الفصل الرابع عشر

الأمير الصغير

حين أشرق الصباح كان المستنقع غارقًا وسط الضباب حتى أخفاه ولم يتوقف المطر. لم يكن من الممكن الخروج من المنزل اليوم. كانت مارثا مشغولة للغاية لدرجة لم تسمح لماري بالحديث معها، لكن بعد الظهيرة طلبت منها أن تأتي وتجلس معها في غرفة الأطفال. جاءت وأحضرت معها الجوارب التي تحيكُها طوال الوقت حين لا يكون لديها ما تفعله.

سألتها مارثا بمجرد جلوسهما معًا: «ما خطبكِ؟ يبدو أنكِ تريدين أن تقولي شيئًا.»

قالت ماري: «أجل. لقد عرفت مصدر صوت البكاء.»

أوقعت مارثا الجورب على ركبتيها ونظرت إليها بعينين مذعورتين.

صاحت قائلةً: «لا لم تفعلي! لا يُمكن!»

واصلت ماري حديثها قائلةً: «لقد سمعته في أثناء الليل، فنهضتُ من السرير وذهبتُ لأرى من أين يأتي. إنه كولن؛ لقد عثرتُ عليه.»

احمرَّ وجه مارثا، احمرَّ من الرعب.

قالت وهي شبه تبكي: «يا إلهي! آنسة ماري! ما كان يجب أن تفعلي هذا، ما كان يجب! إن هذا سيوقعني في مأزق. إنني لم أخبركِ بأي شيء عنه قط، ولكنكِ ستُوقعينني في مأزق. سأفقد وظيفتي وعندها ماذا ستفعل أمي!»

قالت ماري: «لا، لن تفقدي وظيفتك، فقد كان سعيدًا بذهابي إليه، وظللنا نتحدث كثيرًا، وقال إنه سعيد بمجيئي إليه.»

صاحت مارثا: «حقًّا؟ هل أنتِ متأكدة؟ أنتِ لا تعرفين كيف يكون حاله حين يثيره شيء. فهو فتًى كبير ولا يصحُّ أن يبكي مثل الأطفال، لكنه حين يَنفعل ويغضب، يصرخ بشدة لمجرد إخافتنا؛ فهو يعلم أن مهمتنا هي خدمته فقط.»

قالت ماري: «لم يكن ثائرًا على الإطلاق. لقد سألته إن كان يريدني أن أذهب، ولكنه جعلني أبقى معه. وظل يطرح عليَّ أسئلة وجلستُ أنا على كرسي القدمين الكبير وتحدثت إليه عن الهند وعن أبي الحنَّاء والحدائق. لم يشأ أن يتركني أذهب. وأراني صورة والدته، وقبل أن أذهب غنَّيتُ له أغنية حتى ينام.»

لهثت مارثا في ذهول واحتجَّت قائلةً: «لا يُمكنني تصديق هذا! فالأمر أشبه بدخولك إلى عرين الأسد. لو كان في حالته المعتادة، لدخل في واحدة من نوباته وأيقظ المنزل بأكمله؛ فهو لا يدع الغرباء ينظرون إليه.»

قالت ماري: «لقد تركني أنظر إليه، وكنتُ أنظر إليه طوال الوقت وهو ينظر إليَّ. لقد كنَّا نُحدِّق أحدنا في الآخر.»

صاحت مارثا في انفعال وقلق: «لا أعرف ماذا أفعل! فلو علمت السيدة ميدلوك بهذا، ستظن أني خالفت الأوامر وأخبرتكِ بأمره، وسأعود إلى أمي مطرودة من العمل.»

قالت لها ماري بحزم: «إنه لن يُخبر السيدة ميدلوك بأي شيء في الوقت الحالي. فقد اتَّفقنا على أن يظلَّ الأمر سرًّا بيننا في البداية، ويقول إن الجميع مجبر على فعل كل ما يريده ويرضيه.»

تنهَّدت مارثا وقالت وهي تمسح جبهتها بمئزرها: «أجل، هذه حقيقة فعلًا … يا له من فتى سيئ!»

«إنه يقول إن السيدة ميدلوك مجبَرة على هذا، ويريدني أن آتي وأتحدث إليه كل يوم. وعليكِ أنتِ أن تخبريني بالوقت الذي يريدني فيه.»

قالت مارثا: «أنا! هكذا سأفقد وظيفتي … سأفقدها بالتأكيد!»

قالت لها ماري مجادلة: «لا يُمكن أن يحدث هذا إذا فعلتِ ما يريده منكِ بالضبط؛ فالجميع مأمور بطاعته.»

صاحت مارثا وهي تحملق بعينيها: «هل تقصدين أن تقولي إنه كان لطيفًا معكِ!»

أجابتها ماري: «أظنه قد أحبَّني تقريبًا.»

قالت مارثا وقد توصَّلت إلى قرار وأخذت نفسًا عميقًا: «إذن لا بدَّ أنكِ قد سحرته!»

سألتها ماري: «هل تقصدين استخدام السحر؟ لقد سمعتُ عن السحر في الهند، لكني لا أعرف كيف أستخدمه. لقد ذهبتُ فقط إلى غرفته وفوجئتُ برؤيته فوقفتُ وحدَّقتُ فيه. بعدها استدار إليَّ وحدَّق فيَّ بدوره. في البداية ظنَّ أني شبح أو حلم وأنا أيضًا ظننتُ أنه ربما يكون كذلك. كان أمرًا غريبًا للغاية أن نجلس وحدنا هكذا في منتصف الليل ولا أحد منا يعرف شيئًا عن الآخر. فبدأنا نطرح أسئلة على بعضنا، وحين سألته إن كان عليَّ أن أذهب، قال لي إنه ليس عليَّ هذا.»

قالت مارثا وهي تلهث: «إنها نهاية العالم!»

سألتها ماري: «ما خطبه؟»

ردت مارثا: «لا أحد يعلم يقينًا. لقد جُن جنون السيد كرافن حين وُلِد كولن، واعتقد الأطباء أنه لا بدَّ من وضعه في مصحَّة. كان هذا بسبب وفاة السيدة كرافن مثلما أخبرتكِ. لم يُلقِ ولو لنظرة واحدة على الرضيع؛ كان فقط يهذي ويقول إنه شخص أحدب آخر مثله ومن الأفضل له أن يموت.»

سألتها ماري: «هل كولن أحدب؟ لم يبدُ لي كذلكَّ.»

قالت لها مارثا: «ليس بعد، لكن حياته سارت في اتجاه خاطئ من البداية. فقد قالت أمي إن هذا المنزل كان به قدر كبير من المشكلات والغضب ما يجعل تنشئة أي طفل فيه تسير على نحو خاطئ. كانوا دومًا يخشون عليه من ضعف ظهره، ولذلك اعتنوا به طوال الوقت، فجعلوه يستلقي ولم يسمحوا له بالمشي. وفي إحدى المرات جعلوه يرتدي دعامة، لكنه تضايق للغاية وسقط مريضًا على الفور. بعدها جاء طبيب كبير لرؤيته وجعلهم ينزعوها عنه. وتحدث إلى الطبيب الآخر بأسلوب حادٍّ لكنه كان مهذبًا. فقال له إنه يتناول الكثير من الأدوية وإنهم يتركونه يفعل ما يريد.»

قالت ماري: «أعتقد أنه فتًى مدلَّل للغاية.»

قالت مارثا: «إنه أسوأ طفل رأيته على الإطلاق! لن أقول إنه لم يُعانِ من المرض كثيرًا. فقد أُصيب بنوبات من السعال والبرد كانت ستقضي عليه مرتين أو ثلاث. وأُصيب ذات مرة بحُمى روماتيزمية، ومرة أخرى بالتيفويد. لقد فزعت السيدة ميدلوك حينها كثيرًا. لقد فقد صوابه تمامًا وكانت تتحدث مع الممرضة وهي تعتقد أنه لا يعرف شيئًا، وقالت: «سيموت هذه المرة بالتأكيد، وهذا أفضل شيء له وللجميع.» ونظرت إليه فوجدته يُحدِّق فيها بعينيه الكبيرتين وهو في كامل وعيه. لم تعرف ماذا حدث، ولكنه كان يُحدِّق فيها فقط ويقول: «أعطيني قليلًا من الماء وتوقفي عن الكلام.»

سألتها ماري: «هل تعتقدين أنه سيموت؟»

«تقول أمي إنه لا يمكن لأي طفل لا يستنشق هواءً نقيًّا، ولا يفعل أي شيء عدا الاستلقاء على ظهره وقراءة الكتب المصورة وتناول الدواء أن يعيش. إنه ضعيف البنية ويكره عناء إخراجه من المنزل، ويُصاب بالبرد بسهولة ويقول إنه سيقتله.»

جلست ماري ونظرت إلى النار وقالت ببطء: «أتساءل إن كان سيَستفيد من الخروج إلى حديقة ومراقبة الأشياء وهي تنمو. فقد نفعني هذا.»

قالت مارثا: «كانت إحدى أسوأ النوبات التي أصيب بها حين اصطحبوه ذات مرة لمشاهدة الأزهار عند النافورة. فكان قد قرأ في إحدى الصحف عن إصابة الناس بشيء يُعرف باسم «حمى الورد»، فبدأ يعطس وقال إنه قد أصيب بها، وعندها مرَّ به بستاني جديد لم يكن يعلم القواعد ونظر إليه بفضول؛ فأصيب بانفعال شديد وقال إن البستاني نظر إليه لأنه سيُصبِح أحدب، وظل يبكي حتى أصيب بحُمى وظل مريضًا طوال الليل.»

قالت ماري: «إذا حدث وغضب مني في أي وقت، فلن أذهب لرؤيته مرةً أخرى.»

قالت مارثا: «إن أراد وجودك معه فسيكون له ما يريد؛ عليكِ معرفة هذا من البداية.»

بعد ذلك مباشرةً دق الجرس فجمعت الجوارب التي تغزلها، وقالت: «أعتقد أن الممرضة تريد مني البقاء معه لبعض الوقت. أتمنى أن يكون في مزاج جيد.»

خرجت من الغرفة لعشر دقائق ثم عادت والارتباك باديًا على وجهها.

قالت: «حسنًا، لقد سحرتِه! إنه يجلس على الأريكة ومعه كتبه المصورة، وأخبر الممرضة أن تذهب وتتركه حتى الساعة السادسة، أما أنا فعليَّ الانتظار في الغرفة المجاورة. وبمجرد خروج الممرضة استدعاني وقال لي: «أريد أن تأتي ماري لينوكس وتتحدث معي، وتذكَّري ألا تخبري أحدًا بهذا.» من الأفضل أن تذهبي بأسرع ما يمكن.»

كانت ماري مستعدةً للذهاب بسرعة. لم تكن ترغب في رؤية كولن بقدر رغبتها في رؤية ديكون، ولكنها أرادت أن تراه بشدة.»

حين دخلت إلى غرفته رأت نارًا مشتعلة برَّاقة في المدفأة، وفي ضوء النهار رأت أنها غرفة جميلة بالفعل. فكانت ألوان السجاد والمُعلَّقات والصور والكتب الموجودة على الجدران كلها زاهية، ما جعلها تبدو متوهجةً ومريحةً للأعصاب على الرغم من السماء الرمادية والمطر المنهمر. وبدا كولن نفسه كأنه صورة؛ فقد كان مدَّثرًا في رداء نوم مخملي وجلس أمام وسادة كبيرة مطرَّزة. وعلى كلتا وجنتيه ظهرت بقعة حمراء.

قال لها: «ادخلي. لقد ظللتُ أفكر فيكِ طوال الصباح.»

ردت ماري: «وأنا أيضًا كنتُ أفكر فيك. أنت لا تعرف كم تشعر مارثا بالخوف. إنها تقول إن السيدة ميدلوك ستظن أنها هي من أخبرتني بشأنك، وعندها ستجعلها تغادر المنزل.»

عبس كولن، وقال لها: «اذهبي وأخبريها بأن تأتي إلى هنا. إنها في الغرفة المجاورة.»

ذهبت ماري وأحضرتها، وكانت المسكينة مارثا تَرتعد بشدة، وكان كولن لا يزال عابس الوجه.

سألها: «ألا يُفترض بكِ أن تفعلي ما يُرضيني أم لا؟»

تلعثمت مارثا واحمرَّ وجهها بشدة وقالت: «عليَّ أن أفعل كل ما يُرضيك يا سيدي.»

«وألا يُفترض بميدلوك فعل ما يرضيني؟»

قالت مارثا: «على الجميع أن يفعل هذا يا سيدي.»

«حسنًا، إذن، إذا أمرتكِ أن تُحضري لي الآنسة ماري، كيف يُمكن لميدلوك أن تطردك من المنزل إذا عرفت بذلك؟»

رجته مارثا قائلة: «من فضلك لا تجعلها تعرف يا سيدي.»

قال السيد كرافن بغرور: «سأطردها إذا جرؤت على النطق بكلمة واحدة في هذا الشأن؛ وهي لن تحبَّ هذا، أنا متأكد من ذلك.»

انحنَت في أدب وقالت: «أشكرك يا سيدي. أنا أريد أن أؤدي عملي فقط يا سيدي.»

قال كولن بمزيد من الغرور: «وأنا أريد منكِ أن تؤدي عملك. سأعتني بكِ، والآن اذهبي.»

حين أُغلق الباب خلف مارثا، وجد كولن الآنسة ماري تُحدِّق فيه كما لو كان أثار حيرتها.

سألها: «لماذا تنظرين إليَّ هكذا؟ فيمَ تفكرين؟»

«أفكر في شيئين.»

«ما هما؟ اجلسي وأخبريني.»

قالت ماري وهي تجلس على مسند القدمين الكبير: «إليك أول شيء. حين كنتُ في الهند، رأيتُ ذات مرة طفلًا وكان أميرًا هنديًّا صغيرًا. كان جسده كله مغطًّى بالياقوت والزمرد والألماس، وكان يتحدث إلى شعبه تمامًا مثلما تحدَّثتَ أنت إلى مارثا. وكان على الجميع فعل كل ما يأمرهم به في لحظة، وأعتقد أنهم كانوا يُقتلون إن لم يفعلوا.»

قال لها: «سأجعلك تحكين لي كل ما تعرفينه عن الأمراء الهنود الصغار الآن، لكن أخبريني أولًا بالشيء الثاني.»

قالت ماري: «كنتُ أفكر في مدى اختلافك عن ديكون.»

قال: «مَن ديكون؟ يا له من اسم غريب!»

لم تجد مفرًّا من أن تخبره، وكانت تعتقد أنها تستطيع الحديث عن ديكون دون ذكر الحديقة السرية. فقد كانت تحبُّ الاستماع إلى مارثا وهي تتحدث عنه. كما أنها كانت تشتاق للحديث عنه؛ فيبدو أن هذا كان يجعلها تشعر بقربه منها.

قالت ماري موضحة: «إنه شقيق مارثا، ويبلغ من العمر اثني عشر عامًا. إنه ليس له مثيل في العالم كله؛ فهو يستطيع أن يُروِّض الثعالب والسناجب والطيور تمامًا كما يروِّض سكان الهند المحليون الأفاعي. فهو يعزف لحنًا عذبًا للغاية على مزمار فتأتي كل هذه المخلوقات لتستمع له.»

كانت ثمَّة بعض الكتب الكبيرة على طاولة بجواره، فسحب واحدًا منها فجأة نحوه، وقال: «توجد صورة لشخص يُروِّض الأفاعي في هذا الكتاب، تعالي وانظري.»

كان الكتاب جميلًا يحوي صورًا توضيحيةً ملونةً بديعةً، وأشار إلى واحدة منها.

سألها بشغف: «هل يُمكنه فعل هذا؟»

أوضحت له ماري الأمر قائلة: «إنه يعزف على مزماره والحيوانات تستمع إليه، لكنه لا يسمي هذا ترويضًا. إنه يقول إنه يستطيع فعل هذا لأنه يعيش في المستنقع منذ زمن طويل ويعرف طرائقها. ويقول إنه يشعر أحيانًا كما لو كان هو نفسه طائرًا أو أرنبًا؛ فهو يحب هذه المخلوقات كثيرًا. أعتقد أنه يطرح الأسئلة على أبي الحنَّاء؛ فقد كانا يبدوان كما لو كانا يتحدَّثان معًا بتغريدات لطيفة.»

اتكأ كولن على وسادته واتَّسعت عيناه أكثر وأكثر، وازدادت البقع الحمراء على وجنتيه احمرارًا.

قال لها: «أخبريني بالمزيد عنه.»

واصلت ماري حديثها قائلةً: «إنه يعرف كل شيء عن البيض والأعشاش، ويعرف أين تعيش الثعالب وحيوانات الغرير وثعالب الماء، ويُبقي هذه الأماكن سرًّا حتى لا يعرف الصبية الآخرون أماكن جحورها ويُخيفونها. إنه يعرف كل شيء ينمو في المستنقع أو يعيش فيه.»

قال كولن: «هل يحب المستنقع؟ كيف يُمكنه ذلك وما هو إلا مكان شاسع أجدب وموحش؟»

اعترضت ماري على كلامه قائلة: «إنه أجمل مكان على الإطلاق. ففيه تنمو آلاف الأشياء الرائعة، وتوجد به آلاف المخلوقات الصغيرة المنشغلة طوال الوقت ببناء أعشاشها وصنع جحورها وأوكارها وهي تغرِّد أو تغني أو تُصدر صريرًا بعضها لبعض. إن لديها الكثير من الأعباء التي تشغلها، وتستمتع بوقتها تحت الأرض أو على الأشجار أو على نباتات الخلنج. فهذا هو عالمها.»

قال كولن وهو يدير ساعده لينظر إليها: «كيف تعرفين كل هذا؟»

قالت ماري وقد تذكَّرت فجأة: «إنني لم أذهب إلى هناك فعليًّا ولا مرة، فلم أره إلا حين مررْنا عليه بالعربة في الظلام. لقد ظننت أنه مكان بشع. في البداية أخبرتني مارثا عنه، ثم ديكون. وحين يتحدث ديكون عنه، تشعر كما لو أنك ترى هذه الأشياء وتسمعها، وكما لو كنتَ واقفًا بين نباتات الخلنج وأشعة الشمس الساطعة ونبات الجولق الذي يشبه العسل في رائحته، والمكان كله مليء بالنحل والفراشات.»

قال كولن مُتململًا: «لا يرى المرء أي شيء حين يكون مريضًا.» كان يبدو كشخص يستمع إلى صوت جديد قادم من بعيد ويتساءل عن ماهيته.

قالت ماري: «بالطبع لا تستطيع إن بقيتَ في غرفتك.»

قال بنبرة مُمتعضة: «لا يمكنني الذهاب إلى المستنقع.»

صمتت ماري للحظة ثم قالت شيئًا جريئًا.

«يمكنكَ، في وقتٍ ما.»

تحرك كما لو أنه قد تفاجأ.

«أذهب إلى المستنقع! كيف يُمكنني ذلك؟ قد أموت.»

قالت ماري دون أي تعاطف: «كيف تعرف هذا؟» لم تكن تحب طريقته في الحديث عن الموت. لم تكن تشعر بتعاطف كبير تجاهه، بل شعرت كما لو أنه يتباهى بهذا.

أجابها في غضب: «حسنًا، أنا أسمع هذا منذ وعيت على هذه الحياة؛ فهم دائمًا ما يتهامسون به ويعتقدون أني لا ألاحظهم؛ بل يتمنَّون حدوثه أيضًا.»

شعرت الآنسة ماري بالضيق كثيرًا، وزمَّت شفتيها، وقالت: «لو كان الجميع يتمنَّى موتي، فلن أموت. مَن الذي يتمنَّى موتك؟»

«الخدم، والطبيب كرافن بالطبع؛ لأنه سيحصل على ميسلثويت ويصبح غنيًّا بدلًا مما هو فيه من فقر. بالطبع هو لا يجرؤ على قول هذا، لكنه يبدو دومًا سعيدًا حين تسوء حالتي. فحين أصبتُ بالتيفويد بدا وجهه ممتلئًا. وأعتقد أن والدي يريد هذا أيضًا.»

قالت ماري بعناد: «لا أعتقد أنه يريد هذا.»

جعلته كلمتها تلك يستدير وينظر إليها مرةً أخرى.

قال: «أحقًّا لا تعتقدين هذا؟»

ثم عاد يتَّكئ على وسادته وظل ساكنًا، كما لو كان يفكر. وساد صمت طويل بعض الشيء. ربما كان الاثنان يفكران في أشياء غريبة لا يفكر فيها الأطفال عادةً. وأخيرًا قطعت ماري الصمت قائلة: «أنا أحب الطبيب الكبير الذي جاء من لندن؛ لأنه جعلهم ينزعون عنك هذه القطعة الحديدية. هل قال إنك ستموت؟»

«كلا.»

«ماذا قال إذن؟»

أجاب كولن: «لم يهمس مثل الآخرين. ربما كان يعرف أني أكره الهمس. سمعته يقول شيئًا واحدًا بصوت عالٍ. قال: «ربما يعيش الفتى إذا اتَّخذ قرارًا بذلك. اجعلوه يعيش في جو من المرح.» وبدا كما لو كان منفعلًا.»

قالت ماري وهي تفكر: «سأُخبرك من يمكنه أن يجعلك تعيش في جو من المرح.» فقد شعرت بأنها تريد حسم هذا الأمر بشكل أو بآخر. «أعتقد أنه ديكون؛ فهو يتحدَّث طوال الوقت عن أشياء على قيد الحياة. لا تسمعه أبدًا يتحدث عن أشياء ميتة أو مريضة. إنه ينظر طوال الوقت إلى السماء ويراقب الطيور وهي تطير، أو ينظر إلى الأسفل نحو الأرض ليرى شيئًا ينمو. إن له عينين مستديرتين زرقاوين وتتسعان عن آخرهما حين ينظر إلى الأشياء من حوله. ويضحك ضحكة كبيرة بفمه العريض، ووجنتاه حمراوان تمامًا مثل التوت البري.» واقتربت بكرسيها من الأريكة وتغيرت تعابير وجهها تمامًا حين تذكرت هذا الفم الواسع المقوس وتلك العينين الواسعتين.

قالت: «اسمع، دعنا لا نتحدث عن الموت، فأنا لا أحبه. دعنا نتحدث عن الحياة، دعنا نتحدث عن ديكون، ثم بعدها سنرى ما لديك من صور.»

كان هذا أفضل ما يمكن أن تقوله. فقد كان الحديث عن ديكون يعني الحديث عن المستنقع، والكوخ والأربعة عشر شخصًا الذين يعيشون على ستة عشر شلنًا في الأسبوع، وعن الأطفال الذين ازداد وزنهم على أعشاب المستنقَع مثل المهور البرية. وعن والدة ديكون، وعن حبل القفز، وعن المستنقع حين تُلقي الشمس الساطعة بأشعتها عليه، وعن النتوءات الخضراء الباهتة البارزة من التربة السوداء. كان كل هذا مفعمًا بالحياة لدرجة جعلت ماري تتحدَّث أكثر من أي وقت سابق، أما كولن فكان يتحدث ويستمع على نحوٍ لم يعهده من قبل. وبدأ الاثنان يَضحكان على لا شيء كما يفعل الأطفال حين يكونون سعداء معًا. وظلَّا يضحكان حتى أحدثا في النهاية ضجة تمامًا كأي طفلين عاديَّين أصحاء في العاشرة من عمرهما، لا طفلة صغيرة حادة الطباع لا يُحبها أحد وفتى مريض يعتقد أنه سيموت قريبًا.

استمتعا بوقتهما كثيرًا حتى إنهما نسيا الصور ونسيا الوقت. وظلا يضحكان بصوت مرتفع على بِن ويذرستاف وأبي الحنَّاء، وكان كولن يجلس منتصبًا كما لو أنه نسيَ أمر ظهره الضعيف، حين تذكر شيئًا فجأة. قال: «أتعرفين، يوجد شيء واحد لم نفكر فيه من قبل، نحن أقارب.»

بدا غريبًا للغاية أنهما ظلا يتحدَّثان كثيرًا هكذا دون أن يتذكرا قط هذا الشيء البسيط، ما جعلهما يضحكان أكثر من ذي قبل؛ فقد كانا في حالة من المرح جعلتهما يضحكان على أي شيء. وفي وسط هذا المرح فُتح الباب ودخل الطبيب كرافن والسيدة ميدلوك.

انتفض الدكتور كرافن في انزعاج فعلي، وكادت السيدة ميدلوك تسقط على ظهرها بسبب ارتطامه بها دون قصد.

صاحت السيدة ميدلوك المسكينة وعيناها تكاد تخرجان من رأسها: «يا إلهي! يا إلهي!»

أما الدكتور كرافن، فقد قال وهو يتقدم إلى الأمام: «ما هذا؟ ما معنى هذا؟»

حينها تذكَّرت ماري الأمير الهندي الصغير مرةً أخرى.

أجاب كولن كما لو أن ذعر الدكتور كرافن ورعب السيدة ميدلوك لم يُخلِّفا أي أثر عليه. فقط انتابه شيء من الانزعاج أو الخوف كما لو أن قطة وكلبًا كبيرين قد دخلا عليه الغرفة.

قال لهما: «هذه ابنة خالي ماري لينوكس. لقد طلبتُ منها أن تأتي وتتحدث معي؛ فأنا أحبها. لا بد لها أن تأتي وتتحدث معي في أي وقت أرسل في طلبها.»

التفت الدكتور كرافن إلى السيدة ميدلوك معاتبًا لها، فقالت وهي تلتقط أنفاسها: «سيدي، أنا لا أعرف كيف حدث هذا. فلا يجرؤ أحد من الخدم على التفوه بكلمة، فجميعهم لديهم تعليمات.»

قال كولن: «لم يخبرها أحد بأي شيء. لقد سمعت صوت بكائي وعثرت عليَّ بنفسها، وأنا سعيد بمجيئها. لا تكوني سخيفة يا ميدلوك.»

رأت ماري أن الدكتور كرافن لم تبدُ عليه السعادة، ولكن كان واضحًا تمامًا أنه لا يجرؤ على معارضة مريضِه. فجلس بجوار كولن وتحسس نبضه.

قال له: «أخشى أنك قد تعرضت لانفعال أكثر من اللازم، والانفعال خطر عليك يا صغيري.»

رد عليه كولن وقد بدأت عيناه تلمعان على نحو خطير: «سأنفعل إذا ابتعدت ماري عني؛ فأنا أشعر بتحسن. إنها تجعلني أشعر بتحسن. لا بد أن تُحضِر الممرضة لها الشاي لتتناوله معي. سنتناول الشاي معًا.»

نظرت السيدة ميدلوك والدكتور كرافن إلى أحدهما إلى الآخر في انزعاج، لكن كان واضحًا أنه ليس بيدهما شيء.

تجرأت السيدة ميدلوك وقالت: «إنه بالفعل يبدو أحسن حالًا يا سيدي، لكنه …» وفكرت قليلًا في الأمر ثم أردفت: «كان يبدو بحال أفضل أيضًا هذا الصباح قبل أن تأتي هي لغرفته.»

قال كولن: «لقد جاءت إلى غرفتي الليلة الماضية، وبقيت معي وقتًا طويلًا، وغنت لي أغنية هندية جعلتني أخلد إلى النوم. كنتُ أفضل حالًا حين استيقظتُ في الصباح؛ فقد كانت لدي شهية لتناول الإفطار، وأريد تناول الشاي الآن. أخبري الممرضة بهذا يا ميدلوك.»

لم يبقَ الدكتور كرافن طويلًا. فقد تحدث إلى الممرضة لبضع دقائق حين جاءت إلى الغرفة ووجه بضع كلمات تحذير لكولن. عليه ألا يتحدث كثيرًا، وعليه ألا ينسى أنه مريض، وألا ينسى أنه يصاب بالتعب بسهولة. رأت ماري أن ثمَّة عددًا كبيرًا من الأشياء المزعجة عليه أن يتذكرها.

بدا العبوس على كولن وظلت عيناه الغريبتان برموشهما السوداء مثبتتين على وجه الدكتور كرافن.

قال أخيرًا: «أنا أريد أن أنسى هذا. وهي تجعلني أنساه؛ ولهذا أريد رفقتها.»

لم يبدُ الدكتور كرافن سعيدًا حين غادر الغرفة؛ فألقى نظرة مرتبكة على الفتاة الصغيرة التي تجلس على كرسي القدمين الكبير. فقد تحوَّلت إلى طفلة جامدة وصامتة مرةً أخرى بمجرد أن دخل إلى الغرفة، ولم يَستطع رؤية أي سبب لانجذاب الفتى إليها. مع ذلك، فقد بدا الفتى أكثر إشراقًا، وتنهَّد الطبيب بتثاقل وهو يسير عبر الرواق.

قال كولن حين أحضرت الممرضة الشاي إلى الغرفة ووضعته على الطاولة بجوار الأريكة: «إنهم دومًا يريدون مني تناول الطعام في الوقت الذي لا أريد فيه هذا. أما الآن، إن كنت ستأكلين، سآكُل أنا أيضًا. إن هذه الفطائر تبدو شهية وساخنة؛ هيا أخبريني عن الأمراء الهنود الصغار.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤