الفصل الثالث

الفن معرفةٌ وكشف

قليلةٌ هي الأشياء الهامة التي تقبل البرهان، فالأشياء الهامة إنما يتوجَّب أن يُحسَّ بها ويُعبَّر عنها.

كلايف بِل

(١) لذةٌ أم معرفة؟

تأتي الخبرة الإستطيقية دائمًا مصحوبةً بصنفٍ معينٍ من اللذة، غير أنَّ اللَّذة ليس كل شيء في الخِبرة الإستطيقية، بل إنَّ هناك اتجاهًا عارمًا في العصر الحديث نحو تعريف الفن في حدود «المعنى» و«الدلالة»، بدلًا من اختزاله إلى خبرة تبعَث اللذة أو تُشبع الحواس، فالفن أخطر من اللذة، ومهمة الفنان أجلُّ من مجرد «تجهيز لذات»، لقد صرنا نجد لدى عامة الجمهور انصرافًا عن القيم الفنية الرفيعة، وصِرنا نجد لدى كبار الفنانين اتجاهًا قويًّا نحو إدخال عناصر «التنافر» dissonance و«القبح» في أعمالهم، وربما عمد الفنان الحديث إلى أن تكون لوحاتُه مزعجةً واستفزازية، وأن تكون موجعةً مُقلِقة منغِّصة بدلًا من أن تكون جميلةً رائقةٍ تسرُّ الناظِرين، مما يؤدِّي إلى المفارقة الحديثة التالية: «أنا أحب لوحات الفنان س؛ لأنَّها مقلقة للغاية.» أو «أنا أحب روايات الكاتب ص؛ لأنَّها شديدة الإزعاج.»
تقول سوزان لانجر في كتابها القيِّم «الفلسفة بمفتاح جديد»: إنَّ الفن العظيم ليس مجرد لذة حسية مباشرة، وإلا لوجد استجابةً مرضيةً لدى العامة قبل الخاصة، وليس من شك في أنَّ الكثير من اتجاهات الفن المعاصر قد أصبحَت شاهدًا واضحًا على قلة اهتمام الفنانين بتقديم أشكال سارَّة أو نماذج جميلة، مما يُضعف حُجة القائلين بأنَّ الفن هو مجرد مُتعة أو لذة، فإذا أضَفنا إلى ذلك أننا نشهد اليوم اهتمامًا منطقيًّا وسيكولوجيًّا كبيرًا بمفهوم الرمز، مع ما يَقترن به من دراسة للوسائط التعبيرية وطرق ترجمة الأفكار أو المعاني، أمكَنَنا أن نُدرك كيف أنَّ فلسفة الفن الجديدة لم تَعُد تستطيع الاستغناء عن مفهوم «الشكل الدال» (أو الصورة ذات المعنى) Significant Form.١
إنَّ الإنسان، كما بيَّن إرنست كاسيرر E. Cassirer، هو حيوان رامز قبل كل شيء، أي حيوان يصنع الرموز ويعيش في عالم من الرموز، والفن هو مظهر من مظاهر حضارة الإنسان إلى جانب الأسطورة والدين واللغة والتاريخ والعلم. وليست الرموز البشرية مجرد مجموعة من العلامات التي تشير إلى بعض المعاني أو الأفكار أو التصورات، بل هي شبكة معقَّدة من الأشكال التي تُعبر عن مشاعر الإنسان وانفعالاته وأهوائه ومعتقداته، «إن فطرة الإنسان أوسع من دائرة العقل الخالص.» ومكانة الفن في مضمار الحياة الإنسانية إنما تَرجع إلى كونه لغةً من اللغات الرمزية العديدة التي حاول الإنسان أن يَصطنعها في فهمه للعالم،٢ فالفن ليس مجرَّد تكرار لحقيقةٍ جاهزة أو ترديد لواقعٍ قائمٍ سلفًا، بل هو كشف لحقيقة جديدة وتعبير عنها بلغة رمزية.

والفن شكلٌ قبل كل شيء، والأثر الفني هو أثر فني لأنه شكل كلي متَّسق مع نفسه وقابل للإدراك، وكأنما هو موجود طبيعي له وحدته العضوية واكتفاؤه الذاتي وحقيقته الفردية، فليس العمل الفني تعليقًا على شيء يمتدُّ فيما وراءه في صميم العالم، ولا قرينة تذكرنا بأشياء أخرى قائمة في الواقع الخارجي، إنما الآثار الفنية «رموز» تنطوي على معانٍ، لا مجرد «علامات» تدل على أشياء، والتعبير الفني ليس مجرد استجابة لموقف حاضر أو لمؤثرٍ واقعي، بل هو «شكل رمزي» يوسع من دائرة معرفتنا ويمتد بها إلى ما وراء مجال خبرتنا الواقعية أو دائرة تجربتنا الحالية.

(٢) الفرق بين الرمز والعلامة

سبق لهيجل أن ميز بين الرمز والعلامة، فقال إن العلاقة التي تربط العلامة الحقيقية بالشيء الذي تدلُّ عليه هي علاقة «اعتباطية» arbitrary٣ لا ضرورة فيها، أما في حالة الرمز فالأمر مختلف تمامًا؛ فالأسد مثلًا يُستخدم كرمز للشهامة، والثعلب كرمز للمكر، والدائرة كرمز للخلود، غير أن الأسد والثعلب فيهما الصفات التي من المفروض أن يُعبِّرا عن معناها، وهكذا ففي حالة الرمز على اختلاف أنواعه يحتوي الموضوع الخارجي في ذاته ومنذ البدء على المعنى الذي استُخدم لتمثيله، فهو ليس علامةً اعتباطية ولا يُستعمل كيفما اتفق، بل هو علامة تتضمن في شكلها الخارجي ذاته مضمون التمثُّل الذي تُظهره.
وقد أكَّد دي سوسير فكرةَ اعتباطية العلامة ورسَّخها ترسيخًا نهائيًّا، وبيَّن أن «الرمز» ليس اعتباطيًّا تمامًا؛ فهو ليس فارغًا بل هناك جذر رابطة طبيعية فيه بين الدالِّ والمدلول؛ فرمز العدالة — الميزان — لا يُمكن استبداله اعتباطًا بأي رمز آخر — كالعربة مثلًا.٤ وأسهب طودوروف في بيان الفرق بين العلامة والرمز، أما سوزان لانجر فقد ميزت تمييزًا واضحًا بين الرموز والعلامات، فذهبَت إلى أن «العلامة» signs (مثل ألفاظ اللغة وإشارات المرور … إلخ) هي شيء نعمل بمقتضاه أو وسيلة لخدمة الفعل، وأن علاقتها بمعناها علامة اتفاقية غير ضرورية، فهي مستقلَّة عن معناها، تُشير أو تُحيل إليه ثم لا يعدو شأوها أكثر من ذلك، أما «الرمز» symbol (مثل الأسد والصليب وغصن الزيتون والميزان … إلخ) فهو أداة ذهنية أو مظهر من مظاهر فعالية العقل البشري، إنه شكلٌ كلي مستقل بذاته ملتحم بمعناه لا يُحيل إلى أي شيء خارجه، وبهذا المعنى تكون الآثار الفنية رموزًا حقيقية تَنطوي على معانٍ أو دلالات؛ فالعمل الفني هو لغة رمزية تنقل إلينا عيانًا مباشرًا وتحمل تعبيرًا حيًّا وتُحيطنا علمًا بحقيقة وجدانية. والوظيفة الأولى للفن هي تحويل الوجدان إلى حقيقة موضوعية ماثلة بحيث يكون بوسعنا أن نتأمَّله ونفهمه، والوجدان الذي يُعبِّر عنه العمل الفني وجدانٌ مُباشِر لا يَنفصِل عن العمل، شأنه في ذلك شأن المعنى الكامن في المجاز الحقيقي، أو القيمة الماثِلة في الأسطورة؛ ومن ثم فنحن لا نتحدَّث عادةً عن الوجدان الذي يعنيه العمل الفني ويُشير إليه، بل نتحدث عن الوجدان الكامن في العمل الفني كحالة باطنة في أعماقه.٥

(٣) الحقيقة الفنية

الفن إذن أداةٌ من أدوات الكشف عن الحقيقة، ووسيلة رمزية للمعرفة، والرسالة التي يبثها إلينا الفن أعمق من أن تكون لذةً حسية عابرة أو متعة جمالية زائلة، فالعمل الفني لغةٌ رمزية لها معنى ودلالة، ويبدو أن اللذة الإستطيقية هي شيء قريب من الإشباع أو الرضا الذي يقترن عادةً بعملية الكشف عن الحقيقة، وليس من المستبعد تمامًا أن تكون اللذة مجرد «نتاج ثانوي» byproduct للكشف أو «ظاهرة مصاحبة» epiphenomenon، فكما أن العلم يكشف لنا بعض مضامين العالم وينقلها إلى مجال المعرفة الموضوعية، فإن الفن يقوم بدورٍ مماثل، ولكن في مجال المضمون الوجداني للعالم، إن حدود اللغة ليست هي الحدود النهائية للتجربة، والأشياء التي لا تقوى اللغة على التعبير عنها قد تملك صورها الخاصة القابلة للتصور؛ نظرًا لما تنطوي عليه من إشارات رمزية خاصة.
ومجمل القول: إنَّ العمل الفني يكشف عن «حقيقة فنية»، والحقيقة الفنية في رأي سوزان لانجر هي صدق الرمز في التعبير عن أشكال الوجدان، وهي في ذلك تقترب من رأي الأستاذ ت. م. جرين T. M. Greene الذي دافع بشدة عن فكرة «الحقيقة الفنية»، وجعل للفن مهمة معرفية شأن العلم والفلسفة، وذهب إلى أن الفنان يكمل العلم عن طريق كشفه لحقائق لا يستطيع العلم التوصل إليها أبدًا.
يرى جرين أن العمل الفني يمكن أن يكون صحيحًا أو باطلًا بالمعنى نفسه الذي تكون به القضية العلمية صحيحةً أو باطلة، ويخضع لمعيار «الاتساق» cosistency و«التطابق» (التناظر) correspondence شأنه شأن قضايا العلم، وتأويل ذلك، عند جرين، أن القضايا تنقل المعاني والحقائق عن طريق «وسيط» medium معين يتيح الاتصال بين ذات وأخرى، وليس من الضروري أن يكون هذا الوسيط لفظيُّا تصوريًّا، فمن الممكن أن نجد قضايا (أي نجد ما يذهب الفنان إلى أنه صواب أو حق في موضوعه) في وسائط كالتصوير والموسيقى … إلخ، إن الفن يعبر عن قضايا حقيقية يقول بها على طريقته ما لا يمكن للعلم أن يقوله.
وما دام الفن يقدم معرفةً حقيقية — ويقول (يقرر) قضايا حقيقية، فهو من ثم خاضعٌ لمعياري الاتساق والتطابق، على طريقته أيضًا، والاتساق في العمل الفني هو أن يستغل العمل إمكانات الوسيط الحسي ويحترم مبادئ المعالجة الخاصة بقالبه الفني، وأن تخلو قضاياه التي يعبر عنها من التناقض فيما بينها ومن المزج الاعتباطي بين أساليب متباينة، وأن يكون في مجموعه كلًّا متكاملًا وتعليقًا معقدًا متماسكًا على موضوعه الذي يعمد إلى التعبير عنه، أما التطابق في العمل الفني فهو، ببساطة، تطابقه مع العالم (الخارجي أو الوجداني) شريطة اتخاذ الإطار المرجعي للفنان، والمثل الذي يضربه جرين هو تصوير سيزان للأشجار، فطريقة معالجة سيزان لهذا الموضوع تؤكد سمات معينة يتجاهلها بقية الفنانين؛ ذلك لأن سيزان يؤكد «صلابتها الثلاثية الأبعاد»، «وفي استطاعتنا أن نذهب مباشرةً إلى الطبيعة، ونختبر دقة ملاحظاته المسجلة على أساس اهتمام سيزان المعرفي الخاص، فإذا اختبر الناقد ملاحظات سيزان على هذا النحو، لما تمالك نفسه من الإعجاب بموضوعية بصيرة سيزان، ولأدرك أننا بدورنا نستطيع أن نرى ما رآه سيزان.»٦
ويؤكد هربرت ريد الصبغة المعرفية للفن، ويرى أن الهدف الأسمى للفنان، مثله مثل رجل العلم، إنما هو تقرير حقيقة، فالفن ليس مجرد تجسيم لبعض العواطف كما تقول النظرية التعبيرية، والأعمال الفنية الكبرى في التاريخ لم تكن أعمالًا كبرى بفضل مضمونها التعبيري، بل بفضل الحقائق الوجدانية الكلية التي استطاعت أن تجسدها، وهي حقائق موضوعية قابلة للتحقق منها verifiable شأنها شان حقائق العلم إلا أنها تتناول المضمون الوجداني للعالم، فالعمل الفني «واقعة» إستطيقية وأثرٌ «واقعي»، وهو بوصفه شكلًا مدركًا يُعد «مقابلًا موضوعيًّا» للانفعال أو الفكرة أو الحدس، وتحققًا عينيًّا لحالةٍ من حالات الشعور، ومن هنا قابليته للتحقق، وآية الصدق في المجال الفني هو دقة الرمز وانضباطه والتحامه التام بمعناه.
إن نقاط الالتقاء لا تخفى بين هربرت ريد وسوزان لانجر وتيودور جرين، وتكاد آراؤهم حول الحقيقة الفنية أن تكون صياغات مختلفة للتصور نفسه، وهي صياغات تتسق مع مذهب بِل وفراي برغم الوهم القائل بأن الشكلية تُعفي الفن من مئونة «الحقيقة» ما دامت الشكلية تنفي وجود أي ارتباط بين الفن والحياة، يقول كلايف بِل في فصل «الفرضية الإستطيقية»: «وربما يذهب بي الظن أحيانًا إلى أن مدركي الفن ومدركي الحلول الرياضية قد يكونون أكثر قربًا وأوثق صلةً حتى من ذلك، فأتساءل: قبل ان يأخذنا انفعالٌ إستطيقي تجاه تجمع من الأشكال، ترانا ندرك بالفكر صواب هذا التجمع وضرورته؟ فإن صح ذلك فهو حري أن يفسر واقعة أننا إذ نمر سراعًا خلال غرفة فنحن نميز جودة إحدى اللوحات رغم أننا لا نستطيع أن نقول إنها أثارت فينا انفعالًا كبيرًا، فيبدو أننا نكون قد تبينا بالفكر صواب الأشكال باللوحة دون أن نتريث لنركز انتباهنا ونقبض على دلالتها الانفعالية كيفما كانت، فإذا كان الأمر كذلك فإن لنا أن نتساءل ما إذا كانت الأشكال ذاتها هي ما أدى إلى الانفعال الإستطيقي أم إدراكنا لصواب الأشكال وضرورتها.»٧ إن الحقيقة الفنية، في واقع الأمر، هي مسألةُ قتلها بل بحثًا وفصلها تفصيلًا (انظر فصل «الفرضية الإستطيقية» وفصل «التبسيط والتصميم») وكان مستبقًا فيها لآراء المفكرين الثلاثة المذكورين وملهمًا لهم، غير أن صرامته المنطقية جعلته يفصل بين اليقين والتخمين — بين نطاق الإستطيقا ونطاق الميتافيزيقا.

فليحمل العمل الفني من الحقائق ما وسعه أن يحمل، ولينقل من المعارف ما شاء أن ينقل، فالمعرفة والحقيقة، ككل شيء آخر يعبر عنه الفن، لا بد أن ترتبطا ارتباطًا وثيقًا بالقوام الحسي والعرض الشكلي للعمل، إن الفن لن ينافس العلم في مضماره، إنما تُلحّ الشكلية على أن يكون الفن فنًّا — أي شكلًا دالًّا — كيما يتسنى له أن يقبض على الحقيقة التي يعجز العلم عن القبض عليها.

١  فلسفة الفن في الفكر المعاصر، ص٣١١-٣١٢.
٢  المرجع نفسه، ص٢٧٨.
٣  أو «اعتسافية» أو «تحكمية».
٤  فرديناند دي سوسير: علم اللغة العام، ترجمة د. يوئيل يوسف عزيز، بيت الموصل، جامعة الموصل، ١٩٨٨، فصل «طبيعة العلامة اللغوية»، ص٨٤–٨٩.
٥  فلسفة الفن في الفكر المعاصر، ص٣١٨.
٦  Greene, Theodore M.: The Arts and the Art Criticism Princeton U. P., 1947, p. 454.
٧  كلايف بِل: الفن، ص٥١-٥٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤