تربيتي الأدبية

عندما أرجع بذاكرتي إلى البذور والجذور التي نشأتُ ونبتَتْ منها ثقافتي الحاضرة أجد أنها تكاد جميعها تعود إلى الفترة الواقعة بين ١٩٠٧ و١٩١١ حين كنت في لندن. ففي تلك الفترة كانت هناك طائفة من المذاهب والنظريات في الأدب والعلم «تتجرثم»، وقد كان من حظي الحسن أن أدركت الجراثيم الأولى لهذه الحركات. ومع أني الآن مُشرف على الستين، فإني أجد — بالاستبطان الذهني — أن ما أعرفه أو أعتقده أو أدعو إليه من نظريات أو مذاهب في ١٩٤٦ إنما أخذت جراثيمه الأولى من تلك الفترة. ولم تكن الزيادة في السنين بعد ذلك سوى زيادة في نمو هذه النظريات والمذاهب أو التوسُّع فيها أو التفرع منها. وظني أن هذا هو المألوف أيضًا في سير التكشُّف الثقافي عند غيري؛ أي إننا لا نكاد بعد العشرين نجدد شيئًا، وإنما قصارانا أن ندافع عما أحببنا أو تلقَّيْنا راغبين، ثم يبعثنا الحب إلى النمو بالتوسع والتعمق. وعندي البرهان على ذلك؛ فإني في ١٩٠٩ ألفت رسالة صغيرة تبلغ نحو ٤٠ صفحة بعنوان «مقدمة السبرمان»، حين أعود إليها الآن، أجد فيها جميع الجراثيم الفكرية التي لا تزال تشغل ذهني، وهي تمتاز بفجاجة في الأسلوب مع فجور في التفكير. إذا كانت تدل على عقل خام ناشئ، فهي أيضًا تدل على عقل مستطلع واثب.

واندمجت في المجتمع الإنجليزي الجديد، وأعني بنعت «الجديد» تلك الطوائف والجماعات المستطلعة المتسائلة في «الجمعية الفابية» و«جمعية العقليين» وأمثالهما، وكان كل شيء في تلك السنين في البوتقة في سبيل التغير والتطور؛ فقد كان حزب الأحرار في مجده يقوده كامبل بانرمان واسكويث ولويد جورج. ولكن هذا المجد كان يحمل غبار القرن التاسع عشر. وتراكم هذا الغبار حتى لم يستطع الأحرار أن يَنْفُضُوه عنهم. فلم تَمْضِ عليهم بعد ذلك نحو عشر سنوات حتى خنقهم فلم نَعُدْ نسمع شيئًا عن الأحرار بعد الحرب الكوكبية الأولى. وكانت جراثيم الاشتراكية تختمر في كل أوروبا، وكان هؤلاء الأحرار أنفسهم عجينتها التي نمت فيها هذه الجراثيم.

ولم يمضِ عليَّ عام في لندن حتى وجدتني أتجه نحو اليسار أي نحو الاشتراكية. ولم يكن هذا الوجدان سياسيًّا فقط، فقد وجدتني اشتراكيًّا قبل أن أقرأ ماركس لقوة الجذب التي كانت عند الاشتراكيين في ناحيتي العلم والأدب. ذلك أن هؤلاء المجدِّدين في السياسة كانوا أيضًا مجددين في العلم والأدب، يؤمنون بمذهب داروين، ويؤلِّفون جمعيات لليوجنية أي إصلاح النسل، كما كانوا يقرءون الأدب الروسي ونيتشه وإبسن؛ ولذلك أدركتني الاشتراكية في تلك الأيام عن طريق الأدب أكثر ممَّا أدركتني عن طريق السياسة. وكان «التطور» لا يزال مذهبًا أكثر ممَّا كان نظرية علمية؛ ولذلك أنفق «العقليون» مجهودًا كبيرًا في المقاومة السلبية للكتب المقدسة بدلًا من أن ينيروا أو يشرحوا حقائق التطور.

وأذكر أنه في تلك السنوات طَغَى الأدب الروسي على لندن؛ فلم يكن هناك حديث أو سمر إلا عن جوركي أو دستويفسكي وأمثالهما. وأذكر أني حضرت محاضرت عن تولستوي فوجدت الحاضرين المستمعين كأنهم في معبد خاشعين. وكانت المحاضرة أيضًا أشبه بعظة دينية. وكان هذا طبعًا من الانحرافات في تفسير تولستوي؛ لأن مقام تولستوي في الفن كان أكبر جدًّا من تلك التطوحات الوعظية التي شطح فيها. وأذكر أن أحد الناشرين عرض قصة صغيرة لأحد الروس فسارت في المكتبات كأنها حريق، فلم يكن أحد يتكلم إلا عنها. وهذا يدل القارئ على المكانة العظمى التي احتلها أدباء الروس في لندن في تلك الفترة، حتى أشار إليهم برناردشو مرة بكلمة «العمالقة». ولما عدت إلى القاهرة شرعت — بهذا التأثير — أترجم «الجريمة والعقاب» لدستويفسكي وطبعت منها على نفقتي جزءًا يبلغ نحو ١٢٠ صفحة. ولكني أخفقت في نشره حتى بعت هذا الجزء بسعر مليم واحد للنسخة. وثبطني هذا عن المُضي في الترجمة لسائر القصة. ولكني دأبت في الحديث والكتابة عن الأدباء الروس، حتى صار كثير من القراء الذين كانوا يجهلونهم على وجدان بهم.

وفي تلك السنوات عرفت إبسن ونيتشه وبرناردشو وولز، وأذكر أني قضيت ليلة كاملة إلى الصباح وأنا أقرأ نيتشه وقد أخذني سحر أسلوبه وجراءة تفكيره. ونيتشه لا يخطو ولا يعدو، وإنما يقتحم ويثِب. ولكني عندما أرجع أيضًا إلى الاستبطان الذهني أجد أني لم أتأثر كثيرًا به أو أنَّ أثره كان مقصورًا على سنوات، على الرغم من الحماسة التي كنت أتلقى بها مؤلَّفاته وأحفظ بها عباراته. فأنا الآن خلو أو كالخلو من المركبات الذهنية التي أستطيع أن أعزوها إلى نيتشه. ولكنه غرس فيَّ الإقدام النفسي وحطم عندي ما كان باقيًا من قيود غيبية. أما مؤلفات داروين مثلًا فكنت أقرؤها في عناء التفكير حتى كنت أترك الكتاب أيامًا أو أسابيع ثم أعود إليه يحفزني إحساس الواجب لا الرغبة، فلم يكن له في صدري حماسة. ومع ذلك هو الباقي الآن في كياني الثقافي. وكتابي «نظرية التطور وأصل الإنسان» هو إحدى ثمرات داروين. ولا تزال هذه النظرية تفتق في خلاياي الذهنية، وتحملني على توسع وتعمُّق في التفكير البيولوجي والسيكلوجي والاجتماعي.

وهنريك إبسن يُعَدُّ الآن من الكتاب القدامى، ولكنه كان جديدًا في تلك الفترة بين ١٩٠٧ و١٩١١. وكان وقعه في نفسي كبيرًا، أكبر ممَّا كان في نفوس قرائه الأوروبيين؛ وذلك لأنه كان يجدد في مجتمع كنت أَعُدُّهُ أنا جديدًا بالمقارنة إلى مجتمعنا المصري الجامد؛ إذ كنت أُدْمِنُ التفكير في حال المرأة المصرية والمرأة الأوروبية، وكنت كثير الإعجاب بحرية الثانية في باريس ولندن وأنها تملك جزءًا كبيرًا من مصيرها وتقرره. ولكن درامة إبسن «بيت اللعبة» أو «بيت عروس» كشفت لي عن حقائق مُرَّةٍ، وبسطت لي آفاقًا جديدة؛ لأن ما كنت أتوهمه عن حرية المرأة أو استقلالها في أوروبا إنما هو في نظر إبسن لم يكن سوى طلاء سطحي يخفي حقيقة الاستعباد القائمة؛ لأن المرأة لا تجد من المجتمع سوى التدليل لأنها لعبة الرجل أو هي كالعروس من الخشب يلعب بها الأطفال، أطفال الرجال الذين لا يطيقون المساواة الحقيقية بينهم وبين النساء. ومغزى الدرامة أن المرأة يجب أن ترتفع من الأنثوية إلى الإنسانية، ويجب أن ترفض التدليل وأن تربي نفسها وتكسب الاختبارات في هذه الدنيا؛ لأنها إنسان قبل أن تكون زوجة أو أمًا.

وعندئذٍ انجابت عن ذهني غشاوة، واتضح لي أن المرأة الأوروبية كالمرأة الشرقية سواء، وأن ما بينهما من فرقٍ إنما هو طلاء الحضارة فقط، أو هو فقط فرق الدرجة في الاستعباد. وهو استعباد بعيد أحيانًا عن أية رحمة أو رأفة؛ لأن المرأة التي تعمل كالرجل لا تحصل على أجره. وفي أقطارٍ أوروبية كثيرة كانت لا تحصل على ميراثه. وكانت الجامعات ترفض قبولها طالبة، كما كانت ترفض الدولة قبولها ناخبة أو مرشَّحة لعضوية المجالس البرلمانية.

وليس لهذه الدرامة قيمة في أوروبا الآن؛ لأن الحال تغيرت في ١٩٤٦ عمَّا كانت عليه في ١٩١٠، بل تغيرت كثيرًا جدًّا، وكثير من هذا التغيير يُعزى إلى هذه الدرامة التي أهابت بالمرأة أن تكون إنسانًا له شخصيته ومكانته في هذه الدنيا قبل أن تكون أنثى أو زوجة لها مكانتها في البيت.

وكنت في تلك السنوات لا أعرف عن المسرح إلا ما كان يخرجه لنا سلامة حجازي من التمثيل الميلودرامي والأغاني الغرامية. فكانت الدرامة عندي لهوًا فنيًّا لا أكثر. ولكن إبسن جعل الدرامة اجتماعية بل أحيانًا فلسفية. وقرأته في انتباه وقلق وتفكير وتعب. وأصبحت أصد — في اشمئزاز ذهني — عن المرأة المؤنثة المغناج، وأحترم المرأة العاملة الكاسبة التي تصر على أن تحيا وأن تعرف وتختبر. وعندي أن إبسن كان محوريًّا في ثقافتي؛ لأن دراماته بعثتني على دراسات أخرى متصلة بالموضوعات التي عالجها هو في أسلوبه الدرامي.

وإذا كانت أوروبا قد أهملت إبسن الآن فذلك لأنها تعلمت منه وعملت بجميع مبادئه. ويعد برناردشو إحدى ثمرات إبسن. فإن جميع دراماته اجتماعية أو فلسفية. ولكنه يختلف عن معلمه من حيث عجزه عن الكمال الفني الذي استطاع إبسن أن يرتفع إليه.

وقد تأثرت كثيرًا ببرناردشو. وعندما أسائل: لماذا لم أؤلف كتابًا عنه إلى الآن؟ أعود بذاكرتي إلى محاولات في هذا التأليف كان يصدني عن المُضِيِّ فيها أني أعرف الكثير عن برنارد شو. فصعوبتي هي صعوبة خراش، بل هي أكثر. وهي أن زيادة على أني سأُضْطَرُّ إلى الاختيار مع الإسهاب والتفصيل فإني أيضًا سوف أواجه من المبادئ والأفكار والفلسفات ما أحتاج إلى تفصيله ممَّا لا يطيقه قارئ رجعي أو جامد لم تتفتح مسامُّ ذهنه للتفكير العصري بل المستقبلي. فإن برناردشو يفكر للمستقبل. وهو علمي الذهن يفكر في آفاق فلسفية بلغةٍ أدبية. وقد أمضيت من حياتي نحو أربعين سنة وأنا أتعلم على يديْ هذا الحكيم الذي أَعُدُّ حياته في عصرنا نورًا ونارًا لجميع الذين يعرفونه، ولا أظن أنه فاتني شيء مما كتب. وكتاباته هي الآن هورمونات ذهنية توقظني وتحركني.

والكاتب ينفعنا إما بما يبسط لنا من معارف، وإما بما يرسم لنا من خطط واتجاهات. وبرناردشو من النوع الثاني؛ لأنه يسدد العقول الزائغة نحو أهدافٍ بشرية جديدة، ويبعثنا على الاستطلاع العلمي للدنيا والإنسان والمستقبل. والنزعة العلمية في برناردشو قوية جدًّا، ولكنها ممزوجة بنزعةٍ فنية أيضًا؛ ولذلك نشعر كأنه يحس بعقله ويفكر بقلبه. وهو أحيانًا يسب ويهاتر ويهدد بالمعاني العلمية. ومشاجرته مع داروين بشأن «تنازع البقاء» هي مشاجرة فلسفية سيتوقف على الإجابة عليها — وخاصة بعد اختراع القنبلة الذرية — مصير الإنسان. إذ ماذا يكون مصير ٩٩ في المائة من البشر إذا ثبت أن الحق للقوة، مهما يكن نوع هذه القوة؟ أو إذا كان معنى تنازُع البقاء هو بقاء الأصلح كما نرى هذا «الأصلح» في عصرنا؟

لقد رَدَّ برناردشو على داروين بأن ذكره بأن المسيح لم يكن صالحًا للبقاء … في النظام البيولوجي الذي وضعه داروين للتطور.

وبرناردشو مجاهد، وأدبه هو الأدب الجهادي، أو كما يسميه هو الأدب الصحفي؛ لأنه يبحث الهموم والاهتمامات العصرية بالذهن العلمي في ضوء المستقبل. وقد أحدث لي مركبات أو عُقدًا أدبية وفنية ذهنية كثيرة في حياتي الثقافية لا تزال إلى الآن مثار التفكير والتأمُّل.

وأحيانًا حين أتأمل الكاتب العظيم أجد أنه عظيم من حيث إنه قادر على أن يترك لنا عقدة ذهنية، في المعنى الحسن، تترتب عليها أفكار واهتمامات متصلة متشابكة نامية؛ فقد ترك إبسن في ذهني عقدة ذهنية هي «الشخصية الاستقلالية» التي هي الواجب الأول على كل إنسان. وترك برناردشو عندي طائفة من العُقَدِ ربما كان أهمها هو النظر البيولوجي للإنسان، وأن التطور المستقبلي للبشر يجب أن يكون له المقام الأول عند أية حكومة متمدنة. بل هو يقترح أن تكون لكل دولة وزارة خاصة بالتطوُّر غايتها بحث الوسائل كي تتطور الأمة.

ولا عبرة بأن تكون له أخطاء وأوهام؛ إذ ماذا نبالي — كما يقول نيتشه — أن يكون في رأس المفكِّر بعض الديدان؟

ولم أَرَ رؤيا واحدة في برناردشو، بل رأيت ثلاثًا أو أربعًا. والرؤيا الأولى هي الاشتراكية الإنسانية. وهي بالطبع لا تختلف عن اشتراكية ماركس العلمية. ولكن برناردشو — لأنه أديب وفيلسوف وفنان — جعل المذهب الاشتراكي مذهبًا إنسانيًّا، ودمغ بالخزي كل من يجهل الاشتراكية أو لا يسعى لها. وهو الذي استطاع أن ينشر هذا المذهب بين الأثرياء؛ لأنه أثبتَ لهم أن أموالهم لا تساوي همومهم وما يتعرضون له من قلق، وأن الاشتراكية إنما جاءت لتُغني وتَزيد لا لتُفقر وتَنقص.

والرؤيا الثانية هي ديانة برناردشو؛ فإن مشاجرته مع داروين ينتهي مغزاها إلى أنها مشاجرة دينية. إذ كيف يمكن أن نسكن إلى كون يكون محوره ومغزاه تنازُع البقاء وبقاء الأصلح؟ وقد قلت إن من الموانع التي حالت دون تأليفي عن برناردشو أني كنت أخشى الأذهان الجامدة التي لم تتسع مسامُّها الذهنية للآراء الجديدة. وهنا أيضًا أقول إني عاجز عن بعض الإسهاب أو التفصيل لديانة برناردشو. وقصاري أن أقول إنها ديانتي وإن عمودها الفقري هو التطوُّر الذي يعد فيها أسلوبًا وهدفًا.

أما الرؤيا الثالثة فهي الإيمان بالعلم بل السلوك العلمي ولكن مع الدين، وعلم بلا دين هو القنبلة الذرية وبقاء الأصلح كما يفهم هذا الأصلح أو يتخيله تجار منشستر ونيويورك، ولكن العلم مع الدين هو السعادة البشرية والتطور إلى السبرمان.

وبرناردشو مثل جوتيه قد جعل من حياته كتابًا آخر، بل ربما كان هذا الكتاب أحسن مؤلفاته؛ فإن الناس يقرءون حياته ويستوحون منها القدوة والصلاح. فهو الآن في التسعين، وقد عاش منها ستين سنة وهو نباتي. وهو يسير كل يوم ساعيًا على قدميه نحو سبعة كيلومترات ويقرأ ويكتب كما لو كان في الثلاثين أو العشرين. وهو يخفف من ألم الحقائق بالفكاهة، تلك الفكاهة الجديدة النارية التي تخرج منه كأنها تشنُّجات الحكمة أو وخزات الفلسفة.

ومن عجب أن هذا الرجل — الذي نسترشد بآرائه وتستنير برؤاه أحسن الطبقات المثقفة في العالم — هذا الرجل لم يتعلم قط في مدرسة أو جامعة. وقصارى ما حصل عليه تعليم أبتر في السنتين الأولى والثانية من المدرسة الابتدائية. ولكن إذا عُدَّ هذا تقصيرًا أو قصورًا في النظام التعليمي وبرامجه، فإنه يجب علينا أن نعد ارتقاء برناردشو إلى القمة في الثقافة العصرية برهانًا على أن الثقافة السامية قد أصبحت مشاعة بين الجمهور، بحيث إذا توافر الذكاء والعناية استطاع أي فرد منه أن يصل — من الكتب المطبوعة — إلى أرقى ما يستطيع المتعلم في الجامعة بل أكثر. وهذا ما لا يمكن أن يُقال في قُطر مثل مصر. وإنما يقال مع التأكيد عن فرنسا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة؛ لأن الثقافة شائعة تفشو في كل مكان بكل طُرُزِهَا الابتدائي والمتوسط والعالي، ولذلك سرعان ما يتعلم الأمي أو من هو في مقامه ويتسلق إلى القمم.

وهناك شخصية فذة أخرى كانت محورية توجيهية في حياتي هي شخصية ﻫ. ج. ولز وظني أنه الآن ١٩٤٦ في مرض من الموت. وكل من شو وولز يبحثان العالم وكأنهما يشرفان عليه كما يشرف العمدة في أُلفة ومعرفة على قريته. ولكن بينهما مع ذلك فرقًا؛ فإن شو يتجاوز الأعماق والآفاق إلى ما وراءهما. وولز يتعمق ولكنه لا ينظر إلى ما وراء الآفاق. يعيش على الأرض في حين يعيش شو في السماء، حتى لنُحس ونحن نقرأ ولز أننا نختنق بهواء المدينة ولو أننا نتحدث إلى رجل يعرف كل ما فيها، ولكنا نحس حين نقرأ شو أننا نتنسَّم أوزون البحر المعقم. وكلاهما طائر، ولكن ولز يدرج وقلما يحلق، أما شو فدأبه الطيران والتحليق.

والمغزى في شو أن الإنسان سيتغير، جسمًا ونفسًا؛ لأن التطور يقضي بذلك. ورسالته هي أن يبعث وجدان التطور في قرائه.

ولكن المغزى في ولز أن المجتمع سيتغير، في نظمه وأخلاقه؛ لأن الآلات قد أحدثت قوات اقتصادية جديدة سوف تَضْطَرُّ شعوب العالم إلى أن تكون أمة واحدة. ورسالته هي أن يبعث في قرائه وجدانًا هو أن هذا العالم قريتنا الكبرى.

وولز هو بلا شك الأب الروحي للعالم الجديد؛ فإنه يدعو إلى لغة واحدة وثقافة واحدة. بل لقد ألف في شرح الطرق التي يجب أن تُتَّخَذَ لإيجاد موسوعة عالمية يتحد فيها أبناء هذا الكوكب في آراء واتجاهات نحو الخير والحضارة. وله ثلاثة مؤلفات تدل على اتجاهه العالمي. أولها «خلاصة التاريخ» وقد ألَّفه عقب الحرب الكبرى الأولى حين كانت عبارة «الحرب لإنهاء الحرب» تجري على الألسنة وتوحي الخيالات الزاهية بشأن اتحاد العالم. وهذا الكتاب هو محاولة نَيِّرَةٌ خَيِّرَةٌ غايتها أن تفهم أن الحضارة القائمة هي مجهود البشر جميعهم. وأن هذه الشعوب الكثيرة المختلفة إنما هي أمة واحدة، أو يجب أن تكون كذلك. وكتابه الثاني: «علم الحياة» هو دعوة إلى النظر العلمي لهذه الدنيا وسكانها من الأحياء. وهي دعوة دينية علمية. وكتابه الثالث: «أعمال البشر وثروتهم وسعادتهم» هو بحث في حاضر البشر وطاقتهم لحضارة قادمة.

وقد كان أثر ولز عندي نفسيًّا أكثر ممَّا كان ذهنيًّا؛ أي إنه أكسبني مزاجًا عالميًّا يكاد يكون مساويًا للحماسة الوطنية، فإن اهتمامي بالحركة الوطنية مثلًا في الهند كان يُحَرِّكُ عاطفتي ويثير انفعالي كالحركة الوطنية في مصر. وكنوز أفريقيا من الحيوان تشغل ذهني وتثير غضبي عندما أقرأ عن عبث الصيادين في الغابات، كما تشغل ذهني وتثير غضبي سياسةُ الإنجليز في تحديد زراعة السودان أو ضبط مياه النيل. بل كسبت من ولز مزاج التساؤل والاستطلاع والتوسُّع الثقافي في العلم والأدب والفن.

وقد كان اهتدائي إلى شو وولز عن طريق الجمعية الفابية حوالي سنة ١٩٠٩. ولكني واليت اتصالي بهذين الكاتبين إلى وقتنا هذا وهما يدرسان السياسة العالمية على آفاقها العالمية. ومفتاح دراستهما هو الاشتراكية والتطور.

وفي الفترة بين ١٩٠٧ و١٩١١ كان إبسن وشو وولز عالقَيْن بقلبي يرسمون لي معالم دراساتي في المستقبل. ولكن كان هناك مؤلِّف آخر تسلط فترة قصيرة على ذهني، وكان تسلطه ناريًّا ثم عاد تحريريًّا، أعني به نيتشه. فقد التهمت مؤلفاته في حماسة ولذة فعصفت بي. وكان ظني وقتئذٍ أنه فتح لي أبوابًا كانت مغلقة من قبل. ولكن الحقيقة أني كنت مأخوذًا بسحره في الأسلوب وجرأته في التفكير، وهما سحر وجرأة يستهويان الشباب. وهو يؤلف النثر وكأنه يقرض الشعر، ويفكر وكأنه يقتحم. وانتفعت كثيرًا بتحليله للأخلاق. ولكن هذا التحليل بالطبع فقَد قيمته بعد أن عرفت التحليل الماركسي، وإن كان كلاهما ينتهي إلى أن الأخلاق السائدة هي أخلاق السائدين. ولكن ماركس وصل إلى هذه النتيجة بالتحليل الاقتصادي للمجتمع على حين وصل إليها نيتشه بالتحليل التاريخي للُّغة، أما أخلاق الأقوياء التي دعا إليها نيتشه وجعل منها ديانة جديدة يجب أن يبشر بها الفيلسوف الجديد فقد استهوتني سنوات، بل انحزت إليها وآمنت بها، فيما يشبه الحزبية الفلسفية، بتأييد من نظرية التطور حين استسلمت لتنازُع البقاء وبقاء الأصلح. ولكن رويدًا رويدًا تقهقر نيتشه من وجداني وتغيَّر عندي مغزى التطور بل تطورت عندي نظرية التطور، فلم يعُد نابليون هو السبرمان، ولم يعد للإمبراطوريات مغزى التفوق البيولوجي الذي كاد نيتشه يُوهِمُني أنه كذلك.

وعرفت بعد ذلك ماركس وجوتيه وفرويد. عرفتهم عن سبيل تلك المركبات أو العقد الذهنية التي أحدثها لي شو وولز وإبسن وداروين.

وفي تلك السنوات أيضًا كان في لندن مجلات أسبوعية أدبية كثيرة تختص بدراسة الأدب الإنجليزي والأوروبي. وكانت «ذي أثنيوم» ثم «ذي أكاديمي» أقوى هذه المجلات. وكانت الأولى راقية حاوية موضوعية. أما الثانية فكانت شخصية جدلية، وكان يحررها اللورد ألفريد دوجلاس صديق أوسكار وايلد. وكان شاعرًا أنيقًا، ولكن تاريخه الماضي وعلاقته الحميمة الشاذة بأوسكار وايلد كانا يجعلان الجمهور الإنجليزي المحافظ يصد عنه، وكانت مجلته تنزوي في استحياء في المكتبات يسأل عنها طالبها.

وربما نستغرب في مصر أنه ليس عند الإنجليز الآن مجلة أسبوعية واحدة للأدب إذا استثنينا الملحق الأدبي للتيمس ومجلة جون أو لندن وهي تُكتب بالعامية. وقد يعد القارئ هذه الحال تأخُّرًا للحركة الأدبية، ولكني أَعُدُّه تقدُّمًا؛ ذلك أن الأدب انتقل من برجه العاجي — أدب للأدباء — إلى الميدان الاجتماعي بل السياسي والاقتصادي. ولذلك فإن المجلات السياسية الإنجليزية تعالج الأدب في عناية وخبرة تدُلَّان على أنها تعرف قدره في التفكير والتوجيه. أو قل إن التطور السياسي في أوروبا قد أصبح حافلًا بالانقلابات والانفجارات، وإنه جذب إليه جميع الأدباء؛ ولذلك صار الأدب مذهبيًّا يتحزَّب ويتشيع لآراء معينة في السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد.

وغاية الثقافة بعد ذلك أن نزيد الحياة وجدانًا بأن نجعل مشكلات العالم مشكلاتنا الشخصية؛ لأن الحياة تنادينا إلى اليقظة والفهم والجِدِّ كلما استولى علينا النعاس والركود، والأدب هو إحدى الوسائل لزيادة هذا الوجدان. وعندي أن الرجل المثقف هو الذي يرتفع وجدانه الشخصي إلى الوجدان العالمي. ولا يكون هذا إلا بالانغماس في المشكلات البشرية العالمية.

وهذا هو ما يجب أن يكون؛ لأن الأدب للأدب هو الأدب في الخواء، وقد يُقال حسب الأدب أن يكون إنسانيًّا، ولكن كيف يكون كذلك إذا لم يشتبك في المشكلات الإنسانية الحاضرة: السياسة والاقتصاد والاجتماع؟

ووجدت من هذه الحركات الأدبية في تلك السنوات توجيهًا لي وتربية. وكثير من مؤلفاتي — إن لم يكن جميعها — اتجهت فيها هذه الوجهة الاجتماعية، حتى صرتُ أوصف بأني «كاتب اجتماعي»، وكأن هؤلاء الواصفين أرادوا أن يميِّزوا بيني وبين الأدباء الذين ما زالوا يفصلون بين الأدب وبين الاجتماع. ولكني — مع ذلك — أجد فرقًا أساسيًّا آخر بيني وبين بعض الأدباء في مصر، هو أني أمارس طرازًا من البلاغة يمارسون هم غيره. ذلك أن طرازي أوروبي وطرازهم عربي. وقد حملني هذا الفرق على أن أؤلِّف كتابي «اللغة العربية والبلاغة العصرية»؛ لأن بلاغتنا التقليدية لا تُلابِس حضارتنا العصرية، وقد وجدتُ فيها عجزًا عن التعبير لشئون عصرنا، فاخترتُ أسلوبًا آخر للتعبير الذي يجمع بين الفن والاقتصاد، كما يكونُ على وجدان بقيمة التفكير ثم التعبير العلمي. فإن معاجمنا العربية التي ورثناها عن الأدب العربي تقول مثلًا إن الطب هو السحر. ولكننا في القرن العشرين نقول إن السحر هو الخرافة، وإن الطب قد صار علمًا تجريبيًّا اجتماعيًّا بيولوجيًّا. ويجب — لهذا السبب — أن تلابس البلاغة العصرية عند الكاتب العصري هذا الطبَّ الجديد فتكون هي أيضًا علمًا تجريبيًّا اجتماعيًّا بيولوجيًّا. وبكلمة أخرى أقول: إن البلاغة — كاللغة — اجتماعية؛ أي إنها تخدم المجتمع وتلابسه. فإذا تغير المجتمع وجب أن تتغير البلاغة. ومجتمع القرن العشرين يحتاج إلى بلاغة القرن العشرين، بلاغة العلم والاجتماع الجديدين لا بلاغة العباسيين ولا بلاغة الأمويين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤