عنها تبين لك في خفوت واختلاط صورةُ رجلٍ نامَ على جنبه متكئًا على ذراعه وهو عاري الجسد، وامرأة نامت في نفس الوضع تقريبًا من الناحية المضادة، بحيث يكون رأس كلٍّ منهما في طرف من طرفي الصورة يمينًا وشمالًا، وعند تلاقي جسديهما في الجزء الأوسط صورة طفل.

وحملتُ في ذهني هذه الصورة، حتى انتقلت إلى غرفة أخرى ورأيت صورةً أخرى لفنان آخَر هو «مانجرافيت» (١٨٩٦م–…) واسمها أيضًا «أسرة» فيها سيدة شابة وعلى حجرها قطة وأمامها طفلتها، وظهر في جانب الصورة كتف الزوج من جانبه الخلفي … فأي الفنانين يا ترى أعمق نظرًا في حقيقة الأسرة؟ أهو «جيميسن» الذي رآها اتصالًا عاريًا بين رجل وامرأة ينتج طفلًا؟ أم هو «مانجرافيت» الذي رآها «مجتمعًا» صغيرًا أساسه الإلف والحب والعِشْرة التي جمعت الإنسان بالإنسان، بل جمعت الحيوان (القطة) بالإنسان؟ وطبعًا ظاهر في صورة «مانجرافيت» أنه يرى المرأة في الأسرة أعظم مكانة من الرجل؛ فليس للرجل في الصورة إلا كتفه ظهرت من خلفها.

حسبي هذا من زيارتي لمعرض كور كوران، غير أني أحب أن أذكر ذكرًا عابرًا ثلاث صور يستحيل عليَّ ألا أذكرها لعمق أثرها في نفسي: صورة ﻟ «جاربر» (١٨٨٠م–…) اسمها «الغرفة الجنوبية» فيها ركن من غرفة، ونافذة دخلت منها أشعة الشمس، وشاب يجلس على كرسي، وفتاة وقفت تقرأ خطابًا … والله إني لأوشك أن أقول إن هذه الصورة هي أجمل ما رأيت في الوجود بكافة ما فيه من طبيعة وفن؛ وصورة ﻟ «بيرشتاد» (١٨٣٠–١٩٠٢م) عنوانها «نهاية ثور» فيها قتال بين فارس وثور؛ ثم صورة ثالثة ﻟ «ماير» (١٨٢٧–١٨٩٩م) واسمها «الفراغ والعمل» فيها سيد ثريٌّ اتكأ بكتفه في استرخاء وكبرياء على جانب باب الإسطبل، وإلى جانبه كلبه، وعامل يجثو ليضع حدوة لجواده.

الخلاصة التي أحب أن أوجز بها رأيي المتواضع، هي أن الفن الأمريكي يسير جنبًا إلى جنب مع مدارس الفن في أوروبا، وأكاد أقول إنه يساير الفن الفرنسي أكثر من مسايرته للفن الإنجليزي؛ ولست أدري على وجه الدقة بماذا نجيب إذا سألنا أنفسنا هذا السؤال: كيف يعبِّر الفن عن الحياة الاجتماعية في الوقت الحاضر؟ سوى أن نقول بصفة عامة إن تحرُّر الأفراد وزيادة استقلالهم الفردي في الحياة الجديدة، وعدم تبعية الفقير للغني على نحو ما كان تابعًا له فيما مضى، كل ذلك يظهر أثره في الفن الحديث على صورتين: فأولًا أصبح الفنان لا يرعى إلا مزاجه الشخصي حين يمزج الألوان بعضها ببعض، وحين يختار موضوعه، فلا عبرة عنده لغنيٍّ أو أمير؛ وثانيًا أصبح صميم الحياة الشعبية مصدرًا لكثير جدًّا من موضوعات الفن، ومن أوضح الأمثلة على ذلك: صورة «بعد الغداء» بريشة «موريس ستيرن»، وصورة «اثنان وأربعون طفلًا» بريشة «بلوز»، وصورة «غرفة الانتظار في محطة السكة الحديدية» للفنان «سوبَر» … وبعبارة واحدة مختصرة أقول: إن الفن الأمريكي — مع الفن الأوروبي — يسير نحو التعبير الذاتي والبعد عن الموضوعية، والنقل عن الطبيعة الخارجية.

الخميس ٢٤ ديسمبر

السماء أصفى من البلور، والشمس ناصعة الضياء، والبرد ألواح من الثلج تسدُّ عليك الفضاء الشفاف …

جلست ساعة الضحى في بهو الفندق أقرأ، فقرأت تعليقًا على كتاب للأطفال عنوانه «الريح في الصفصاف» ومؤلفه «كِنِث جراهام» سكرتير بنك إنجلترا، وفي هذا التعليق نقف من مقدمة المؤلف لكتابه، وهي مقدمة تحتوي على لمحات عجيبة، ولفتات تدعو إلى الإعجاب من حيث تحليلها لوجهة نظر الأطفال إلى آبائهم وأُولي أمرهم من الكبار؛ فهؤلاء الكبار هم في نظر الأطفال مصابون بالجنون والعَتَه، تعوزهم أبسط قواعد المنطق السليم، والأطفال يتعجبون إذ يرون مقاليد الأمور قد أُلْقِيَت في أيدي هؤلاء الكبار المرضى بفقر الدم، البِطاء في حركتهم ونشاطهم، المغلولين إلى مقاعدهم، السجناء في بيوتهم، الذين استبدَّت بهم عاداتهم التي يكررونها في غفلة تكرارًا مطردًا ممولًا، ولطالما يعجب الأطفال بأي عقل في الدنيا يفضل الكبار جلوسهم في منازلهم مع أن أمامهم متع الحياة وملاذها، كتسلُّق الأشجار والخوض في بِرَك الماء؟ وإذا كانوا قد فقدوا صوابهم فيما يختص بأنفسهم، فليتركوا الأطفال وشأنهم يغوصون في هذه المتع والملاذ.

يقول الكاتب إن دنيا الحيوان أقرب إلى فهم الطفل من هؤلاء الكبار؛ فالطفل يرى في تصرُّف الفأر مثلًا سلوكًا أكثر قبولًا عند العقل السليم من تصرُّف أبيه وأمه؛ ولذلك يمتعه أن يرقب الحيوان وأن يحاكيه، ولا يمتعه أن يرقب والديه وأصدقاءهما من الكبار.

ويجعل الكاتب في هذا الكتاب شخصيتين تدور حولهما الحوادث والأحاديث هما: «السيد الفأر» و«السيد الضفدع»، وهو يعتقد أن هذين الحيوانين من أحكم مخلوقات الله تصرفًا في حياتهما؛ فهما كالإنسان قبل سقوطه من الجنة، لا تفلت منهما فرصة للتمتُّع بالحياة إلا انتهزاها.

ومدار شخصية الطفل — وكذلك الفأر — أن يجمع بين المغامرة والمأوى الآمن، كالذي يحب أن يجول في الغابة المجهولة الثنايا، على شرط أن يظل قادرًا على العودة إلى الطريق المؤدية إلى منزله، وكذلك الفأر يحب لنفسه المأوى الآمن في جحره، فيخرج إلى مغامراته ثم يعود.

قرأت ذلك كله، وأعجبني فيه صدق التحليل، وعجبت بدوري لماذا يُلقى بزمام الأطفال في أيدي الكبار؟ للأطفال طبائع غير طبائع الكبار؛ وليس من العدل أن تسحق طبيعةً أخرى.

الجمعة ٢٥ ديسمبر

اليوم عيد الميلاد …

جلستُ في بهو الفندق أقرأ جرائد الصباح على مهل؛ فالمدينة خالية الشوارع، ولا خروج أثناء النهار؛ وبعد قراءة الصحف جلست أتفرَّس الوجوه وأقرأ أفكار الناس وعواطفهم من ظواهرهم.

الظاهر أني أبٌ بالطبع؛ فإني لا أتأثر لشيء أقرؤه بمقدار ما أتأثر إلى درجة تقرب من البكاء إذا ما قرأتُ عن طفل أُصيب، خصوصًا إذا وقعت الإصابة في ظروف غريبة؛ فقد قرأت اليوم عن صبي في الثانية عشرة من عمره، كان أمس يساعد جدته في ترتيب شجرة عيد الميلاد بما يوضع في ثنايا فروعها من هدايا، وكانت أمه في جولة شرائية … وبعد أن فرغ الصبي من ذلك، ذهب مع زميل له إلى شاطئ النهر حيث أشجار الصنوبر، فأراد أن يقطع من إحدى الشجرات فرعًا يأخذه إلى المنزل ليجعل منه شجرة ميلاد أخرى، واقتضاه ذلك أن يصعد على حاجز حجري على حافة النهر، وكان الحاجز مغطًّى بالنبات الزلق، فانزلق الصبي إلى الماء المثلوج إلى غير عودة … عادت جدته وأمه إلى البيت تحملان جثة الفقيد في وقفة العيد، ونظرتا إلى هداياه الموضوعة تحت شجرة عيد الميلاد، فلما تصورتُ هذه الهدايا هناك تنتظر إلى الأبد مَن لم تمتد له يدٌ بعد الآن لأخذها، دمعتْ عيناي.

وقرأت مقالًا غاية في الجودة وسمو العاطفة لكاتبة اسمها «دكي تشابل» معظمه عن أهل الشرق الأوسط والهند وما هم فيه من فقر فظيع، ورغم أني حساس جدًّا لما أقرؤه عن الشرق الأوسط، إلا أنني لم أشعر للكاتبة إلا بالتقدير والإعجاب؛ لأنها شحنت أسطرها بالعطف والعاطفة والدراية والفهم، فكان من بين ما قالتْه إن فكرة الجمال النسوي تختلف باختلاف وفرة الطعام؛ فحِسَان هوليوود نحيفات لدرجة المرض؛ لأن الأمريكيات يحيط بهن الطعام الموفور، وجمال المرأة هو في أن تمتنع؛ وأما نجوم السينما في أوروبا الجائعة — هكذا قالت — فتراهن مليئات الأجسام بدرجة يمجها الذوق الأمريكي؛ وذلك لأن الطعام قليل هناك، فلا يتصور الناس كيف يمكن لإنسان في هذه القلة أن يمتنع عن طعام … وقُلْ ذلك أيضًا في الشرق وأهله، فالجميلة هي البدينة، والناس هناك لا يكادون يفهمونك إذا قلت لهم إني أقلل من السِّمَن؛ فهذا كلام غير مفهوم في بلاد كل الأمل عند أهلها هو أن يجدوا الطعام.

وأحسن ما في هذا المقال — بل هو صلب المقال من أوله إلى آخره — هو أن الكاتبة تبذل جهدها في إقناع بني قومها أن الفقر هو القاعدة الغالبة في بلاد العالم أجمع، وأن ثراء الأمريكيين هو الشذوذ وهو معجزة التاريخ، فليس في الأمر ما يبعث على التقزز إذا علمت أن الناس يسكنون بيوتًا من طين، فهكذا الدنيا بأسرها، وليس في الأمر ما يبعث على التقزُّز إذا علمت أن الناس مرضى؛ لأن القاعدة السائدة في معظم بلاد العالم هو ألا طبيب ولا دواء، وليس في الأمر ما يدعو إلى التقزُّز إذا علمت أن الناس معظمهم جياع؛ لأن القاعدة الغالبة في أرجاء العالم كله هي أن يأكل الناس الطعام الذي ينتجونه بأيديهم، فإذا حدث بسبب الظروف الجوية أن شَحَّ الطعام وقلَّ كان الجوع نتيجة حتمية؛ ليس الناس في سائر أنحاء الأرض كالأمريكيين يشترون طعامهم من الدكاكين، وليس هناك في سائر أنحاء العالم هذه المشكلة اليومية التي تصادف الأمريكي كل صباح: ماذا نأكل اليوم؟ ففي أمريكا من الكثرة ما يجعل أمام الناس مجالًا للاختيار.

لم يسعني هنا سوى أن أتذكَّر فلاحنا المصري وطعامه؛ إنه لا يفكِّر ماذا يأكل في الغداء؛ لأن طعامه في الغداء معروف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤