الفصل الثامن

المُتعالي … القصي

يتلخص مفهوم الألوهية عند تيليش في الرفض التام — على أُسِس وجودية — للإله التقليدي المشخص، والبحث عن رب يعلو على الرب God-above-God.
بدايةً، يستغل تيليش «المعنى الواسع للدين» ليستدرج كل الأطراف؛ وعلى أساسه يؤكد للملحدين أنَّ الإلحاد الحقيقي مستحيل؛ لأنَّ الألوهية أقرب إلى الإنسان من حبل الوتين: إنَّها الآفاق اللامتناهية المحيطة بعالمنا، ولا يوجد مكان نفرُّ منها إليه، ولن نستطيع أن ننكر الألوهية إنكارًا مطلقًا، فقط نستبدل بها آلهة زائفة، مثلًا: الله قاطن في السماء، لكن الغريب حقًّا — بل المستحيل — أن نُحاول العروج إليها كي نفر منه! هذا ما يفعله المثاليون اللادينيون، حين يحاولون الصعود إلى سماء الكمال والصدق والعدالة؛ لكي يبرروا الاستغناء عن الألوهية، كي يفروا منها! ولكن إلى حيث لا أين، إلى يوتوبيا. وشبيه بهذا ما فعلته الحضارة التقانية المعاصرة في تقدُّمها العلمي المطرد، كلاهما يحاول الفرار من الله بأن يتقدم إلى الأمام أكثر، ويقتحم آفاقًا أكثر، لكن يد الله فوق أيديهم. الألوهية — كما أخبرتنا المزامير، وكما أدرك مارتن لوثر بقوة وسطوع — هي الحضور الدائم الأبدي، الذي يتغلغل في كل موجود، ليكون أكثر حضورًا.١
إنَّ الفرار الزائف ليس خطأ الفارين فحسب، بل يعود إلى الفكرة التقليدية عن ربٍّ خلق الكون من العدم، ثم يقتصر دوره على مراقبة البشر، لعقاب الخاطئين وإثابة المحسنين ومَن يطيعون أوامره، وكأنه طاغية أو شرطي كوني Cosmic Policeman، مهمته الضبط الأخلاقي! وهو في الآن نفسه يحنو علينا حنو الأب على أبنائه القصر، ويكفل لنا الخلود، والمتع الدائمة والسعادة النهائية.
يقول تيليش: «ليست هذه صورة حقيقية للرب، بل بالأحرى صورة للإنسان حين يحاول أن يصنع ربًّا في خياله، من أجل راحته، إنَّه نتاج خيال الإنسان وتفكيره التواق، ومن حق كل مُلحد مُخلص لحيثيات العقل أن ينكره، فليس هذا إلهًا البتة، وليس ذا حقيقية.»٢ والخطأ يعود إلى اللاهوت التقليدي؛ فقد تسربل في أحابيل توحيد إلهي ملكي monarchic-montheism، وجعل الله مجرد شخص سماوي تام الكمال.٣
هذه الصورة المشخِّصة الساذجة مصدر عراقيل أمام انطلاقة الفكر الديني، وإذا أمكن للدينيين أن يثبتوه، فإنَّه يُمكن للملاحدة أن ينفوه، كما سبق أن أوضح كانط في تبيانه لنقائض العقل الخالص. وأحسَّ القديس برنارد أنَّه يكرهه من نفس المنطلق الذي تتدفق منه ينابيع الحب للرب الحقيقي، وثار ضده الوجوديون؛ لأنَّه يُجرِّد الإنسان من ذاتيته وفردانيته وحريته. وأعلن نيتشه موته. فيقول تيليش: «إنَّ فردريك نيتشه هذا الملحد الشهير، وألد أعداء الدين والمسيحية، قد عرف عن قوى فكرة الألوهية، أكثر مما يعرفه غالبية المسيحيين المؤمنين.»٤
يؤكد تيليش أن إله العهد القديم فعلًا مات، أو أنَّ هذا المفهوم للألوهية لا بد وأن ينتهي، وراح يبحث عن مفهوم جديد لربٍّ يعلو على الرب، ولعله بهذا يباعد بعض الشيء بينه وبين كلاسيكيات المسيحية التقليدية، ويقترب من الطريق الذي شقه المتصوف الوجودي الميستر إيكهارت. وتيليش يجاهر بإعجاب به، ويحلو له الاستشهاد بأقواله، وقد بحث إيكهارت عن ربوبية Godness مفارقة للرب، للثالوث المسيحي. لكنَّه تحدَّث بعد هذا عن صيرورة أو عملية Process الحقيقة التي تنبثق من الربوبية، إلى الكلمة غير المنطوقة (الأب)، إلى الكلمة المنطوقة (الابن)، إلى الحب (الروح القدس). إنَّ الثالوث: الأب والابن والروح القدس، أو الكلمة غير المنطوقة والكلمة المنطوقة والحب، هذا الثالوث يحتويه الله، ومن الحب (الروح القدس) إلى الخلق المثالي، إلى الخلق الظاهري … وعلى المتصوف أن يتحد بالحقيقة عبر نفس المراحل، ولكن بالعكس؛ أي يبدأ من الخلق الظاهري ٥

أما تيليش فهو أكثر تجريدًا ومعقولية، وذلك من منطلق رفضه أن تكون الألوهية موضوعًا، يقبل الإثبات أو النفي، ومفارقًا لعالم الذوات. الرب متعالٍ على عالم الموضوعات، وبالمثل على عالم الذوات، ويتجاوزهما، ويعلو على الثنائية القائمة بينهما، وبين النفس/العالم، إنَّه لا متناهٍ، وهذه خاصية لا يُشاركه فيها أي موجود آخَر؛ لذلك فهو مستوًى فائق للوجود، يعلو على الوجود، إنَّه الوجود ذاته، قوة الوجود التي تُقاوم العدم، عمقه وأساسه، وبالتالي أساس وجودنا، ومنه — من الرب — نستمد شجاعة تأكيد-الذات على الرغم من العدم الذي يهددنا بصوره الثلاث.

وبهذا لا يكون الرب كينونة ثابتة، ماهية استاتيكية، إنَّه روح حيَّة؛ فيؤكد تيليش أنَّ يسوع المسيح ليس إلهًا أصبح إنسانًا، بل إنسانية جوهرية، تجيب على التساؤل الوجودي المطروح، فتقهر قوة الاغتراب، قوة الموت والإدانة واللامعنى، وتفتح أمام الإنسان طريق المشاركة في الوجود الجديد. ومشاركة الإنسان حقيقية، بيد أنَّها جزئية، هكذا تتكاتف المثالية مع الوجودية لتحديد الألوهية.

والمهم أنَّ ثمَّة طريقين للتفكير في الألوهية! طريقًا لقهر الاغتراب، وطريقًا للقاء غريب؛ وقد اختار تيليش الطريق الأول.٦

•••

ولكن تيليش أطلق لنفسه العِنان وهو يفلسف الألوهية، وكيَّفها تكييفًا كي يكون الإيمان بها قهرًا للعدم الروحي الذي يهدِّد عصرنا بقلق الخواء واللامعنى؛ فكان المرمى لمعظم سهام النقد التي وُجهت له؛ ثار عليه اللاهوتيون والفلاسفة على السواء.

اللاهوتيون التقليديون قالوا: إنَّ مفهوم الرب ينبغي وأن يملك في صلب ذاته كل حيثياته، وتيليش جعله غير مستقل، بل معتمدًا على وجود الوجود، ووجود الإنسان؛٧ «هو فعلًا ينكر أية حجة على وجود الرب، ولا يثبت دليلًا إلا وعي الإنسان بتناهيه، الذي يعني وعيًا بلا متناهٍ برب، ويدفع إلى شجاعة تأكيد الذات التي تقهر التناهي والعدم فتؤكده قوة الوجود، الوجود-ذاته الرب …» فرأى البعض في هذا أن تيليش وأتباعه، وأهمهم الأسقف روبنسون، إنما يواصلون اتجاه أقوى مُنظِّري الإلحاد لودفيج فيورباخ L. Feuerbach (١٨٠٤–١٨٧٢م) القائل إنَّ الربَّ يعثر على ذاته، في أعماق تأكيده لذاته،٨ وانتهى إلى أن الإنسان هو الذي خلق الرب أو مفهوم الرب، وليس العكس!

ويسخر كارل بارت من رفض الألوهية التقليدية، قائلًا إنَّ تيليش لا يزال يُكافح ضد «المفتش الأكبر» لديستويفسكي، واعترف تيليش بهذا، بل وأكد أنه عنصر حاسم في تفكيره! وبرر موقفه بأنَّه يُحارب فلول الهترنومي، نشدانًا للثيونومي.

أما الفلاسفة فقد أزعجهم الالتباس الشديد في المفهوم، والمصطلحات الدالة عليه؛ ففضلًا عن الاهتمام القصي والألوهية والرب، ثمة الوجود ذاته Being-itself وأساس الوجود وبُعد الوجود وعمق الوجود، وكلها مردودة إلى قوة الوجود Power of Being، التي هي قوة أن يكون To Be؛ ويأتي جارنيت A. C. Garnett وهو ليس يندرج رسميًّا مع فلاسفة التحليل المنطقي ولكنه يهتم جدًّا بمنطق اللغة الدينية، وأثبت بتحليلات مسهبة أن تيليش لو كان ملمًّا بأبسط مبادئ التحليل المنطقي واللغوي لأدرك أنَّ حججه تستند على فشلٍ في فهْم منطق فعل الكينونة To Be،٩ والحق أننا لم نلمس من تيليش أي إلمام ولا اهتمام بمسألة المنطق وقواعده.

•••

ولعل المهرب الوحيد لتيليش من هذه الانتقادات هو تأكيده أنَّ اللغة العادية تعجز عن أن تقول أي شيء عن الرب، حتى «مطلق» لا تكفيه؛ فكل ما نقوله منتزَع من مادة واقعنا المتناهي، فكيف يُعبَّر عن اللامتناهي، اللهم إلا بصورة مجازية أو رمزية؟! إنَّ اللغة الرمزية هي فقط القادرة على التعبير عن القصي،١٠ والعبارة غير الرمزية الوحيدة التي يمكن أن تُقال عن الرب هي «كل عبارة يمكن أن تُقال عنه عبارة رمزية.»١١ فكان تيليش من أبرز المعبِّرين عن التفسير المجازي الرمزي للغة الدينية؛ أي النظرية القائلة إن كل العبارات الدينية ومضمونات الكتب المقدسة ليست البتة تقريرات عن وقائع، بل هي مجازات، رموز في رموز، إمكانية فك طلاسمها مفتوحة ومتجددة دائمًا؛ وقد تمادى تيليش في هذا حتى وُجِّه إليه نقد بأنه يعجز عن إعطاء أي وظيفة واضحة أو محددة للغة الدينية.١٢

ولكن ليست اللغة فحسب؛ فتقريبًا كل شيء ديني عند تيليش هو رمزي، حتى حدَّد المهمة الرسمية للاهوت بأنَّها توضيح وظيفة الرموز.

والرب الذي يظهر في كل فعل من أفعال الإيمان، هو الرمز الأساسي لاهتمامنا القصي، رمز الرموز المطلق الشامل الحاوي لكل الرموز. وكل العقائد الدينية ينبغي وأن تُفهم على أنَّها محض رموز له. وتيليش — بتعضيد من ملته البروتستانتية — يرفض اعتبار أي شخص أو شيء أو مؤسسة، مقدَّسًا Holy؛ لا شيء مقدَّسًا سوى المطلق الأبدي اللامتناهي غير المشروط — الرب. الرموز الدينية الأخرى كالصليب قدسية؛ لأنَّها تُشارك في قدسيته، لكن المشاركة ليست الدخول في ذات الهوية؛ لذلك فهي ليست قدسية وتحمل قيمتها ومغزاها في حد ذاتها، بل فقط من حيث هي رموز للحقيقة القصية للرب؛ لذلك يفرِّق تيليش بين مستويين للرموز الدينية: المستوى المتعالي الفائق لواقعنا ورمزه الأساسي الرب؛ والمستوى الكامن أي الذي يواجهنا داخل واقعنا التجريبي كتجسُّد المسيح والعائلة المقدَّسة والأم العذراء — وبقية الرموز. ولكن الرب ليس مجرد رمز، إنَّه الوجود-ذاته أساس الوجود؛ لذلك أمكن لأشياء تواجهنا في الزمان والمكان، مأخوذة من خبرة الواقع المتناهية، كحادثة من التاريخ الديني أو معجزة، أن تكون رموزًا له … للمقدس. ونحن ندركها وندرك قيمتها ومغزاها من خلال التواصل بين الله والإنسان من خلال الوحي؛ وأنها تصبح قدسية، لكن تظل دنيوية تاريخية لا فائقة للطبيعة؛ لتذكرنا بأننا مشدودون إلى الأشياء الدنيوية المرئية، تمامًا كما نتحدَّث عن العمق والعميق كخصائص روحية، في حين أنهما مستمدان من الأبعاد المكانية.

والرموز الدينية لا تظهر منفصلة، بل مترابطة في كل واحد؛ ولا يعوزها أن تكون صادقة، يكفي أنها ذات فعالية وجودية؛ أي تحتوي على قوة المرموز إليه فتستثير الوعي بقوة الوجود.

أي رمز — ديني أو غير ديني — يفتح لنا مستوًى من الحقيقة كان مخبوءًا، والحديث غير الرمزي لا يناسبه، وكل رمز له وظيفة معينة لا يمكن أن يؤديها غيره، فلا يمكن أن يحل رمز محل آخر، وهذا هو ما يميِّز الرموز عن العلامات. والرمز الديني هو فقط لا سواه الذي يفتح لنا المستوى الأقصى للحقيقة، البعد اللانهائي؛ أي الألوهية؛ لذلك فهو جوهري جدًّا في التجربة الدينية الفردية. العقل حين يخوص غمارها بعمق، يحتويه ما وراء العقل، ويحتوي هو إياه؛ فلا يمكنه أن يتعامل مع موضوعه مباشرة، أو في صورة مفهوم محدَّد — فقط من خلال الرمز.

والرمز لا يُخلق ولا يكتسب وظيفته بأية نية متعمدة؛ فعن أي رحم تتخلَّق دلالته؟ يُقال عن رحم اللاوعي الجمعي؛ لكن تيليش يقول عن رحم العلاقة المتغيرة — تبعًا للظروف الحضارية — بالقصي، بالرب.

هكذا نلاحظ أن الرمز الديني يحمل التقاطع — أو يقف على الحدود بين الموقف الفردي والموقف الجمعي. وحرصُ تيليش الدائم على هذا من أبرز النقاط التي تُسجَّل له، أو للوجودية الدينية عمومًا؛ لأنه غالبًا ما يفلت من أيدي الوجوديين الملاحدة، أو أنهم يفشلون في تحقيقه حتى ولو حرصوا واهتموا بمقولة المعية والتشارك.

وأبلغ آيات نجاح تيليش في هذا، إنَّما هي انطلاقة تفسيره الديني للتجربة الوجودية الفردية؛ ليغدو من الجهة الأخرى للحدود أساسًا مكينًا للبناء الحضاري المروم — الثيونومي. ولكن لكي يقوم اللاهوت نفسه بهذه المهمة، فلا بد أن يغدو — بدوره — لاهوتًا حضاريًّا.

١  P. Tillich, The Shaking of The foundations, p. 44.
٢  Ibid, p. 42.
٣  P. Tillich, Systematic Theology, Vol. I, p. 271.
٤  Op Cit, p. 42.
٥  E. Q’Brien, Varieties of Mystic Experience, p. 124-125.
٦  P. Tillich, My Search for Absolutes, p. 10.
٧  H. D. Lewis, philosophy of Religions, Op Cit, p. 128.
٨  P. Edwards, Atheism, Art in: Encyclopedia for Philosophy, Vol. I, p. 180.
٩  J. Macqurrie, 20th Century Religious Thought, Op Cit, p. 314.
١٠  P. Tillich, Dynamics of Faith, p. 41.
١١  P. Tillich, Systematic Theology, Vol. 2, p. 93.
١٢  W. P. Alston, Religious Language, Art in: Encyclopedia of Philosophy, Vol. 7, p. 173.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤