الفصل الثامن

نور الشمس والخضرة

امتزاج «رع» مع «أوزير» وظفر «أوزير»
إن الذي تزرعه بنفسك لا يحيا إلا ليموت.
(يا جاهل، إن ما تزرعه أنت لا يحيا إلا إذا مات.)

ليست هذه الكلمات التي فاه بها القديس بولص إلا تلميحًا لما تركته الدورة السنوية في الحياة النباتية (التي من شأنها الموت ثم الحياة) من التأثير العميق في عقول الأقدمين.

ونحن نذكر أن الأساطير الإغريقية كانت مفعمة بمثل تلك الأفكار، كذلك كانت دنيا البحر الأبيض المتوسط في كل مكان متحفزة لاعتناق الآراء الشرقية التي من هذا النوع، فكان تأثيرها من أجل ذلك ظاهرًا في الإنجيل، وإن أقدم مظهر لتأثير الخضرة في آراء الأقدمين التي لها علاقة بشأن الموت نراه بحالة واضحة في ذلك الانتصار الباهر الذي أحرزته تلك «العقائد الأوزيرية» على ما سبقها من العقائد الخاصة بالحياة في الآخرة، وليست «صلاة عيد الفصح» الحالية — طبعًا — إلا أحدث المظاهر الباقية لتلك القوة الملحة التي نشأت عن أقدم تأثير للطبيعة في روح الإنسان.

وقد ذكرنا من قبل أن كل المعتقدات الشمسية والأوزيرية قد اندمج بعضها ببعض منذ عصر مبكر، ومع أنه يمكن تمييز نواة كل مجموعة من أساطير كل عقيدة بسهولة، فإننا من جهة أخرى نجد أن اندماج الآراء الشمسية بالآراء الأوزيرية عن الحياة الآخرة قد ترك لنا مشكلة صعبة الحل جدًّا إذا نحن حاولنا فصلها من ذلك الاندماج لتتميز كل عقيدة منها عن الأخرى.

وذلك أن كلًّا من نور الشمس والخضرة كانا مندمجين في الديانة المصرية القديمة بعضها ببعض بحالة لا يمكن معها فصلهما من ذلك الاندماج، مثلهما في ذلك كمثلهما في الطبيعة لا يمكن فصلهما من ذلك الامتزاج. ولهذا كانت توجد مجموعة معتقدات خاصة بالحياة الآخرة يمكن تسميتها «معتقدات شمسية» ومجموعة أخرى خاصة بالحياة الآخرة أيضًا تسمى بلا نزاع «معتقدات أوزيرية»، غير أن هذين المذهبين قد اندمج بعضهما ببعض حتى صار لدينا مناطق محايدة عن ذلك الاندماج لا يمكننا اعتبارها لواحدة منهما خاصة دون الأخرى، ومع ذلك يمكن تمييز المذهبين، من الأنظمة الخاصة بكل منهما، بسهولة أكثر.

فمن الواضح أن المذهب الشمسي كان لاهوت الدولة تحيط به أبهة الملك ونفوذه، على حين أننا نواجه في مذهب أوزير ديانة الشعب التي اجتذبت إليها كل فرد متدين.

ومن المحتمل أن التاريخ القديم لتتابع هذين المذهبين كان كما يأتي: كان المصريون في عهد ما قبل التاريخ يعتقدون اعتقادًا ساذجًا بوجود عالم سفلي للأموات مآل كل الناس إليه حتمًا، وخُص الملوك بآخرة سماوية جليلة خُصوا بها في أول الأمر ثم شملت فيما بعد جميع عظماء القوم وأشرافهم — وقد تكلمنا عنها فيما سبق — ثم انتهى أمرها أخيرًا بأن صارت عالمًا شمسيًّا لهؤلاء الموتى.

ولما حل نفوذ «أوزير» الذي كان آخذًا في الازدياد محل الآلهة الجنازيين الذين كانوا أقدم منه صار هو بذلك رب العالم السفلي.

وكان من نتائج ذلك أن أخذ «أوزير» وعالمه السفلي يناهضان الآخرة الشمسية السماوية في سلطانها. وندرك في ظهور هذين المذهبين جنبًا لجنب الكفاح الطويل الذي قام بين دين حكومي ودين شعبي لأول مرة في تاريخ العالم البشري.

والآن يجب علينا أن نبتدئ بتحديد أصل معتقد «أوزير» عن الحياة الآخرة بقدر ما نستطيع، ثم نقتفي بعد ذلك أثر سير الكفاح الذي لا يزال حتى الآن غير محدد بينه وبين ذلك اللاهوت السماوي العظيم الخاص بعقيدة الملك المتوفى، وهي التي فحصناها فيما سبق. وربما كان أعظم شيء في حياة سكان وادي النيل الأقدمين يكسبهم تقديرنا الخاص هو أن المذهب الأوزيري قد علق في الحال بعدُ بخيال الشعب ثم انتشر بين طبقاته، وبذلك أخذ يناهض المذهب الشمسي الذي كان يعتنقه رجال البلاط الملكي وكهنة الحكومة. ويتضح ذلك بوجه خاص فيما يتعلق بعقائد الحياة الآخرة التي ندرك من أدوار تطورها صبغ الديانة المصرية القديمة بالتدريج بالصبغة «الأوزيرية»، وبوجه خاص في التعاليم الشمسية عن الحياة الآخرة.

على أنه لا يوجد في أسطورة «أوزير» ولا في أخلاقه ولا في المتأخر من تاريخه ما يشعر بوجود حياة أخروية سماوية، بل إننا نذكر أنه لا يزال يوجد بعض نصوص واضحة لا يتطرق إليها الشك ترجع إلى عصور كان فيها «أوزير» يعتبر عدو الموتى الذين يعتنقون المذهب السماوي الشمسي، وهذه النصوص لا يزال في مقدورنا تعرُّفها بين متون الأهرام، وهي تشتمل على تعاويذ كان الغرض منها منع «أوزير» وأقاربه من دخول الهرم — وهو قبر شمسي — بقصد سيئ. وفيما قبل التاريخ كان مذهب «أوزير» (الذي كان في وقت ما مذهبًا محليًّا في الدلتا) يحمل في ثناياه عقائد تقول بأن الحياة الآخرة ممقوتة يخشى شرها كما كانت في الوقت نفسه معادية للعقائد السماوية الخاصة بعالم الحياة الآخرة وما فيها من نعيم.

ولما هاجر «أوزير» من الدلتا إلى «أبيدوس» تصور القوم أن ملكه يقع في الغرب أو تحت الأفق الغربي، ومن ثم أخذ «أوزير» مكانه في العالم السفلي وأصبح ملكًا على عالم الأموات تحت الأرض؛ وتلاحظ تلك الظاهرة حتى في متون الأهرام. وبلغ «أوزير» قمة فوزه بصفته رب مملكة الأموات السفلية.

ولما لم يكن في أسطورة «أوزير» ووظائفه ما يجعله يرتفع إلى السماء؛ فإننا كذلك نجد أن أبسط صيغ متون الأهرام لا تقول برفعه إلى عالم السماء، وتشتمل قصة المصير «الأوزيري» على صور متنوعة كالتي نجدها في اللاهوت الشمسي، ولكن الخضرة التي كان يمثلها «أوزير» تستمر بعد موتها، ولذلك كان من المحتم أن يبعث «أوزير» من بين الموتى أيضًا، وكانت قيامته تعد فوزًا على الموت وقوة لا يعدلها شيء في العقائد الجنازية المصرية القديمة. وكان من نتيجة ذلك أن الملك و«أوزير» قد أُحِّدا، ولذلك كان الملك المتوفى يفعل كل ما كان يفعله «أوزير»؛ فكان يتسلم قلبه وأعضاءه كما فعل ذلك «أوزير»، أو كان يتحول إلى «أوزير» نفسه، وكان ذلك أحب معتقدات القوم في المذهب الأوزيري؛ أي أن يتحول الملك إلى «أوزير» ويقوم من الموت ثانية كما قام «أوزير» نفسه من الموت.

ويبدأ تأحيد الملك بأوزير عند ولادة الملك، وقد جاء وصف ذلك في متون الأهرام مشتملًا على كل العجائب والمعجزات الخاصة بالمولد الإلهي، ولم يقتصر الحال على تقمص الملك شكل «أوزير» فحسب، بل إنه أحِّد معه تأحيدًا تامًّا، وذلك ما نجده مدونًا عن تلك العقيدة في متون الأهرام. ولذلك نرى «أوزير» نفسه تستحلفه الملوك على اختلاف أسمائها: «إن جسمك هو جسم هذا الملك «وناس»، ولحمك هو لحم هذا الملك «وناس»، وعظامك هي عظام هذا الملك «وناس»، وكما أنه (أي أوزير) يعيش فإن هذا الملك «وناس» يعيش، وكما أنه لا يموت فإن هذا الملك «وناس» لا يفنى.» وعلى هذا الفرض يتسلم الملك المتوفى عرش «أوزير» ويصير مثله ملك الموت: «هيا أيها الملك «نفر كارع» (بيبي الثاني)! ما أجمل هذا! ما أجمل هذا الذي صنعه لك والدك «أوزير»! إنه أعطاك عرشه، وأنت تحكم أولئك الذين في الأماكن الخفية (أي الموتى). إنك تقود الصالحين منهم ويتبعك كل الأجلاء.»

ولقد كان أسمى نفع نتج عن تأحيد الملك و«أوزير» أنه ضمن للفرعون المتوفى الخدمات الطيبة التي كان يقوم بتقديمها «حور» الذي يتمثل فيه البر البنوي لوالده «أوزير»؛ فقد صارت كل الرعاية الصالحة التي كان قد نالها «أوزير» يومًا ما على يد ابنه «حور» من نصيب الملك المتوفى أيضًا. وفي متون الأهرام مجموعة طويلة من الصيغ تشرح لنا تلك المناضلة التي قام بها «حور» ذلك الابن الشجاع لنصرة والده الملك المتوفى بصفته «أوزير»، ولكننا لا نكاد نجد في كل ذلك أثرًا للمصير السماوي، ولا إشارة إلى ذلك المكان الذي حدث فيه ذلك النضال العنيف.

ومع أنه من الواضح أن كهنة عين شمس هم الذين صبغوا بادئ الأمر العقائد الجنازية بصبغة شمسية وسماوية، برغم أنها كانت في أول أمرها أرضية في أصلها وصبغتها، فإن هؤلاء الكهنة الشمسيين لم يكن في مقدورهم أن يقاوموا النفوذ القوي الذي نشأ من انتشار مذهب «أوزير» بين الشعب، وانتهى الحال بأن صبغت متون الأهرام بصبغة «أوزيرية».

وإن التطور المستمر الذي نتعرف منه في ذلك البحث سير الكفاح بين المذهب الشمسي الذي كان متبعًا في معابد الحكومة وبين المعتقدات الشعبية لديانة «أوزير»، كما يتضح من متون الأهرام، يعد من أهم ما بقي لنا من أخبار العالم القديم، فقد حفظ لنا حقًّا أقدم مثال للصراع الروحي والعقلي بين ديانة الحكومة وديانة الشعب، وذلك الصراع يسوقنا إلى موازنته بالكفاح الذي حصل فيما بعد في عهد الدولة الرومانية وهو اعتقاد الشعب في «عيسى» الذي رُفع إلى السماء، وهو المذهب الشعبي من جهة، وبين عبادة الحكومة المنظمة لقيصر الذي كان يعتبر في نظر القوم أنه «الشمس التي لا تقهر» من جهة أخرى. ولا نزاع في أن الديانة المسيحية المبكرة قد حملت في ثناياها صدى ذلك الكفاح القديم الذي قام على ضفاف النيل بين الخضرة التي تحيا ثانية باستمرار وبين إله الشمس، فكان إله الخضرة [أي أوزير] البشري في نظر الشعب هو الذي استمال قلوبهم حتى إنه لم يكن في مقدور كهنة الشمس مع ما هم فيه من ثراء أن يقاوموا قوة ذلك الميل.

ويمكننا أن نتتبع سير عملية صبغ العقائد بالمذهب «الأوزيري» في متون الأهرام حسب النسخ التي نشرتها الكهنة من حكم إلى حكم خلال عهد خمسة ملوك متتالين تمثلهم خمسة أهرامات تحتوي على خمس نسخ مختلفة من متون الأهرام تختلف كلٌّ منها عن الأخرى في قراءتها. وقد يكون في إيراد بعض الأمثلة ما يظهر البرهان على ذلك، ويوضح سير عملية هذا التطور.

فالسلم الذي يؤدي إلى السماء كان في أصله عنصرًا من عناصر المذهب الشمسي. والدليل على أنه لم تكن له أية علاقة بأوزير، يظهر بأمور؛ منها: أن إحدى الروايات الخاصة بقصة السلم تمثله في حيازة «ست» عدو «أوزير» التقليدي. ويمكننا اقتفاء صبغ قصة السلم بالصبغة الأوزيرية بسهولة في أربع روايات ذكرت عنه، وتلك الروايات في الحقيقة روايات مختلفة مأخوذة عن أصل واحد قديم، وتمثل هذه الروايات الأربع عصرًا يمتد إلى نحو قرن من الزمان أو على أقل تقدير نحو ٨٥ سنة، فيظهر أمامنا في أقدم هذه الروايات التي حفظت لنا أن السلم لا يظهر منه إلا جزء يسير والصاعد عليه هو فرعون نفسه. على أننا نجد أن قصة السلم قد تم تطورها بعد مضى جيل؛ إذ كان الصاعد الأصلي الأول عليه هو «آتوم» إله الشمس، ولكننا نجد أن الإلهتين «إزيس» و«نفتيس» الأوزيريتين قد ضمتا إلى القصة. وفي آخر رواية عرفت من هذه الروايات، وهي التي جاءت بعد الرواية الأولى في متون الأهرام بنحو ٨٥ سنة، نرى أنه قد وضع في فم «إزيس» و«نفتيس» ذلك الترحيب الذي كانت ترحب به الآلهة القدامى عندما كانوا يشاهدون الفرعون صاعدًا إلى السماء، وصار الصاعد هو «أوزير» نفسه، ومن ذلك نرى أن «أوزير» قد انتحل لنفسه الرواية الشمسية القديمة الخاصة بالسلم ونسب لنفسه المتن الشمسي القديم.

ومما هو جدير بالملاحظة هنا أن هذا التغيير قد حدث بالرغم من وجود تعقيدات محيرة، فقد مثلت تلك العقيدة الشمسية القديمة كلًّا من «ست» و«حور» مساعدَيْن للملك عند صعوده في السلم الذي نصبه «رع» و«حور» وذلك وفقًا لفكرة اشتراك «حور» و«ست» في خدمة المتوفى، ولكن يظهر أن الكاتب لهذه النسخة لم يشعر بالتضارب الذي ينجم عن ذلك عندما يتحول الملك المرفوع إلى السماء إلى «أوزير»، وهو تضارب واضح؛ إذ إن «ست» هو عدو «أوزير» الخلقي وقاتله فصار يساعده على الوصول إلى مقره السماوي.

ولم يظهر تدخل «أوزير» في أي مكان آخر من متون الأهرام بصورة تلفت النظر أكثر من ظهوره في الصيغ الخاصة بالخدمات التي تقدمها للمتوفى الآلهة الشمسية الأربعة المعروفون بصقور الشرق الأربعة. وكانت الطريقة المحببة لصعود السماء، وفتح أبواب السماء، والعبور من شاطئ إلى شاطئ، وعملية التطهير، وما شاكل ذلك، هي أن تعمل كل تلك الأمور أولًا لكلٍّ من الصقور الأربعة بالتوالي، ومن ثم تعمل للملك بجاذبية محتمة. وقد كُتبت أربع صيغ عظيمة بهذه الكيفية، يحتوي كلٌّ منها على بيان للإجراءات التي كانت تجرى لكلٍّ من أولئك الصقور الأربعة المذكورين، ثم بيان لما يعمل مثلها للملك. ونجد في أقدم تلك الصيغ أن أولئك الآلهة الأربعة كانوا جميعًا آلهة شمسين وهم:
  • (١)

    حور الآلهة.

  • (٢)

    حور الأفق.

  • (٣)

    حور «شزمت».

  • (٤)

    حور الشرق.

وبعد ذلك العهد بجيلين نجد الصقور الأربعة أنفسهم لم يتغيروا، ثم نجد بعد ذلك تطورًا آخر حصل في تلك المجموعة بظهور متطفل جديد حلَّ محل أولئك الصقور الأربعة، فتبدو مجموعة من الآلهة هكذا:
  • (١)

    حور الآلهة.

  • (٢)

    حور الشرق.

  • (٣)

    حور «شزمت».

  • (٤)

    أوزير.

وبذلك نجد أن «أوزير» قد حشر نفسه في تلك الطائفة الشمسية باحتلاله مكان «حور الأفق» الذي هو أقرب الآلهة الأربعة نسبة إلى الشمس. ويعد دخول «أوزير» هنا أكبر مثل مقنع لعظم قوته، كما يعد أظهر مثل لخطوات صبغ متون الأهرام بالصبغة الأوزيرية.

ويوازي ذلك المثل أيضًا بحالة تلفت النظر تاريخ مولد الشمس؛ فإنها يُحتفل بوقوفها في سيرها جنوبًا وبداية عودتها شمالًا، وكان مولد الشمس هذا في باكورة عهد المسيحية قد تحول إلى مولد الإمبراطور الروماني الذي كان مؤحَّدًا من إله الشمس، ولا شك أن اتخاذ المسيحيين لذلك العيد الشمسي القديم والاحتفاء به في ٢٥ ديسمبر يقابل بالضبط حلول «أوزير» محل إله الشمس في متون الأهرام منذ ثلاثة آلاف سنة قبل ذلك العهد المسيحي.

وبمثل ذلك صبغ بالصبغة الأوزيرية من زمن بعيد كلٌّ من السلم وقارب العبور والعوامات البردية، وبالاختصار كل العتاد الذي كان لازمًا للوصول إلى السماء، مع أنه لم يكن لأوزير بالسماء أية صلة، فلا عجب بعد ذلك إذا اندمجت السماء وسكانها في «أوزير» حتى صارت النجوم الثوابت (التي لا تفنى) تسمى «أتباع أوزير». وكذلك صار من الممكن أن نجد الملك ينقل إلى السماء بنفس الطريقة عندما يولد مثل «أوزير» ممثلًا في صورة نيل السماء، ويفيض على السماوات كفيضان النيل على الأرض فيجعل كل السماء يانعة خضراء: «إن الملك «وناس» يأتي إلى بركته التي في إقليم الفيضان عند النيل العظيم، إلى مكان السلام ذي الحقول الخضراء التي في الأفق، و«وناس» يجعل الخضرة نضرة في إقليمي الأفق.»

وبالرغم من أن كل ذلك قد أدى إلى صبغ العقائد الجنازية الشمسية والسماوية بصبغة «أوزيرية»، فإن الحياة الآخرة مع ذلك بقيت سماوية، لذلك كان من الواضح أن إله الشمس عندما كان يأخذ «أوزير» إلى جواره فإن معنى ذلك أن مكانة إله الشمس في تلك العقائد الجنازية المركبة كانت لا تزال هي المكانة الأولى، وحينئذ تبقى الحقيقة القائلة بأن العقائد السماوية عن الحياة الآخرة هي السائدة في متون الأهرام كلها، أما عالم «أوزير» السفلي الذي ظهر فيما بعد، وكذلك سياحة إله الشمس فيه، فإنهما كانا ولا يزالان يعدان في مركز ثانوي بصفة قاطعة في تلك العقائد الجنازية الملكية، أما عامة الشعب فكان إله الشمس فيما بعد في نظرهم ينزل إلى العالم السفلي ليضيء على قوم «أوزير» في مملكة الأموات. ويعتبر ذلك من أهم البراهين الدامغة الدالة على قوة «أوزير» عند عامة الشعب، أما في لاهوت الملك والمعابد الحكومية فكان «أوزير» يرفع إلى السماء، ومع أنه كان مصبوغًا هناك بالصبغة الشمسية فإن مذهبه كان هو الآخر يصبغ العقائد الشمسية الخاصة بمملكة الأموات السماوية بعض الشيء بصبغة العقائد الأوزيرية؛ فكانت نتيجة ذلك أن حدث ارتباك كان لا بد من حدوثه عند اختلاط تينك العقيدتين إحداهما بالأخرى.

فنحن نذكر أن الملك في كلا المذهبين قد تأحَّد مع الإله، وعلى ذلك نراه يسمى من غير تردد «رع» و«أوزير» في الفقرة الواحدة من فقرات متون الأهرام.

وتوجد في متون الأهرام فقرات كبيرة تدل على الارتباك والتعقيد الذي نتج من امتزاج تلك العناصر التي لا انسجام بينها، إذا كان التوفيق غير ممكن في مثل تلك الفقرات بين ظهور كلٍّ من «رع» و«أوزير» بمظهر الملك الأعلى في الحياة الآخرة. على أن مثل تلك المعتقدات الدينية المتضاربة لم يكن يشعر المصري القديم من جراء تضاربها بأي قلق أكثر مما كانت تشعر به أية حضارة قديمة أخرى باستبقاء طائفة من عقائدها الدينية جنبًا لجنب مع عقائد أخرى تخالفها أو تتناقض معها كل التناقض. ولم تفلت العقائد المسيحية نفسها من تلك المتناقضات، كما أنها لم تفلت من تغلغل نفوذ الآراء المصرية القديمة عن الحياة الآخرة فيها؛ فنجد الآراء المصرية القديمة عن العالم السفلي وأبوابه الجهنمية وبحار اللهيب قد قامت بدورها في تصوير جهنم الحامية في الديانة المسيحية، كما أنه من المحتمل أن مملكة إله الشمس السماوية بما فيها من شجرة الحياة هي أصل فكرتنا نحن معاشر أهل الغرب عن الجنة التي في السماوات، وهي التي ظهرت فيما بعد في الصور المسيحية الفنية واضحة خلابة.

وعلى أية حال فإنه يوجد فرق ملموس بين «أوزير» و«رع»؛ فأوزير يُعتبر ملك الأموات دون غيرهم، ووظيفته سلبية، حتى إنه يندر أن يقوم بعمل إيجابي حتى ولو كان لصالح عالم الأموات. ونعمة المصير الأوزيري ينحصر معظمها في التمتع بالخدمات الطيبة التي كان يقدمها «حور» قائمًا بدور ابن المتوفى حينما يتحول الأخير إلى «أوزير»؛ فالخدمات التي كان يقوم بها الآخرون (أي التي لا يقوم بها هو) هي التي يتمتع بها المتوفى (كما تمتع بها «أوزير» من قبل)، وبذلك بقي «أوزير» إلهًا للموتى.

أما «رع» فإنه كان صاحب قوة عظيمة في شئون عالم الأحياء، ومع أنه كثيرًا ما يشفع للموتى فإن سلطانه الأعظم في هذا العالم الدنيوي، حيث يمتد وينمو حتى يسيطر على مملكة ذات قيم أدبية؛ وهي مملكة سنحصل منها على أقدم لمحات سنحت لنا عن كل هذا العالم، وذلك حينما نحاول الكشف عن عوامل هي فوق العوامل والمقاصد المادية التي رأينا أنها كانت فيما استعرضناه من المراحل صاحبة السيادة والسلطان على التصور المصري القديم عن الحياة الآخرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤