الفصل الرابع

العقيدة الشمسية ومكافحة الموت

لقد كنا أثناء تعقبنا لظهور أقدم الآلهة المصرية نلاحظ عهودًا من التقدم البشري قبل العصر التاريخي في وادي النيل، فرأينا أن دنيا الطبيعة قد تركت أثرها تدريجًا في عقول أقدم سكان وادي النيل، فكان نور الشمس والخضرة النباتية مظهرين طبيعيين بارزين أثَّرا باستمرار على أفكار أقدم مصري وحياته. ورأينا أن ذلك المصري صوَّر هاتين القوتين الطبيعيتين الخفيتين في صورة إلهين عظيمين، ونذكر أن هذين الإلهين كانا في بادئ أمرهما مجرد قوتين طبيعيتين، واستمرا يعملان عملهما في دنيا الطبيعة بهذه الصفة فقط على الوجه الأغلب. ورأينا كيف أن إله الشمس انتقل تدريجًا إلى عالم الشئون الاجتماعية المنظمة، وسنلاحظ فيما بعد كيف أن إله الخضرة١ أيضًا سار على نفس المنهاج الذي سار عليه إله الشمس، فكان على كلٍّ من هذين الإلهين أن يدخل مع زميله في علاقات أخرى بعد أن اشتركا في ميدان عمل واحد.

وصارت الدنيا التي أصبحا مندمجَيْن فيها معًا دنيا جديدة عظيمة؛ فصياد عصر ما قبل التاريخ، الذي كان يكتفي في التعبير عن عمله بآلة حفر مصنوعة من الظران ينحت بها خطوطًا منتظمة على مقبض عاج لسكين حجرية لتمثل حيوانات الصيد، قد انتقل بعد مرور خمسين جيلًا من التقدم الاجتماعي، إلى مهندس ملكي يستخدم جماعات عظيمة من أصحاب الحرف المنظمين في محاجر ضفاف النيل، فاستخرجوا منها أعمدة فخمة منسقة ومعابد للآلهة العظيمة، وأسوارًا للأهرام الضخمة التي تعتبر أعظم مقابر أقامتها يد الإنسان قاطبة. والآن نتساءل: ماذا كان من أمر إلهَي الطبيعة القديمَيْن في مثل تلك الدنيا التي وصفناها؟ إن تلك الدنيا لم يقتصر تغيرها العظيم على مظهرها الخارجي ومجرد أساليبها المادية التي تدل على تقدم أنظمتها الاجتماعية والحكومية، بل تعدى رقيها إلى نمو حياة الإنسان الباطنة، فإن هذه الحياة كانت تسير بلا ريب بخطى متساوية مع تلك الحقائق الظاهرة التي لم تدون. وظهور أقدم بناء عُرف من الحجر وأول مبنى ذي عمد لا يعد فقط برهانًا على تقدم كفاءة حياة الجماعة الإنسانية المنظمة، بل يعد كذلك دليلًا على ظهور أفق جديد للشعور البشري يزداد اتساعه باطراد، فكان بنَّاءو هذا العصر أول شعراء؛ إذ مدوا أيديهم بين خمائل النخيل ومستنقعات النيل وقطفوا منها أزهار البشنين والبردي وسعف النخيل، ونسقوا بها أروقة ذات عمد على طول مساحات المعابد، فهم بذلك يعدون أول الفنانين الذين حملوا إلى ردهات المعابد شيئًا مقتبسًا من جمال العالم الخارجي المنير اليانع، وبذلك صارت المعابد تجمع بين نور الشمس والخضرة لتجميل أشكالها من الخارج، كما أثرت هاتان القوتان في عقائد ذلك العصر الدينية من الداخل.

ولما بدأت عظمة الحكومة تظهر في أشكال العمارة ذات الأبهة والبهاء كان معظم تلك الأشكال دينية، وإن المظهر الفخم للديانة المنظمة يعتبر مقياسًا للأثر البالغ الذي أحدثته الحكومة الجديدة في الديانة، وإن تنظيم الديانة رسميًّا بتلك الكيفية الطريفة جعل المؤثرات الاجتماعية بطيئة الأثر في الديانة، ولكن تلك المظاهر الدينية الحكومية كانت صالحة لتبادل التأثيرات بين رجال جماعة من الكهنة أو رجال طوائف المعابد وجماعة أخرى. وعلى ذلك نجد أن الاعتقادات المحلية أخذ بعضها يندمج في البعض، وقد تبينت لنا هذه الظاهرة في حالة إله الشمس ببلدة عين شمس، والإله الصانع «بتاح» ببلدة «منف»، غير أن حقيقة هذا الاندماج تظهر بشكل أوضح في حالة نور الشمس والخضرة؛ أي حالة إله الشمس و«أوزير».

وإن حقيقة الموت قد تركت تأثيرًا عظيمًا في الديانة المصرية، كما أنها أثرت تأثيرًا عميقًا في كلٍّ من اللاهوت الشمسي، واللاهوت الأوزيري.

وإذا بحثنا الاعتقادات المصرية الجنازية القديمة بوجه خاص أمكننا أن ندرك ذلك الامتزاج الذي حدث بين المذهب الشمسي والمذهب الأوزيري، على أنه لن يكون في وسعنا فهم امتزاج هذين المذهبين إلا إذا وجَّهنا نظرنا قليلًا إلى تصورات المصري للحياة بعد الموت، وإلى التقاليد المدهشة التي تولَّدت عن تلك التصورات.

والواقع أنه لا يوجد شعب قديم أو حديث بين شعوب العالم احتلت في نفسه فكرة الحياة بعد الموت المكانة العظيمة التي احتلتها في نفس الشعب المصري القديم. ومن الجائز أن ذلك الاعتقاد المُلِح في الحياة بعد الموت كان يعضده كثيرًا ويغذيه تلك الحقيقة المعروفة عن تربة مصر ومناخها؛ وهي أنها تحفظ الجسم الإنساني بعد الموت من البلى إلى درجة لا تتوافر في أي بقعة أخرى من بقاع العالم. فعندما كنت أشتغل بنقل نقوش بلاد النوبة منذ سنين طويلة (مضت) كانت الأحوال كثيرًا ما تضطرني إلى المرور بطرف جبَّانة فيها قدما إنسان ميت مدفون في حفرة قريبة الغور، وقد حسر عن هاتين القدمين وصارتا ممتدتين في عرض الطريق الذي كنت أمر به، والواقع أنهما كانتا تشبهان كل الشبه الأقدام الخشنة للعمال الذين كانوا يعملون معنا في حفائرنا في تلك الجهة، ولست أعرف عمر ذلك القبر، ولكن كل إنسان خبير بجبانات مصر قديمها وحديثها لا بد أنه عثر على جثث بشرية كاملة (أو على أجزاء منها) قديمة جدًّا، ولكنها باقية محفوظة أحيانًا إلى درجة تجعلها تشبه تمامًا أجسام البشر الأحياء. ولا بد أن مثل تلك المشاهدات حصلت كثيرًا للمصريين الأقدمين أيضًا. ولعمري كان مَثَلُ المصري في ذلك كمثل «هَمْلت»٢ وهو يحمل في يده جمجمة «يورك»، فلا بد أنه فكر من أعماق نفسه عندما تأمل هؤلاء الأشهاد الصامتين.

ولا بد أن حالة الحفظ التامة المدهشة للأجساد البشرية التي وجد المصري عليها أجداده الذين كان يكشف عنهم عندما يقوم بحفر قبر جديد في ذاك الوقت، قد زادت اعتقاده في بقاء تلك الجثث البشرية إلى الأبد، وأيقظت في خياله صورًا عظيمة في تفاصيلها عن عالم الأموات الذين رحلوا إلى الآخرة وعن حياتهم فيها.

وقد بدأ أقدم تلك الاعتقادات وأبسطها في زمن سحيق في القدم، حتى إنه لم يبقَ لها ذكر بين الآثار التي وصلت إلينا. على أن جبانات سكان وادي النيل فيما قبل التاريخ، وهي التي كشفت عنها وقامت فيها الحفائر منذ سنة ١٨٩٤ ميلادية، تدل على أن الاعتقاد بالحياة الآخرة بعد الموت قد وصل إلى مرحلة متقدمة من الرقي، وقد حفرت آلاف من هذه القبور الواقعة على طول حافة وادي النيل الخصب مما يرجع تاريخ أقدمها وجودًا بلا شك إلى الألف الخامسة قبل الميلاد، فكان يوجد الجسم البشري فيها راقدًا في قاع حفرة لا يزيد عمقها على بضع أقدام وركبتاه مطويتان تجاه ذقنه، ويحيط به متاع ضئيل من أواني الفخار وآلات الظران والأسلحة الحجرية والأدوات المنزلية الأخرى، فضلًا عن بعض الحلي الساذجة، وكان المفروض من وضع كل هذه الأشياء بجانبه هو بطبيعة الحال إعداد المتوفى لحياة أخرى مقبلة بعد الموت.

والمفروض أنه قد مضى ما لا يقل عن ١٥٠٠ سنة من عهد المعتقدات القديمة الممثلة في أقدم هذه المدافن إلى وقت ظهور أقدم الوثائق المدونة التي وصلت إلينا، وهي الوثائق التي اعتمدنا عليها في أبحاثنا السابقة: تلك الوثائق التي تكشف لنا عن عقيدة دينية نامية لشعب يسمو بسرعة نحو حضارة مادية راقية؛ إذ يمكننا بما لدينا من المصادر المدونة أن نتتبع طريق هذا الرقي أثناء عهد الاتحاد الثاني الذي ابتدأ حوالي سنة ٣٠٠٠ق.م.

وإذا ذاك نجد أمامنا نتائج معقدة جاءت من اختلاط معتقدات كانت في أصلها مميزة، ثم اندمج بعضها بالبعض الآخر وتُدوولت بذلك الشكل عدة قرون حتى صارت تشبه حزمة خيوط معقدة، مما يجعل حلها الآن صعبًا جدًّا، بل يكاد يكون مستحيلًا.

ويزيد تلك الصعوبات تعقيدًا الصورة التي كان يتصورها المصري القديم لطبيعة الإنسان، فإنه كان يتصور أن شخصية الإنسان الحقيقية في الحياة تحتوي على الجسم المادي الظاهر وعلى الفهم الباطن، ومقره في اعتقاده هو «القلب» أو «الجوف»؛ وهما التعبيران الرئيسيان عن «العقل». وتحتوي هذه الشخصية أيضًا على الجوهر الحيوي المحرك للجسم، ويقصد به «النفس» كما يلاحَظ عند الكثير من الشعوب الأخرى. غير أن هذا الجوهر الحيوي لم يكن مميزًا بشكل ظاهر عن «العقل»، وكان الاثنان يمثَّلان معًا في رمز واحد هو طائر له رأس إنسان وذراعاه، ونجد مصورًا في المناظر التي على القبور وعلى توابيت الموتى يرفرف على المومية، ويمد لأنفها بإحدى يديه صورة شراع منشور، وهذا الشراع هو الرمز المصري القديم «للهواء» أو «للنفس»، ويحمل في يده الأخرى علامة هيروغليفية ترمز للحياة،٣ والمصريون يسمون هذا الطائر الصغير الممثل برأس إنسان وجسم طائر «با».

ومما يدعو للدهشة أن المؤرخين فاتتهم الحقيقة الهامة؛ وهي أن «البا» تظهر للمرة الأولى في الوجود عند موت الإنسان، فقد التجأ القوم إلى كل أنواع الحيل والاحتفالات الدينية ليصبح المتوفى «با» عند موته.

ولما كان من الواضح أن المصري القديم مثلنا نحن معشر الأحياء لم يكن في مقدوره أن ينتزع شخصًا آخر من جسمه، وذلك باعتبار الجسم وسيلة للإحساس، فإن المصريين لجئوا إلى استعمال حيل متقنة لتزويد الجسم الميت بكل وسائل الإحساس المختلفة بعد أن تنفصل عنه الروح (با) التي تضم كل هذه الإحساسات. وكان المصري القديم يعتقد أن صاحبه المتوفى موجود في داخل جسمه، أو على أقل تقدير لا يزال يملك جسمًا له مظهره الخارجي كما يملك كلٌّ منا جسمه، هذا إذا حاولنا أن نصور المتوفى بصورة ما في نظر المصري القديم، ومن ثم كان يظهر المتوفى عندما كان يمثَّل في الرسوم الجنازية كما كان يظهر في الحياة الدنيا. وكانت رغبة أقارب المتوفى مطابقة لهذه الأفكار؛ وهي أن يضمنوا بعث المتوفى بجسمه الذي كان عليه مرة أخرى. ومن أجل ذلك كان يقف الكاهن الجنازي مع أقارب المتوفى وأصدقائه عند قبره مجتمعين عند جسمه الهامد، ويخاطب المتوفى الراحل هكذا: «إن عظامك لن تفنى، ولحمك لن يمرض، وأعضاءك ليست بعيدة عنك.» ومهما تكن هذه الوسائل فعالة فإنها لم تكن تعتبر كافية؛ إذ كان من الضروري للجسم الهامد البعث مرة أخرى والعودة لاستعمال أعضائه وحواسه، وقد كان يتم ذلك البعث على يد إله معين Favouring God أو آلهة مقربة كالإله «حور» أو الإلهة «إزيس»، أو كان الكاهن يخاطب المتوفى مؤكدًا له أن آلهة السماء ستبعثه مرة أخرى: «إنها تعيد لك رأسك ثانية، وتجمع لك عظامك، وتضم لك أعضاءك، وتحضر قلبك لجسمك.» غير أن المتوفى — حتى عندما يُبعث بهذه الكيفية — لم يكن مالكًا لحواسه وقواه العقلية، ولم تكن لديه قوة لضبط جسمه وأعضائه واستعمالها، ولذلك كان من الضروري أن تخترع عدة حيل حتى تصير موميته الصامتة إنسانًا حيًّا قادرًا على المعيشة في الحياة الآخرة.

ولما كان المتوفى يعجز عن أن يكون «با» أو روحًا بعد الموت كان من الضروري مساعدته حتى يصير «با». وكان «أوزير» قد صار روحًا بعد موته، وذلك بعد أن تسلم من ابنه «حور» عينه التي انتزعها من محجرها «ست» أثناء الشجار الذي قام بينهما، ولكن «حور» لما استرد عينه أعطاها والده «أوزير»، فلما تسلمها الأخير صار روحًا، ومن ذلك العهد صارت العادة المألوفة أن يسمى أي قربان يقدَّم للمتوفى «عين حور»، وبتلك الكيفية صارت تُحدث تلك العين للمتوفى نفس ذلك المفعول كما حدث «لأوزير»، ولذلك يقول الكاهن: «قم لخبزك هذا الذي لا يمكن أن يجف، وجعَّتك التي لا يمكن أن تصير فاسدة؛ إذ بها تصبح روحًا.»

فكأن هذا الطعام الذي قدمه الكاهن يحتوي على القوة الخفية التي تحوِّل المتوفى إلى روح كما حدث أن حوَّلت «عينُ حور» «أوزير» روحًا.

ومن تلك الحقائق السابقة، يتضح أن المصريين قد ابتدعوا للمتوفى فلسفة نفسية ساذجة حاولوا بها أن يعيدوا إليه حياة الفرد بطرق وعوامل خارجية عن ذاته، وذلك بإشراف الأحياء؛ وبخاصة الكاهن الجنازي الذي كان يعرف الاحتفالات الدينية الضرورية للوصول إلى ذلك الغرض.

ويمكن تلخيص كل هذه النظريات في أنه بعد بعث الجسم لا بد من إعادة قوى الإنسان العقلية إليه واحدة فواحدة، ويتم حصوله عليها بوجه خاص بصيرورة المتوفى روحًا «با». وبتلك الكيفية يعود المتوفى إلى الحياة مرة أخرى وهو حائز لجميع قواه التي تساعده على المعيشة في الحياة الآخرى. فليس من الصواب إذن بعد ظهور تلك الحقيقة أن نعزو إلى قدماء المصريين الاعتقاد بخلود الروح، أو أنهم عبَّروا عن الروح بأنها لا تفنى، أو أن نتكلم عن «آراء المصري في الخلود» بعد الموت.

وعندما يبتدئ المتوفى حياة جديدة في الآخرة لا يعرفها كان يساعده في ذلك ملاك يحرسه يسمى «كا» يظهر في الوجود مصاحبًا لكل إنسان من وقت ولادته، ويرافقه في كل حياته حتى ينتقل قبله إلى عالم الآخرة. لذلك نجد مرسومًا على جدران معبد الأقصر التي مثل عليها ولادة «أمنحتب الثالث» في مناظر محفورة يرجع تاريخها إلى أواخر القرن الخامس عشر قبل الميلاد، الأمير الصغير «أمنحتب» محمولًا على ذراع إله النيل تتبعه صورة طفل آخر، وهذه الصورة التي تنطبق تمام الانطباق في شكلها الظاهري على صورة الأمير هي الكائن الذي يسميه المصريون الأقدمون «كا»، وهو نوع من الملائكة سام كان الغرض منه على الأخص إرشاد المتوفى إلى ما قدر له في الحياة الآخرة التي يجد فيها كل متوفى من المصريين ملاكه «الكا» في انتظاره. وجدير بنا أن نلاحظ في هذا المقام أن «الكا» يحتمل أنها كانت في الأصل خاصة بالملوك فقط، فكان كل ملك يعيش في حراسة ملاكه الحارس، ثم صار هذا الامتياز الملكي بطريق التطور التدريجي حقًّا مشاعًا لكل عامة الشعب.

ولا يمكننا أن نشك في أن أسلحة ذلك الصائد الفطري وأواني طعامه وشرابه مضافًا إلى ذلك حُليه الشخصية قد وُضعت كلها في قبره قبل وجود أي ملك أو قيام أية مملكة في وادي النيل بآلاف من السنين. وقد أَخرج للناس تدريجًا عهدُ الملكية والحضارة الراقية التي كانت تصحبها عتادًا ماديًّا متقن الصنع في صورة قبر ضخم مشتمل على أثاثه الجنازي. وأقدم قبر ضخم بناه القوم كان يشبه هرمًا ناقصًا، جوانبه شديدة الانحدار — ويطلق المصريون الآن على مثل ذلك البناء لفظة «مصطبة».

وهذا القبر وليد كومة الدفن ذات الشكل المستطيل التي نراها في مدافن ما قبل التاريخ، وحوطت فيما بعد بجدار حاجز، وكان يُصنع أولًا من الأحجار الخشنة، فصار في ذلك الوقت الذي نحن بصدده يُصنع من الأحجار المنحوتة المرصوصة بعناية وإتقان. وقد صارت المصطبة منحدرة بعض الانحدار على غرار ما كانت عليه سابقتها كومة الرمل، أو الرابية التي لا تزال تشاهَد محصورة في داخل جدران المصطبة. وفي الجانب الشرقي للبناء الخارجي من المصطبة الذي كان في الغالب ذا حجم عظيم كانت توجد حجرة مستطيلة الشكل، يستحسن أن نسميها «مزارًا»، وكان يُقدم فيها القربان للمتوفى كما كانت تُؤدى فيها الاحتفالات الخاصة به؛ وذلك لأنه لم يكن في مقدور المتوفى بالرغم من بعثه من جديد إنسانًا حيًّا أن يعول نفسه في الحياة الآخرة من غير مساعدة أقاربه الأحياء. وكانت جميع تلك الاحتفالات الجنازية ترجع في معظم طقوسها إلى المذهب الأوزيري؛ لأن إله الشمس في المذهب الشمسي لم يقضِ نحبه بين الناس مثل «أوزير»، ولم يترك بعده أسرة تحزن عليه وتقيم له الاحتفالات الجنازية، فكان من الطبيعي إذن أن يُوضع المتوفى في حماية «أوزير» بصفته ابن «جب» إله الأرض.

وقد صار من المعتاد من القرن الرابع والثلاثين قبل الميلاد فصاعدًا أن يُدفن الموظفون المقربون وأشياع فرعون في الجبانة الملكية كما نشاهد ذلك في مقابر الأسرة الأولى بالعرابة المدفونة. فكان هؤلاء المذكورون يؤلفون بذلك نوعًا من البلاط الجنازي حول قبر مليكهم الذي خدموه مدة حياتهم الدنيا، وقد صار الملك بذلك مقيدًا شيئًا فشيئًا بالتزامات لمساعدة رجاله الأشراف في بناء مقابرهم، ومدهم من خزانة الدولة بما يساعد على بهاء جنائزهم وكمالها، فكان طبيب الملك المقرب يتسلم إذنًا على الخزانة والمحاجر الملكية ليعمل له «باب وهمي» عظيم فخم من الحجر الجيري الأبيض الضخم وينقل إلى مقبرته. ويقص علينا المتوفى تلك الحقائق بسرور عظيم وتفصيل مبين في نقوش قبره.

وفي نقوش أخرى نشاهد فرعون محمولًا في محفته الملكية على الطريق الصاعد من الوادي إلى هضبة الصحراء ليشرف على بناء هرمه، فيشاهد هناك مقبرة لم يكمل بناؤها بعدُ لأحد أشراف رجاله المقربين «دِبْحن» الذي ربما كان يعتمد على سنوح فرصة رضا ملكي مثل هذه تلفت نظره إلى قبره الذي لم يتم بناءه بعدُ، ويخصص الملك في الحال خمسين عاملًا يقومون بالعمل في مقبرة ذلك الشريف، ثم أمر فيما بعد المهندسين الملكيين والحجارين الذين كانوا يعملون في معبد الملك المجاور للمقبرة أن يُحضروا «لدبحن» الذي أسعده الحظ «بابين وهميين» وأحجارًا لواجهة مقبرته، وكذلك تمثالًا ليقام في قبره.

ويقص علينا أحد مشهوري الزعماء٤ في تاريخ حياته الذي كتبه بنفسه في ختام القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، كيف أنه كان كذلك صاحب حظوة فيقول: «وبعد ذلك تضرعت … إلى جلالة الملك ليأمر بجلب تابوت لي من أحجار طرة البيض [وهي محاجر ملكية بالقرب من القاهرة أخذ منها الكثير من الأحجار لأهرام الجيزة]، فأمر الملك خازن مالية الإله [خازن فرعون] أن يعبر النهر ومعه فصيلة من الجنود البحارة تحت إمرته ليحضروا لي هذا التابوت من طرة، وعاد بالحجر في سفينة كبيرة تابعة للبلاط [أي إحدى النقالات الملكية]، وأحضر مع التابوت غطاءه والباب الوهمي … [وقطعًا أخرى عدة ليست أسماؤها المصرية واضحة المعنى] ومائدة قربان واحدة.»
وفي مثل تلك المناسبات التي كانت كثيرة الحدوث كان يُنتظر من الملك أن يقوم بتحنيط الشريف المقرب ودفنه من أمواله الخاصة؛ فمن ذلك أن الفرعون بعث طائفة موظفيه الجنازيين من كهنة ومحنطين لاستقبال الشريف «سبني» عند عودته من السودان حاملًا جثمان والده.٥

وبمثل ذلك أرسل الملك أحد قواده لإنقاذ جثمان شريف منكود الطالع كان قد ذُبح مع كل جنوده عن بكرة أبيهم بيد البدو عند شاطئ البحر الأحمر أثناء بناء سفينة كان يراد الرحلة بها إلى بلاد «بُنت»؛ أي ساحل الصومال، ويحتمل أن «بُنت» هذه هي أرض «أوفير» الوارد ذكرها في التوراة. ومن الواضح أن الفرعون قد رغب في إنقاذ جثمان ذلك الشريف لكي يجهزه بعناية إلى الدار الآخرة، وإن كان منقذه لم يذكر لنا شيئًا عن ذلك في نقوشه القصيرة. ويرجع السبب في اهتمام الملك بذلك كل هذا الاهتمام إلى ما كان بينه وبين أي موظف مقرب من المودة الشخصية، وقد ظهر ذلك واضحًا في حادث «وشبتاح» أحد كبار وزراء الأسرة الخامسة حوالي سنة ٢٧٠٠ق.م؛ إذ حدث أن الملك وأسرته وحاشيته كانوا ذات يوم يتفقدون مباني عمارة جديدة لا يزال العمل جاريًا فيها تحت إشراف «وشبتاح» الذي كان رئيسًا للوزراء ورئيسًا لمهندسي العمارة أيضًا، فيعجب جميع الحاضرين من المبنى، وعندئذ يلتفت الملك إلى رئيس وزارته الأمين مثنيًا عليه، ولكنه يلاحظ أن «وشبتاح» لا يعي كلمات العطف الملكي، فيصيح الملك حتى يزعج صياحه رجال حاشيته، ثم ينقل ذلك الوزير الذي أصيب بالفالج سريعًا إلى البلاط، ويطلب الملك على عجل الكهنة وكبار الأطباء لإسعافه، ويحضر الملك صندوقًا به قراطيس طبية، غير أن كل ذلك لم يُجدِ شيئًا؛ لأن الأطباء أعلنوا أن حالة الوزير موئسة. وعند ذلك ينزل بالملك الحزن ويعتزل في حجرته مصليًا «لرع»، ثم يقوم بكل الترتيبات اللازمة لدفن «وشبتاح»، ويأمر له بصنع تابوت من الأبنوس، ويأمر بتضميخ الجثة بالعطور في حضرته شخصيًّا، ثم أذن ابن ذلك الشريف المتوفى في بناء القبر الذي منحه الملك المتوفى وحبس عليه الأوقاف.

كذلك تمتع بشبه هذا العطف الملكي شريفٌ آخر كان قد أراد أن يدفن ابنه البار معه في نفس المقبرة، فيقول الابن: «لقد التمست من جلالة سيدي الملك «بيبي الثاني» عاش إلى الأبد أن يمنَّ علينا بتابوت وملابس وعطور من عطور الأعياد لأجل «زاو» [والده المتوفى].» فأمر جلالته مدير الأوقاف الملكية بإحضار تابوت من الخشب وعطور من عطور الأعياد، وزيت وملابس بما يقدر بنحو ٢٠٠ قطعة من نسيج الكتان الجيد، ومن كتان الجنوب الجميل … على أن تؤخذ كلها من البيت الأبيض [الخزانة الملكية] التابع للبلاط لأجل «زاو» هذا.

وبعد أن يُحتفل بدفن المتوفى بتلك الأبهة الملكية، ويجهز بمثل ذلك الأثاث الفاخر، تبقى مسألة: من يعوله بعد ذلك؟ لقد كان الشعور في جميع العصور — ولو نظريًّا — أن المتوفى ما كان ليجسر على وضع كل تلك المسئولية في يد الأحياء من أسرته؛ إذ كانت الأسرة تئول في النهاية إلى فرع منها تفتر عنايته بالأمر حتمًا، ثم تأخذ في الزوال حتى تختفي جملة واحدة، ومن أجل ذلك كان الشريف يقوم بعمل وصايا مدونة بعناية، وهبات يوقف دخلها كله لتموين قبره وتقديم القرابين من البخور والدهان والطعام والشراب والملابس بمقادير وفيرة وفي فترات متعددة. ومن الجائز أن يكون هذا الدخل مصدره أملاك الشريف نفسه، وقد يكون من المربوط على وظائفه السابقة ومرتباته الإضافية التي تقتضيها مرتبته في الدولة. وعلى كل حال كان يخصص من كل ذلك الدخل جزءٌ ثابت لصيانة قبر المتوفى وإقامة شعائره اليومية.

وقد شاهدنا في عدة أحوال أن الوثيقة القانونية الضامنة لتلك الأوقاف، قد نقشت على جدار مزار القبر نفسه، ومن ثم حفظت لنا حتى الآن؛ فقد خلف لنا «حبزافي» [حاكم المقاطعة وأميرها] في أسيوط عشر وثائق مدونة بإتقان على الجدار الداخلي لمزار قبره، وكان الغرض منها تخليد بيان الخدمات التي كان يرغب في استمرار إقامتها في قبره أو من أجله بوجه عام.

وكان ذلك الوقف يبلغ أحيانًا مقدارًا عظيمًا من المال بحالة مدهشة؛ ففي القرن التاسع والعشرين قبل الميلاد أوقف على قبر الأمير «نكاورع» ابن الملك «خفرع» ما لا يقل عن اثنتي عشرة بلدة من أملاكه الخاصة، وربط كل دخلها على الصرف على صيانة قبره. وفي عهد الملك «وسركاف» في منتصف القرن الثامن والعشرين ق.م، عين مديرُ قصره ثمانية من الكهنة الجنازيين لخدمة قبره، وبعد ذلك بقرنين نجد أن أميرًا من الوجه القبلي وقف على قبره محاصيل إحدى عشرة قرية وضَيْعة. وفي قبر من تلك القبور نجد أن دخل كاهن جنازي كان وحده يكفي للصرف على قبر ابنته على النمط الذي سَنَّه صاحب القبر لنفسه، يضاف إلى هذه المخصصات التي هي من موارد الشريف الخاصة ما كان يهبه الملك في كثير من الأحوال من هبات جديدة لأي شريف بعد وفاته، وبذلك كان يزيد في المخصصات التي ربطها الشريف بنفسه على قبره أثناء حياته، أو كان الملك يقوم بصرف كل المخصصات اللازمة للقبر من الدخل الملكي.

والظاهر أن هذه المخصصات فضلًا عن كونها تقي المتوفى شر مخاوف الجوع والعطش والبرد في الحياة الآخرة كان يقصد بها أكثر من أي شيء مساعدته على الاشتراك في إقامة أهم أعياد السنة، واحتفالاتها الدينية، فإن شأن المصري في ذلك كشأن أي شرقي آخر يجد السرور العظيم في الاحتفالات الدينية، فلم يرضَ أن يتخلى بعدما فارق الحياة الدنيا عن الملاذ الجميلة التي كانت تتاح له كثيرًا في مثل هذه الفرص. لذلك كان تقويم الأعياد عنده بمكان عظيم من الأهمية، فكان مستعدًّا لتخصيص دخل وفير يساعده على إقامة تلك الاحتفالات الخاصة بكل أيام التقويم الهامة في عالم الآخرة، كما كان ينفق عليها بسخاء بين أصدقائه في حياته الدنيا، بل إنه كان في الواقع ينتظر أن يشترك في الاحتفال بهذه الفرص المرحة بين أصدقائه في المعبد كما كان معتادًا فعل ذلك في حياته الدنيا، فكان يأمر تنفيذًا لذلك أن يشاد له تمثال في ردهة المعبد، وكان الملك أحيانًا يأمر حفاريه بنحت هذا التمثال وإقامته داخل المعبد؛ ليكون منه بمثابة عطف سامٍ يميز به من يشاء من أشراف رجاله العظماء.

وكذلك كان شريف عصر الأهرام ينصب في قبره أيضًا تمثالًا من الحجر أو الخشب يمثل صورته الحقيقية تمثيلًا تامًّا في حجمه الطبيعي وملونًا بالألوان الطبيعية، وكان هذا التمثال يخفى في حجرة سرية مخبوءة في أصل بناء المزار. وكثيرًا ما كان الملك يهدي أمثال هذه التماثيل لزعماء الأشراف الممتازين من رجال حكومته وبلاطه. ومن البدهي أن ذلك التمثال الذي يمثل المتوفى [وهو أقدم شيء عرف من نوعه في الفن] كان الغرض منه أن يقوم مقام المتوفى الذي ضاع جسمه، وبذلك يكون في مقدوره أن يعود إلى المعبد ليتمتع على الأقل بشبه حضور جثماني [بتقمصه هذا التمثال]، ثم يعود بنفس تلك الطريقة إلى مزار قبره حيث يحتمل أن يجد صورًا أخرى لجسمه في الحجرة السرية الملاصقة للمزار فيتقمصها.

من مثل هذه الطقوس نرى ظهور الحياة الآخرة في شكل أكثر تقدمًا وأحب إلى الناس من ذي قبل، وقت أن كانوا يتصورونها في شكل ساذج بسيط. وتدل هذه الآراء الجديدة على ظهور أو ميل نحو الاعتراف بشخصية الفرد كما يلاحظ ذلك في تلك التماثيل التي تصور هيئة صاحبها بالضبط، والتي تعد أقدم ما عُرف من نوعها. وهي تمثل لنا علية القوم المتعاظمين فقط [أي تمثل طبقة الأشراف رجالًا ونساء]، أما عامة الشعب فكانوا وقتئذ لا يزالون من غير شك يعتقدون أن موتاهم يسكنون القبر أو يعيشون في عالم الغرب المظلم؛ أي في تلك المملكة السفلية التي يحكمها الآلهة الجنازيون القدامى الذين صار زعيمهم في النهاية «أوزير». أما عظماء البلاد؛ أي الملك وبطانته على الأقل، فقد انبثق أمامهم الآن فجر مصير أسعد حالًا من مصير عامة الشعب؛ إذ كان في مقدورهم أن يسكنوا حسب رغبتهم مع إله الشمس في مملكته السماوية الفاخرة، ومن ذلك الوقت فصاعدًا نجد في القبور الملكية ما يدل على هذه الآخرة الشمسية.

وقد كان من المعقول أن الملك نفسه ينتظر أن قبره العظيم يتغلب على عوامل الدمار والفناء التي قد تصيب مقابر أشراف رجاله التي هي أقل متانة من قبره، وكذلك كان يُعنَى بتنظيم أوقافه لتبقى ثابتة أكثر من أوقاف معاصريه الذين هم أقل منه قوة. والواقع أن الهرم اعتبر في كل الأزمان أثبت شكل هندسي في البناء؛ فقد كان الفرعون الراقد تحت هذا الجبل الضخم من الأحجار المنيعة يتطلع إلى خلود جسمه وشخصيته التي كانت مرتبطة به ارتباطًا وثيقًا لا انفصام له. وقد يمتد بنا البحث إذا فحصنا أصل الهرم من جهة هندسة بنائه، ولكن من المهم أن نلاحظ في هذا المقام أن القبر الهرمي الشكل كان رمزًا شمسيًّا بالغًا حد الغاية في التقديس قد أقيم فوق جثمان الملك ليحيِّي مطلع الشمس التي كان الفرعون من سلالتها.

والواقع أن الملك كان يُدفن قديمًا تحت نفس رمز إله الشمس الذي كان منصوبًا في حجرة قدس الأقداس بمعبد «عين شمس»، وهذا الرمز الهرمي الشكل كان إله الشمس قد اعتاد أن يظهر جاثمًا فوقه في هيئة الطائر مالك الحزين (فنكس) منذ اليوم الذي خلق فيه الآلهة. لذلك لما ظهر الهرم الملكي بشكل جبل شاهق فوق ضريح الملك، وقد أشرف على المدينة الملكية التي كانت مبنية في أسفله، وعلى الوادي الممتد إلى ما بعده بعدة أميال، كان من غير شك يعد أسمى شيء يرحب بإله الشمس في كل البلاد عندما يرسل أشعته الصباحية الساطعة على قمة الهرم الوهاجة قبل أن ينشر ظلاله على مساكن الفقراء المنتشرة بأسفله ببرهة طويلة. وقد عثرنا فعلًا على قمة هرم، وهي قطعة من الجرانيت المصقول البديع هرمية الشكل ملقاة عند قاعدة هرم الملك «أمنمحات» الثالث بدهشور، وقد نقش على أحد جوانب هذا الحجر — وهو من غير شك الجانب الذي كان يواجه الشرق — رسم شمس مجنحة فوق صورة عينين نقش تحتهما هاتان الكلمتان: «جمال الشمس». فالعينان تشيران هنا بطبيعة الحال إلى فكرة المشاهدة التي تفهم من تينك الكلمتين «جمال الشمس»، ونجد أسفل ذلك نقشًا آخر يتألف من سطرين يبتدئ بقوله: «لقد فتح وجه الملك «أمنمحات الثالث» ليتمكن من رؤية رب الأفق عندما يقلع في عرض السماء.» [انظر شكل ٦].

ويجب أن نرى في اختيار الشكل الهرمي — الذي يعد أعظم رمز شمسي — لقبر الملك برهانًا آخر على سيادة المذهب الشمسي في البلاط الفرعوني. ومما يجدر بنا ملاحظته في هذا المقام أن من أهم دواعي المحافظة على الشكل الهرمي عند إهداء قبر ملكي، الاحتماء من «أوزير» بوجه خاص وطائفة آلهته.

ولم يكن الهرم مبنًى منعزلًا قائمًا بذاته، بل كان جزءًا من مجموعة، وبعبارة أدق: الجزء الأعظم من مجموعة رائعة من البناء تشغل موقعًا بارزًا على حافة هضبة الصحراء المشرفة على وادي النيل؛ إذ كان قائمًا على الجانب الشرقي للهرم معبد منخفض ملاصق لمبنى الهرم نفسه، له رواق ذو عمد جميلة قائم بمقدمته، يؤدي إلى ردهة ذات عمد خلابة تحيط بها حجرات المعبد على كلا الجانبين، وكان يقوم في مؤخرة المعبد مكان مقدس، وكان الجدار الذي خلف «قدس الأقداس» هذا، هو واجهة الهرم نفسه الشرقية، وقد أقيم أمام هذا الجدار باب وهمي ملاصق له يمكن للملك المتوفى الخروج منه من ضريحه ليتسلم القرابين المقدمة له، ويتمتع بها في ذلك المكان.

ويلي ذلك طريق مؤدية من وادي النيل إلى حيث مستوى الهضبة المقام فوقها الهرم أو المعبد، وكانت تلك الطريق مسقوفة ذات طول عظيم، وكانت مقامة من أحجار صلبة ضخمة وممتدة إلى نفس باب المعبد، وكان يقوم عند الطرف الأسفل من ذلك الطريق معبد آخر فخم ذو عمد، يُعتبر بمثابة باب هائل للطريق، وقد سمَّى الأستاذ «ريزنر» هذا المعبد بحق «معبد الوادي». ومن المحتمل أن ذلك المعبد كان يوجد بداخل جدران مدينة المقر الملكي التي كانت في أسفل الوادي. وبهذين المعبدين كانت بطبيعة الحال تقام الشعائر الدينية الجنازية التي كانت تُجرى بنظام على روح الملك، فهما شبيهان في أصلهما بمزار قبر الشريف الذي تكلمنا عنه فيما سبق.

وتؤلِّف مجموعة العمائر المركبة من الهرم والمعبد الجنازي والطريق المسقوفة ومعبد الوادي أعظمَ فكرة في هندسة البناء ظهرت في ذلك العصر المبكر، وقد أضاف ما بقي من آثارها المكشوفة في السنوات الأخيرة إلى معلوماتنا فصلًا جديدًا في تاريخ العمارة.

وقد أنفق كلٌّ من فراعنة الأسرتين الثالثة والرابعة [حوالي ٣٠٠٠–٢٧٥٠ق.م] جزءًا كبيرًا من ثروتهم في إقامة ذلك القبر الشاسع ليحوي جثمان الفرعون ويضمن بقاءه بعد الموت، وبتلك الكيفية صار الهم الأكبر لبقاء الملك في الحياة الآخرة الشغل الشاغل للحكومة ودولاب أعمالها. وكثيرًا ما عجز الملك عن إتمام تلك المجموعة البنائية قبل موته، وبذلك كان يُلقى على عاتق خلفاء الملك أعباء إتمامها، كما كانوا يعملون كل ما في وسعهم في الوقت نفسه لإتمام مقابرهم أنفسهم. وكان الكهنة عند الفراغ من بناء تلك المجموعة يهدون صيغًا منظمة لتحفظ المعبد والهرم، أما لوازم الملك وهو راقد تحت بناء الهرم فكانت تُراعى بكل عناية؛ وذلك بإقامة الشعائر الرائعة في المعبد الملاصق لقبره، ولا نعرف من تلك الشعائر شيئًا سوى الأجزاء التي حفظت لنا منها في متون الأهرام، وهي تدلنا على أن ما كان مألوفًا إقامته في الحياة من الأعياد كان يُقام مثله للملك المتوفى، وبطبيعة الحال يكون ذلك بأعظم درجة من البهاء.

ومن البدهي أن تلك الشعائر كانت تتناول بوجه خاص تقديم الطعام الوفير والملابس وما أشبه ذلك، وكانت الصيغ التي يلقيها الكهنة الجنازيون تقدر بمائة وثمانٍ وسبعين صيغة؛ أي إنها كانت تشغل من متون الأهرام، وكانت تشمل أسماء ما يقدم من الطعام والشراب والملابس والدهان والروائح العطرية والبخور، ويظهر لنا من تلك الأسماء ما كانت تحويه مائدة الملك من الألوان التي لا يحصيها العد — ومثل ذلك عن ملابسه ومواد زينته، وغير ذلك من لوازمه في الحياة الآخرة.

ونجد في الأواني الفاخرة التي كشفها الأستاذ «برخارت» في معبد الملك «نفرار كارع» بأبي صير [من القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد] دليلًا آخر على الأبهة الملكية التي كانت تقام بها شعائر القربان، في حين أن جمال معبدي الهرم وعظمتهما قد هيئا في حد ذاتهما مكانًا فريدًا تُؤدى في داخله كل تلك الفخامة الجنازية، فكان الكاهن بتلاوة نحو ثمانين صيغة من تعاويذ قربان الشعائر الجنازية يضع أمام الملك المتوفى تلك الملاذ الصورية التي كان يتمتع بحقيقتها في الحياة الدنيا، ذلك إلى تلاوة بعض تعاويذ أخرى مبعثرة في متون الأهرام.

وفي أثناء تأدية هذا العمل كان الكاهن يدخل إلى الحجرة السرية الواقعة خلف ردهة المعبد والمؤدية إلى واجهة الهرم نفسه، وهنا يواجه الكاهن الباب الوهمي العظيم الذي كان يمكن روح الملك أن تأتي منه لتدخل المعبد ثانية عند خروجها من الضريح الملكي الذي يقع على عمق بعيد تحت ذلك المبنى الشامخ المقام فوقه. وكان الكاهن وهو واقف أمام هذا الباب الوهمي يخاطب الملك كأنه حاضر أمامه، مقدمًا له معرضًا عظيمًا من أثمن الهدايا، ويصحب كل هدية منها بصيغة معينة عند تقديمها طبقًا لم ذكرناه عن ذلك فيما سبق.

غير أن حقيقة الموت الصارخة كان من المستحيل تجاهلها في تلك الصيغ التي لم توضع إلا للاعتقاد بأن الملك المتوفى لا يزال حيًّا، ويشعر بكل ما يحتاجه الأحياء في الدنيا؛ إذ نجد أن الكاهن كان يشعر وهو في تلك الحجرة التي كان السكون مخيمًا عليها شعورًا شديدًا بصمت ذلك الملك الراقد المدفون تحت ذلك الهرم الهائل. ومن أجل ذلك كان يناديه من وقت لآخر ليستيقظ من سباته العميق ويشاهد الطعام والهدايا المبسوطة أمامه. وخوفًا من سقوط شيء من هذه المواد المقربة كان الكاهن يلخصها كلها في وعده للملك فيقول: «ها تقدم لك كل القرابين وكل الضحايا وكل ما ترغب فيه وكل حسن لك إلى الأبد مع الآلهة.» وعلاوة على كل هذه الصيغ الخاصة بالهدايا الجنازية كانت توجد بعض تعاويذ لطرد الجوع من أعضاء جثمان الملك، فكان الكاهن يرتل هذه التعاويذ للملك من وقت لآخر أيضًا.

ولما كان ملوك عصر الأهرام المبكر [أي في القرن الثلاثين قبل الميلاد] يعتقدون في صيانة جثمانهم بالمحافظة على تلك الإجراءات، فإنه كان بالبديهة أن يتطلعوا بثقة إلى أنهم سيعيشون عيشة خالدة في الحياة الآخرة. ولكن هل كانت سلالة ذلك الملك الشرقي لا تسأم من استمرار تقديم تلك القرابين الجنازية له دائمًا أبدًا؟ سنرى!

والواقع أن مثل هذه الصيانة تحتاج في استمرارها إلى توظيف طائفة عظيمة من الكهنة ليظلوا قائمين بأعباء تلك الخدمة في معبد الهرم على الدوام، ولم يُبقِ لنا التاريخ أية قائمة تتضمن أسماء كهنة أي معبد ملكي كان، وكان أولئك الكهنة يعيشون على الهبات السخية التي كان في وسع سلطة البيت المالك أن يضمن استمرار بقائها مدة طويلة.

فمن ذلك أن هيئة كهنة هرم الملك «سنفرو» بدهشور وأوقافه [القرن الثلاثين ق.م] قد بقيا محترمين حتى لقد أُعلن إعفاء طائفتهم من كل الرسوم والضرائب الحكومية بمقتضى مرسوم ملكي أصدره الملك «بيبي الثاني» في عهد الأسرة السادسة؛ أي بعد وفاة الملك «سنفرو» المذكور بثلاثمائة سنة، وذلك بالرغم من حدوث تغيير في الأسرة المالكة مرتين منذ وفاة الملك «سنفرو»، وكان من المحتم في أمثال هذه الأوقاف المتراكمة من جيل إلى جيل أن يظل توزيعها قائمًا إلى أن تبطل في نهاية أمرها وتزول من جراء ذلك.

ففي القرن الثلاثين ق.م مثلًا حوَّل الملك «سنفرو» نفسه إلى أحد أشراف رجاله مائة رغيف يوميًّا من أوقاف المعبد الجنازي الخاص بأم أولاد الملك المسماة «نيما عتحب»، وكانت هذه الملكة قد توفيت في ختام الأسرة الثانية؛ أي قبل العهد الذي عاش فيه «سنفرو» المذكور بنحو جيلين. وبذلك نرى أن الملك «سنفرو» نفسه، إن لم يكن قد اغتصب دخل تلك الملكة الجنازي، فإنه قد تصرف فيه بمكافأة أحد رجاله من دخل ذلك الوقف، بعد أن أدى الدخل المهمة التي خصص من أجلها نحو قبر تلك الملكة.

وكذلك نجد بنفس تلك الطريقة أن الملك «سحورع» عندما أراد أن يكافئ «برسن» (أحد رجال الأشراف المقربين إليه)، حوَّل إليه دخلًا من الخبز والزيوت التي كانت فيما سبق تصرف كل يوم للملكة «نفرحتبس»، وقد اضطر الملك إلى اتخاذ ذلك الإجراء لعدم وجود أي مورد آخر تحت تصرفه.

ومن تلك الإجراءات السالفة الذكر يتضح لنا أن القرابين الجنازية لم تُمحَ من الوجود، بل كانت مستمرة سارية الاستعمال بعد وقفها قربة لأي قبر كان. غير أننا نجد فيما فعله كلٌّ من الملك «سنفرو» والملك «سحورع» تلميحًا للطريقة الوحيدة الممكنة الحصول للتخلص من تلك الالتزامات المورطة التي نشأت من تضاعف عدد المقررات الموقوفة على القبور، وذلك بتحويل القرابين التي كانت ملتزمة فيما مضى لقبور عتيقة تقادمت عليها العهود إلى قبور أخرى جديدة حديثة العهد، وحتى مع اتباع تلك الطريقة فإن عدد القبور الملكية الذي كان آخذًا في الازدياد جعل استعمالها باطراد أمرًا صعبًا، بل كان مجرد الإشراف على تلك القبور ومباشرة إدارتها بقصد المحافظة عليها أمرًا صعبًا أيضًا، ومن ثم وجد كهنة الملك «سحورع» في ختام القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد عندما أصبحوا غير قادرين على المحافظة على معبد هرم الملك، أن الأفضل والأكثر اقتصادًا أن يقيموا جدرانًا على مداخل المعبد الجانبية، ويتركوا للدخول بابًا واحدًا هو الذي في طرف الطريق المؤدي للمعبد، والظاهر أن ذلك كان في اعتقادهم عملًا صالحًا؛ لأنهم دونوا أسماء طائفة الكهنة الذين قاموا بهذا العمل على جدران الأبواب التي سدوها بهذه الطريقة، ثم عُثر بعد ذلك على صورة للإلهة «سخمت» رُسمت في المعبد فقدست عرضًا؛ إذ كانت تلك الإلهة موضع احترام وعبادة من أهالي القرى المحيطة بالمعبد، وقد بقيت تلك القرى تقوم باحترام تلك الإلهة وعبادتها عدة قرون، فكان ذلك سببًا في صيانة جزء كبير من المعبد كان لا بد من مصيره إلى الخراب والدمار منذ زمن طويل لولا حرمة تلك الإلهة. وقد كان حظ الملك «نفر أركا رع» خلف «سحورع» أسوأ من ذلك؛ إذ هدم أحد خلفائه «نوسررع» بعد وفاته ببضع سنين، الطريق المؤدية إلى المعبد الجنازي حتى يتمكن من تحويلها إلى طريق لمعبده القريب من تلك الجهة. وقد نتج من ذلك أن كهنة «نفر أركا رع» لما صاروا غير قادرين على الإقامة في أسفل الوادي هاجروا إلى الهضبة، وأقاموا مساكنهم المبنية من اللبن حول ذلك المعبد تارة أو ملاصقة لواجهته تارة أخرى، وكانوا لا يزالوا يقومون بتأدية وظائفهم بالمعبد، ولما كانت مواردهم آخذة في النقصان والتقلص فقد كانت مساكنهم المذكورة تتحول تبعًا لذلك إلى أكواخ حتى انتهى أمرها بالزحف إلى ردهة المعبد وحجراته. ولما صار الكهنة إذ ذاك في حالة فقر بادٍ فقد استولوا على جميع المعبد وجعلوه حيًّا لهم، ولما صاروا في نهاية الأمر ولا عائل لهم هجروا أكواخهم المتداعية نهائيًّا، فاختلطت أنقاضها بأنقاض المعبد نفسه، ولما جاء عصر الدولة الوسطى بعد وفاة الملك «نفر أركا رع» بنحو ٦٠٠ سنة كان معبد هذا الملك قد صار مدفونًا على عمق عدة أمتار من التراب المتراكم فوقه، ثم استعملت تلك الأكوام التي تعلوه جبانة للدفن، وقد كشفت الحفائر لنا فيها عن مدافن على عمق متر أو مترين من رقعة ذلك المعبد.

وقد أصاب نفس ذلك المصير جبانة الأسرة الرابعة العظيمة بالجيزة، وذلك أن الكهنة الجنازيين الذين كان أجدادهم يديرون الأوقاف الفخمة التي حبست على أعظم الأهرامات حجمًا، قد حشروا مدافنهم في الطرقات والمساحات الخالية بين المقابر الملكية القديمة الخاصة بالسلالة البائدة، على أن أولئك الكهنة أنفسهم قد انقرضوا أيضًا حوالي سنة ٢٥٠٠ق.م؛ أي بعد أن أسس الملك «خوفو» جبانة بالجيزة بنحو ٤٠٠ سنة. والواقع أنه لم يمضِ زمن طويل بعد سنة ٢٥٠٠ق.م حتى صارت منطقة أهرامات الدولة القديمة البالغ طولها نحو ٦٠ ميلًا من «ميدوم» جنوبًا إلى «الجيزة» شمالًا خلاءً مقفرًا.

وإننا ندرك كنه هذه الحالة المحزنة من آراء رجال الفكر في العهد الإقطاعي الذي جاء بعد ذلك بنحو ٥٠٠ سنة، وذلك عندما تأملوا في انهيار تلك المقابر الضخمة.

على أن ما صار أمرًا واضحًا جدًّا بعد انقراض فراعنة عصر الأهرام العظيم كان أمرًا قد أخذ العقل يدركه قبل سقوط الدولة القديمة بزمن طويل؛ فإن أهرامات مصر تمثل ذروة الاعتقاد في كفاءة العتاد المادي التامة لضمان سعادة المتوفى في الحياة الآخرة، فهي المظهر الرائع للكفاح الطويل للتغلب على القوى المادية المحضة، وهذا الكفاح ربما ترجع بدايته إلى نحو مليون سنة قام به صيادو عصر ما قبل التاريخ بمفردهم، أما في ذلك العهد الذي نحن بصدده فقد قامت به قوى أمة مدربة بأسرها؛ فأهرام الجيزة الكبيرة التي تمثل لنا جهودًا جبارة استنفدت كل موارد دولة عظيمة ترمي جميعها إلى غرض واحد سامٍ؛ هو وقاية جثمان رجل واحد هو رئيس الدولة، وقايةً أبدية داخل غطاء من المباني الضخمة جدًّا، حتى يتسنى لذلك الجثمان الملكي أن يقاوم بتلك الطريقة المادية المحضة غائلة كل الآباد، ويقهر بتلك القوة الآلية الأسباب المانعة من الخلود.

على أن التخلي عن بناية الأهرام الضخمة مثل أهرام الجيزة، والاكتفاء في نهاية الأمر بكتابة متون الأهرام منذ عهد آخر ملك في الأسرة الخامسة حوالي سنة ٢٦٢٥ قبل الميلاد داخل أهرام صغيرة، يؤكد لن الاعتقاد بوجود السعادة في الحياة الآخرة في مكان ما آخر؛ أي الاعتقاد في وجود نعيم في مكان ما بعيد لا يعتمد في إدراكه على الوسائل المادية فقط. فهذا الاعتقاد الجديد يؤكد إلى حد ما أن الأكوام من المباني لا يمكنها أن تهب الإنسان الحياة الأبدية، بل يجب أن ينالها بروحانيته؛ وبذلك أخذ أقدم أتباع عقيدة القوة المادية يتعلمون أول درس لهم، وأوشك عصر الأخلاق يظهر ويشل ما عمله بناة الأهرام.

١  أي أوزير.
٢  يشير هنا إلى رواية «هملت» تأليف «شكسبير» أكبر شعراء الإنجليز.
٣  هذه العلامة هي في الحقيقة رابط الحذاء كما لاحظ ذلك لأول مرة بتكوم جن، وهي كلمة مصرية تشتمل على نفس الحروف الساكنة التي تحتوي كلمة «الحياة» في المصرية، غير أن تفسير جن هذا الذي اعتُقد أنه صحيح لم يقبله كل علماء المصرية.
٤  يشير هنا إلى الموظف الكبير «وني» (انظر مصر القديمة للمعرب، جزء أول).
٥  انظر مصر القديمة للمعرب، جزء أول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤