الفصل الثاني

بخروج همام وابن أخته أوصيا خادم الفندق بأن يستدعيهما عند ذهاب المرأة الزائرة، وانطلقا يمشيان قريبًا من قهوة البورس، وكان على وجه همام الوجوم، وفي قلبه الكدر، ورأسه يهتز من الغيظ، وأسنانه تصطك حنقًا، وفؤاد إلى جانبه يجيل أفكاره في أمر الأخت وأخيها ملتزمًا الصمت حتى بدا له أن يسأل خاله مستفهمًا بقوله: أكان في علمك أن لغانم أختًا؟

فأجابه خاله مستغربًا من سؤاله بقوله: أي عجب أن يكون له أخت كما لغيره من الناس؟!

قال فؤاد: ما هذا مقصدي، بل سؤالي: هل كنت تعرف أن لصاحبنا شقيقة على هذه الحالة، قد رأيتك متكدرًا من أجلها؟!

قال همام: لا تلُمْنِي، فإني سريع الغضب، أتكدر من أقل شيء، وفي دمي حرارة لم تبردها الستُّون من عمري، فكأنني لا أزال في ريعان الشباب، ولتعلم أنني لم أتكدر من شناعة منظر هذه المرأة، بل إن تأخري عن أكل الطعام في المواعيد هو الذي كدرني وأزعج معدتي. ولا يخفى عليك أن المعدة أساس قوام الجسم وعليها مداره، بل هي مصدر الحياة، إن اعتلَّت؛ اعتلَّت سائرُ الأعضاء، فلا تعجب إن رأيت مني اهتمامًا بشأنها، وقد قرأت في الكتب الطبية أن الخروج عن العادة يهلك الأجسام، وأن التأخر عن مواعيد الطعام يُورث الخلل في المعدة؛ فتبطئ حركتها، ويكسل الجسم عن القيام بوظائفه، وأكثر عجبي من الناس الذين يدَّعُون التمدن ولا يراعون الواجبات الصحية فيخلفون موعد الأكل.

قال فؤاد: صدقت في قولك. وإنما أرجوك أن تجاوبني عن سؤالي الأول: هل كنت تعرف قبل الآن أن لصاحبنا غانم شقيقة؟

قال همام: سمعت أن له أختًا تزوَّجت برجل رُزقت منه بفتاة جميلة، وأن أخته لم تقم مع زوجها أمدًا مديدًا حتى تُوفي، فتزوجت برجلٍ آخر اسمه قاسم، كان في خدمة أخيها غانم، وكانت تزيده بعشر سنوات، وقد علمتُ أنه سيئ الطباع، ذميم السيرة، قبيح السريرة، فهي في عناء مستمر من معاشرته، فلو قسم الرحمن لك الزواج بسعدى ابنة صاحبنا غانم، كانت المرأة عمة لعروستك.

قال فؤاد: أسأل الله ألا يتصل نسبي بهذه العائلة إن مِلْتُ إلى الزواج يومًا.

قال همام: أراك رجعت إلى المحاولة والقول السخيف، وأرى حجتك ضعيفة في عدم الزواج بسعدى لكونها غير جميلة، والحال — كما قدمت — أن الجمال لا عبرة به عند المتزوج، فدولة الحسن — كما قيل — زائلة يتبعها زوال الحب والسآمة والضجر، والحكيم الحازم من ينظر إلى ثروة المرأة وعلمها، فإن كانت غنية كسعدى فمن الغلط تأخره عنها، والغنى أساس كل سعادة وهناء، فاجعل في خاطرك أن من كان حسيبًا كريم الأصل نظيرك لا يجدُر به الزواج إلا بامرأة غنية، تُمكِّنه بغناها من المحافظة على مقامه وشرف اسمه.

قال فؤاد: إذن أتزوج غناها، وهي تتزوج حسبي ونسبي؟

قال همام: وأي حرجٍ في ذلك؟! أليس الزواج واحدًا على اختلاف علله وظواهره؟! ابحث قليلًا عن الغنى تجد أكثره من مال الزوجة، فقد أصبح الزواج في عهدنا مربوطًا بالثروة، وما ترى للابنة الجميلة الحسناء خاطبًا إلا إذا كان المال موفورًا عندها، فما الذي تُنكر — والحالة هذه — وتكره بسببه زواجك بسعدى؟! هل كبر عليك أن تكون نسيبًا لهذه المرأة المسكينة، أو تجد في ذلك عارًا؟! فأنت في سائر الأحوال حرٌّ بأن تقطع العلاقة مع أهلها، وتسد عليها بابك، فلا تنزعج بقربها.

قال فؤاد: وحقك يا خالي إني لا أنزعج من رؤية هذه الحزينة المنكودة الحظ، بل بعكس ذلك تجدني عطوفًا عليها شفوقًا، أتوجع لها من تقلب الأحوال وتغيُّر الزمان، الرافع لكل وضيعٍ، الواضع لكل رفيع، ولن أشمئز لمخالطة الحزانى البائسين، ولا أجد التقرب منهم عارًا، وعندي أن التخفيف عنهم من الأمور الواجبة على كل ذي لُبٍّ، والأجر في ذلك جميل، وإني عطفت قلبًا على هذه المرأة عند رؤية ذُلها وانكسار خاطرها، ولم يكدرني سوى سوء مقابلة أخيها لها وانقباض وجهه وتغيُّر سحنته سخطًا وغضبًا حين رآها، بينما هي تبش في وجهه وتهش إليه وهو مُعْرِضٌ ببصره عنها نافر من قربها، ألا قاتل الله قوم الشح، كيف يتجردون من الرقة، وتقسو قلوبهم، ويعدمون المروءة والشرف؟!

قال همام: إن ما تعدُّه من الأمور نقائص إن هو في الغالب إلا أساس الغنى والثروة … فهذا صاحبنا غانم، ولولا شدة بخله لما خلَّف لابنته ثروة وافرة تزيد في كل يوم جديد … فلو تزوَّجت بها وقاسمتها ذلك الغنى الواسع؛ لانقلب هجاؤك إياها مدحًا، وجعلت تتيه بتدبير الرجل وحزمه، فإنه جمع ما جمع من الأموال لتتمتع بها غنيمة باردة، ولولا بخله لم تصبها. وهكذا قد يكون الحرص نافعًا وهو رذيلة، وقد يضرُّ الكرم وهو فضيلة، إن تدبَّرت قليلًا وجدت الصواب في قولي.

قال فؤاد: إني لا أُنكر الثروة المجموعة إلا أن تكون مكتسبة بوجوه الحلال.

قال همام: غلطت وضل زعمك، فالغني معتبر على الدوام ومحترم، وترى الجميع يرحبون به، فلا يسألون عن أمره، وكيف جمع ثروته، وإذا حضر في مجلس قام في الصدر وبالغ الناس في إكرامه واحترامه، ولم نسمع واحدًا منهم يسأل أو يعيب عليه جمعه الأموال بالوجوه المحترمة أو الخسيسة.

قال فؤاد: لن أوافقك على زعمك، فعندي أن الثروة المجموعة بالظلم والتقتير تضع من قَدْرِ صاحبها، فلو تزوجت بسعدى كنتُ لها كارهًا كرهين؛ فالأول لذاتها، والثاني لأبيها، وبئست المعيشة.

فنظر همام عند سماع ذلك شزرًا إلى فؤاد، وقال له: أزهقت روحي، أنا أُكلِّمك في حديث الابنة وأنت تُكلِّمني عن أبيها، ومرادك مخالفتي فافعل ما تشاء، وسواء عندي تزوجت أم لم تتزوج، فما أنت إلا عنيد تجهل مصلحتك.

وجعل همام يُعربد واشتد به الغضب، فأسرع في مسيره حتى صادم رجلًا كان أمامه واقفًا أمام أحد المحلات، وكانت الصدمة شديدة كادت ترميه على الأرض لولا استناده إلى الحائط، وبدلًا من أن يعتذر إلى الرجل بادره بالزجر قبل أن يتفرس وجهه، وقال له: أعمى الله بصرك … تنتصب في وسط الطريق كالصنم وتُضايق المارين يا بلية.

فأجابه الرجل قبل أن يرى وجهه قائلًا: تصدمني ثم تزجرني.

فلما تفرَّس به همام إذا به سعيد بن غانم، فقال له: عفوًا فإني لم أنتبه، وسأله: أين كان؟ وإلى أين ذاهب؟

فأجابه سعيد بقوله: أنسيت أنك دعوتني إلى الفندق، وعزمت عليَّ بأكل الطعام معك؟!

قال همام: كان الموعد أن تحضر بعد الغروب لا في الساعة التاسعة، فما شاء الله إنك تعتبر الأصحاب، وتقيم عند قولك، وتحفظ مواعيدك، ولكن لا عتب عليك بمشابهتك أبيك، فمن يشابه أباه فما ظلم.

وبعد أن نطق همام بهذا تركه وأسرع في مسيره، فتقدم سعيد نحو فؤاد يُحييه ويسأله عن كدر خاله وهياجه، فقال فؤاد مجاوبًا: إن خاله متكدر بسبب إخلاف الموعد في الحضور وكرهه الإخلال في نظام معيشته.

قال سعيد: إنك لا تجد الترتيب إلا عند الكبار الطاعنين في السن، وهو عندنا نحن الشباب سبب للمضايقة، ومن عادتي أني لا أجعل لطعامي ميعادًا، وإنما متى جُعت أكلت، ولي — بحمد الله — اشتهاء وقابلية، وقد أكلتُ ثلاث مرات في هذا اليوم، ولو حضر الطعام أمامي الآن لما تأخرت عنه.

كان سعيد أشقر الشعر، عريض الكتفين، كبير القدمين، حسن الثياب، وله من العمر خمس وعشرون سنة، وكانت تلوح على وجهه لوائح الطيش والجهالة، كما يظهر من الحديث الذي دار بينه وبين فؤاد وهذا ملخصه:

قال سعيد: لا أقدر أن أشرح لك عن مقدار انشراحي في مصر، فقد حضرت إليها منذ خمسة عشر يومًا قضيتها بالأُنس والطرب، واللهو في مجالس الغيد، والحمد لله أبي لا يعلم شيئًا من ذلك، وهو لو علم لسخط عليَّ وعذَّبني عذاب الجحيم، وقد كلفت ثلاثة خياطين بأن يصنعوا لي ملابس من الزي الجديد، عشرةً من كل زي، واشتريت دبابيس للصدر وخواتم وساعات وكثيرًا من الحلي، وفي كل يوم أنزل إلى السوق وجيبي مملوء نقودًا فلا أعود ومعي قرش واحد.

قال فؤاد: إن مضيت على هذا السبيل لا يطول الزمان حتى تكون قد بدَّدت ما جَمَعَ الوالد.

قال سعيد: جَمَعَ الوالد أموالًا لا تأكلها نيران، وله أملاك واسعة لا يُفنيها التبذير، فحقًّا لو علم بمقدار ما أصرفه لأقام القيامة عليَّ، وتراني من مكري إن اشتريت شيئًا بالدَّيْن أشترط على المداينين أن يكتموا الأمر عنه وإلا امتنعت عن شراء شيء منهم، ولا يخفى عليك أني بالغ رشدي، وأن أمي تُوفيت من سنة، وخلَّفت لي عقارًا وأموالًا، فإن عنَّفني والدي وغضب عليَّ طلبت حصتي من ميراثها فلا أكون مضطربًا، ولا يعوزني شيء، فلذلك تجدني قرير العين، مرتاح البال، أنفق بغير حساب، وأدخل القهاوي والخمارات ومحلات القمار ومنازل العاهرات فيستقبلني الجميع بغاية الترحاب وغاية الإكرام، فلا يخالفوني في كلمة أو إشارة.

قال فؤاد: أنت تفتخر بهذا، وتزعم أن لك الوجاهة بتردُّدِك على هذه الأماكن والمحلات.

قال سعيد: أنت لا تعلم أسباب الحظ والسرور، ودواعي الحظ والانشراح فيها، ولو وافقتني على رأيي ولو شاركتني في حظي وأنا متأكد من محبتك، وستزيد المحبة بيننا تمكينًا عندما تقترن بأختي قريبًا، وتصبح نسيبي، وأظن أنك تعلم تضييق والدي عليَّ في المصروف، وأنه لم يكن ينقدني القرش الواحد إلا بعد زهوق الروح، فإذا خرجت سألني: كيف صرفت ذلك القرش؟ فكانت حياتي عذابًا، لم يُخرجني منها إلا بلوغ رشدي، فأصبحت حرًّا، وأشبعت نفسي من ملذات الدنيا وملهياتها ومطرباتها؛ لأعتاض عن حرماني في الزمن الماضي، وأنسى أكداري في زمن الصبا، وهذه أموال والدي كثيرة، وأنا وريثه مع أختي، فإن فرغ جيبي من النقود أقترض من الصيارف، فهم لا يبخلون عليَّ بشيء؛ لعلمهم أني موفيهم حقَّهم عاجلًا أم أجلًا مع الفوائد رغمًا عن أنف والدي، فإن شئت أن ترافقني هذه الليلة دللتك على محلات الأُنس والطرب، وشرحت صدرك بسماع الغناء الحسن؛ فتعود شاكرًا لي مُثنيًا عليَّ مجبورًا مسرورًا.

قال فؤاد: جزاك الله خيرًا، ولا تُؤاخذني إن لم أَقْبَل دعوتك، فمشربي غير مشربك، ولو سمعت نصيحتي فارتدع عن مثل هذه العادات التي تظنها من أسباب التسلية والانشراح، وهي طريق ضلال تقود صاحبها إلى الشقاء والتعاسة، فلا يمضي عليه زمن مديد حتى يسوء حاله، وينفد ماله من يده فيندم حين لا ينفع الندم، ولكم رأيت شبابًا خلف لهم آباؤهم أموالًا كثيرة فما مضى عليهم أمد قريب حتى بدَّدوها بالطريق التي ذكرتها، فأصبحوا في فقر مدقع وحالة من النكد والبؤس يُرثى لها، والسبب في هذا الضياع سوء التربية في الصِّغَر وشدة تقتير الوالدين البخلاء على أولادهم، وإنَّ قصتك لتُحاكي قصتهم، وإني لأعلم أنَّ الذي دفعك إلى الجهل والغواية والاسترسال في التبذير هو شح أبيك عليك، فلو أنصفك وتوسع في الإنفاق عليك لصرف عنك سبب الغواية، ولكنه ظلمك فأضاعك، وسوف تلقيك جهالتك في هاوية الدمار والخراب، ويكون والدك هو المأزور بما بخل وأنت بما تفعل.

وبينما كانا يتكلمان أَقْبَلَ همام لخاطرٍ وَرَدَ له، وتذكر أن شقيقة سعيد ستصبح زوجة لفؤاد، فرأى من الضروري تمكين علاقات الوداد بين العائلتين؛ لرغبته في هذا الزواج لتتسع ثروة فؤاد وتقبل أحواله، فقال لسعيد يمازحه: إن رغبت أن أصفح عنك فأخبرني ماذا كنت تنظر في هذا المخزن حين صدمتك وأنت غير ناظر؟ قل الصحيح، ألم تكن تغازل واحدة من الخياطات الجالسات داخلًا؟ أرنيها فلعل ذوقك لطيف يُقارب ذوقي أو يُناسبه.

قال سعيد: أشهد لك أيها البطل بسداد الرأي وشدة العزم، وأنك من أظرف الناس خُلُقًا، حلو الطباع، جميل المعاشرة، حتى كأنك من أترابنا، وقد سألتني أن أُريك الفتاة التي شغلت أفكاري، فانظر إلى واجهة المخزن، وتمعن في الفتاة الهيفاء الشقراء الجميلة الثياب اللطيفة القوام، هل رأيت أحسن منها خلقًا وتكوينًا؟

وكان المخزن المذكور مُعَدًّا للخياطة وعمل برانيط النساء، فتقدم همام ينظر، فرأى خمس بنات جالسات حول مائدة مستديرة يشتغلن، فأبصر فيهن اثنتين بغير حُسن، فصرف نظره عنهما إلى الثالثة، وكانت سمراء اللون، قصيرة القامة، ممتلئة الجسم، لا تتجاوز السادسة عشرة من السن، سريعة الحركة، لينة الجانب، تسطع على وجهها أنوار الصحة والعافية، فراقت في عينه.

وكانت البنت الرابعة أكبر من الثالثة سنًّا، ويظهر أنها المتقدمة عليهنَّ جميعًا في العمل، كانت شقراء اللون، طويلة القامة، ليس فيها شيء من البهاء والصباحة، وعمرها يبلغ الثلاثين، وشعرها كثيف أشقر مسترسل، وثيابها من الحرير الأزرق معقود ببنود ملونة، وفي أذنيها الحَلَق، وفي عنقها سلسلة مدلاة على صدرها، وتحت نهدها ساعة صغيرة معلقة بالسلسلة، وفي أصابعها الخواتم المتنوعة بالأحجار الكريمة، فلو رآها أحد لأكبر أنها تكون قد أصابت هذه الجواهر بشغل الخياطة، وهو لا يكاد يفي بمصروف زينتها، وعلم أن لا بدَّ أن يكون لها دَخْلٌ آخر. فهذه كانت الفتاة التي راقت في عين سعيد فوقف ينظر إليها.

وكانت في آخر المائدة البنت الخامسة بمعزل عن أخواتها، وهي فتاة لطيفة الذات، دقيقة القوام، لابسة ثيابًا سوداء، كانت جالسة تشتغل ووجهها محوَّل عن الباب، فلم يتيسر لهمام رؤيتها، وكان قد دقَّق النظر، فلما انتهى من المعاينة تباعد قليلًا عن مكانه، والتفت إلى سعيد يقول له: قد انتقدت الوجوه، فلم أجد صاحبتك الشقراء على شيءٍ من الحُسْنِ والجمال، وهي قد بلغت الثلاثين ولونها زاهٍ. وأما شعرها الكثيف فما أظنه إلا مستعارًا، وأنا أشبهها بالطاووس؛ لتعدد ألوان ثيابها، أو كالحرباء يتلون جلدها. فتكدر سعيد لسماعه هذا الحُكْم، وتأخَّر إلى الوراء بعض خطوات، فقال له همام: لئن كدرك كلامي فقد وجب عليَّ قول الحق، فأنتم معشر الفتيان تنخدعون بسهولة، وتغركم كثرة الشعر، وزينة الثياب، والتبييض والتحمير، فتنشغلون بالعرض عن الجوهر، وأما العاقلون العارفون نظيري فلا يلتفتون إلى تبرُّج المرأة وزينتها بل إلى نفسها، فلو أنك ذكرت لي تلك الفتاة السمراء الجالسة بقرب حبيبتك الشقراء لحكمت لك بإصابة الرأي وصحة الذوق وحُسْنِ النظر، فإنها بالحق تساوي ألف واحدة من صاحبتك التي افتتنت بها.

فنظر سعيد إلى الفتاة السمراء التي أشار إليها همام، فلم تَرُق في عينه وقال ساخرًا: أتستلطفها ولا تنظر إلى رثَّة ثيابها وقصر قامتها؟! فهي والله لا تجدر بأن تكون خادمة لصاحبتي البهية المشرقة النظيفة الثياب المزينة بالحلي الذهبية.

قال همام: لا يعيبها حقارة ثوبها، فنحن في حديث الجمال لا في حديث الغنى، وكفى السمراء فوزًا على صاحبتك الشقراء بصغر السن وملاحة الفم، فهي لا تزيد على الثامنة عشرة، وعلى وجهها علامة الصحة والقوة، وتلك من الصفات المحمودة المرغوبة في المرأة.

قال سعيد: أي حُسْنٍ لها وهي بغير حلي وحلل؟! أكان التجرد من الزينة محبوبًا في النساء؟ أَوَتجهلُ أن الملابس الباهرة تُكسب المرأة حُسْنًا فائقًا وجمالًا رائعًا، وتزيدها جلالًا وإشراقًا؟!

قال همام: قد اختلفنا، وللناس فيما يعشقون مذاهب، فلا سبيل لأن أُقنعك بالقول حتى نُحكِّم بيننا رجلًا آخر.

قال سعيد: ربما كان انشغافي بالشقراء للمشاكلة في اللون بيني وبينها.

فتبسَّم عند سماع ذلك همام، فإن سعيد كان أحمر الشعر ومعشوقته شقراء شديدًا، وجاهد نفسه ليمتنع عن الضحك مخافة أن يُغضبه في ساعة يرى استرضاءه واجبًا؛ لإتمام زواج فؤاد بشقيقته سعدى، فرأى أن يُغيِّر موضوع الكلام، وقال ملتفتًا إلى فؤاد: لو لم تكن ابن أختي وعلى أهبة الزواج، والمطلوب منك أن تكون قدوة في السلوك الحسن لأقمتك بيننا حَكَمًا تفصل في الخلاف.

قال سعيد: وهل الزواج يمنع فؤادًا عن إبداء رأيه؟ إنه صاحب نظر دقيق، وذوق صحيح، ولي ركون إلى قوله واقتناع بحجته.

قال همام: ماذا تقول شقيقتك حين يبلغها أنَّا انتدبنا خطيبها حَكَمًا بيننا يقضي في خلاف مثل هذا يتعلق بالنساء؟

قال سعيد: كيف يبلغها الحديث؟! فإنَّ من عاداتي ألا أفوه ببنت شفة.

قال همام: ونحن أيضًا نكتم الخبر، فلا يظهر له من أثر، وشرطنا على فؤاد أن يتقدَّم، ويُدقِّق النظر في البنات، ويفصل المشكلة بيننا، فقد قبلت برأيه وحُكْمه.

فتقدَّم فؤاد ودقَّق النظر في البنات تدقيق المنتقد الخبير، فأبصر أولًا الفتاتين الشقراء والسمراء، فوجدهما لا تستحقان النظر أو تليقان أو تروقان في أعين أهل الذوق السليم، ووجَّه بصره إلى الابنتين الأخريين فلم يجد فيهما شيئًا من الحُسْنِ، فلوَّى عنقه لينصرف إذ وقع بصره على الابنة الخامسة المقيمة بمعزل عن رفيقاتها … وكان قد سقط الشريط من يديها على ركبتيها، فتنهدت الصعداء من التعب، ووقفت تنظر إلى ما فوقها، ومالت بوجهها نحو باب المخزن بحركة مَنْ يستيقظ من نومه مضطربًا بسبب الأحلام المزعجة، وانكشف وجهها بنور الغاز فزاده اصفرارًا، فتأمَّل فؤاد فيها مندهشًا من بديع جمالها، ولُطف قوامها، وبهائها، وملاحة فمها، وسحر عينيها، ورأى آثار النباهة على جبينها، فكأنما في وجهها مادة شفافة عما يخالجها من الشعور إنْ محزنة وإنْ مفرحة، فيرتسم فيه ذكاء الفضل والنباهة والفضول والمكر والخجل والسذاجة، وغير ذلك من العلامات التي تُقرأ في العيون إن سكنت أو تحرَّكت، فترسل الشرر عند الغضب، وترشق القلوب بلواحظ الرقة في ساعات الرضا.

وبينما كان فؤاد ينظر مبهوتًا تفرَّس فيها أمارات الحزن الشديد، وكأنها سابحة في أبحر التصور والافتكار، فلا تعي شيئًا مما حولها، ولا تدري ماذا تفعل، حتى هبَّت كبيرة الخياطات تناديها زاجرة بقولها: أعُدْتِ إلى الكسل يا عفيفة — وهو اسم الفتاة — أضجرت من الشغل ففتحت للهواء فاك؟ فإن استمرت الحال هكذا مضى الشهر كله فلم تفرغي من عمل البرنيطة التي تصنعين شريطها مع علمك بأن صاحبتها مستعجلة في طلبها.

فتنبَّهت الفتاة واستأنفت العمل ورئيستها تُوبِّخها وتُعنِّفها بكلام أحدَّ من ضرب الحسام، والرفيقات الأخريات يهزأن بها. فرقَّ لها قلب فؤاد، واشمأز من سخرية البنات الأخريات منها، واستمرَّ ناظرًا إليها لعلها ترفع رأسها ثانية فيتمتع بمرأى جمالها البديع.

وكان همام في أثناء ذلك قد ضاق ذرعًا من انتظار حُكْمِ ابن أخته في الأمر الذي اختلف مع سعيد عليه، فتقدَّم وأمسكه بيده وخاطبه بقوله: إن سليمان الحكيم لم يصرف من الزمان في إبرام حكمه المأثور ما صرفت لإصدار رأيك في المسألة التي جعلناك حكمًا فيها … فأفتنا، أليست السمراء الحديثة السن الجيدة الصحة أجمل من رفيقتها الشقراء المقيمة إلى جانبها؟

قال سعيد: لا ريب أنه استحسن الشقراء لجمال قوامها ولياقتها، فهو على الذوق الحسن ورأيه لا يختلف عن رأيي.

قال همام: تكلم يا فؤاد … أيُّنا المصيب وأيُّنا المخطئ، وأيُّنا سليم الذوق؟

قال فؤاد: ترغبان مني الوقوف على رأيي فأقول: إني لا أرى الشقراء والسمراء تستحقان الالتفات، فهما مُجرَّدتان من الحُسْنِ، فالشقراء كالحة اللون بغير لُطفٍ ولا ظُرفٍ، والسمراء قصيرة القامة ليس فيها ما يدلُّ على الرقة والنباهة.

فلما سمع همام هذا الحُكْمَ جعل يضحك ويقول: اتَّبع صاحبنا فؤاد العادة في مسائل التحكيم، إنه يُرضي الطرفين، فلو قال الواحد: هذا اللون أبيض، وقال الآخر مغالطًا: بل أسود، جاء الحَكَمُ يقضي بينهما فيقول: اللون أحمر، فيفصل الخلاف بينهما بقضائه. ثم إنه تضاجر وقال لصاحبيه: دعانا من الجدال فهذه الساعة التاسعة، وقد فات ميعاد طعامنا، وأشهد الله على نفسي أنني لن أعود بعد هذا أدعو أحدًا من بيت غانم إلى طعام.

قال فؤاد: سألتماني عن رأيي فأبديته، فأخبراني الآن هل أبصرتما الفتاة الجالسة بمعزل عن أخواتها منعكفة على شغلها ومحولة وجهها إلى الداخل؟

قال همام: إنها فتاة رقيقة الجسم، دقيقة القوام، لا ترفع رأسها عن عملها، لم أتبيَّنها جيدًا لأحكم في أمرها.

قال سعيد: والغالب في الظن عندي أنها حديثة عهد في هذه الصناعة، وأنها فقيرة بدليل رثَّة ثيابها وتجرُّدها من الحلي، فليس في أذنها قرط ولا في أصابعها خواتم.

قال فؤاد: هذه الفتاة الضعيفة النحيلة القوام هي الجميلة وحدها بين أخواتها، كالنجم اللامع والبدر الساطع.

قال سعيد: رأيتها حين التفتت فإذا هي صفراء اللون حزينة كالثاكلة، ليس على وجهها شيء من الحُسْنِ، فأنا أستغرب كيف تجدها جميلة؟

قال فؤاد: إن كان الجمال بعُرْفك هو جمال الصور والتماثيل المصنوعة للتزويق؛ ليطرف إليها الولدان، فهذه الفتاة أَجَلُّ من أن تُوصف بذلك، فجمالها بديع حقيقي لتجرده عن التصنُّع والتطرئة، وقد تفرستها فرأيتها قد جمعت مع اللطف والظرف همة الرجال وشهامتهم وكمُلَت بالأوصاف البهية.

قال همام: أكثرت من الإطناب، فوالله لو سمعك سامعٌ تمدحها وتصفها بهذا الوصف لظن أنك مشغوف بها مفتون.

قال فؤاد: إني أعرف طبعك يا خالي، فالمزاح غالب عندك، وتحب التهكم في كل شيء، ولكني أشهد لك بلطف الذوق وسلامته، وأنك تُقدِّر الأمور قدرها، وتُعطي الجمال حقه، فأرجوك أن تُعيد النظر إلى الفتاة مُدققًا فيها، ثم بعد ذلك تعلمني هل تستحق وصفي وأكثر منه أم لا؟

قال همام: مضى علينا الوقت وفرغ صبري، فوالله لو عُرضت عليَّ نساء العالم لما ساوين عندي طحنة ضرس، فقد اشتدَّ بي الجوع وزاد ضجري من غلاظة غانم التي بلغت النهاية، فإن طال الزمن وقعت في داء يكون سببه غانمًا وابنه، قَبَّح الله كل (ثقيل).

وبينما همام يتكلَّم والغضب يعمي بصره أقبل خادم الفندق، فتباشر همام برؤيته، وابتسم منشرحًا مسرورًا سرور قوم نوح حين عادت الطير إليهم تحمل عرق الزيتون.

قال الخادم: إن المائدة قد أُعدَّت للطعام فتفضَّلُوا.

فاتَّجه الثلاثة الرفاق نحو الفندق، وكان همام في مقدمتهم يُسرع في جريه فقابلوا في أثناء الطريق شقيقة غانم وعلى وجهها الحزن الشديد والغم الكثير، فكأنما قد زادت أوجاعها، وكثُرت آلامها بمكوثها في الفندق، غير أن همام لم ينتبه إليها لاشتغال فكره بالطعام. أما فؤاد فأمالَ رأسه مُسلِّمًا، وأما سعيد فلم يعرفها؛ لأن الفقر والغم غيَّر حالتها بعد فراقها وغيبتها سبع سنوات.

مرَّت المرأة المذكورة أمامهم، واستمرت سائرة إلي مخزن الخياطة، فوقفت برهة تنظر إلى داخله متنهدة ثم سارت في سبيلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤