أنت لا تنزل النهر مرَّتَين

سماه بعض القدماء ﺑ «المعتم»، وبعضهم الآخر ﺑ «الفيلسوف الباكي»، وغلبت عليه هذه التسمية جيلًا بعد جيل، منذ أن كانت كتاباته كاملة بين أيدي معاصريه. ويُقال إنه أودعها في معبد الآلهة أرتيميس، وتعمَّد أن يدوِّنها بخطٍّ غير واضح حتى لا يقربها إلا القادرون على فهم أسرارها، إلى أن ضاع معظمها ولم يبقَ منها سوى مائة وثلاثين شذرة متفرقة يتألَّف بعضها من عباراتٍ صغيرة، وبعضها من جملةٍ واحدة أو كلمةٍ مفردة. أمَّا الاسم الذي خلعه عليه أبوه فهو هيراقليطس بن بلوسون من مدينة أفيسوس في بلاد اليونان، وأمَّا تاريخ ميلاده فيرجع إلى حوالي عام ٥٠٠ قبل الميلاد.

وهيراقليطس هو آخر الفلاسفة المعروفين بالأيونيين وأكبرهم، أحاطت به هالة من العظمة والوحدة والكبرياء والتفرُّد، جذبت المفكرين إلى شخصيته العجيبة على مدى العصور، وتمثلت فيه غضبة المفكر الذي يدقُّ ناقوس الخطر ليوقظ النيام ويرفع عصاه ليعيد موكب الجماهير إلى منبع الحكمة، نشأ في بيتٍ ثريٍّ نبيل، وتخلَّى عن وظيفة الكاهن الموروثة في أسرته إلى شقيقه الأصغر، ورفض أن يشارك في حكم المدينة التي وُلِدَ فيها، أو يشرِّعَ لها القوانين؛ لا عن أنانية أو تكبُّر، بل لاعتقاده بأن دستور هذه المدينة ومواطنيها قد بلغوا من الفساد حدًّا يعجز معه عن إصلاحهم: «من الخير للأفيزيين أن يشنقوا أنفسهم واحدًا واحدًا، وأن يتركوا المدينة لغير الذكور؛ فهم الذين طردوا هرمودوروس (أحد أصدقاء هيراقليطس) أكرم رجالهم قائلين له: ليس مِنَّا من يفضلنا في الكرامة، وإن وُجِدَ فينبغي له أن يعيش في بلدٍ آخر وعند قوم آخرين.»١ وراح هيراقليطس يعبِّر عن احتقاره المر للجماهير الذين يسميهم بالكثيرين والذين يرقدون على حد قوله: «شباعًا كالبهائم»،٢ ويُسفِّه آراءهم ويزري بشعائرهم وطقوسهم، إيمانًا منه بأن «الواحد حين يكون عظيمًا يفضل عنده عشرة آلاف»،٣ وأخذ يُسلِّط نظرة القاضي القاسية على أسلافه، فهو يعترف أن هوميروس هو أحكم اليونانيين جميعًا،٤ ولكنه ينصح هؤلاء اليونانيين مع ذلك بأن يطردوه من مدينتهم، وينهالوا عليه وعلى الشاعر أرخيلوخوس ضربًا بالسياط!٥ ولم ينجُ الشاعر هزيود من هجومه المفزع، ولا نجا أعظم اليونانيين من لسانه السليط، إنه يتهمهم جميعًا بأنهم علَّموا الناس أن يحشوا رءوسهم بالحفظ والمعرفة، مع أن «كثرة المعرفة لا تُعلِّم العقل.»٦ وأنهم يتبعون منشدي الشعب، ويجعلون من الرعاع معلِّمين لهم؛ لأنهم لا يدرون أن الكثيرين أشرار، وأن القليلين طيبون. ويُغالي في هجومه فيصف فيثاغورس وأصحابه بالنصابين والغشاشين، ولا يعترف لأحد من السابقين بفضل المعلم، بل يقول في كبرياء واعتزاز بالنفس: «أنا الذي قمت بالبحث في نفسي.»٧
وفي هذه الكلمة الأخيرة نغمة لم تُسْمَع من قبلُ في فجر الفلسفة، ﻓ «الأنا» تُعْلِن لأول مرة عن نفسها وتطالب بحقها، ويتكشَّف أفقٌ جديد لم يعرفه الإنسان من قبلُ: هو أفق الذات، فها هي ذي عميقة عمق الهاوية، لا يستطيع غواص أن يصل إلى قرارها، متسعة الأرجاء، لا يملك أحد أن يلمس حدودها: «لن تستطيع خطاك أن تعثر على حدود النفس، ولو سِرْتَ في كل طريق، عميق هو معناها «لوجوس» شديد العمق.»٨ وفي هذه العبارة يبدأ علم النفس ويصل أيضًا إلى أبعد غاياته، فلا نكاد نعرف شيئًا قيل عن النفس الإنسانية أشمل أو أصدق من هذه العبارة، إنها تحملنا على تصديق ما يُروى عن رأي سقراط في هيراقليطس؛ فقد قيل: إن الشاعر المسرحي يوريبيدز قدم إليه مؤلف هيراقليطس وسأله عن رأيه فيه، فردَّ عليه سقراط قائلًا: «إن ما فهمته منه شيء رائع، أمَّا ما لم أفهمه فإنني أومن بصحته، غير أنه يحتاج إلى غواص من ديلوس!»٩

ولقد حاول الغواصون على مر العصور أن يخوضوا في بحره المظلم، ويصطادوا اللؤلؤ والنضار من لغته الزاخرة بالصور والرموز والأسرار، رأى فيه هيجل الأب الحقيقي لمذهبه في «الروح المطلق» الذي تتلاقى فيه الأضداد فتستريح، ويتعانق عنده الفكر والوجود بعد طول فراق، وترسو عليه سفينة المصير بعد رحلة الصراع والضياع، وأحبَّه نيتشه حتى كاد أن يكون هيراقليطس ثانيًا يحيا في العصر الحديث حياته ويتعذَّب عذابه، ويواجه العالم كله بتحدِّيه وتمرُّده وانفراده، وفتنت هيدجر منه دعوته الجريئة إلى الاستماع إلى صوت الوجود أو الحقيقة أو «اللوجوس»، فتحدَّث عنه حديث مَنْ يحاول الرجوع إلى المنبع الحقيقي الذي تدفقت منه الفلسفة في تاريخها الطويل، والتربة الأصيلة التي انقدحت فوقها شرارة التفكير الملهم في الوجود، قبل أن يتحول هذا التفكير الخالص على يد سقراط إلى بحث في الإنسان والأخلاق، ويُصبَّ على يد أفلاطون وأرسطو ومن تبعهما في قوالب العقل والمنطق والمذهب. فلنحاول اليوم معًا أن نقف على شاطئ هذا البحر المعتم الزاخر ما دمنا عاجزين عن السباحة معهم فيه، ولنجرب القناعة بالصَّدف والمحار ما دمنا لا نملك الغوص فيه بحثًا عن اللؤلؤ والنضار.

•••

ها هو ذا هيراقليطس يبرز من بين الأمواج الأبدية وينادي: لستُ أرى إلا التحوُّل والتغيُّر، لا تخدعوا أنفسكم ولا تلوموا حقيقة الأشياء، بل لوموا قصر نظركم إن ظننتم أنكم تبصرون أرضًا ثابتةً في بحر الكون والفساد. أنتم تخلعون على الأشياء أسماءً، وكأنما هي ستبقى إلى الأبد، ولكن النهر الذي تنزلون فيه للمرة الثانية ليس هو نفس النهر الذي نزلتم فيه أول مرة.

إنه ينظر إلى العالم بعين الفنان أو بعين الطفل،١٠ وكما يلعب الفنان والطفل لعبهما البريء، فكذلك يلعب العالم مع نفسه، وكذلك تلعب النار الحية الخالدة، فهي تتحول تارة إلى ماء وتارة أخرى إلى أرض، وتُبْنَى وتخرب كما يبني الطفل قصورًا من الرمال على شاطئ البحر ثم يملُّها فيهدمها.
ولكن وراء هذا المهرجان البهيج الذي يتقلب عليه النور والظلام، واللعب والضرورة، والهدم والبناء، يكمن القانون والعدالة والنظام، أو ما يسميه في كلمة واحدة ﺑ «اللوجوس»، «إن استمعتم إلى اللوجوس ولم تستمعوا إليَّ، فإن من الحكمة أن تتفقوا على القول بأن الواحد هو الكل.»١١

كلمة مشهورة من كلمات هيراقليطس، أو شذرة من الشذرات المأثورة عنه. الكلمة تتحدث عن الاستماع والإنصات إلى اللوجوس (المعنى أو العقل أو الكلمة أو المقال)، كما تتحدث عن المفكِّر الذي يُنصت مع المنصتين ويدعوهم إلى الاستماع إلى صوت الحقيقة لا إلى أصوات الفانين، إنه يعبر لهم عما يقوله «اللوجوس»: الواحد هو الكل، ويكاد أيضًا أن يقول: الكل هو الواحد، غير أنه لا يعطيهم حكمةً مريحة توفر عليهم مشقة التفكير، ليستخدموها في شئونهم اليومية مثلما يلجئون إلى حِكَمهم البليدة المأثورة، بل الأَوْلَى أن يُقال: إنه يسير بهم على طريقٍ شاقٍّ عسير، لعل معاصريه لم يطيقوا السير عليه، ولعله يبدو لنا نحن بعد أكثر من عشرين قرنًا وقد ازداد مشقةً وعُسرًا.

الواحد هو الكل، والكل هو الواحد

ما أسهل أن ينطق اللسان بهذه الكلمات! وما أسرع ما يوهم نفسه بأنه قد فهم معناها وأدرك المراد منها! ولكن ما أكثر المعاني التي تعشش في هاتين الكلمتين: الواحد والكل! قد ترد الكلمتان على لساننا للتعبير عن فهمٍ سطحي أو تصورٍ من تصوراتنا اليومية العابرة، ألا نقول في حديثنا اليومي حين يفيض بنا الملل أو عدم الاكتراث: كله واحد؟! كأنما نحاول بالحكمة المتعَبة الكسولة أن نتخلَّص من همومنا ومتاعبنا؟! ألا نلجأ إلى هاتين الكلمتين فنصنع منهما قالبًا نضع العالم كله فيه، أو نؤلِّف منهما صياغة نُفسِر بها الكون كله؟ ومع ذلك فقد تطوي الكلمتان كل مشقَّة التفكير وكل كتمان المفكر، عندئذٍ نحاول أن نقتفي خطاه ونسير على طريقه، لا نكاد نملك إلا السؤال الذي يولِّد السؤال، والترجمة المألوفة لكلمة هيراقليطس المحيرة — وكل ما قاله هذا المفكِّر المظلِم مُحيِّر! — نقول: إن من الحكمة أن نُنصت لما يقوله «اللوجوس»، وأن ننتبه إلى معنى ما يقول: إن الواحد هو الكل، فاللوجوس يقول شيئًا، أو بالأحرى يريد أن يعلن عن شيء، هذا الذي يقوله ويريد أن يعلنه هو: الواحد هو الكل، أو الكل هو الواحد.

ولكن هل في وسعنا أن نزعم أننا نفهم ما يقوله اللوجوس؟ وكيف نتصور أن الكل هو الواحد، أو الواحد هو الكل؟ إن هذه الكلمة تحيِّرنا وقد كُنَّا ننتظر منها أن تهدينا، وربما كان عزاؤنا الوحيد معها أن نعرف أن من الخير دائمًا للفكر أن يتجوَّل بين أحراش المجهول بدلًا من أن يسير على الطريق الهيِّن اليسير، وأن يتعذَّب ويقلق بدلًا من أن يخلد إلى الراحة والسكون، فقد عذَّب المفكرَ اليونانيَّ المبكر سؤالُه عن الموجود، فكان هذا السؤال هو نقطة انطلاقه، وكان «اللوجوس» هو الأحرف الأولى لقدَره ومصيره. وإذا كان العالم كله اليوم يطبق نماذج العلم الغربي والتكنيك الغربي، فلم تكن هذه النماذج المعقدة إلا نهاية تطور طويل بدأ بسؤال الحكم اليوناني الأوَّل عن طبيعة الموجود.١٢

الواحد هو الكل، هو التعبير عن طبيعة اللوجوس، واللوجوس يقول لنا كيف يكون الواحد هو الكل، ذلك أنه يجمع الأضداد المتفرِّقة في ذاته، كما يجتمع الليل والنهار، والخريف والصيف، والحرب والسلام، واليقظة والمنام. واللوجوس هو وحده الذي يقدِّر لهذه الأضداد المتباعدة أن تجتمع فيه، وهو وحده الذي يحملها على التجلي والظهور، فإذا نحن استمعنا إلى ما يقوله «اللوجوس» استمعنا إلى حقيقة «الكل» التي اجتمعت في «الواحد»، الواحد الأبدي الخالد يتحدث إلى هيراقليطس وإليه وحده، ماذا يقول؟ يقول: إن الواحد هو الكل، وكل ما في الكون من موجودات — مهما قل شأنها وتضاءلت قيمتها — فهي عنده الحقيقة كلها، وما خرج عن الأصل والمنبع فلا بد أن يرتد إلى الأصل والمنبع من جديد.

الكل هو الواحد والواحد هو الكل

ونستطيع أيضًا أن نقول: إن الكل يصدر عن الواحد، كما أن الواحد يصدر عن الكل، كلاهما مرتبط بالآخر في تجانس وانسجامٍ متبادَل، وكلاهما متفق ومختلف في آنٍ واحد … ولن نتبيَّن العلاقة بينهما حتى نفهمها فهمًا «ديالكتيكيًّا»، أعني في إطار علاقة التوتر القائمة بينهما.

يقول هيراقليطس:١٣ «على أن الكل يديره (يحكمه، يدبِّره، يوجِّهه) البرق، فالبرق يكشف الكل، ونوره الخاطف يظهره ويُجلِّيه.» والبرق هنا هو الاسم الذي كان اليونانيون يطلقونه على «زيوس» كبير الآلهة، ورب البرق والرعد والصواعق؛ ومِنْ ثَمَّ كان زيوس كبير الآلهة هو اللوجوس، وكان اللوجوس أو «الواحد هو الكل» هو أكبر الآلهة، وهو القدر الذي يحكم الكل، ولكن هل يُجيز لنا هذا أن نقول: إن زيوس واللوجوس والواحد والكل شيءٌ واحد؟ هل نفهم منه أن هيراقليطس يقول بوحدة الوجود؟ إن هيراقليطس لا يعلم مذهبًا ولا يقول بنظرية، إنه مفكِّر، والمفكر يدعوك إلى التفكير معه، ولا شيء غير هذا، ولقد حيَّر معاصريه كما حيَّر الأجيال التي جاءت بعده حين قال كلمته المشهورة:١٤ «إن الواحد — المتصف وحده بالحكمة — يريد ولا يريد أن يُسَمَّى باسم «زيوس»، هو يريد أن يُسَمِّي نفسه زيوس، وهل هناك اسم يليق به أفضل من اسم كبير الآلهة؟! ولكنه يعود فينفي ما يريد؛ إذ أين لمنبع الحكمة كلها وكيف لقدرها الوحيد أن يحيط به اسم من الأسماء؟»

هيراقليطس هنا ينفي ويؤكد في آنٍ واحد، وينسب للآلهة ما يسلبه من البشر، ويدفع بالتفكير لأول مرة على طريق «الديالكتيك» الذي يسمح بالتناقض والمفارقة، ويجمع بين الأضداد والمتقابلات على الطريق الطويل الذي وصل إلى قمته عند هيجل، وها نحن أولاء نلمس اليوم آثاره في الصراع السياسي والمذهبي الدائر بين الشرق والغرب، فكلمته السابقة تحتوي في ظاهرها على التناقض؛ حين تؤكد أن الواحد الحكيم يريد ولا يريد أن يتسمَّى باسم زيوس. غير أن هذا التناقض لا يعبِّر عن ضعف في الفهم أو خطأ في الحكم، بل ينبع من تفكير لا يطيق الجمود عند حالةٍ واحدة ولا الوقوف عند طرفٍ واحد، بل يتحرك دائمًا من حالة إلى حالة، ومن طرف إلى طرف (وهو ما نسميه عادةً بالتفكير الديالكتيكي).

ثم يعود هيراقليطس فيحيِّرنا معه حين يقول عبارته المشهورة: «إن الطبيعة (فيزيس) تحب التخفي»، فالطبيعة هنا (أو الجوهر أو الحقيقة) التي من شأنها أن تظهر وتنمو وتتجلَّى، تحب مع ذلك أن تكمن وتتخفَّى. عبارة تنطوي على المفارقة، ولكن المفارقة قائمة في جوهر الطبيعة نفسها، فمن دأبها أن تحجب نفسها، وأن تُخفِي عن الإنسان حقيقتها،١٥ ولولا أنها تحب الاختفاء وتمنع نفسها عن طالبيها لما جذبت إليها الفلاسفة، ولما سُمِّي هؤلاء محبي الحكمة والمشتاقين أبدًا إلى القرب منها والتشبه بها.

«الطبيعة (ونستطيع أيضًا أن نقول: الحقيقة أو الجوهر) تحب الاختفاء.»

هذه الكلمة تلخِّص جوهر الفلسفة كلها.

فالفلسفة طريقٌ صاعد إلى الحكمة، وشوقٌ دائم إليها، وكلما ازددنا تفلسفًا؛ ازددنا توغُّلًا في هذا الطريق الموحش الوحيد، هذا الطريق الصاعد هو الذي نسميه عادةً «بالديالكتيك»، وكلما ازداد نصيبنا من التفلسف ازداد حظنا أيضًا من هذا الديالكتيك، عندئذٍ نجد كل شيء في الوجود في صراع وتغيُّر دائمَين، فما من شيء إلا وهو في صراع مع الضدِّ المقابل له، وما من شيء إلا وهو في صيرورة متصلة وتحوِّل مستمر، ونهر الحياة يسيل على الدوام؛ فنحن لا ننزل فيه مرتين. ومن العبث أن نتشبث بالموجة؛ إذ لا تلبث أمواجٌ أخرى أن تجرفنا، ولا يلبث تيار الماء أن يتجدَّد تحت أقدامنا. أنت تنزل في النهر الواحد ولا تنزل فيه؛ ذلك أن النهر الواحد لا يبقى نفس النهر، وأنت أيضًا لا تبقى على ما أنت عليه، فنحن ننزل في نفس الأنهار ولا ننزل فيها، ونحن نكون ولا نكون؛ ذلك أننا نتغير على الدوام، وإن احتفظنا أمس واليوم وغدًا بأسمائنا. كل شيء يسيل على الدوام، كل شيء يخطو إلى الأمام ولا يبقى على حاله، كل شيء يتغير ويتبدل، وما لشيء على وجه الأرض من ثبات، وكل ما هو موجود فلا بد له أن يهوي إلى العدم، إن كان يريد أن يتشبث بالوجود، والدهر طفل يلعب، ويُرتِّب الأحجار على لوحٍ كبير، وما أروعه من لعب ملوكي يقوم به طفل صغير:١٦ نهار وليل، شتاء وصيف، حرب وسلام، شبع وجوع. وتعمُّ الحرب وينشب الصراع بين جموع الأشياء، وينشأ كل ما في الوجود بمقتضى الصراع والتنازع؛ فالحرب هي أم الأشياء وملكتها جميعًا، تجعل البعض آلهةً وأبطالًا، وتجعل البعض الآخر بشرًا، وتحيل البعض عبيدًا، كما تجعل غيرهم أحرارًا.١٧ غير أن الأضداد تلتقي في النهاية، والأعداء لا يلبث الصلح أن ينعقد بينهم، ويجتمع الكل وما ليس بكل، ويتألف المتجانس والمتنافر، وينسجم القوس مع الوتر. وليس معنى هذا أن الصراع سيتوقف إلى الأبد، أو أن تيار الحياة سيجفُّ، وعجلتها ستكفُّ عن الدوران، بل معناه أن التحوُّل مستمر، وإن كُنَّا سندرك الثبات من وراء التحول؛ ذلك أنه يتفرق ثم يتجمَّع، ويبتعد ثم يقترب، ولا يلبث المجتمع أن يتفرق من جديد، ولا يلبث القريب أن يبتعد. غير أن الواحد في تحوُّله باقٍ، ونفس الشيء هو الحي والميت، والمستيقظ والنائم، والشابُّ والعجوز، والحلو والمر، والطريق الصاعد والهابط والمستقيم والملتوي واحد ونفس الشيء، والخير والشر واحد ونفس الشيء أيضًا، إنه عنده هو الكل، كما هو عنده الواحد. والحياة جَرَّة تمزج العسل والمر، والنصر والهزيمة، والليل والنهار بلا انقطاع. وإذا كان نهر الوجود يسيل على الدوام، فإن الأبدي يتدفَّق أيضًا على الدوام في جميع الأشياء، وإنما يكشف الصراع بين الأضداد عن العدالة الكامنة وراءه، وتدلُّ الكثرة المتغيِّرة على الوحدة الباقية.

ولكن ما هو هذا الذي يبقى وإن تحوَّل، ويدوم على رغم التغيُّر والتبدُّل؟ إن هيراقليطس يسميه تارة بالإله، وأخرى بالدهر، وثالثة بالطبيعة أو الحقيقة أو الجوهر، إنه عنده هو الكل، كما هو عنده الواحد. النهر الذي يسيل دائمًا وتتغير مياهه في كل لحظة، ويظل مع ذلك هو نفس النهر؛ فأنت تخوض فيه وتحسُّ بتدافع الأمواج من حولك، وانسياب المياه على جسدك، وتعرف أن النهر واحد، ولكنك تعرف أيضًا أن المياه تتغير فيه، والأمواج تذهب وتجيء، وأن حياتك موت لغيرك، كما أن موتك حياة للآخرين، وفي كل لحظة تسبح فيها في النهر يأتيك الدليل على أن النهر واحد ومتغيِّر، وأن جسدك واحد ومتغيِّر أيضًا، وتعرف أن الزمن باقٍ وإن أفنى كل ما فيه؛ ذلك أنك لا تنزل النهر الواحد مرتَين.

١  الشذرة ١٢١ من نشرة ديلز وكرانس لنصوص الفلاسفة قبل سقراط.
٢  ش٢٩ Diels & Kranz: Versokratische Denker. Auswahl aus dem.
٣  ش٤٩ uberlieferten. Berlin, Weidmansche Verlagsbuch handlung, 1959.
٤  ش٥٦.
٥  ش٤٢.
٦  ش٤٠.
٧  ش١١٠.
٨  ش٤٥.
٩  راجع: فالتر كرانس: الفلسفة اليونانية — مجموعة ديتريش، مطبعة كارل شينمان، بريمن ١٩٦٢، ص٥١–٦٨.
W. Kranz: Die Grieschische Philosophie, Sammlung Diertich, Bremen, C. Schunemann, S. 51–68.
١٠  نيتشه، الفلسفة في العصر التراجيدي لليونان: هيراقليطس.
١١  ش رقم ٥ب في نشرة ديلز وكرانس للشذرات الباقية من الفلاسفة السابقين على سقراط، راجع طبعة فالتر كراتس المختصرة، النص اليوناني وترجمته، دار النشر فيدمان، برلين ١٩٥٩، ص٦٥–٨٦.
١٢  M. Heidegger: Virtrage und Aufsatze. Pfulliagen, G. Neske, 1954, S. 207–23.
١٣  الشذرة ٦٤ب.
١٤  الشذرة ٣٢ب.
١٥  ومن هنا فإن معنى كلمة الحقيقة (أليثيا alethcia) هو في أصله الظهور أو التجلِّي بعد التستُّر أو الخفاء على نحو ما يؤكد هيدجر باستمرار في تفسيره لمعنى هذه الكلمة.
١٦  ش٥٢ب والسطور التالية مستوحاة من شذرات هيراقليطس مع تصرُّف قليل.
١٧  ش٥٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤