الفصل الخامس عشر

السيادة العالمية وأقدم عقيدة للتوحيد

لقد ترك النفوذ الاجتماعي مدة العهد الإقطاعي في مصر أعظم أثر له في الدين والأخلاق، كما فعل ذلك من قبل النفوذ السياسي؛ أي الحكومة المصرية في عصر الأهرام. وكلا الأثرين كانا منحصرين في القطر المصري.

حقًّا إن عصر الأهرام قد اهتدى إلى فكرة — مبهمة نوعًا — عن دولة إله الشمس ذات الاتساع الشاسع المدى، وخوطب إله الشمس في «متون الأهرام» مرة باللقب الطنان «الذي لا حد له». كما رأينا أن عصر الأهرام كان قد أوجد، بالإدراك الاجتماعي الذي قام به أمثال «بتاح حتب» دولة للقيم الخلقية العامة، وفي إعطاء إله الشمس السيادة على مثل هذه الدولة دليل على أن المصريين كانوا قد بدءوا يسيرون بالفعل في الطريق المؤدي إلى «التوحيد». كما أننا نتذكر مما سبق أن نصائح الملك الأهناسي المجهول الاسم قد سارت بالمصريين شوطًا بعيدًا في ذلك الطريق، وقد كان وقتئذ في مقدور المصريين بما تصوروه من النظام الإداري الخلقي العظيم، الذي أوجدوا له من قبل كلمة تدل عليه، أن يتقدموا نحو الوصول إلى المعرفة التامة للوحدانية.

ولكن على الرغم من ذلك قد بقي هذا النظام الخلقي في عصر الأهرام فكرة قومية لم يمتد نظامها حتى يشمل العالم كله.

فقد كان إله الشمس يحكم مصر فحسب، حيث نجده في أنشودة الشمس العظيمة بمتون الأهرام يقف حارسًا على الحدود المصرية، فيقيم هناك الأبواب التي تمنع الأجانب من دخول مملكته المحروسة.

وكان إله الشمس في عصر الأهرام أيضًا قد بدأ عملية إدماج آلهة مصر الآخرين في ذاته، وهي عملية استحالت حتى في ذلك العصر السحيق إلى صورة قومية من العقيدة الحلولية القومية التي تقول بأن الإله يحل في كل شيء، وبأن جميع الآلهة تستحيل في النهاية من حيث الأشكال والوظائف إلى وحدة واحدة، ولكنه مع تلك العملية وبالرغم من استمرارها طويلًا، فقد تركت دولة ذلك الإله العظيم مقصورة على مصر؛ ولذلك كان هذا الإله بعيدًا كل البعد عن أن يكون إلهًا عالميًّا.

والواقع أن المصريين ظلوا إلى ذلك العهد غير مدركين للفكرة العالمية؛ أي لفكرة الإمبراطورية العالمية، التي يمكنهم أن يسيطروا عليها بحاكم دنيوي واحد.

ولكن تأثيرات البيئة المقصورة على حدود وادي النيل كانت قد امتدت إلى أقصى مداها، وإذا بمسرح الفكر والعمل ينفسح للقوة القومية، بتلك التوسعات الخارجية الرائعة؛ فإن اللاهوت الشمسي السريع الاندماج والتجاوب مع أحوال ذلك العالم الصغير المكون من وادي النيل، قد دل على أنه لا يقل حساسية وتجاوبًا مع ذلك العالم الأكبر الجديد الذي وصل الأفق المصري إلى مداه.

وإن توسع مصر الإمبراطوري شمالًا وجنوبًا، إلى أن شمل سلطان الفرعون الأقطار الآسيوية والأفريقية المجاورة، وكوَّن منها أول إمبراطورية ثابتة الأركان في التاريخ، لهو أبرز حقيقة في تاريخ الشرق في القرن السادس عشر قبل الميلاد. كما يعد توطيد تلك السلطة على يد «تحتمس الثالث» في مدى عشرين سنة بما قام به من الغزوات في آسيا، حادثًا عظيمًا في تاريخ العاهليات الحربية، نرى فيه لأول مرة في تاريخ الشرق مدى ما تستطيعه القوات العاملة المنظمة لدولة عظيمة.

إذ إن تلك القوات بهجومها المتواصل على ممالك آسيا الغربية قد جعلت السيادة المصرية لا ينازعها منازع، من الجزر الإغريقية فسواحل آسيا الصغرى ومرتفعات أعالي نهر الفرات شمالًا، إلى الشلال الرابع لنهر النيل جنوبًا.

وقد ذكر ذلك القائد الحربي العظيم نفسه تلك الملاحظة التي اقتبسناها آنفًا عن إلهه، وهي التي قال عنه فيها: «إنه يرى جميع العالم في كل ساعة.»

وإذا كان ذلك القول صحيحًا فما ذلك إلا لأن سيف ذلك الفرعون كان قد مد سلطان إله مصر حتى نهاية حدود الإمبراطورية المصرية، بل إن «تحتمس الأول» قد أعلن قبل ذلك العهد بخمسين سنة أن ملكه يمتد «إلى نهاية ما تحيط به الشمس». وقد كان القوم في عهد الدولة القديمة يتصورون أن إله الشمس هو فرعون، ومملكته في مصر، فلما اتسع نطاق المملكة المصرية وصارت عاهلية عالمية كان من المحتم كذلك أن يمتد سلطان الإله بهذا القدر. ولما كانت الملكية قد انبثت مظاهرها في العقائد الدينية منذ زمن بعيد، فكان لا بد للإمبراطورية كذلك من أن تؤثر تأثيرًا قويًّا في الفكر الديني.

ومع أن ذلك قد جرى بكيفية آلية لا تكاد تحس، فإنه كان مصحوبًا باستيقاظ عقلي هز التقاليد المصرية القديمة من أساسها، وجعل رجال ذلك العصر يفكرون في عالم من التفكير أوسع أفقًا من قبل، فقد مضى على إله الشمس ألفا سنة وخمسمائة وهو فرعون مصري؛ أي فرعون حاكم لمصر، ولكن بعد سنة ١٦٠٠ق.م صار ذلك الفرعون سيدًا على العالم المتحضر إذ ذاك. وكان «تحتمس الثالث» الفاتح أول شخصية ظهرت لها نواحٍ عالمية في التاريخ البشري، ويعتبر بذلك أول بطل عالمي، ومن ثم كان له تأثير عميق في عصره، وتمثلت فكرتا السيطرة والإمبراطورية العالميتين مجتمعتين بصورة ظاهرة ملموسة في حياته، وقد ظهرت آنئذٍ بوادر للعالمية في لاهوت الدولة يرجع سببها المباشر إلى تلك التأثيرات التي أحدثتها شخصية «تحتمس الثالث» وأخلاقه. وقد اضطرت مصر إلى الخروج من عزلتها العريقة في القدم في أحضان واديها الضيق والاشتراك في العلاقات العالمية التي كان لا بد أن يُحسب لها في لاهوت ذلك العصر حساب فعال؛ إذ إنها — كما أوضحنا — علاقات كان لإله الشمس بها صلة لا انفصام لها.

أما العلاقات التجارية التي كانت قائمة منذ أزمان سحيقة جدًّا فلم تكن كافية لإدخال العالم الخارجي في دائرة التفكير المصري بدرجة محسوسة، فقد كانت أطراف ممتلكات الآلهة محددة ومحصورًا أقصاها في تخوم وادي النيل الخارجية، وذلك منذ زمن بعيد، وقبل أن يصير العالم الخارجي مألوفًا لسكان وادي النيل، فلم يكن في مقدور المعاملات التجارية وحدها مع عالم أوسع من مصر أن يزحزح تقاليد البلاد عما كانت عليه، فكم من تاجر رأى حجرًا يسقط في «بابل» النائية كما رأى مثله يسقط في «طيبة» المصرية أيضًا، ولكنه مع ذلك لم يخطر بباله، ولا ببال أي رجل آخر في ذلك العصر العتيق، أن القوة الطبيعية التي تجذب الحجر الساقط هي واحدة في كلتا هاتين المملكتين اللتين تفصلهما مسافات شاسعة؛ إذ كان العالم في الواقع وقتئذ لا يزال بعيدًا جدًّا عن زمن ذلك الصبي الراقد تحت شجرة التفاح،١ الذي كشف عن قوة عالمية وراء سقوط التفاحة. وكم من تاجر في ذاك العصر أيضًا قد رأى الشمس تبزغ خلف معابد «بابل» البرجية كما كانت تبزغ بين المسلات المتجمعة في «طيبة»، ولكن تفكير ذلك العصر لم يكن قد وصل بعدُ إلى إدراك مثل هذه الحقائق ذات الأثر البعيد، وذلك بالرغم مما قاله «تحتمس» الفاتح عن إله الشمس: «إنه يرى جميع العالم في كل ساعة.»

فإن العالمية التي تصوَّرها أولًا خيالُ رجال الإمبراطورية المفكرين وكشفت لهم المجال العالمي الطبيعي لدولة إله الشمس هي العالمية كما بدت في السلطة العاهلية، أما التوحيد فليس إلا العاهلية في الدين.

وعلى ذلك لم يكن من باب الحدس أو الصدفة أن نجد أن أول هذه التصورات حوالي سنة ١٤٠٠ق.م في عهد «أمنحتب»٢ الثالث الذي كان أعظم أباطرة مصر أبهة؛ إذ نجد أن توأمين من رجال العمارة هما «سوتي» و«حور» كانا يعملان في «طيبة» لحساب الملك «أمنحتب» الثالث، وقد تركا لنا أنشودة للشمس على لوحة توجد الآن في المتحف البريطاني، وهذه الأنشودة توضح لنا مدى ميل ذلك العصر والمجال الآخذ في الاتساع، والذي كان ينظر به رجال الإمبراطورية إلى العالم مدركين مبلغ امتداد دولة إله الشمس التي لا حد لها.

وهذه الأنشودة الشمسية تحتوي على الأسطر الآتية الجليلة المعنى، وهي:

إنك صانع مصور لأعضائك بنفسك
ومصور دون أن تصور
منقطع القرين في صفاته مخترق الأبدية
مرشد الملايين إلى السبل.
وعندما تقلع في عرض السماء يشاهدك كل البشر
(رغم أنك) في ذهابك خفي عن أنظارهم
إنك تجتاز سياحة مقدارها فراسخ
بل مئات الآلاف وملايين المرات
وكل يوم تحتك (تحت سلطانك)
وحينما يأتي وقت غروبك،
فإن ساعات الليل تصغي إليك أيضًا
وعندما تجتازها فإن ذلك لا يكون نهاية كدك
وكل الناس تنظر بواسطتك
أنت خالق الكل ومانحهم قوتهم
أنت أم نافعة للآلهة والبشر
وأنت صانع مجرب …
وراعٍ شجاع يسوق ماشيته
وأنت ملجؤها ومانحها قوتها
… … … …
هو الذي يرى ما خلق
والسيد الأحد الذي يأخذ جميع الأراضي أسرى كل يوم
بصفته واحدًا يشاهد من يمشون عليها
مضيء في السماء وكائن كالشمس
وهو يخلق الفصول والشهور
فالحرارة عندما يريد
والبرد عندما يشاء
فكل بلاد في فرح عند بزوغه كل يوم، لكي تسبِّح له.

ومن الواضح في مثل هذه الأنشودة أن مدى جولة إله الشمس الشاسع حول كل البلاد، وفوق كل شعوب الأرض، قد لقي في النهاية اهتمامًا … وأنه قد اتُّخذت الخطوة الأخيرة وهي مد سلطان إله الشمس على كل الأراضي والشعوب.

ولم تصل إلينا وثيقة أقدم منها مما أنتجه التفكير المصري تضم تعبيرات صريحة يتمثل فيها ذلك التفكير كالتي نجدها هنا في قوله:

السيد الأحد الذي يأخذ جميع الأراضي أسرى كل يوم
بصفته واحدًا يشاهد من يمشون عليها.

ومن الأمور الهامة أن نلاحظ أيضًا أن ذلك الاتجاه كانت له علاقة مباشرة بالحركة الاجتماعية في العصر الإقطاعي المصري؛ إذ نجد أن النعوت التي نعت بها إله الشمس، نحو قوله:

الراعي الشجاع الذي يسوق ماشيته
وهو ملجؤها ومانحها قوتها.

ترجع بنا إلى عهد النصائح التي وجِّهت إلى «مريكارع»، وهي التي سميت فيها الناس «قطعان الإله»، كما ترجع بنا أيضًا إلى أفكار «إبور» حيث يقول: «إنه راعٍ لجميع الناس.»

ومثله النعت الآخر الخطير الشأن وهو قوله: «أم نافعة للآلهة والبشر.» فإنه يحمل في ثناياه فكرة مشابهة تشعر بالاهتمام ببني البشر؛ أي إن النواحي الإنسانية في سلطان إله الشمس، التي اشترك في إيجادها بوجه خاص رجال الفكر في العهد الإقطاعي، لم تختفِ بين العوامل السياسية القوية لذلك التسلط العالمي الجديد.

وحدث أنه عندما خلف «أمنحتب الرابع» والده «أمنحتب الثالث» حوالي سنة ١٣٧٠ق.م، قام نزاع شديد بين البيت المالك من جهة وبين نظام الكهانة الذي كان على رأسه الإله «آمون» من الجهة الأخرى. وقد كان من الواضح أن ذلك الملك الشاب ينحاز إلى معاضدة جانب إله الشمس القديم ضد الجانب المنتصر للإله «آمون»، الذي كان رجال كهانته الطِّيبيون الأقوياء قد أخذوا يدعون إلههم الذي كان من قبل إلهًا محليًّا خامل الذكر باسم مركَّب هو «آمون رع»، مدللين بذلك على أنه صار موحَّدًا مع إله الشمس «رع». وقد أخذ «أمنحتب الرابع» في باكورة حكمه يناصر في حماسة فكرة جديدة للمذهب الشمسي ربما كانت نتيجة أريد بها التوفيق بين المذهبين.

وفي الوقت الذي كان فيه موقف البلاد المصرية السياسي في آسيا في غاية الحرج، أخذ الملك ينهمك بكل حماسة في تعضيد التسلط العالمي لإله الشمس الذي أدركنا كُنهه في أيام والده، فأعطى هذا الملك إله الشمس اسمًا جديدًا خلص به المذهب الجديد من التقاليد المحفوفة بخطر الشرك في اللاهوت الشمسي القديم، فصار إله الشمس يسمى «آتون»، وهو اسم قديم يطلق على الشمس المجسمة.

ومن المحتمل أن هذه التسمية لا تدل إلا على قرص الشمس فقط. وهذا الاسم الجديد ذُكر مرتين في أنشودة رجلَي عمارة «أمنحتب الثالث» التي اقتبسنا منها جزءًا فيما تقدم، كما لاقى بعض الإقبال في عهد ذلك الملك؛ إذ قد سمَّى به أحد قواربه الملكية «آتون يسطع».

ولم يقتصر الحال على إعطاء إله الشمس اسمًا جديدًا، بل منحه ذلك الملك الشاب كذلك رمزًا جديدًا؛ فقد ذكرنا فيما مر سابقًا أن أقدم رمز لإله الشمس كان الشكل الهرمي، كما كان يرمز له كذلك بالصقر؛ لأن الصقر من أسمائه.

على أن هذين الرمزين كانا مفهومين بين سكان وادي النيل فقط، ولكن «أمنحتب الرابع» كان في مخيلته وقتئذ مسرح أفسح وأوسع من القطر المصري؛ إذ إن الرمز الجديد قد مثَّل لنا الشمس بقرص تخرج منه أشعة متفرقة متجهة إلى أسفل، كل شعاع منها ينتهي طرفه بصورة يد بشرية.٣

وقد كان ذلك الرمز يشعر بالسيادة، ويدل على السيطرة القوية الخارجية من منبعها السماوي وهي تضع أيديها فوق العالم وعلى شئون البشر الأرضية، هذا فضلًا عن أن أشعة إله الشمس منذ عصر متون الأهرام قد شُبهت بذراعين له، واعتبرها الناس إذ ذاك نائبة عنه في الأرض:

إن ذراع أشعة الشمس قد رفعت مع الملك «وناس».
صاعدة به إلى السماوات.

وقد كان ذلك الرمز الجديد سهل الفهم لكل البشر الذين يسيطر عليهم الفرعون، كما كان معناه واضحًا كل الوضوح، حتى إنه كان في استطاعة سكان نهر الفرات أو رجال بلاد النوبة على النيل السوداني أن يدركوا عظم شأنه على الفور، بمعنى أن ذلك الرمز لم تقتصر دلالته على السيطرة العالمية فحسب، بل صار خليقًا أن يكون رمزًا عالميًّا إلى أقصى حد.

وكذلك بُذلت بعض الجهود لتعريف القوة الشمسية التي رُمِز لها بتلك الصورة، فقد كان اسم إله الشمس الكامل: «حور أختي» (حور الأفق) فرحًا في الأفق باسمه (الحرارة التي في «آتون»).

وكان ذلك الاسم يوضع في طغراءين ملكيين، مثل اسم الفرعون المزدوج (يعني اسمه ولقبه). وهذا الوضع مأخوذ من مشابهة سلطان آتون لسلطان الفرعون، كما أنه برهان آخر يدل بوضوح على التأثير الذي أوجدته الإمبراطورية المصرية بصفتها الحكومية في مذهب اللاهوت الشمسي. غير أن الاسم الموضوع في الطغراءين حدد لنا بوجه عام مقدار القوة المحسوسة الواقعية للشمس في العالم الظاهر، ولم تكن له أية دلالة سياسية قط.

والكلمة المصرية القديمة التي ترجمتها في اسم ذلك الملك «حرارة» قد يكون معناها أحيانًا «نورًا» أيضًا، ومن الواضح أن ما كان الملك يعبده هو قوة الشمس التي نشعر بها على الأرض. وهذه النتيجة تنسجم مع العبارات العديدة التي سنجدها في أناشيد «آتون»، وهي التي نرى فيها «آتون» نشطًا باسطًا أشعته على كل مكان فوق وجه الأرض.

ومع أنه من الواضح أن ذلك المذهب الجديد قد استقى وحيه من مدينة «هليوبوليس»، حتى إن الملك الذي اتخذ لنفسه منصب الكاهن الأعظم للإله «آتون» سمَّى نفسه «الناظر الأعظم»، وهو نفس لقب كاهن «هليوبوليس» العظيم، فإنه بالرغم من ذلك كان قد أزال معظم سقط المتاع القديم من الطقوس التي كانت تتألف منها ظواهر اللاهوت التقليدية، ولذلك نرانا نبحث عبثًا في ذلك اللاهوت الجديد عن القوارب الشمسية، كما نرانا نبحث عبثًا عن باقي الإضافات التي أُدخلت فيما بعد على المذهب الشمسي مثل السياحة في كهوف الأموات السفلية، وغير ذلك، فإنها كلها قد محيت منه جملة.

فإذا كان الغرض الذي رمت إليه حركة مذهب «آتون» هو التوفيق بينها وبين كهنة «آمون» فإنها قد فشلت، وقام بينهم ألد الخصام، الذي اشتد وبلغ الذروة عندما صمم الملك على أن يتخذ من «آتون» إلهًا واحدًا للإمبراطورية المصرية ويقضي على عبادة «آمون». وقد نتج عن ذلك المجهود الذي بُذل لمحو كل الآثار الدالة على وجود «آمون» (ذلك الإله الحديث العهد) أن اتخذت إجراءات غاية في التطرف؛ إذ نجد أن الملك قد غيَّر اسمه من «أمنحتب» (يعني «آمون» مرتاح أو راضٍ) إلى «إخناتون» (يعني «آتون» راضٍ)، وذلك الاسم الجديد الذي اتخذه الملك لنفسه هو ترجمة للاسم القديم للملك إلى ما يماثله في المعنى في مذهب «آتون»، هذا من جهة، وكان اسم «آمون» من الجهة الأخرى يُمحى أينما وجد فوق آثار «طيبة» العظيمة، حتى إن الملك، تنفيذًا لفكرته هذه، لم يحترم في ذلك حتى ولا اسم والده الملك «أمنحتب الثالث»، مع أن الأمر لم يكن قاصرًا على محو اسم «آمون»، بل تعداه حتى إلى كلمة الآلهة (بصفتها جمع إله) فكانت تُمحى أيضًا أينما وجدت (كأنه رأى أن الجمع مظنة لتعدد الآلهة فمحاه)، وكذلك عوملت أسماء سائر الآلهة الآخرين معاملة «آمون» فكان مصيرها المحو.

وقد هجر الملك «إخناتون» طيبة برغم ما كان لها من السيادة والأبهة عندما وجد الارتباك فيها بالتقاليد اللاهوتية القديمة أكثر مما يحتمل، وأقام لنفسه حاضرة جديدة في منتصف الطريق بين «طيبة» والبحر تقريبًا، في بقعة تُعرف في وقتنا هذا باسم «تل العمارنة»، وسماها «أخيتاتون» (أفق آتون)، كما أسس في بلاد النوبة مدينة لآتون مشابهة لها، ومن المحتمل جدًّا أنه أقام مدينة أخرى لذلك الإله في آسيا، وبذلك صار لكلٍّ من الثلاثة الأجزاء العظيمة التي تتألف منها الدولة؛ وهي مصر والنوبة وسوريا، مقرٌّ لمذهب «آتون»، وقد بنيت كذلك معابد أخرى لآتون في أماكن مختلفة من مصر نفسها.

ولم يتم ذلك طبعًا دون تأليف حزب قوي من رجال البلاط الملكي يمكن للملك به أن يناهض أولئك الكهنة المنبوذين، وبخاصة كهنة «آمون». وقد أثرت الفتنة التي نتجت عن ذلك الانقلاب بلا شك تأثيرًا خطيرًا في قوة البيت المالك؛ إذ كان حزب ذلك البلاط الذي نما إذ ذاك في ظل «إخناتون» يعمل معه متضامنين على نشر ذلك المذهب الديني الجديد، الذي يصح أن تعد قصته أروع الفصول وأكثرها إمتاعًا في تاريخ الشرق القديم، يدلنا على ذلك ما بقي من نقوشه على جدران تلك المقابر التي نحتها الملك في الصخر لأشراف رجاله قبالة الجبال المنخفضة التي تقع في الهضبة الشرقية القائمة خلف تلك المدينة الجديدة. والواقع أننا مدينون لمقابر مثل هؤلاء من أعوان الملك بمعلوماتنا عن مشتملات تلك التعاليم الهامة التي كانت تنشر في تلك الآونة، وهي تحتوي على سلسلة أناشيد في مدح إله الشمس، كما تحتوي على مديح إله الشمس والملك بالتبادل. وهذه التعاليم تمدنا على الأقل بلمحة عن عالم الفكر الجديد، الذي نشاهد فيه ذلك الملك الشاب وأعوانه رافعين أعينهم نحو السماء محاولين بذلك إدراك مجالَي الذات الإلهية في بهائها الذي لا حد لقوته ولا نهاية، وهي الإلهية التي لم يعد سلطانها منحصرًا في وادي النيل، بل امتد بين جميع البشر وفي العالم كله.

ولا يمكننا الآن أن نأتي بشيء عن هذه السانحة أفصح من تلك الأناشيد، التي تقص علينا بنفسها شيئًا عن تلك التعاليم، وأطول أنشودة بينها وأهمها هي الآتية:٤

بهاء «آتون» وقوته العالمية تشرق وتضيء

أنت تبزغ بجمالك في أفق السماء
أنت يا «آتون» الحي الذي كنت في أزلية الحياة
فحينما كنت تطلع في الأفق الشرقي
كنت تملأ كل البلاد بجمالك
أنت جميل وعظيم ومتلألئ ومشرق فوق كل أرض
وأشعتك تحيط بالأرضين حتى نهاية جميع مخلوقاتك
أنت «رع»،٥ وأنت تخترق حتى نهايتها القصوى (يعني الأرضين)
وأنت توثقهم (يعني البشر) لابنك المحبوب (الفرعون)
ورغم أنك قصي جدًّا فإن أشعتك فوق الأرض
ورغم أنك تجاه البشر فإن خطواتك خفية (عنهم).

الليل والإنسان

الأنشودة

وحينما تغيب في أفق السماء الغربي فإن الأرض تظلم كالموات
فينامون في حجراتهم
ورءوسهم ملفوفة
ومعاطسهم مسدودة
ولا يرى إنسان الآخر
في حين أن أمتعتهم تسرق
وهي تحت رءوسهم
وهم لا يشعرون بذلك.

المزامير

تجعل ظلمة فيكون ليل فيه يدب كل حيوان وعر.

(المزمور ١٠٤–٢٠)

الليل والحيوان

الأنشودة

وكل أسد يخرج من عرينه (ليفترس)
وكل الثعابين تنساب لتلدغ
والظلام يخيم
والعالم في صمت
في حين أن الذي خلقهم ق في أفقه.

المزامير

الأشبال تزمجر لتخطف ولتلتمس من الله طعامها.

(المزمور ١٠٤–٢١)

النهار والإنسان

الأنشودة

الأرض زاهية حينما تشرق في الأفق
وعندما تضيء بالنهار مثل «آتون»
فإنك تقصي الظلمة إلى بعيد
وحينما ترسل أشعتك
تصير الأرضان (مصر) في عيد
والناس يستيقظون ويقفون على أقدامهم
عند إيقاظك لهم
وبعد غسلهم لأجسامهم يلبسون ثيابهم
ثم يرفعون أذرعتهم تعبدًا لطلعتك
ثم بعد ذلك يقومون إلى أعمالهم في كل العالم.

المزامير

تشرق الشمس فتنصرف وفي مأويها تربض، الإنسان يخرج إلى عمله وإلى شغله إلى المساء.

(المزمور ١٠٤–٢٢ و٢٣)

النهار والحيوان والنبات

الأنشودة

وجميع الماشية ترتع في مراعيها
والأشجار والنباتات تينع
والطيور في مستنقعاتها ترفرف
وأجنحتها منتشرة تعبدًا لك
وجميع الغزلان ترقص على أقدامها
وجميع المخلوقات التي تطير أو تحط
تحيا عندما تضيء عليها.

النهار والمياه

الأنشودة

والسفن تقلع في النهر صاعدة
أو منحدرة فيه على السواء
وكل فج مفتوح؛ لأنك أشرقت
والسمك يثب في النهر أمامك
وأشعتك تنفذ إلى وسط البحر
الأخضر العظيم
هذا البحر الكبير الواسع الأطراف
هناك دبابات بلا عدد.

المزامير

صغار حيوان مع كبار.
هناك تجري السفن، لوياثان
هذا خلقته ليلعب فيه.
(المزمور ١٠٤–٢٥ و٢٦)

خلق الإنسان

الأنشودة

أنت خالق الجرثومة في المرأة
والذي يذرأ من البذرة أناسيًّا
وجاعل الولد يعيش في بطن أمه
ومهدئًا إياه حتى لا يبكي
مرضعًا إياه حتى في الرحم
وأنت معطي النفس حتى تحفظ الحياة على كل إنسان خلقته
وحينما ينزل من الرحم (أمه) في يوم ولادته
فأنت تفتح فمه كلية
وتمنحه ضروريات الحياة.

خلق الحيوان

الأنشودة

وحينما يصير الفرخ في لحاء البيضة
فأنت تعطيه نفسًا ليحفظه حيًّا في وسطها
وقد قدرت له ميقاتًا في البيضة ليخرج منها
وهو يخرج من البيضة في ميقاته (الذي قدرته له)
فيصيح ويمشي على رجليه حينما يخرج منها.

الخلق العالمي

الأنشودة

ما أكثر تعدد أعمالك
إنها على الناس خافية
يا أيها الإله الأحد
الذي لا يوجد بجانبه إله آخر
لقد خلقت الأرض حسب رغبتك
وحينما كنت وحيدًا (لا شيء غيرك)
خلقت الناس وجميع الماشية والغزلان
وجميع ما على الأرض
مما يمشي على رجليه
وما في عليين مما يطير بأجنحته
وفي الأقطار العالمية سوريا
وكوش وأرض مصر
فإنك تضع كل إنسان في موضعه
وتمدهم بحاجاتهم
وكل إنسان لديه قوته
وأيامه معدودات
والألسنة في الكلام مختلفة
وكذلك تختلف أشكالهم وجلودهم
لأنك تخلق الأجانب مختلفين.

الأنشودة

ما أعظم أعمالك يا رب
كلها بحكمة صنعت
ملآنة الأرض من غناك.
(المزمور ١٠٤–٢٤)

ري الأراضي في مصر وخارجها

الأنشودة

أنت تخلق النيل في العالم السفلي
وأنت تأتي به كما تشاء
ليحفظ أهل مصر أحياء (كلمة أهل التي استعملت هنا مقصورة في اللغة على أهل مصر)
لأنك خلقتهم لنفسك
وأنت سيدهم جميعًا
وأنت الذي تنهك٦ نفسك من أجلهم
وأنت رب كل قطر
و(أنت) الذي تشرق من أجلهم
وأنت شمس النهار عظيم الافتخار
وجميع الأقطار العالية القاصية
أنت تخلق حياتها أيضًا
لقد وضعت نيلًا في السماء
وحينما ينزل لهم يصنع أمواجًا فوق الجبال
مثل البحر الأخضر العظيم
فيروي حقولهم في مدنهم
ما أكرم مقاصدك يا رب الأبدية!
ويوجد نيل في السماء للأجانب
ولأجل غزلان كل الهضاب التي تتجول على أقدامها
أما النيل فإنه يأتي من العالم السفلي لمصر.

فصول السنة

الأنشودة

أشعتك تغذي كل بستان (كلمة التغذية هنا تعني تغذية الأم لطفلها)
وعندما تبزغ فإنها تحيا
فهي تنمو بك
أنت تخلق الفصول
لأجل أن ينمو كل ما صنعت
فالشتاء يأتي إليهم بالنسيم العليل
والحرارة لأجل أن يذوقوا أثرك (أي أن يكون لها طعم لذيذ في فمهم).

السيطرة العالمية

الأنشودة

أنت خلقت السماوات العلى لتشرق فيها
ولتشاهد كل ما صنعت حينما كنت لا تزال وحيدًا (لا شيء غيرك)
مضيئًا في صورتك أنت «آتون» الحي
وبازغًا وساطعًا وذاهبًا بعيدًا وآيبًا (في الغدو والآصال)
أنت تخلق الملايين من الصور وحدك بنفسك
من مدن وقرى وحقول وطرق عامة وأنهار
وجميع العيون تراك تجاهها
لأنك «آتون» (شمس) النهار فوق الأرض
وحينما تغيب
فإن جميع الناس الذين سويت وجوههم
لكي لا ترى نفسك بعد وحيدًا
يغشاهم النعاس حتى لا يرى واحد منهم ما قد خلقته
ومع ذلك فإنك لا تزال في قلبي.

وحي الملك

الأنشودة

«ليس هناك واحد آخر يعرفك إلا ابنك «إخناتون»
لقد جعلته عليمًا بمقاصدك وبقوتك.»

الرعاية العالمية

الأنشودة

العالم يعيش بصنيع يدك، أنت الذي خلقتهم
فيحيا حينما تشرق
ويموت حينما تغيب
لأن حياتك طول مدى نفسك
والناس يعيشون بواسطتك
إن أعين الناس لا ترى إلا جمالك حتى تغيب
وكل عمل يطرح جانبًا
حينما تغيب في الغرب
وحينما تشرق ثانية
فإنك تجعل كل كف تنشط لأجل الملك
والخير في أثر كل قدم
لأنك خلقت العالم
وأوجدتهم لابنك
الذي ولد من لحمك
ملك الوجهين القبلي والبحري
العائش في الصدق، رب الأرضين
«نفر خبرو رع وان رع» (إخناتون)
ابن «رع» العائش في الصدق، رب التيجان
«إخناتون» ذو الحياة الطويلة
(ولأجل) كبرى الزوجات الملكية محبوبته
سيدة الأرضين «نفر نفرو آتون» (نفرتيتي)
عاشت وازدهرت أبد الآبدين.

ويحتمل ألا تمثل هذه الأنشودة الملكية العظيمة إلا قطعة منتخبة أو سلسلة منتخبة من شعائر «آتون» كما كانت تقام من يوم لآخر في معبد «آتون» بتل العمارنة.

ومما يؤسف له أن هذه الأنشودة لم تدوَّن في تلك الجبانة إلا بمقبرة واحدة فقط، وقد فُقد منها نحو ثلثها من جراء تعدي المخربين من الأهالي الحاليين، ولذلك لم يصلنا من الجزء المفقود إلا نسخة حديثة نقلت من غير اعتناء وعلى عجل منذ خمسين سنة (أي في سنة ١٨٨٣م).

وأما المقابر الأخرى فقد كُتبت نقوشها الدينية بالنقل عن الفقرات والجمل التي كانت شائعة الاستعمال وقتئذ، والتي تكوَّن منها مجمل مذهب «آتون» كما فهمه الكُتاب والرسامون الذين قاموا بزخرفة تلك المقابر. وعلى ذلك يجب علينا ألا ننسى أن البقايا التي وصلت إلينا عن طريق جبانة «تل العمارنة» من مذهب «آتون»، وهي مصدرنا الرئيسي، قد مرَّت بشكل آلي بأيدي فئة قليلة من الكتبة المهملين غير المدققين ذوي العقول الخاوية الفاترة، ممن لم يخرجوا عن كونهم أذنابًا لحركة عقلية دينية عظيمة. وفيما عدا هذه الأنشودة الملكية نجد أن أولئك الرسامين كانوا يقنعون في كل مكان بالقِطع والنُّتف، التي نُقلت في بعض الأحوال من تلك الأنشودة الملكية نفسها أو عن قطع أخرى، ويضعونها مرقعة في هيئة أنشودة قصيرة، ثم ينقشونها كلها أو بعضها بدون أدنى تصرف، وهم يتنقلون من قبر إلى آخر.

ولما كانت المواد التي في متناولنا عن ذلك المذهب ضئيلة إلى هذا الحد، مع أهمية الحركة التي أماطت لنا عنها اللثام، فإن تلك المعلومات الجديدة القليلة التي تمدنا بها تلك الأنشودة القصيرة، تعتبر ذات قيمة عظيمة.٧

وقد عزيت تلك الأنشودة في أربع حالات إلى الملك نفسه؛ أي إن الملك يشاهد وهو ينشدها أمام «آتون». وهاك نصها كما جاءت:

أنت تشرق بجمالك يا «آتون» الحي يا رب الأبدية
إنك ساطع وقوي وجميل
وحبك عظيم وكبير
أشعتك تمد بالبصر كل واحد من مخلوقاتك
ولونك الملتهب يجلب الحياة إلى قلوب البشر
عندما تملأ بحبك الأرضين
إيه أيها الإله الذي سوى نفسه بنفسه
خالق كل أرض
وبارئ كل من عليها
حتى الناس وكل قطعان الماشية والغزلان
وكل الأشجار التي تنمو فوق التربة
فإنها تحيا عندما تشرق عليهم
وأنت الأب والأم لكل من خلقته
وعندما تشرق فإن عيونهم
ترى بواسطتك
إن أشعتك تضيء كل العالم
وينشرح بسبب رؤيتك كل قلب
عندما تشرق بصفتك سيدهم
وعندما تغيب في أفق السماء الغربي
فإنهم ينامون كأنهم أموات
رءوسهم ملفوفة بالغطاء
وتقف معاطسهم
حتى يعود شروقك في الصباح
في أفق السماء الشرقي
وعندئذ يرفعون أذرعتهم إليك تعبدًا
فإنك تجعل قلوب البشر تحيا بجمالك
لأن الناس تحيا عندما ترسل أشعتك
ويكون جميع الكون في عيد
فالغناء والموسيقى وتهليل الفرح
تكون في قاعة بيت بِنْبِن٨
في معبدك في «أخيتاتون» مكان الصدق (ماعت)
الحائز لرضاك
فيه يقدم لك الطعام والمئونة
ويؤدي لك ابنك الطاهر احتفالاتك السارة
يا «آتون» الحي في مواكبه البهجة
كل ما خلقته يطرب أمامك
ويفرح ابنك الجليل وقلبه في حبور
آه يا «آتون» الحي المولود كل يوم في السماء!
إنه يلد ابنه الجليل «وان رع» (إخناتون)
مثل نفسه دائمًا
ابن «رع» اللابس جماله «نفر خبرو رع وان رع» (إخناتون)
فأنا ابنك الذي تسر به
والذي يحمل اسمك
قوتك وبطشك يسكنان في قلبي
أنت يا «آتون» العائش على الدوام …
لقد خلقت السماء العليا لتشرق فيها
لكي تشاهد كل ما صنعته
عندما كنت لا تزال وحيدًا (لا شيء غيرك)
آلاف الألوف من الأنفس موجودة فيك لتحفظها حية
لأن مشاهدة أشعتك٩ هو نفس الحياة في المعاطس
وجميع الأزهار تحيا وكل ما تنبت الأرض
يصير ناميًا لأنك تشرق
فهي نشوى أمامك
وجميع الماشية تطفر على أقدامها
والطيور تطير في المستنقع من الفرح
وأجنحتها التي كانت مطوية تنتشر
مرفوعة لآتون الحي تعبدًا
أنت يا خالق …١٠

ففي هذه الأناشيد نرى قوة عالمية ملهمة لم توجد من قبل، لا في الفكر المصري القديم ولا في فكر أية مملكة أخرى، فهي تشمل في مداها العالم كله، ويقول الملك: إن الاعتراف بسيادة إله الشمس العالمية كان هو كذلك أمر عالمي، وإن جميع البشر يعترفون بسلطانه. وكذلك قال الملك عنهم في لوحة الحدود العظيمة:

إن «آتون» خلقهم (لنفسه هو)
فجميع الأراضي وأهل بحر إيجة يحملون
ضرائبهم وجزيتهم فوق ظهورهم إلى الذي
أوجد حياتهم والذي بأشعته تحيا البشر
وتستنشق الهواء.

فمن الواضح أن «إخناتون» كان يريد بذلك دينًا عالميًّا، يحاول أن يحله محل القومية المصرية التي سبقته، وسارت عليها البلاد مدة عشرين قرنًا مضت.

وبجانب تلك القوة العالمية، نجد كذلك أن «إخناتون» كان متأثرًا تأثرًا عميقًا بأزلية إلهه، وكان الملك نفسه يتقبل — بسكينة واطمئنان — أنه نفسه مصيره للفناء، فنراه في باكورة حكمه في «تل العمارنة» يعلن التعليمات الدقيقة الخاصة بدفنه فيما بعد الموت، ويسجلها باستمرار فوق اللوحات التي أقامها على الحدود المصرية، ولكنه مع ذلك كان يعتمد على علاقته الوثيقة بآتون ليضمن له شيئًا من خلود إله الشمس، ومن أجل ذلك كان يحتوي لقبه الرسمي دائمًا — بعد ذكر اسمه — على النعت الآتي: «ذو الحياة الطويلة».

على أنه في بداية كل شيء قد برأ «آتون» نفسه من الوحدة الأزلية — أي إنه الخالق لكينونة نفسه — إذ نجد في إحدى لوحات١١ حدود «تل العمارنة» العظيمة أن الملك يسميه هكذا:
سوري المكون من مليون ذراع
ومذكري بالأبدية
وحجتي في إدراك الأشياء الأبدية
وهو الذي سوى نفسه بنفسه بيده هو
والذي لا يعرفه صانع.

ونجد أن الأناشيد تبدي انسجامًا مع هذه الفكرة وتميل إلى ترديد تلك الحقيقة القائلة:

بأن خلق العالم الذي يلي ذلك قد حدث
حينما كان الإله لا يزال وحيدًا (لا شيء غيره).

وتكاد الكلمات: «حينما كنت لا تزال وحيدًا (لا شيء غيرك)» تكون نداء يردد في تلك الأناشيد.

وهو الخالق العالمي الذي ذرأ كل أجناس البشر وميَّز بعضهم عن بعض في لغاتهم وألوان جلودهم، ولا تزال قوته المنشئة مستمرة تأمر بالخروج من العدم إلى الحياة حتى من البيضة الجامدة.

ولم يظهر عجب الملك من قوة إله الشمس المانحة الحياة بشكل بارز في أي مكان آخر أكثر مما نجده مذكورًا بسذاجة في تعبيره عن تلك المعجزة، التي تتمثل في أنه داخل لحاء البيضة الذي يسميه الملك «حجر البيضة» — أي إنه في هذا الحجر الذي لا حياة فيه — تجيب أصوات الحياة نداء أمر «آتون» فيخرج مخلوق حي بعد أن أنعشه النَّفَس الذي يمنحه إياه (ذلك الإله).

وتلك القوة المانحة الحياة هي مصدر الحياة والزاد الدائم، والواسطة المباشرة لها هي أشعة الشمس التي تجلب النور والحرارة إلى الناس، وهذا الإدراك المدهش لقوة الشمس بصفتها منبع كل الحياة فوق الأرض يردد باستمرار دائم؛ إذ نرى الأناشيد تميل إلى الإمعان في ذكر أن أشعة الشمس قوة عالمية عتيدة على الدوام:

أنت في السماء ولكن أشعتك فوق الأرض
أشعتك تنفذ إلى أعماق البحر الأخضر العظيم
أشعتك فوق ابنك المحبوب
ذلك الذي يجعل بأشعته الإبصار كاملًا
إن مشاهدة أشعتك هي نفس الحياة في المعاطس
وطفلك (يعني الملك) الذي ولد من أشعتك
لقد سويته (يعني الملك) من أشعة نفسك
أشعتك تحمل مليونًا من الأفراح الملكية
وحينما ترسل أشعتك فإن الأرضين
تكون في فرح
أشعتك تشمل الأرضين وحتى كل ما صنعته
وسواء أكان في السماء أم في الأرض فإن كل الأعين تشاهده دائمًا
وهو يملأ (كل الكون) بأشعته
ويجعل كل البشر يعيشون.

كما أن اعتماد مصر في حياتها على النيل بداهة جعل من المستحيل تجاهل ذلك المنبع الحيوي في عقيدة الملك «إخناتون». والواقع أنه لا شيء يكشف لنا بوضوح قيمة عقيدة «إخناتون» وميله إلى الاعتماد على العقل، أكثر من أنه محا بلا تردد طائفة الأساطير والتقاليد التي كانت محترمة، والتي كانت تقول بأن النيل هو الإله «أوزير» عدة أزمان، ثم نسب الفيضان في الحال إلى قوى طبيعية يسيطر عليها ذلك الإله الذي يعبده، وهو الذي خلق — بمثل ذلك الاهتمام — للبلاد الأخرى نيلًا آخر في السماء.

وقد تجوهل الإله «أوزير» كلية، فلم يُذكر قط في كل الوثائق الإخناتونية، بل ولا في أي قبر من قبور «تل العمارنة».

بهذه الآراء الأخيرة ينتقل تفكير «إخناتون» إلى ما وراء الإدراك المادي المحض لنشاط الشمس فوق الأرض، ويقدر مبلغ اهتمام «آتون» الأبوي بجميع المخلوقات.

وهذا التفكير هو الذي يرفع من شأن الحركة التي قام بها «إخناتون» إلى حد بعيد فوق كل ما كانت قد وصلت إليه ديانة قدماء المصريين أو ديانات الشرق بأجمعه قبل ذلك الوقت، فقد كان إله الشمس في نظر «إبور» راعيًا شفيقًا، كما تقدم ذكره فيما سبق، كما كان الناس في نظر «مريكارع» — كما سبق ذكره أيضًا — قطعانه التي من أجلها صنع الهواء والماء والطعام. ولكننا نجد أن «إخناتون» يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث يقول لإله الشمس: «أنت أب وأم لكل ما صنعت.» وهذا التعليم هو الذي مهد الطريق لكثير من التطور الذي ظهر في الديانة فيما بعد حتى إلى عصرنا الحالي.

فكان جميع العالم الحي، في نظر تلك الروح الحساسة التي كانت تدب في نفس ذلك الخيالي المصري، يملؤه شعور قوي بوجود «آتون» مع التقدير لشفقته الأبوية، فمستنقعات السوسن، بأزهارها النشوانة التي تينع بإشعاع «آتون» الأخاذ، وطيورها التي تنشر أجنحتها تعبدًا «آتون» الحي، والماشية التي تطفر فرحة في ضوء الشمس، والسمك الذي يثب في النهر مرحبًا بالنور العالمي الذي تنفذ أشعته، حتى في وسط البحر الأخضر العظيم، كل أولئك يكشف لنا عن مدى إدراك «إخناتون» لذلك الوجود العالمي للإله وسيطرته على الطبيعة، وعن إدراك باطني لذلك الوجود عند كل المخلوقات.

وهذا التقدير لتجلي قوة الله في العالم الحسي هو مثل الذي نجده بعد ذلك العهد بنحو ٧٠٠ أو ٨٠٠ سنة في المزامير العبرية، ومثل ما جاء على لسان شعراء الطبيعة بيننا منذ عصر «وردزورث» Wordsworth،١٢ ومن الظاهر أن أعمق المصادر لقوة تلك الثورة العظيمة — بالرغم من أصلها السياسي — يرجع إلى اعتمادها على التأمل في عالم الطبيعة، كما نراه في الحض على «تأمل سوسن الحقول». ولأن «إخناتون» كان رجلًا مأخوذًا بالإله، فقد انقاد عقله بحساسية وإدراك مدهشين إلى ما حوله من المظاهر المرئية الدالة على وجود الإله؛ فقد كان مأخوذًا بجمال النور الأبدي العالمي، ولذلك نرى أشعته تغمره في كل أثر صور عليه من آثاره التي بقيت لنا. واقتصر في ذلك على شخصه وعلى الملكة وأولاده؛ لأنه كان يدعي لنفسه علاقة مع إلهه لا يشاركه فيها أحد، فهو الذي يدعو ربه بقوله:
ليت عينيَّ تَقرَّان بمشاهدته يوميًّا
حينما يشرق في بيت «آتون» هذا ويملؤه
هو بأشعته هذه، هذا الجميل في حبه
ويرسلها علي في حياة راضية أبد الآبدين.
ويمرح الملك في ذلك النور، الذي وحَّده أكثر من مرة مع الحب، كما هو الحال هنا، أو مع الجمال باعتباره البرهان الظاهر الدال على وجود الإله، وذلك بنشوة قل أن يكون لها نظير، وفرح يبلغ حد الوله كالذي كانت تشعر به روح كروح «رَسْكِن»١٣ عندما كان ينعم النظر في النور، فقد وصف «رسكن» النور وهو يسطع فوق المناظر الطبيعية الجميلة، قال:
النور المتنفس الحي المبتهج
الذي يشعر ويتسلم ويفرح ويعمل
ويختار شيئًا وينبذ آخر
ويبحث ويجد ويفقد ثانية
متنقلًا من صخرة إلى صخرة
ومن ورقة شجر إلى ورقة
ومن موجة إلى موجة
متوهجًا أو بارقًا أو متلألئًا
بحسب ما يصيب أو (كما في أقدس مظاهره) يكون ممتصًّا ساترًا لكل
شيء في كمال سكونه العميق
وعندئذ نراه يفقد ثانية في حيرة وشك وظلمة
أو يُمحى ويختفي واقعًا في حبائل الضباب الجارف
أو يذوب في الهواء مكتئبًا
ولكنه — سواء أكان متأججًا
أما خافتًا، لامعًا أم ساكنًا
هو النور الحي، الذي يتنفس في أعمق سكونه
وهو النور الذي ينام ولكنه لا يموت أبدًا.
فنجد في هذا الوصف الافتنان الحديث ببهجة النور، وهو الإنجيل الحقيقي لجمال النور، الذي كان أول مبشر به هو ذلك الخيالي الوحيد «إخناتون» الذي عاش في خلال القرن الرابع عشر ق.م. وقد كان من الجائز كذلك في نظر «إخناتون» أن النور ينام، كما يتضح من قوله: «يذهب خالق الأرض ليستريح في أفقه.» غير أنه كان (في نظره كما كان في نظر «رسكن»)١٤ «ينام ولكن لا يموت قط.»

وقد نجح الأستاذ «زيته» في ترجمة فقرة مهشمة في الأنشودة الكبرى فأظهر معناها بأنها بالرغم من أن الظلمة قد خيمت والناس قد نامت فإن «إخناتون» يمكنه أن يشعر به، حيث يقول: «ومع ذلك فإنك لا تزال في قلبي.»

فتلك الناحية من حركة «إخناتون» تدل إذن على أنها إنجيل الجمال والرأفة في نظام الطبيعة، وإدراك لرسالة الطبيعة إلى روح الإنسان، مما جعلها تعتبر أقدم النهضات التي نسميها «الرجوع إلى الطبيعة»، وهي التي ظهرت في إنتاج أمثال الفنانين «ملت» Millet و«بربيزون» Barbizon، أو في آراء «وردزورث» Wordsworth وأخلافه، فالرسامون في ذلك الوقت كانوا يصورون حياة المستنقعات البرية بروح جديدة تختلف عن روح السرور الهادئ الذي صور به رسامو «مصاطب الأهرام»، تلك الصور الهادئة التي تمثل نزهات الأشراف في حقول البردي، مما تتحلى به جدران مزارات قبورهم بالجبانة المنفية الكائنة «بسقارة».

وأما الصور التي رسمت فوق الجص وتزين رقعة قاعة قصر «إخناتون» ذات الأعمدة «بتل العمارنة»، فمفعمة بروح مرح جديدة تسود الحياة، وتشعرنا عند رؤيتها بشيء من العاطفة القوية التي أنارت يد الفنان، وهو يرى بعيني ذهنه الثور الوحشي يقفز في أدغال البردي ضاربًا برأسه نحو الطيور الهلوعة المشقشقة فوق يراع المستنقع كأنها تؤنب ذلك الطفيلي الفظ الذي يُنزل الضرر بأوكارها.

ولكن مما يؤسفنا أشد الأسف أن تلك النقوش الفاخرة التي كانت تتألق فيها الحياة والحركة، والتي طالما تمتعت بهما أعين الناظرين في عصرنا الحالي «بتل العمارنة»، قد دمرت إلى الأبد بأيدي أولئك المخربين الأحداث من أهالي القرى المجاورة لبلدة «تل العمارنة».

وهذه الروح الجديدة — في عصر إخناتون — التي استمدت إلهامها من جمال الطبيعة وفيضها، كانت كذلك ذات حساسية شديدة لحقيقة الحياة الإنسانية والعلاقات البشرية، دون تأثر بشيء من العُرف أو التقاليد؛ إذ مثلت بدون تكلف أو تحفظ علاقات «إخناتون» الطبيعية البهيجة بأسرته، وظهر ذلك حتى فوق الآثار العامة، فقد عُثر على تمثال صغير غير تام الصنع في مصنع أحد المثَّالين الملكيين «بتل العمارنة»، لم يقتصر فيه صانعه على تمثيل الملك جالسًا وابنته الصغيرة فوق حجره وهو يضمها كما يضم الأب الملكي أميرة صغيرة، بل مثَّل الفرعون وهو يقبِّل ابنته الصغيرة كما يفعل ذلك أي والد معتاد. وليس من الصعب على الإنسان أن يتصور الحنق والهلع اللذين أثارتهما مثل تلك الصورة الملكية في شعور طائفة المحافظين على التقاليد في عصر «إخناتون»، وهم أولئك الأشراف من رجال التقاليد في البلاط الملكي الذين يرون وجوب تصوير الفرعون كما جرى تصويره من ألفي سنة في هيئة حضرة سامية جالسة في جلال جامد؛ أي في صورة شخصية رزينة مقدسة لا يشوبها أي مظهر من مظاهر المشاعر البشرية أو جهات الضعف الإنسانية. وقد بقي محفوظًا لنا للآن ذلك الكرسي الجميل الذي جيء به من قصر «تل العمارنة» وأودع في مقبرة «توت عنخ آمون»، وهو مزين بمنظر يظهر فيه الملك الشاب جالسًا في استرخاء بحالة تدل على التبسط وعدم التكلف؛ إذ نشاهد إحدى ذراعيه ملقى بها في استهتار فوق ظهر كرسيه، وأمامه الملكة الشابة الجميلة واقفة وفي يدها إناء صغير من العطور تصب منه برشاقة أنيقة بضع نقط من الطِّيب فوق ملابس زوجها الملك. ونجد ها هنا لأول مرة في تاريخ الفن منظرًا موضوعه العلاقات الإنسانية، اتخذ فيه الفن المعبِّر الحياة الإنسانية موضعًا لبحثه. وهذان مَثَلان فقط من بين الأمثلة العديدة التي يمكن ذكرها للاستدلال على شخصية «إخناتون» القوية، واستعداده لطرح قيود التقاليد بغير أدنى تردد في سبيل تأسيس عالم من الأشياء على حقيقتها الفطرية السليمة.

ولذلك نرى من المهم أن نلاحظ أن «إخناتون» كان رسولًا لكلٍّ من عالمَي الطبيعة والحياة الإنسانية، فكان مَثَله في ذلك مثل «عيسى» استقى دروسه من سوسن الحقل وطيور الهواء وسحب السماء من جهة، ومن المجتمع الإنساني الذي يحيط به من جهة أخرى، كما يتمثل في مثل قصة «الابن المبذر»١٥ أو «الطيب السامري»١٦ أو «المرأة التي أضاعت قطعة نقودها».١٧ وعلى ذلك النمط استقى ذلك الرسول المصري القديم الثائر تعاليمه من التأمل في مشاهد عالمَي الطبيعة والحياة الإنسانية معًا.
ومع أن الفن المعبر عن تلك الحركة الثورية التي كان زمامها في يد «إخناتون» قد وجد مرتعًا جديدًا في حياة الإنسانية، فقد كان هناك شيء كثير لم يكن في مقدور «إخناتون» أن يتجاهله من التجاريب المصرية عن المجتمع البشري، فقد قبل «إخناتون» عن طيب خاطر المذهب الشمسي الموروث الذي ينطوي على نظام خلقي عظيم، وإذا كنا قد خصصنا في هذا المختصر التاريخي للأخلاق عند قدماء المصريين جزءًا لا بأس به عن «عقيدة التوحيد» الإخناتونية الثورية، فما ذلك إلا لأن تلك الحركة التوحيدية هي ذروة التقدير القديم للنظام الخلقي الذي نودي به على لسان المفكرين المصريين القدماء الذين عاشوا في عهد الأهرام وأسسوا مملكة عظيمة من القيم الخلقية العالمية التي تتمثل في تلك الكلمة الشاملة الجامعة «ماعت» (العدالة) التي أوجدها إله الشمس في «هليوبوليس»، وقد بُني هذا التوحيد الجديد على أسس ثلاثة:
  • أولها: كما رأينا، كان سياسيًّا، حتى إن اسم إله الشمس الجديد كان يوضع في الطغراء الفرعوني باعتباره شعارًا ملكيًّا مزدوجًا.
  • والثاني: اعتبار سلطان إله الشمس وسيطرته العالمية قوة طبيعية ملموسة حاضرة في كل مكان تتمثل في حرارة الشمس ونورها.
  • والثالث: كان التطور المنطقي لمذهب «هليوبوليس» الخاص بالنظام الخلقي، الذي كان أقدم من عهد «إخناتون» بنحو ألفي سنة.

بقي علينا الآن أن نفحص آخر هذه الأسس الرئيسية التي قام عليها التوحيد عند «إخناتون»، على أننا عند هذه النقطة نشعر بقلة ما لدينا من المصادر المدونة وضآلتها، وإن كانت هذه المصادر النادرة التي بقيت لنا من ذلك العصر تكشف لنا عن مدى التقدم في تفكير ذلك الملك الشاب خلال نصف الجيل الذي حكمه.

ولا يمكن الباحث أن يظن أن حركة حية نامية ذات تقدم مثل الحركة التي قام بها «إخناتون» لم تكن قد أنتجت أبحاثًا دونت فيها تعاليمه، بل إن لدينا من الدلائل ما يثبت وجود مثل تلك الأبحاث؛ ففي مقابر «تل العمارنة» التي ولع أصحابها من أشراف رجال البلاط الإخناتوني بأن يرسموا فوق جدرانها ما كانت عليه علاقاتهم مع مليكهم، نجد أنهم كانوا يشيرون باستمرار إلى ذلك المذهب الجديد، ولم يكن لديهم للتعبير عنه إلا كلمة واحدة وهي كلمة «التعليم»، وهذا التعليم منسوب للملك وحده، ولا يمكن أن يتسرب إلينا شك في أن ذلك التعليم هو الاسم العام للبيان الرسمي لمذهب «إخناتون» الذي كتب طبعًا في رسالة من نوع ما على أوراق البردي.

على أنه بعد سقوط «إخناتون» لم يترك أعداؤه حجرًا واحدًا لم يقلبوه لإزالة كل أثر باقٍ يدل على حكمه الممقوت عندهم، وقد دمروا بطبيعة الحال مخطوطات الملك هذه المدونة على البردي. وأما معلوماتنا عن تلك الحركة من ناحية العقائد الدينية فهي مستقاة بأجمعها من نُتف وقِطع وقعت لنا عرضًا، وبخاصة تلك الأناشيد التي زيَّن بها أشراف رجاله جدران مقابرهم.

وحينما نقرأ أنشودة «آتون» العظمى لأول مرة يدهشنا أن مثل هذه الأنشودة التي تعبر عن الوحي الديني، لا تشتمل إلا على إشارات قليلة عن موضوع الأخلاق والسلوك الإنساني، وهو الذي كان قد احتل مكانة بارزة — كما نعلم — بين عناصر الديانة الشمسية الهليوبوليسية التي تضرب إليها حركة «إخناتون» الدينية بوشائج قوية، ويرجع السبب في ذلك إلى أن القوة الرئيسية التي حرَّكت روح «إخناتون» كانت العاطفة.

والواقع أن ثورة «إخناتون» كانت في روحها أولًا وقبل كل شيء عاطفية بدرجة قوية، نجد هذه الحقيقة ظاهرة جلية في الأناشيد، كما نجدها كذلك بارزة جدًّا في الفن. فعندما يرسم لنا أحد فناني «تل العمارنة» صورة «إخناتون» أو أحد رعاياه وهو يتعبد، رافعًا ذراعيه تضرعًا إلى إله الشمس، فإن وسائله العاطفية في مثل تينك الذراعين المرفوعتين تبلغ في شدة جاذبيتها روعة ذراعي «إلونورا دوز» Eleonora Duse١٨ حينما تبسطهما باستعطاف لاستقبال محبوبها «أرماندو» Armando. فالذي كان يعبده «إخناتون» هو جمال إله الشمس وفيضه، وهذه العاطفة هي التي نقلتها إلينا أناشيد «تل العمارنة»؛ فهي لذلك لا تحتوي على لاهوت أو خلقيات اجتماعية. وبالرغم من ذلك فإنه من الواضح تمامًا أن «إخناتون» قد قبل قبولًا شاملًا اعتناق الخلقيات الهليوبوليسية، التي كانت قد بلغت الذروة في سموها، بل إنه في الواقع أبرز النظام الخلقي للتعاليم الشمسية القديمة في شكل أوضح مما كان عليه في أي وقت كان قبل حكم «إخناتون».

على أن علاقة حركة «إخناتون» هذه الوثيقة باللاهوت الهليوبوليسي ظاهرة في كل نواحيها؛ فقد كان توحيد السلالة الملكية بسلالة إله الشمس على يد كهنة «هليوبوليس» في متون الأهرام، وما ترتب عليه من اعتبار كل فرعون ابنًا لإله الشمس، قد نقل إلى الإله «رع» — كما ذكرنا من قبل — صفات الحكم الكريمة التي تشبَّع بها فراعنة العهد الإقطاعي؛ ففي ذلك الحين كان الفرعون قد صار «الراعي الطيب» أو «راعي الماشية الطيب». وهذه الصورة التي تنطق بعطف الملك الأبوي وحمايته لرعاياه قد نقلت إلى «رع»، وبذلك اكتسب «رع» لنفسه، بشكل مدهش، صفات إنسانية وعطفًا أبويًّا نتيجة لذلك التطور الذي حدث في تصوير الملكية في العهد الإقطاعي.

وبذلك كانت تلك القوى الاجتماعية التي أوجدت هذا المثل الأعلى للملكية، هي المؤثرات النهائية التي — بمعونة الملكية — قد زادت من سلطان «رع» وأكسبته صبغة إنسانية، بعد أن كان مركزه قبل ذلك سياسيًّا لا يخرج عن كونه فكرة آلية مهملة، فكأن هذه الصفة الإنسانية التي كسبها «رع» كانت قريبة من التي كان ينشدها «أوزير» نفسه.

وكانت التعاليم الإخناتونية منجذبة بكليتها نحو هذا الميل الذي ينعطف إليه المذهب الشمسي؛ إذ قد عثرنا على أنشودة للشمس من عهد والد «إخناتون» سمِّي فيها إله الشمس «الراعي الشجاع الذي رعى قطعانه»، وهذه إشارة تربط بوضوح مذهب «آتون» بالحركة الاجتماعية الخلقية التي ظهرت في العهد الإقطاعي.

وحينما نعيد إلى ذاكرتنا الآن الأصل الهليوبوليسي لماعت (الحق، الصدق، العدالة) التي صارت تمثل في إلهة، هي بنت إله الشمس، يجب أن نلاحظ ما جاء في كتاب الموتى من أن جماعة الآلهة الذين يجلسون في قاعة «ماعت» لا يوجد بأجسامهم إثم ولا بهتان، وأنهم يعيشون على الصدق «ماعت»، وهناك يؤكد الميت براءته لأولئك الآلهة بقوله: «إني أعيش على الصدق وأتزود من صدق (أو عدالة) قلبي.»

فهذا المذهب الشمسي الذي كان يشد أزره أولئك الآلهة في «هليوبوليس» قد اعتنقه الآن «إخناتون» بجوارحه، حتى إنه كان على الدوام يذيل اسمه الملكي الرسمي في كل آثار الدولة العظيمة بهذه الكلمات: «العائش على الصدق (ماعت)»، وهذا النعت الهام الذي أُلحق باسم «إخناتون» جعله الممثل الرسمي والمعاضد للنظام الخلقي القومي العظيم، الذي تصوره كهنة المذهب الشمسي قديمًا في «هليوبوليس» في عهد يرجع تاريخه إلى عصر الأهرام، وألبسه المفكرون الاجتماعيون والرسل في العهد الإقطاعي المصري أهمية خلقية فاقت ما كان عليه في أي زمن من قبل. فإذا أعدنا إلى ذاكرتنا ما كان يدعيه «إخناتون» من التسلط على سائر العالم بلا برهان، ظهر لنا أن ما كان يرمي إليه من وراء إضافته تلك الكلمات إلى اسمه الملكي إنما هو امتداد سلطان النظام الخلقي القديم القومي حتى يصير نظامًا مسيطرًا على سائر العالم الدولي العظيم الذي كان هو سيده إذ ذاك.

وبذلك نجد أن سيطرة مملكة الشمس القديمة للقيم الخلقية، وقد امتدت إلى حدودها العالمية المنطقية، وأن «التوحيد» الذي كان منطويًا في ثنايا تعليم كهنة هليوبوليس، قد نطق بهما «إخناتون» نطقًا لا إبهام فيه ولا خفاء.

وتمشيًا مع هذه الحقيقة قد سمى «إخناتون» عاصمة ملكه الجديدة في تل العمارنة «مقر الصدق (ماعت)»، كما جاء في الأنشودة القصيرة، وقد كان أتباعه على علم تام باعتقاده المتين في «ماعت»؛ ولذلك كان رجال البلاط الملكي يعظِّمون «الصدق» كثيرًا؛ إذ يقول أحد أعلام أعوان الملك، وهو «آي» الذي قام بخلع الملك «توت عنخ آمون» فيما بعد عن عرشه:

إنه (يعني الملك) أحل الصدق في جسمي
وإن الذي أمقته هو الكذب
وإني أعلم أن «وان رع» (يعني إخناتون) يمرح
فيه (يعني الصدق).

ثم يؤكد نفس هذا الرجل أن إله الشمس: «قلبه مرتاح للصدق وأن الذي يلعنه هو الكذب.»

كما يذكر لنا موظف آخر فوق جدران قبره في «تل العمارنة»:

سأتكلم لجلالته (لأني) أعلم أنه يعيش فيه (أي في الصدق)
وإني لا أفعل ما يكرهه جلالته؛ لأن الذي أمقته
هو حلول الكذب في جسمي
ولقد قررت الصدق لجلالته؛ لأني أعرف أنه يعيش فيه
إنك «رع» والد الصدق …
وإني لم آخذ رشوة للكذب
كما أني لم أقص الصدق لأجل الرجل العسوف.

ويجب أن نذكر هنا مرة ثانية — كدليل هام على تفاني «إخناتون» في الصدق — أنه لم يقصر فضيلة الصدق على السلوك الشخصي فحسب، بل أدخله كذلك في ميدان الفن، حيث صارت له فيه نتائج ذات آثار بارزة في التاريخ.

وعلى ذلك كان «رع» لا يزال في ذلك الانقلاب الذي قام به «إخناتون» المنشئ المعاضد للصدق أو الحق (ماعت)؛ أي لذلك النظام الخلقي والإداري كما كان الحال منذ أكثر من ألفي سنة مضت. وإذا كنا لم نسمع عن حساب الآخرة في مقابر «تل العمارنة»، فمن الواضح أن ذلك إنما يرجع إلى نبذ سحابة الآلهة وأنصاف الآلهة وعلى رأسهم «أوزير»، ممن كانوا يؤلفون هيئة المحاكمة في حساب الآخرة بشكلها الموضح في كتاب الموتى. فأولئك الآلهة قد بادوا الآن، واختفى — على ما يظهر — منظر المحاكمة التمثيلي باختفائهم، وإن كان من الواضح أن المستلزمات الخلقية في المذهب الشمسي — الذي نشأت فيه فكرة المحاكمة في الآخرة وانتشرت — لم تنتهِ المطالبة بها في التعاليم الإخناتونية ولم تفتر.

وكذلك الحملة التي قام بها الكهنة على عالم الأخلاق بالعوامل السحرية الآلية لضمان براءة الميت فيما بعد الموت، فقد أقصاها «إخناتون» بداهة عن تعاليمه، فصارت الجعل القلبية (الجعارين)، التي كانت مألوفة من قبل، لا يُنقش فوقها التعاويذ السحرية لإخماد وحي «الضمير» عند المتهم، بل صارت آنئذ ينقش فوقها أدعية بسيطة موجهة إلى «آتون» طلبًا لحياة طويلة وعطف وطعام. وما ذكرناه عن «الجعل» (الجعارين) ينطبق تمامًا على الدمى (يوشبتي)، التي هي تماثيل صغيرة كان الغرض منها القيام بالأعمال بدلًا من الميت إذا طُلب لذلك فيما بعد الموت في الحياة الآخرة.

وإذا فكرنا مليًّا فيما ذُكر نجد أن أمثال تلك التغييرات الأساسية تبسط أمامنا عظم المد الجارف، من الفكر والعادات والتقاليد الموروثة عن الأقدمين، الذي تحول عن مجراه على يد ذلك الملك الشاب الذي كان يقود ذلك الانقلاب، وأننا إنما نبدأ في تقدير قوة شخصية «إخناتون» العظيمة عندما ندرك هذه الناحية من حركته الدينية إدراكًا واضحًا؛ فقد كانت الوثائق الدينية قبل عهده تنسب عادة إلى الملوك القدامى والحكماء الأولين، وكانت قوة أية عقيدة ترتكز بوجه خاص على ما يعزى إليها من الأقدمية الساحقة وعلى قدسية العادة العريقة في القدم. وقد كان معظم تاريخ العالم حتى عهد «إخناتون» عبارة عن سير الحوادث بمجرد سطوة التقليد الذي كان سلطانه لا يعارض، وليس لدينا استثناء بارز في هذا المجال إلا ذلك الطبيب النطاسي والمهندس العظيم «إمحتب» الذي أدخل على فن العمارة البناء بالأحجار فأقام أول مبنى من الحجر، وهو ذلك القبر الهرمي الشكل الذي يرجع تاريخه إلى القرن الثلاثين قبل الميلاد، وفيما عدا هذه الشخصية من المصريين الأقدمين لم يكن الناس سوى نقط من الماء في تيار الحياة الجارف العظيم.

فإذا استثنينا «إمحتب» هذا كان «إخناتون» أول شخصية مستقلة ظهرت في التاريخ، فإنه قد أحرز مكانته السامية بنفاذ بصيرته وحسن تدبيره وتفكيره العقلي، ثم نهض بنفسه علانية وقام في وجه كل التقاليد ونبذها ظهريًّا، ولم يلجأ في توطيد مذهبه الجديد إلى أية وسيلة من وسائل الأساطير والروايات العتيقة السائدة عن سلطان الآلهة، ولا إلى شيء من العادات القديمة التي اكتسبت قداسة بمر الدهور، بل اعتمد فقط على البراهين العتيدة الظاهرة الدالة بنفسها على سلطان إلهه وهي أدلة ظاهرة للعيان أمام الجميع.

وأما من جهة التقاليد، فإنه اجتهد في القضاء عليها أينما وَجد في السجلات التي يمكن الوصول إليها أي مظهر مادي للآلهة الأخرى. على أن هذه السياسة، التي كان قوامها الهدم إلى هذا الحد، كان لا بد حتمًا من أن تصادف معارضة قوية فتاكة، وسنفحص الآن بعض عوامل تلك المعارضة.

١  يشير بذلك إلى نظرية «نيوتون» وجاذبية الأرض.
٢  أمنحتب الثالث حكم من ١٤١١–١٣٧٥ق.م.
٣  انظر الشكل ١٧.
٤  يلاحظ بعض التغييرات في ترجمة هذه الأنشودة عند مقارنتها بالترجمة التي دونها المؤلف في كتابه «تاريخ مصر»، ويرجع السبب في ذلك لقراءة جديدة لبضعة تغييرات في نسخة «ديفز» التي راجعها مراجعة دقيقة (Rock Tombs of ElAmarna, vol. Vl, Pl. Xxvll, London). هذا إلى بحوث جديدة عملت في هذه الوثيقة، فالترجمة التي عملها الأستاذ «زيته» قد أضافت بعض تراجم جديدة لقطع قد أخذت بالكثير منها، انظر H. Schafer, Amarna in Rel und Kunst, P. 63–70, (Leipzig, 1931). على أن تقسيم القصيدة إلى مقطوعات لا يوجد في الأصل المصري ولكنا اتبعناه هنا للإيضاح، كما وضعنا عناوين للمقطوعات لمساعدة القارئ الحديث.
٥  يوجد في الأصل المصري جناس بين كلمة «رع» وبين كلمة «نهاية».
٦  وفي القرآن الكريم: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ (سورة ق٥٠ – الآية ٣٨).
٧  لقد جمعت الأنشودة القصيرة في متن مؤلف من كل القراءات في الجزء الثاني من كتاب المؤلف De Hymnis in Solem الذي لم ينشر بعدُ، وقد أضيف إلى ذلك المنسوخات التي نقلتها بنفسي، وكذلك قد جمع «دافيز» متنًا مركبًا من نقوش خمس مقابر في كتابه (Amarna, Vol. IV, Pls XXXII)، والترجمة التي أوردناها هنا مستقاة من كلا المصدرين.
٨  كان البنبن حجرًا هرمي الشكل مثل الهرم الصغير الذي يتوج المسلة، وقد كان هذا الحجر يعتبر في غاية القداسة، وكان في الأصل يحتل مكانة ممتازة في المعبد أو في بيت معبد الشمس الذي في «هليوبوليس»، وهذه الفقرة تدل على أن «إخناتون» قد أدخل في معبد «تل العمارنة» بنبن مماثلًا للذي كان في «عين شمس» (هليوبوليس)
٩  وفي رواية أخرى «أن النفس يدخل في المعاطس عندما تظهر نفسك لهم.»
١٠  بقية هذا السطر قد فقدت، ولم يصل إلى هذا الحد من الخمسة المتون لهذه الأنشودة إلا متن واحد وتجده كذلك قد انقطع عند هذه النقطة.
١١  هذه لوحات أقامها «إخناتون» على حدود مدينته «أخيتاتون» (تل العمارنة).
١٢  «وردزورث» شاعر إنجليزي (١٧٧٠–١٨٥٠)، وهو مشهور بأشعاره في وصف الطبيعة.
١٣  هو «جون رسكن» الكاتب الإنجليزي الشهير (١٨١٩–١٩٠٠)، ويمتاز بنقده وطول باعه في الكتابة عن الفن.
١٤  انظر: Ruskin, Modern Painters, Vol, I, P. 250 (New York 1873).
١٥  ذكرت قصة الابن المبذر في إنجيل لوقا (الإصحاح ١٥: ١١–٣٢) وتتلخص في أن رجلًا غنيًّا كان له ولدان أحدهما مستقيم الحال والثاني جامح، وقد استولى الثاني على ما يستحقه من المال وترك بيت والده ولم يلبث أن أضاع كل ما يملكه في الفساد، ولم يكن لديه في النهاية ما يقتات به، غير أنه قدم وعاد إلى بيت والده وطلب إليه أن يكون خادمًا عنده؛ لأنه لا يستحق أن يكون ابنه، ولكن الأب بدوره فرح لندم ولده وعودته إلى بيته فأقام له وليمة فرحًا به، أما الابن الطيب فإنه غضب من تصرف والده ولكن والده أجابه قائلًا: يا بني إنك معي وكل ما أملك هو لك، ومن الصواب أن تفرح وتسر؛ لأن أخاك هذا كان ميتًا وعاد إلى الحياة ثانية وكان قد فُقد ثم وُجد.
١٦  أما السامري الطيب فقد ورد ذكره كذلك في إنجيل لوقا (إصحاح ١٠: ٣٠–٣٥) وذلك أن رجلًا كان مسافرًا من «أورشليم» إلى «أريحا» فهاجمه اللصوص وسرقوا متاعه وتركوه مشرفًا على الموت على قارعة الطريق، وقد مر بالرجل الجريح قسيس ولكنه لم يساعده، ومر به كذلك «لاوي» ولم يأخذ بيده، ولكن مر به في النهاية سامري فأشفق عليه عندما رآه، وضمد جراحه وحمله على حماره إلى أن أتى به إلى فندق واعتنى به، وفي الغد أعطى صاحب الفندق دينارين وقال له: اعتنِ به ومهما أنفقت أكثر فعند رجوعي أوفيك حقك.
١٧  وقصة المرأة التي أضاعت قطعة نقودها كذلك مذكورة في إنجيل لوقا (١٥: ٨-٩) وذلك أن امرأة كانت تملك عشر قطع من الفضة ففقدت واحدة منها، وبدلًا من إهمالها فإنها أضاءت شمعة وكنست كل البيت بمكنستها وبحثت بعناية حتى عثرت على قطعة النقود، وعندئذ نادت كل أصدقائها وجيرانها قائلة لهم: افرحوا معي؛ لأني عثرت على قطعة النقود التي كنت قد فقدتها.
١٨  «إلونورا دوز» ممثلة ذائعة الصيت في الروايات المحزنة، وهي فرنسية الأصل عاشت في أواخر القرن التاسع عشر م، وقد كانت مشهورة على وجه خاص بعمق عاطفتها والإبداع الذي كانت تمثل به أدوارها العاطفية، أما «أرماندو» فهو بطل في إحدى الروايات التي جعلت «إلونورا دوز» ذات شهرة عالمية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤