يَد القدَر

كانت هند في العشرين من سنها، حين زوجها أبوها من موظف صغير في الدرجة السابعة الكتابية، ولم تعرف هند زوجها عباس فضل، حتى اجتمعت معه تحت سقف واحد، ومع ذلك اغتبطت بهذا الزواج وفاضت بها المسرة؛ لأن الزواج في نظرها غاية كل فتاة، كما أن الموت غاية كل حي، ولأن أمها توفيت، قبل عدة سنوات، فتزوج أبوها وأنجب من زوجته الثانية بنين وبنات، اختصهم بكل عطفه … ولم يأب على زوجته أن تتخذ هند معاونة لها في خدمة البيت، تطهو طعامه، وتتولى نظافته، وترعى أخواتها الأطفال، وتنفق ليلها ونهارها في تنفيذ أوامر زوج أبيها.

وكم تمنت اليوم الذي تهب فيه نفسها لخدمة بيتها هي، لا لخدمة زوج أبيها وعيالها؛ لذا رأت في زواجها منقذًا لها من هذه الحياة الشاقة التي كانت تحياها، دون أن تجد من العطف والحنان، ما يعوضها عن قسوتها وشدتها.

وأعطت هند زوجها كل قلبها، منذ اليوم الأول، ولم يكن ذلك لأنه وقع من نفسها ساعة رأته فعشقته لأول نظرة، بل لأنها رأت فيه يد القدر، التي انتشلتها من بأسائها، وفتحت به أمامها باب الأمل فيما يسمونه السعادة.

ولم يزعجها أن كان عباس موظفًا صغيرًا، وأن مُرَتَّبه الضئيل كان لا يكاد يكفيها العيش الخشن؛ فالصغير يكبر، وضيق العيش طارئ يزول بالجد والاجتهاد. فإذا هي جعلت من نفسها ومن بيتها جنة نعيم لهذا الموظف الصغير، فسيُمكِّنُه هذا من الجد في عمله، ومن إرضاء رؤسائه، ومن الترقي درجة بعد درجة. ويومئذ ينفرج الضيق وتعيش في بيتها أكثر رخاء مما كانت في بيت أبيها، بل إن هذا الرخاء المادي، الذي تعتقده اليوم فلا تجده، لَأيسرُ شأنًا عندها من طمأنينتها في قلب زوجها.

وبادلها زوجها منذ اشتركا في الحياة، حبًّا بحب، وإخلاصًا بإخلاص، وكيف لا يفعل وقد أتاحت له بمرتبه الضئيل ألوانًا من النعمة لم يكن يحلم بمثلها قبل زواجه، وجعلت من بيته سكنًا هانئًا، يغنيه بعد الفراغ من عمله عن كل ما سواه؟

ومَكَّنه بطبيعة الحال من التوفر على عمله في وظيفته، بما أرضى رؤساءه، وجعله بعد عام، أو أقل من عام، يطمع في الترقية إلى الدرجة السادسة!

•••

وتتابعت الشهور، وهند تزداد كل يوم متاعًا بهذه الحياة الراضية المتواضعة، على أن سحابة من القلق بدأت تندس إلى نفسها حين قارب العام أن يستدير، ثم لم يتحقق رجاء أنوثتها! فقد كانت تتوقع أن يبشرها شهر من أشهر هذا العام بأمومة يطمئن لها زوجها، وتشعر معها بأن هذا البيت الصغير ستضيئه أنوار الطفولة البريئة، وتجعل منه مقر أسرة، وتسعد هي، ويسعد زوجها. فلما خذل تعاقب الشهور رجاءها، بدأ مرحها يخبو ضياؤه، وبدأ يرتسم على جبينها الجميل أثر القلق الذي ساورها.

ولاحظ زوجها همها وحدس سببه، فلما أفضى به إليها، انحدرت من عينها دمعة، تولاه الألم لمَسِيلها، فربتَ على كتفها بيدٍ كلها الحنان والحب، وقال لها: فيم تستعجلين يا عزيزتي؟ إنك تعلمين أن مُرَتبي لا يكاد يكفينا لولا حسن تدبيركِ وما تبذلين من جهدٍ لتبعثي إلى حياتنا ما نشعر به من نعمة ورضا، ولعل رحمة الله بنا هي التي أرادتْ ما أثار قلقكِ، وإني لأطمع في ترقيةٍ قريبة، تعاوننا إذا رزقنا الله الخَلَف الذي ترتقبين، على العناية به وحسن تربيته، وأنت لا تزالين بعدُ في شبابك الباكر، فلا تجزعي واصبري، إن الله مع الصابرين.

وازداد عباس بعد هذا اليوم عطفًا على زوجته، مما أنساها قلق أنوثتها. وجاءت الترقية التي كان يطمع فيها، وأتاحت للزوجين شيئًا من سعة العيش، جعلت بيتهما الصغير أكثر ابتسامًا، وجعلت عباسًا أكثر حرصًا على أن يؤنِس وحدة هند فيه، ودفعته إلى مزيد من العناية بعمله في ديوانه، مما ضاعف رضا رؤسائه عنه، وتقريبهم إياه، ومما زادهم ثقة به، وزاده ثقة بنفسه.

وكان عباس يشعر في أعماقه شعورًا قويًّا، بأن هندًا صاحبة الفضل في هذا، ومما طوَّع له تكريس كل وقته لعمله، وللبلوغ من إتقانه مبلغًا غبطه عليه كل زملائه.

•••

وانقضت على ترقية عباس سنوات أربع، يئست فيها هند من أن تحمل وتلد، فاكتفت بما بينها وبين زوجها من حب لم تكن الأيام تزيده إلا عمقًا وإخلاصًا، وفي ختام السنوات الأربع رُقِّي عباس إلى الدرجة الخامسة، ونُقل من الكادر الكتابي إلى الكادر الفني، وأصبح منظورًا إليه نظرة تقدير خاص. فلما صدر قانون إنصاف الموظفين، وزِيدت لهم علاوة غلاء المعيشة، قفز مرتبه قفزة واسعة، مَكَّنَتْهُ من الانتقال إلى بيت أحسن من البيت الذي تزوج فيه، ومكنت هندًا من تأثيث البيت الجديد أثاثًا زاد الزوجين طمأنينة إلى الحياة ومتاعًا بها!

وخيِّل إلى هند، وقد أصبحت في هذا الحال، أن من حقها لنفسها، ومن حق زوجها عليها، أن تعود إلى التفكير في أمر عُقْمِها؛ فقد عرفت من زميلاتها من بقيت مثلها سنوات عدة لم تحمل، ثم رزقها الله قرة عين بل قرة أعين، وفي مقدورها اليوم ما لم يكن في مقدورها بالأمس، في مقدورها أن تعرض نفسها على طبيب، وأن تنفق على العلاج، أفلا يجمل بها والحالة هذه أن تفاتح زوجها في الأمر، وهو لا ريب سيُقرِّها، بل سيشجعها عليه!

وبعد تردد طال أمده، أفضت إلى عباس بخوالج نفسها، فكان جوابه: ربما كان العيب مني، ولست أريد أن أعرض نفسي على طبيب لمثل هذا الأمر المخجل، فلنترك أنفسنا لمشيئة الله، وهو — جَلَّتْ قدرته — قد وسَّع علينا في الرزق من حيث لم نكن نحتسب، وقد يكون في علمه أن يرزقنا من بعد ذلك البنين، فإن يكن ذلك فالشكر له والثناء عليه، وإلا يكن فالشكر له مرة أخرى، أن رفعني في أعين الناس إلى ما وصلتُ إليه، وأن جعلكِ بين النساء محمودة على ما أنت فيه من رخاء ونعمته!

أمسكت هند بعد هذا الجواب عن مفاتحة زوجها في الموضوع كرة أخرى، لكن عبارته «أن أي عيب قد يكون من جانبه» جعلت تتردد في نفسها الحين بعد الحين، أوَلو كان هذا صحيحًا، أفلا يجب عليه — لنفسه ولها — أن يعالج نفسه؟ أم تراه عالَج نفسه في سرٍّ منها فلم ينجح معه علاج؟!

وهَبْهُ لم يكن قد عرض نفسه على طبيب، أو أنه عرض نفسه على طبيب فتبين أن العيب لم يكن من جانبه، أفلا ينبغي أن تُفكر هي في أمرها؟!

لكنها لا تستطيع أن تفعل شيئًا في سرٍّ منه، فما لها لا تعيد الكرة عليه وقد تنتهي إلى إقناعه بما تريد؟

وأعادت الكرة، وألحَّتْ مستعطفة مستشفعة إياه بحبها وإخلاصها، إلى أن قال لها: «استئذني أباك، فإن أذن كنتُ عند ما تريدين!»

وذهبت هند إلى بيت أبيها تستأذنه، فألفتْ لدى بابه إخوتها الأطفال يمرحون، هنالك رفعت رأسها إلى السماء تشكو إليها قسوة القدر، فلما دخلت ورأتها زوجةُ أبيها، سألتها في دهشة عما جاء بها!

ثم نادت أطفالها وأدارت عليهم البخور من خوف حسدها! فلما رأت هند ما فعلتْ، ترددت دون المُضي فيما جاءت فيه، وأرادت أن تعود أدراجها إلى منزلها، لكنَّ أباها حضر قبل أن تنفذ عزمها، فذكرت له أن زوجها يريد أن يحدثه في شأن لم يُفْضِ به إليها، ورغبتْ إليه أن يحضر عندها غداة ذلك اليوم!

وخُيِّل إلى زوج أبيها أن خلافًا دبَّ بين هند وعباس، فابتسمت عن رضا، ثم أومأتْ إلى زوجها قائلة: اذهب إليها لعل الله أن يهديهما وإلا فبيتُك بيتها، ونحن جميعًا في خدمتها!

•••

وذهب الأب في الغداة إلى بيت ابنته، قبل حضور زوجها من عمله، فلما رأته أفضت إليه بما دار بينها وبين زوجها في شأن حَمْلِها، فأجابها في حزم: وما لي أنا وذاك؟ ذلك شأنكما، تصرفَا فيه بما تشاءان.

وأدركت هند أنه لا يريد أن يُصرح بالإذن لها، مخافة أن يطالبه زوجها بالاشتراك في نفقة علاجها، فأخذتْ تداوره، تريد أن تستدرجه إلى إذن صريح، وإنها لكذلك إذ أقبل زوجها، فبادره أبوها بعد التحية بقوله: ما حرصك على إذنٍ مني في أمر هو من شأنكما وحدكما؟ قال عباس: «ذلك أنني اليوم راضٍ بإرادة الله فينا، سواء كان العيب منها أو مني، وأخشى إن قرر الطب العيب مني أن تتنازعني نفسي إلى من يخلفني، برغم محبتي هندًا أصدقَ الحب، ووفائي لها أصدق الوفاء، واعترافي الصريح بفضلها فيما بلغناه من رخاء ومكانة.»

وأسرعت هند حين سمعت هذا الكلام، فقالت: أشكر لك يا عزيزي رقة عواطفك، وأعِدُك صادقةً أنه إن كان العيب منك فلن أتحول عن التفاني في محبتك، والعيش ما حييتُ سعيدة بعطفك وحمايتك، وإن كان العيب مني فأنتَ وما تشاء، ولا تثريب عليك إن هفت نفسك إلى من يخلد اسمك!

قال عباس: «أنت إذن وما تشائين، ولن أضن عليكِ في سبيل ما تريدين بما أطيق من نفقة!»

وانصرف الأب مطمئنًّا إلى أنه لن يحمل في هذا الأمر عبئًا ما أحوج صغاره إليه!

وأثبت الطب أن عباسًا لا عيب من جانبه، وأن هندًا تحتاج إلى طويل الأمد. وأذعنت هند لهذا القضاء، وأخذت تتردد على الطبيب فإذا انقضى شهر بعد شهر ولم تحمل، تولاها الضيق، وكاد يتولاها اليأس، برغم ما كان عباس يبذله من لطف بها، وتهوين للأمر على نفسها!

وكان عباس من جانبه يرجو أن ينجح العلاج، وأن يرزقه الله من يرثه، بعد أن أثبت الطب أن لا عيب من جانبه. وانقضى عامان كان تعاقُب شهورهما يزيد عباسًا شعورًا بعبء ما ينفق في هذا السبيل، فكانت نفسه تهفو إلى نهاية هذه النفقة نهاية سعيدة، بحمل يطمئنه ويطمئن هندًا معه. فلما لم يحقق الطب رجاءه، بعد أن تولاه الحرص على عقب يخلفه، دعا إليه حماه وقال له وهند حاضرة: أنت تذكر يا عماه حديثنا منذ أكثر من عامين في أمر الخلف، وتذكر ما قلته وما قالته هند، ومن يومئذ نزلتُ على إرادتها، وبذلت كل ما وَسِعَتْهُ طاقتي لتحقيق رجائها، لكن الطب عجز؛ لأن الله لم يشأ أن يكون لي عقب منها، ونحن الآن متزوجان من أكثر من عشر سنين، وأنا أحس — مع تقدم السن — بشدة الحاجة إلى من يعينني في شيخوختي، ومن يرثني يوم يختارني الله إليه … وأنا ما أزال أحب هندًا من أعماق نفسي، وقد صبرت هذه السنين الأخيرة، وأنفقت ما أنفقت، طمعًا في أن يكون لي منها غلام، تقر به عينها، وتقر به عيني، أما ولم يحقق الله رجائي، فقد رأيت أن تشير عليَّ في هذا الأمر بحضرة هند!

ولم تنتظر هند جواب أبيها، بل قالت في صوت تخنقه عبرة تحاول المسكينة التغلب عليها: ألم أقل لك منذ سنتين إنه لا تثريب عليك إن هفتْ نفسُك إلى من يخلد به اسمك؟ لقد كنت أطمع أن أكون أمًّا لهذا الغلام، أما وقد أبت مشيئة الله عليَّ هذه السعادة فأنتَ وما بدا لك! ولن أتحول من التفاني في محبتك، والعيش ما حييتُ في كنف عطفك وحمايتك، والآن أدعك مع أبي، والرأي ما تريان!

وانصرفت الشابة إلى مخدعها، كي تترك العنان لدموعها تخفف عنها هم يأسها، وأي يأس وأي حزن؟ فهذا زوجها يريد أن يتزوج فتكون لها ضرة مرجوة الخلف، إذ هي عاقر عقيم! هذا هو الستار الأسود الذي يحجب عن ناظرها، وعن أملها، كل رجاء في النعيم!

وماذا يريد عباس أن يقول لأبيها؟ أَبَلغ من أمره أنه يريد تطليقها؟! تلك إذن الطامة الكبرى، والنازلة القاضية على حياتها قضاءً مبرمًا، أوَلَيس معنى هذا أن تعود إلى بيت أبيها أمَة رِق لزوجته، تسومها الخسف، وتذيقها الهوان ألوانًا؟

ذلك أمر لا شبهة عندها فيه، أما إن بقيت مع زوجها على ضرة فقد تكون ضرتها عاقرًا مثلها، فيجمع الهم المشترك بينهما، وقد لا تستطيع — وإن ولدت — أن تكسب قلب عباس كما كسبته هي، فيظل لها من المكانة عنده ما يقيها السعير المحتوم في بيت أبيها.

ألم تُدِر زوجة أبيها البخور على رأس أبنائها لتفسد حسد هند إياهم؟! فإن يكن ذلك رأيها فيها، ولها زوج يحميها وبيت يقيها المذلة، أفتتحرج عن اتهامها بكل منقصة يوم لا يكون لها رجاء إلا في عطف أبيها، وقد أخذت هذه الزوج عليه مسالك قلبه وأمسكت بيدها خلجات فؤاده؟!

وإن ذلك كله ليدور بخاطرها، إذ ناداها أبوها وقال لها: لقد أقررتُ عباسًا على أن يتزوج، وقد ترك لك الخيار، إن شئت بقيت على ذمته، أو شئت سَرَّحَكِ سراحًا جميلًا!

وقالت هند في غير تردد: الأمر في ذلك له، فإن سرحني بقيتُ على الوفاء له ما حييتُ، ولن أحب رجلًا غيره، وإن أمسكني شكرتُ له نبيل عاطفته وسمو نفسه، فهو يعلم أن الذنب ليس ذنبي، وأن عواطفي معه من كل قلبي!

قال عباس: «وأنت يا هند على عيني ورأسي! وعصمتك من اليوم في يدك وليست في يدي … ولن أنسى ما حييت أنك سبب هنائي ومفتاح فضل الله عليَّ وعنايته بي!»

وانصرف الأب، وتزوج عباس زوجته الثانية بعد أيام، ولم تبطئ هذه الزوجة الجديدة أن حملت، وفي الأشهر من حملها، شاءت ثقة الرؤساء بعباس نَدْبَه إلى بلد ناءٍ ليعالج أمرًا عجز غيره عن علاجه.

وخشيت الزوجة الجديدة على نفسها وعلى حملها أن تصحبه في سفره، فاصطحب هندًا وقضيَا في هذا الندب عدة أشهر. فلما عادَا إلى منزلهما، كانت الزوجة الجديدة وشيكة الوضع، وكان أكبر ما يرجوه عباس أن تضع غلامًا يعينه في شيخوخته ويرثه حين وفاته. فلما علمت هند أن ضرتها وضعت بنتًا، رفعت كفيها إلى السماء، شكرًا لله أن لم يبلغ خذلان القدر إياها مداه فيمتع عباسًا من غيرها بما يحقق له أملًا أبى القدر عليها هي أن تكون مصدره.

•••

وبعد أشهر، حملت الزوجة الثانية مرة أخرى! ثم ذكرت لعباس أن البيت أصبح لا يتسع له ولها ولأبنائها … ولهند معهم! فإما أن ينتقل بها، وإما أن ينتقل بهند، إلى بيت جديد. ولا يستطيع عباس أن يعتذر عن عدم إجابة طلبها بضيق ذات اليد، فهو اليوم في الدرجة الرابعة، وهو مرشح للدرجة الثالثة، وقد استطاع أن يشتري مما اقتصده بعضَ أفدنة زادت إيراده!

دعا إليه هندًا، وأفضى إليها برغبة أم ولده، وقال لها: الرأي الآن لك، وأنت تُقَدِّرين أنني مطالَب اليوم، وقد أصبحت أبًا، بأن أقتصد احتياطًا لمستقبل أولادي.

وبكتْ هند لما سمعت، ولم تحِرْ جوابًا، فاستطرد عباس يقول: أدعو أباك وأدَعُ له الحكم بعد أن أشرح له موقفي، وسأنفذ حكمه على أية حال!

وجاء أبوها، وشرح له عباس ما تحتمه زوجه الجديدة، وأنه لا مفر من النزول على إرادتها، فنظر الرجل إلى ابنته مُغضَبًا وقال لها: كيف ترضين هذا الحكم أيتها الحمقاء؟ إن بيت أبيك يسعك ويسع عشرات معك، وقد ترك عباس أمرك إليك، وهو لا يأبى أن يُسرِّحك إن شئتِ، فما بقاؤك في بيت لم يبق لك مكان فيه؟!

وانخرطت الشابة في البكاء، وقالت وكأنها لا تعي ما تقول: كلا يا أبي، فنار عباس ولا جنة زوجتك!

واستشاط الأب غضبًا حين سمع عبارتها، ورفع يده يريد أن يضربها، فحال عباس بينه وبينها، وخرج الأب الغاضب يلعن ابنته وقلة أدبها، وينسب ذلك إلى ما ورثته من أمها ويقسم إنه لن يرى من بعدُ وجهها!

وأشفق عباس على هذه المسكينة، التي ظلمها القدر، وظلمها أبوها، وأخذ يتلطف بها، ويُطيب خاطرها، حتى هدأت ثائرتُها. ثم قال لها: ماذا عليك أن تقيمي في بيت بعيد عن ضُرتك وأن تَنسي وجودها، إنني لن أنسى أنك كنت عَتَبة سعد لي، ولن أكون معك إلا على ما يرضيك.

وانتقلت هند إلى بيت آخر متواضع، وكان زوجها يمر بها بين الحين والحين، وكان انتظارها إياه يطول أحيانًا، فتأخذ بخناقها الوساوس، وكان أشد ما يُفزعها إشفاقها من أن تضع ضرتُها ولدًا يُحقق رجاء أبيه، فلا يبقى لها مكان من نفسه، ولا مكان من بيته، فينتهي إلى تطليقها، وتضطر إلى الرجوع إلى بيت أبيها، والخضوع لِتَحَكُّم زوجته فيها، وذلك عندها هو الجحيم والعذاب المقيم!

كانت هذه الفكرة تتحكم في أعصابها أحيانًا، فتذرف الدمع سخينًا، وترفع عينيها النجلاوين إلى السماء تناجيها: أي ذنب جنت ليكون ذلك جزاءها؟ وتذكر وهي في همها وجزعها قريبات وزميلات لَسْنَ أجمل منها … بَسمَ لهن الحظ بعد عبوس، ورضي عنهن القدر بعد قسوة!

تلك ابنة خالتها … تزوجتْ من كهل يكبرها ثلاثين سنة، ومع ذلك أنجبت منه، وهي سعيدة كل السعادة! وتلك زميلتها في المدرسة، التي تزوجت كهلًا هي الأخرى، وبقيتْ معه أكثر من عشر سنوات، توفي بعدها فورثته، وتزوجت شابًّا أنجبت منه البنات والبنين، فهي في رخاء وطمأنينة ورضا، وثالثة، ورابعة، وخامسة … كلهن يعشن ناعمات راضيات، وليس فيهن من تفوقها جمالًا وذكاء. أما كفاها موت أمها وهي لا تزال في نعومة صباها، وزواج أبيها للمرة الثانية، وقسوة زوجة أبيها بها؟! أما كان عدلًا أن تجزى عن ذلك كله بشيء من السكينة إلى الحياة … سكينة تُعوِّضها عن أحزانها وآلامها، لكل هذا الذي أصابها؟! أم أن عدالة السماء لا تعبأ بمثيلاتها، وإن لم يَجترحن ذنبًا ولم تكن لهن في الحياة جريرة؟!

إنها اليوم بين نارين: نار ضرَّتِها، ونار زوج أبيها، وزوجها وأبوها لا يستطيعان شيئًا، وقد استبد حب الخلف بالأول، واستبدت كثرة الخلف بالثاني، وبذلك تمكنت ضرتها وزوج أبيها من الرجلين تتحكمان في تصرفاتهما بما تشاءان، ثم يحسب كل رجل منهما أنه صاحب اليد العليا والكلمة النافذة في بيته!

وألحَّ هذا التفكير على هند، وجعل يساورها ليلها ونهارها، كلما أخذت الوحدة بخناقها، فأظلمتِ الدنيا في وجهها، وفيما كانت أشهر الحمل تتقدم بضرتها، كان هذا التفكير يُحطم صحتها ويذبل نضرتها، فإذا تصورت أن ضرتها ولدت غلامًا، ركبت القشعريرة كل جسدها واضطرب قلبها وحنانها، وبلغت من ذلك أن ركبتها حُمى، حار الأطباء في تشخيصها، وحاروا لذلك في تصوير علاجها، وكانت هذه الحمى تزداد على الأيام شدة، حتى لقد خشي الطبيب المعالج على حياة هند، بعد كل الذي بذله من عناية فائقة بها!

•••

وإنها لتعاني بأساء المرض وضَرَّاءه، إذ دخل عليها يومًا متجهِّمًا والدمع يكاد يطفر من عينيه، وسألته عما به، فلما لم يُجِبْ قالت: لعل الله رزقك بنتًا ثانية؟!

وتَنهَّد عباس، وهز رأسه في حسرة ثم قال: «نعم!»

هنالك أشرقت أسارير هند، وإن لم تتفوه بكلمة، ومن يومئذ بدأ الطبيب يطمئن شيئًا فشيئًا إلى تقدمها نحو العافية!

وبرئتِ المسكينة، ثم تعافت واستردت كل صحتها!

وأَعْجَبُ من مرضها، ومن إشرافها على الموت، ومن بُرئها … أن هذا المرض كان علاجًا لها فيما عجز الأطباء عن علاجه، فقبل أن تقضي ضرتها أسابيع نفاسها، كانت هند قد حملت، فلما اطمأنت إلى حملها، أشرق وجهُها، وعادت إليها نضارتُها، وفَرِح عباس من كل قلبه لحملها، وأخذ يعودها كل يوم يسأل عن صحتها، فلما تمت أشهرها وضعت غلامًا، طار عباس فرحًا به وفاضت المسرة بهند منذ وضعته وأَنْسَتْها ابتسامتُه كل عتابها للقدر وكل شكواها إلى السماء!

وجلس عباس يومًا إلى جانبها وهي جالسة ترضع طفلها، فنظرت إليه بعينين مُلئتا حبًّا وقالت: تُرى لو أنك لم تتزوج ضرتي، ولم يبلغ الحرصُ مني أن أوقفني على حافة الموت، أفكان اللهُ يهب لي هذا الغلام الجميل؟

وابتسم عباس لهذه العبارة، ثم قال: إن لله في خلقه شئونًا، وهو وحده الذي يعلم الغيب، وهو أعدل العادلين وأرحم الراحمين!

وبعد هنيهة، التقت شفاههما على يد الغلام البريء الطفل تقبلانه، وقد أضاء قلبيهما نور البشر والسعادة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤