لا

عن صعوبة الاحتجاج وضرورته في القرن العشرين

هل هناك أسهل من قول «لا»؟

كلمة صغيرة، نقولها حين نصبح وحين نمسي، وقد نوفر على أنفسنا مشقة النطق بها، فنكتفي بهز الرءوس.

حرفان صغيران، نسرع إليهما حين ننفي أو نرفض أو نحتج أو نرد على سؤال من يسأل فنؤكد له أننا لا نعرف، أو نقطع بعدم معرفته فنمهد للجواب الصحيح.

«لا» و«نعم»، حرفان يقتسمان وجودنا وتدور حولهما حياتنا وتفكيرنا، في كل ما نقول ونفعل؛ لا بد لنا أن ننجذب لأحد هذين القطبين، أو ندور في إحدى هاتين الدائرتين.

حرفان لا يبدو أن هناك ما هو أيسر منهما، ننطق بهما مع كل سؤال وجواب، ومع ذلك فما أكثر ما يرتبط بهما من صعوبات!

لنقصر حديثنا على الحرف الذي وضعناه عنوانًا لهذه السطور.

«اللا» هي صيغة الاحتجاج، ففي عالم يعطي لنا من الصباح إلى المساء أكثر من مناسبة للاحتجاج، يصبح من حقنا أن نبحث عن طبيعة هذه الكلمة.

قد يبدو لأول وهلة أنه ليس هناك ما هو أيسر ولا أعم من قول «لا»، إنها تكاد تتردد على اللسان في كل ما نقول وما لا نقول، حتى يُخيَّل إلينا أنها فارغة من كل مضمون. إنها تستطيع أن تخالف كل شيء وتوافق على كل شيء، وتستطيع بنفس القوة أن تنفي وتثبت، وتعارض وتؤكد.

وقد يبدو أنها أكثر كلمات اللغة بُعدًا عن الاستقلال بنفسها؛ فهي تفترض سؤالًا يسبقها، بل هي جواب النفي على هذا السؤال، فالذي يسأل يريد أن يعرف، وحين نجيب على سؤاله «بلا» فإننا نخنق معرفته الباطنة في مهدها، ونمهد بالنفي لمعرفةٍ صحيحة أو نعتقد أنها صحيحة، وقد يبدو أنه ليس هناك ما هو أخطر من قول «لا»، فإذا كانت اللا هي صيغة الاحتجاج، فقد تكون كذلك هي صيغة الانهزام؛ فمن يصر عليها في كل ما يقول أو يفعل، يصر على رفض كل شيء، ومن يرفض كل شيء يهرب من كل شيء، ويكون الموقف المنطقي الوحيد الذي بقي له هو الهروب من الحياة كلها؛ ذلك لأنه لا يرفض حينئذٍ نظامًا بعينه، بل يرفض كل نظام، ولا ينفي موقفًا بذاته، بل ينفي كل موقف، وهذا الرفض العنيد، هذا النفي المتصل الذي لا يؤدي إلى تأييد شيء أو الموافقة على شيء، هو الفوضى بعينها، وما أسهل أن يقول الإنسان: لا، ولكن ما أضْيَعَهَا إن لم تحاول أن تثبت وراءها حقيقة، أو تؤكد قيمة، أو تدافع عن «نعم».

وما أخطر أن يقول الإنسان: «لا»، خاصة إذا وجد المجتمع الذي يحرم هذه «اللا»، لا بل يقمعها ويوقف عليها العقاب الشديد، ولكن ما أشبهها بالصدى الضائع في الصحراء، إذا كانت تعبر عن تمرُّد يكتفي بالنفي دون أن يحاول الإثبات، ويقنع بالاعتراض على الباطل دون أن ينادي بتأكيد الحق.

لكن هل يقف المفكر في «اللا» عند الصعوبات الخارجية التي تصادفه، وهي صعوبات تدخل في مجال السياسة والاجتماع والقانون؟ إن المفكر الحقيقي يهتم — قبل كل شيء — بالماهية والطبيعة والجوهر، فهل يقرِّبه من حقيقة «اللا» أن نصفها بأنها صيغة الاحتجاج؟ أم تراها تبعده عنها؟ أليس في لفظ «لا» نفسه تحديد لجانب واحد من الوجود، بينما المفكر — أو لنقل الفيلسوف — يتجه بفكره إلى كل الوجود؟

إن كلمة «لا» تحدُّ وتحدد، أليس في هذا شيء من العزاء لمن يريد أن يصل إلى قلب الوجود، ويطأ خاشعًا قدس أقداسه؟ ألا تستطيع أن تسد الطريق على كل جوابٍ سهل في مسألة المسائل هذه، وأن تسكت كل «نعم» يسيرةٍ وسطحية ومؤقتة تزعم أنها تنبئنا بشيء عن الوجود؟ ألا يستطيع قائل «لا» أن يكون حارسًا أمينًا على الوجود، فيبدأ بحراسة نفسه من عواقب «لا» تحتج وحسب، ولا تجلب على نفسها غير الخراب؟

مهما يكن من شيء، فإن قول «لا» تعبير عن احتجاج، وفي عالم يعطي لنا من الصباح إلى المساء أكثر من مناسبة للاحتجاج؛ يُصبح من حقنا أن نبحث عن طبيعة هذه «اللا»، والبحث هنا ضروري لنعرف كيف نقولها ومتى ولمن، ولنضمن ألا تكون مجرد صرخةٍ نبيلة في الهواء، أو كتابة بالدم على سطح الماء!

لنفكر معًا في أمر هذه «اللا». ولكننا قبل أن نبدأ التفكير فيها، سنجد أنفسنا مضطرين إلى التفكير في الفكر نفسه! والفكر عادةً يسير خطوة فخطوة، على حسب منهجٍ مرسوم، وهو يصطدم بأول عقبة على هذا الطريق، حين يسأل نفسه في أي شيء يفكر، فهو يجرِّب هذا وذاك، ينظر هنا وهناك، ويسير على طريق قد يعدل عنه بعد قليل ليسير على طريق سواه. حقًّا إن فيلسوفًا يونانيًّا قديمًا، هو «بارمنينيدز»، قد عرف طريقين لا ثالث لهما: طريق الحقيقة الذي يسير فيه العارف ولا يسير على طريق غيره حتى يصل إلى الوجود الواحد، وطريق الباطل الذي يسير فيه الجاهل أو تسير فيه العامة «المزدوجة الرءوس»؛ ليؤدي بها إلى اللاوجود؛ فالطريق الأول هو الطريق الذي لا طريق سواه، وفي آخره سنجد الوجود الواحد الذي لا يتبدل، الوجود الكروي الشكل، المحدود بحدودٍ ثابتة. إن العارف يسير عليه، يعرف كلمة السر التي توصِّل إليه، أمَّا العامة «الأغبياء» كما يسميهم، فهم يجهلون هذه الكلمة، ويترنَّحون حائرين بين الطريقين؛ ذلك لأنهم يجهلون هذه الكلمة القاطعة التي قالها فيلسوفنا احتجاجًا على اللاوجود وتأكيدًا للوجود الحي، «اللاوجود غير كائن، والوجود كائن»، ولكن كيف أعرف هذا الطريق؟ كيف أقترب من الوجود الحي لا الوجود الميت المتحجِّر؟ كيف أصل إلى الوجود الشامل الذي أراده الفيلسوف، فأميزه عن الوحدة الميتة التي تجمع الحق والباطل، والوجود واللاوجود؟ هل أجعل منه موضوعًا لذاتي المفكرة؟ ولكن هذا الفعل نفسه يثبته ويحدده كما يحددني، إنه يجعل الذات تصطدم بالموضوع فأتحرك في مجال لا أستطيع أن أفرِّق فيه بينهما، ولكنني مضطر إلى هذه التفرقة، وإلا اختفى الموضوع الذي أبحث عنه، فهل ألجأ أمام هذا الموضوع الشامل — موضوع الوجود — إلى إصدار حكم عليه يوحد بيني وبينه؟ ولكن من أين لي — وأنا البشر المحدود — بهذه القدرة؟ أليس من طبيعة الأشياء ومن طبيعتي البشرية أن يظل الموضوع على الدوام «موضوعًا» أمامي، مقابلًا لي في كل كلمة أو إشارة أو فعل أقترب به منه؟ ها أنذا أجرِّب طريقًا بعد طريق، وأصدر حكمًا بعد حكم، ولكن الحقيقة مختلطة بالباطل، والوجود ممتزج باللاوجود، وأنا لا أستطيع أن أميز أحدهما عن الآخر، أريد أن أقول للطريق الخاطئ: «لا»، فلا أستطيع أن أستعين بطريق بارمنيدز الوحيد؛ لأنه لا يؤدي إلا إلى نعم مؤكدة، إنه لا يقول: «لا» فحسب، بل يبقى اللاوجود نفسه، ومعه كل نعم كامنة فيه. قائل «لا» يقول للاوجود «لا»، وهو مضطر أن يقولها لتسمعها العامة ذات الرءوس المزدوجة؛ لأنها تتعلق باللاوجود، وتظل في ليل الظن والجهل، لا تملك شجاعة العارفين، ولا ترفعها «بنات الشمس» إلى أعلى (قارن الشذرة الأولى من شذراته الباقية). غير أنه في الحقيقة ليس في حاجة إلى أن يقول «لا» للاوجود؛ ذلك لأن هذا اللاوجود لا وجود له عند بارمنيدز، إنه يعيش على الدوام في نعم متألقة، في مملكة النهار والضوء الساطع، ومع ذلك فإن نهاره لا يكشف الليل، وعلمه لا يفسر لنا وجود الجهل، وإذا سألناه لِمَ كان الجهلاء جهلاء؟ ولماذا لا يعرفون الوجود كما يعرفه سواهم؟ وهل نسيهم هذا الوجود أم نسوه؟ أجابنا بأنهم يتعلقون باللاوجود، ولأنهم يتعلقون باللاوجود فهم دائمًا ما يقولون: «لا»، وهم يقولون «لا»؛ لأنهم خاضعون لسلطان الحواس، يرون الظاهر حيث يكون الباطن، والكثرة حيث تكون الوحدة، إنهم خائفون على الدوام؛ لأن «اللاوجود» يهددهم، وتهديدهم يحملهم على قول «لا»، ويُعجزهم عن قول «نعم» للوجود الواحد الحق.

إذا كان هذا هو حال من يقول «لا»، فإن قائل «نعم» عند بارمنيدز ليس أفضل منه حالًا؛ ذلك لأن الإنسان لا يصل إلى النعم الحقيقية إلا بعد أن يقول «لا» مرات ومرات، ولا يسير على الطريق الحق حتى يَعْدِل عن طرق الخطأ التي لا حصر لها. إن قائل نعم عنده أشبه بمن اكتشف الطريق، ولكن ما كان أحوجنا إلى أن يشرح لنا المشقة التي عاناها حتى وصل إلى هذا الكشف! وليس أحب إلى الإنسان من قول نعم، خصوصًا إذا كان يقولها للحقيقة المضيئة كالنور، على أن تأتي هذه النَّعم في نهاية الطريق لا في بدايته، لا بل أن تكون على الدوام كامنة في كل «لا» يقولها وكل احتجاج يصرخ به.

كان إذن على الفيلسوف الوقور بارمنيدز أن يميز بين نَعم كامنة في لا، بفضلها تستطيع هذه أن تصمد لتهديد اللاوجود، وبين نعم أخرى «لا تبلغها رغبة» و«لا تلطخها لا» كما يقول نيتشه؛ ذلك لأنني لا أستطيع أن أستمع إلى «النعم» الأولى إلا من خلال لا، ولا أن أجرِّب الوجود حتى أقول لا لكل ما ليس بوجود، ولا أن أوافق حتى أحتجَّ هذا الاحتجاج الأنطولوجي «الوجودي»، ولا أستطيع كذلك أن أصل إلى النعم الأخرى حتى أتخلى عن كل شيء، وأشيح ببصري عن كل ما يتهدد اللاوجود — ومنه نفسي — بالخراب، لا بل أتخلَّى عن اللغة التي تحتمل الخطأ حتى أصل إلى الوجود الذي لا تعبر عنه لغة البشر، هناك أصل إلى تلك النعم، أو تلك النعمة الغريبة اليائسة التي سماها نيتشه بالكوكب الأعلى، والوصية الفريدة والنعم الأبدية للوجود، وهناك لا يملك الإنسان إلا أن يقول تلك النعم المقدسة، «ويحيي ظهر الأرض والبشر العظيم.»

لولا هذه «النعم» الكامنة كمون البذرة في «اللا»؛ لكان شك الشُّكاك ويأس اليائسين في معنى الحياة عامل تدمير لا يرحم، وإلا فمن أين جاء ديكارت اليقينُ، وقد راح يشكُّ في كل شيء؟! ألم تكن هناك «نعم» وراء اللا المجتاحة جعلته يطمئن إلى أنه مهما شكَّ في كل شيء حتى في شكه، فسوف تبقى حقيقة التفكير التي تسلِّمه إلى طمأنينة الوجود؟ ومن أين جاءت «كامي» شجاعتُه، وقد راح يحتجُّ ويتمرد ويصرخ بأن الوجود لا معنى له، لو لم تكن هناك «نعم» وراء هذه اللا المعذِّبة، تؤكد له أن هناك معنًى في احتجاجه على اللامعنى، وأن الحياة تستحق أن نحياها، لا بل يجب أن نحيا كل لحظة فيها ولو كانت مجردة عن المعنى، بل ربما لهذا السبب نفسه، وهل كان بارمنيدز ليحتج على اللاوجود ويرفضه لو لم يكن يريد تأكيد الوجود الثابت والجوهر الخالد الباقي؟! هناك إذن قوة تتجلَّى في قول «لا»، وتتكشف في كل احتجاج على الخطأ والباطل واللاوجود، قوة تحمي الشاكَّ من الهلاك تحت سنابك الشك، وتقي اليائس من الغرور كما تَقِيه من الاستسلام وتدمير النفس. لنسمِّ هذه القوة الوجود أو العقل أو حكمة الحياة ونعمة السماء؛ فوراء اختلاف الأسماء اتفاق على «النعم» الكامنة كمون البذرة الحية في «اللا».

•••

وليس أمر «اللا» مقصورًا على الفلاسفة والمفكرين؛ فالأنبياء أيضًا قد يحملون أمانتها، فيهربون من عبثها، ويفرُّون من وجه الرب الغاضب، ناسين أنه لا ينذر إلا ليبشر، ولا يتوعَّد إلا ليعد، «صار قول الرب، كما يقول الإصحاح الأول من سِفْر يونان «يونس» إلى يونان بن أمتاي قائلًا: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ونادِ عليها؛ لأنه قد صعد شرهم أمامي.»

كان على يونس النبي أن يذهب إلى أهل نينوى «الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم» ليبلغهم بأمر اللا الإلهية، وليحمل إليهم مع نذير السماء البشير بكلمة الله، ولكنه على ما تصف القصة المشهورة هرب من وجه الرب، ونزل إلى يافا ليركب سفينة ذاهبة إلى ترشيش، ويرسل الرب ريحًا شديدةً إلى البحر تهزُّ السفينة حتى تكاد تنكسر، ويفزع الملاحون كلٌّ إلى إلهه يستصرخه، بينما يغطُّ يونس في نومه في جوف السفينة، ويسأله الرجال عن أمره فيقول: إنه خائف من الرب إله السماء الذي صنع البر والبحر، ويسألهم أن يطرحوه في البحر فيسكن البحر عنهم؛ لأنه بسببه كان هذا النوء العظيم عليهم، وأعدَّ الرب حوتًا عظيمًا ليبتلع يونس، فكان في جوفه ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. وظل يونس يدعو ربه ويعترف بذنبه ويتوب إليه حتى أمر الحوت فقذف به إلى البرِّ، وذهب يونس إلى نينوى مرةً ثانية؛ لينادي لها المناداة التي كلمه الرب بها، وهناك أنذر يونس وتوعد، قال لأهل نينوى: إن المدينة العظيمة ستنقلب بهم بعد أربعين يومًا، أنذر ولم يبشر، توعَّد ولم يعد، صرخ «باللا» ولم يفطن إلى النعم التي يمكن أن تتفتح عنها، وآمن أهل نينوى بما قاله؛ صاموا وصلوا ولبسوا من الملك إلى الراعي مسوح الرهبان، ندموا إلى الرب، ورجع كل واحد عن طريقه الرديئة وعن الظلم الذي في أيديهم، ندم الرب أيضًا عن الشر الذي تكلَّم على لسان يونس أن يصنعه بهم فلم يصنعه.

لكن يونس الذي توقع أن يُنْفِذَ الربُّ وعيده؛ فيحوِّل المدينة إلى أنقاض والأحياء إلى جثث، قد «اغتاظ بالصواب»، ولم يعرف أن الإله الغاضب هو نفسه الإله الرحيم، وأن كلمته التي تقول «لا» تقول معها «نعم» في نَفَسٍ واحد، واستولى عليه اليأس فدعا ربه أن يأخذ نفسه منه؛ «لأن موتي خير من حياتي.» ويخرج من المدينة ويجلس في الظل ليرى ماذا يحدث للمدينة، ويعدُّ الرب الإله يقطينة تظلِّله وتخلصه من غمه، ويفرح يونس فرحًا عظيمًا، ولكن لا يلبث الفجر أن يطلع حتى تيبس اليقطينة وتهب ريحٌ شرقية حارة فتضرب الشمس على رأسه فتذبل، ويحزن يونس على الشجرة، هو الذي بخل بحزنه على المدينة العظيمة، ويعرف أنه شك في رحمة الله، وجلس بعيدًا عن المدينة ينتظر أن يراها تنهار أمام عينيه، ويعود يطلب الموت لنفسه ويقول موتي خير من حياتي.

انتهى يونس إلى اليأس؛ لأنه كُلِّفَ بأمانة قول «لا»، ففرَّ من تبعتها «بلا» الهروب، صحيح أنه يتلقى الدروس من الرب، ويتعلم حكمته في جوف الحوت، فيخرج منه ليبلغها لأهل المدينة العظيمة، ولكن مأساته أنه وقف موقف مَنْ يقول إمَّا اللا أو النعم، ولم يعرف أنهما يمكن أن يجتمعا في وحدةٍ واحدة، وراح ينتظر انهيار المدينة التي أبلغها غضب الرب، دون أن يعرف أن الرب نفسه رءوف رحيم، لقد وقف عند منطق أهل نينوى الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم، ولم يستطع أن يسمو إلى رأي الأنبياء الذين يعرفون أن هناك طريقًا ثالثًا غير طريق النعم أو اللا، طريقًا يجمع بينهما في وحدة الوجود ونعمته وقوته، وهكذا ظل يونس حائرًا بين إخلاصه لكلمة الرب وخيانته لها، فقول «لا» أمر عسير دائمًا، وقائل «لا» ينبغي أن يُدْخِلَ في حسبانه الأهوال التي يمكن أن يتعرض لها، والشجاعة التي تلزمه بها، وقد كان عسيرًا على يونس أن يُسْمِعَ أهل المدينة هذه اللا الإلهية بغير أن يفسد علاقته بالله ويخون نفسه ويخون المدينة العظيمة، وترنَّح يونس بين لا الهروب ولا الدمار، حتى علَّمه الرب درسًا يمكننا أن نتعلم منه!

•••

من الصعب أن يقول الإنسان «لا».

ولكن من أين عرفنا هذا، ومن الذي عرَّفنا به؟

نحن نعلم أن هناك نوعًا من الناس يعجزه أن يقول «لا.» فهو يخشى إن قالها أن ينعزل عن الناس أو يعزله الناس عنهم، وهو يخاف أن يؤذي أحدًا كما يخاف أن يؤذيه أحد، وهو يظن إذا سكت عن قول لا، أنه سيرضى عن كل شيء وعن كل إنسان، ولكنه لا يستطيع أن يرضى عن كل شيء ولا عن كل إنسان، فالقوى التي يخشى إنْ هو عارضها أن تطرده وتتعقبه، تتصارع فيما بينها، وهو إن سكت أو احتج محكوم عليه بالوقوع تحت رحمتها والتمزق بسببها. هل يستطيع أن يخلص نفسه منها إذا واجهها بقول لا؟ هل يضمن أن ينجو من شرها جميعًا فلا تناله إحداها؟ إنه يحاول بالصمت أن ينجو من هذه القوى جميعًا، يحاول ألا يُبدي مقاومة، أن يصبح «لا أحد»، ولكنه لا يستطيع أن يكون «لا أحد»، ومحاولته أن يكونه تفضحه، إنه في كل لحظة معرَّض لألوان من الجزاء، وهو لا يستطيع أن يكتفي بموقف المعذَّب والضحية، بل لا بد له أن يقوم بدور المنفِّذ والجلاد، مهما حاول أن يغسل يديه ويعلن براءته، ومِنْ ثَمَّ يحاول أن يسلِّم نفسه لإحدى هذه القوى، غير أنها لا تحميه، بل تهدد بابتلاعه، وفي طريقه إلى الهروب من إحداها يقع في أَسْر الأخرى، ويبدأ في القفز من إحداها إلى الأخرى، لكنه لا يحتاج إلا لقوةٍ واحدة تعطيه القدرة على القفز، ويحاول أن يتعالى عليها جميعًا، أن يقول للكل لا، غير أن التعالي لا ينجح إلا في الظاهر، فهو ما يزال في حاجة إلى قوة تؤكد له أنه متعالٍ ومرتفع. وتتنافس القوى عليه، ويضطر أن يدافع عن ذاتيته التي يتهددها الضياع؛ فيقول لهذه القوى لا، ويقول لنفسه لا، ولكنه يجد أنه لا يستطيع أن يقول لها جميعًا «لا»؛ فيوافق على إحداها أو بعضها، ويوحِّد بين ذاته وبينها، ويكتشف في التوحيد تهديدًا جديدًا بفقدان الذات، ويرى نفسه وحيدًا لا يجد شيئًا يتمسك به، فيبدأ في البحث عما هرب منه، ويفزع إلى المحدود هربًا من غير المحدود، ويتلمس الشكل نجاةً مما لا شكل له، ويدخل مختارًا في أسر الجبر والإلزام؛ ليخلص من حرية الفراغ، ويسأل نفسه: هل أستطيع أن أحتفظ بذاتيتي إذا قبلت كل القوى والأنظمة ووحدت نفسي بها؟ وإذا رفضتها جميعًا فهل أحافظ عليها؟ وبعد أن كانت المسألة في أول الأمر مسألة تكيُّف مع القوى الخارجية والداخلية، تصبح المشكلة عنده هي فقدان الذات أو الاحتفاظ بها، ويعرف الآن أن من الصعب على الإنسان أن يقول «لا»، وأصعب عليه ألَّا يقولها، فهو يقولها ليحتجَّ على إضاعة ذاته (وماذا يكون بدونها؟) فإذا قالها عادت فهددت هذه الذات بالضياع، وهو إن امتنع عن قولها، وحاول أن يعزي نفسه بالارتفاع فوق القوى والأنظمة والأشكال جميعًا، عاجله الخوف والقلق من أن ذاته لم تتحد مع شيء ولا ارتبطت بشيء، وهذا من أبشع ألوان الخوف والقلق في عصرنا الذي نعيش فيه.

كيف ينجو من هذا القلق من يبحث عن النجاة؟ بالكلام؟ ولكن الكلام يبدو سخفًا وعجزًا، حيث يصبح الكلام الحقيقي والحوار الحقيقي مستحيلًا، بالصمت؟ ولكن هل يخلص الصمت من الخوف، وقد تسبب الخوف فيه؟ إن الإنسان لا يستطيع أن يبقى بغير لغة، فحتى الصمت نفسه نوع من الكلام مع الذات، حين تتكسر جسور الكلام مع الآخرين، لا بد إذن أن يبحث الإنسان عن لغة، هنا يختلف الناس بعضهم عن بعض، فالبعض يسكت، وهم ملايين في عالمنا الحديث، وفي صمتهم — أو لنقُلْ في عجزهم عن الكلام — نوعٌ من الاحتجاج الأخرس، نوعٌ من قول لا، والبعض الآخر يهرب إلى الشعارات والحِكَم والكلمات المحفوظة؛ لعجزه عن الكلام الحق، فلا يلبث أن يفزع من هذه الشعارات والحِكَم والكلمات المحفوظة، وفريق ثالث يبحث في الفن والعلم عن لغةٍ جديدة، لا بل يحاول أن يوجدها في كل عمل جديد، ولغته هنا نوع من قول لا، أو من الاحتجاج على لغةٍ لم تعد تقول شيئًا.

قول «لا» أمر عسير؛ لأن القول نفسه أصبح عسيرًا، واللغة أصبحت حِملًا ثقيلًا مفروضًا من أعلى، وقول لا أمر صعب؛ لأنه احتجاج على ضياع اللغة الحق، لغة الحوار بين البشر، لغة السؤال والجواب، والرأي والاعتراض عليه. قول «لا» في وسط الصمت السائد كإحداث ثقب في سفينة، إنه نوع من الاحتجاج يهدد صاحبه بالخرس والصمت، والخوف من الصمت — حتى ولو هرب الإنسان إليه — من أبشع أنواع الخوف في عصرنا الذي نعيش فيه.

خوف من ضياع الذات، وخوف من فقدان اللغة، وقلق من أن يصبح الإنسان شيئًا بين الأشياء، أو يصبح أخرس يخدع نفسه بالحياة في جنة الصمت أو يتحايل على الحياة في جحيمه، كلاهما نوع من تدمير الذات، وكلاهما من أبشع ألوان الخوف في عصرنا الذي نعيش فيه.

قد يظهر هذا التدمير ملفتًا للأنظار في الانتحار أو الجنون أو الفزع إلى حياة اللذة المسعورة أو حياة العزلة والرهبنة المفروضة، ولكنها جميعًا ألوان من تدمير الذات، تحاول كلها أن تهرب من خيبة الأمل في نفسها وفي العالم لتقع من جديد في خيبة الأمل.

كيف نقاوم هذا التدمير الذي يتفشى كالوباء في كل مكان؟ كيف نستطيع أن نقول «لا» دون أن نفقد ذاتنا أو نضطر إلى الصمت الأخرس؟ كيف نحافظ على هذه القوة الأصيلة في الإنسان؛ قوة الاحتجاج وقول لا؟ كيف نصرُّ على المقاومة وسط أمواج الدمار التي تلتفُّ علينا، بغير أن نخاف من الخوف، وبغير أن نخدع أنفسنا ببطولة زائفة أو نعزيها بالانعزال التعيس؟ في أمواج الدمار نفسها ينبغي علينا أن نبحث عن قارب النجاة. وسط القوى المتصارعة يجب أن نقاوم. بين أصوات الزيف وصيحات الخادعين لا بد أن نصرخ قائلين: لا. هنا أيضًا يجب أن نبحث عن كل مَنْ يصرخ مثلنا ويقول «لا»، سنجد بينهم كثيرين من المزيفين والدجَّالين ومن لا يعلنون السخط إلا لكي يتعرفوا على الساخطين، وليست الصعوبة في أن نجد المحتجين الحقيقيين بدلًا من المحتجين المزيفين، بل هي في اكتشاف الحقيقيين بين صفوف المزيفين. وإن لم نفعل كذلك فنحن نخون أنفسنا، ونخون الوجود الحق الذي نقول باسمه «لا».

قول لا أمرٌ صعب؛ لأنه احتجاج على تدمير ذات الإنسان، ولأنه يهدِّد قائله بالدمار. والخوف من الدمار — حتى ولو هرب الإنسان منه بتدمير نفسه بالموت أو الجنون أو الصمت — من أبشع ألوان الخوف في عصرنا الذي نعيش فيه.

•••

لنضرب مثلين على الوقوف في وجه الموت، وعلى مقاومة العنف والوحشية.

أما أحدهما فنتعلَّمه من أب الشعراء هوميروس، وأمَّا الآخر فمن شاعرٍ حديث هو برتولت بريشت، فالقارئ يذكر من قراءته للأوذيسة كيف مكر أوديسيوس بالوحش الخرافي الرهيب «الكيكلوب»، وكيف استطاع أن يفقأ عينه الواحدة بعد أن ابتلع رفاقه الملاحين واحدًا بعد الآخر أمام عينيه.

في الأنشودة التاسعة من الأوديسة يحدِّثنا البطل المغامر أوديسيوس كيف اتجه مع رفاقه الاثنى عشر إلى بلد الكيكلوب، هؤلاء العمالقة الجبارين، الذين لا يعرفون شريعةً أو قانونًا، ولا يزرعون بأيديهم ولا يحرثون، بل ينمو كل شيء في أرضهم، اعتمادًا على الآلهة الخالدين. اقترب هو ورفاقه من الجزيرة التي يسكنها العمالقة، ورأَوا من بعيد كهفًا يُشرف على البحر، تظله أشجار الغار، «هناك اعتاد هذا العملاق الوحشي أن يقضي الليل ويرعى الحيوانات بعيدًا لا يختلط بغيره، بل يعيش في عزلته ويتفكر فيما يخالف القانون، فلقد خُلِقَ كما تُخْلَق الأعجوبة الخارقة، لا يشبه رجلًا يأكل الخبز، بل قمة صخرية كثيفة الشجر على جبلٍ مرتفع، تبدو واضحة للعين، بعيدة عن غيرها من القمم.»

حمل أوديسيوس معه قربة نبيذ أحمر، وسلَّة مملوءة بالطعام، استعدادًا لمواجهة رجلٍ شديد البأس، لا يعرف شريعة ولا يخضع لقانون. ودخل هو ورفاقه إلى الكهف، فأكلوا وأشعلوا نارًا وقدموا ضحيةً، وجلسوا ينتظرونه، ودخل العملاق أخيرًا، يحمل حِملًا ثقيلًا من الخشب ليسوِّي عشاءه، ودفع ماشيته في الكهف، ثم رفع صخرةً هائلةً سدَّ بها الباب، وبعد أن حلب الماشية وفرغ من شئونه؛ أشعل نارًا ولمح الغرباء على ضوئها فسألهم في صوت «تكسر له القلب الحبيب»: «أيها الغرباء، من أنتم؟ ومن أين أتيتم سيرًا على الدروب الرطبة؟ هل جئتم في مهمة؟ أم تجوبون البحار المالحة كالقراصنة الذين يتجولون هنا وهناك ويخاطرون بحياتهم حين يجلبون الأذى على غيرهم؟» ويجيبه أوديسيوس فيروي عليه أنباء رحلته من طروادة وكيف ضل الطريق إلى الوطن، ويطلب منه أن يحميه ورفاقه وأن يخشى الآلهة فيكرمهم. لكن العملاق يسخر من سذاجته؛ إذ كيف يدعوه إلى خشية الآلهة والعمالقة لا يكترثون بزيوس ولا بغيره؟ وقفز العملاق ومد يده إلى الرفاق فتناول اثنين منهم قذف بهما على الأرض كالكلاب الصغيرة، ثم أعدهما لوجبة العشاء وأكلهما — كالأسد الذي يتغذى في الجبال — فلم يُبقِ منهما لحمًا ولا عظمًا، وبعد أن فرغ من الطعام وشرب اللبن تمدد على الأرض ونام.

خطر لأوديسيوس أن يطعنه في صدره، ولكنه تذكَّر أنه لن يستطيع هو ورفاقه وحدهم أن يزحزحوا الصخرة الهائلة التي سدَّ بها الكيكلوب باب الكهف، ولم يبقَ أمامهم إلا أن ينتظروا الفجر الإلهي وهم يتنهدون.

ولم تكد تشرق أيوس ذات الأصابع الوردية، حتى أشعل نارًا وبدأ يحلب ماشيته، ثم أمسك باثنين من الرفاق وفعل بهما ما فعله بصاحبيهما! وراح أوديسيوس يفكر في وسيلة تكتب المجد لراعيته أثينا وتجعل الكيكلوب يُكفِّر عن ذنوبه، ورأى عصًا خشنة تركها العملاق وراءه، خضراء من خشب الزيتون، قدَّرها هو ورفاقه في ارتفاع سارية سفينة سوداء ذات عشرين مجدافًا، عريضة تحمل البضائع وتعبر الأعماق العظيمة، وأمر أوديسيوس رفاقه أن يشذبوها، ثم سَنَّ طرفها الأعلى ووضعها في النار حتى حميت، ثم أخفاها تحت أكوام التبن، وحين عاد العملاق في المساء وفعل ما فعله من قبل، تقدَّم منه أوديسيوس وفي يده وعاء مملوء بالنبيذ الأسود وطلب منه أن يشربه، وأفرغ الوحش الشراب العذب في جوفه، وطلب أن يسقيه مرة أخرى وأن يقول له اسمه على الفور، حتى يقدِّم له هدية تَفرح بها نفسه، وبعد أن شرب ثلاث مرات، وبدأت الخمر تعبث برأسه، قال له أوديسيوس: أيها الكيكلوب! تسألني عن اسمي المشهور، حسنًا! سأقوله لك! أما أنت فأعطني هدية الضيافة كما وعدتني! اسمي هو «لا أحد»، وأبي وأمي وكل رفاقي يدعونني «لا أحد!» ووعده الكيكلوب أن يقدم له الهدية، أمَّا هذه الهدية فهي أن يكون آخر من يأكلهم من الرفاق!

وقهر النومُ ذلك القهار فتمدَّد على الأرض فاقد الوعي، وراح يلفظ النبيذ ولحم البشر من فمه، وأخرج أوديسيوس الساري الجبار من تحت الرماد فحماه في النار حتى أصبح شواظًا ملتهبًا، وأخذ يشجع رفاقه حتى حملوه، وأوديسيوس متعلق بطرفه، وراحوا يغرزونه في عين الكيكلوب التي اندفع منها الدم الساخن، وأزَّت كما تئز فأسٌ ملتهبة يضعها الحداد في الماء البارد؛ زعق الوحش وزأر، واهتز الصخر لصوته، وراح ينادي على زملائه الساكنين في الكهوف المجاورة، فتجمَّعوا على باب الكهف وأخذوا يسألونه إن كان أحدٌ من الفانين قد اغتصب خرافه؛ إذ لا يصدق أن يكون أحد منهم قد اعتدى عليه بالقوة أو بالخديعة. وردَّ عليهم ذو الأسماء المشهورة: «يا أصدقائي! «لا أحد» هو الذي اعتدى عليَّ بالحيلة لا بالقوة! فأجابوه: إن كان لا أحد قد اعتدى عليك وكنت وحدك، فإن مرضًا أصابك به زيوس ولا سبيل إلى الشفاء منه، صلِّ إذن لإلهك بوزيدون (إله البحار).»

هكذا تكلَّموا ثم انصرفوا إلى حالهم، أما أدويسيوس فقد ضحك «قلبه الحبيب من اسمه الذي خدعهم، ومن الخاطر الذي لا يُلام.» جلس الكيكلوب على باب الكهف، وفكَّر أوديسيوس في حيلةٍ أخرى تُنجيه ورفاقه من الموت، فربط كل ثلاثة من الخراف السمينة بأكياس تعوَّد الوحش أن ينام عليها، كما ربط رجلًا تحت كل واحد يتوسطها، ودفن نفسه في صوف جدي وثير، وهكذا أخرج الكيكلوب الأغنام لترعى فأفلت المغامر الماكر من بطش ذلك الجبار! واستطاع الضعيف العاجز أن يصيب العملاق «ذا الأسماء المشهورة» بالعمى بعد أن قهره بالخمر والمكر!

هناك أبطالٌ كثيرون علموا الإنسان كيف يُقتَل وكيف يموت، أمَّا أوديسيوس فهو يعلِّمه كيف يواجه خطر الموت، فيفلت منه في كل مرة ويبقى حيًّا!

لقد رأينا كيف مكر بالوحش ذي الأسماء المشهورة، فهو ينكر اسمه فينجو من بطش الوحوش الأخرى: «إن لا أحد هو الذي اعتدى عليَّ بالحيلة لا بالقوة.» وهو يتعلق ببطن الجدي السمين فلا تصل إليه يد العملاق، ويفعل كل ما يستطيع لكي يكون «لا أحد»، غير أنه لا يظل كذلك، ولا يحتمل أن يبقى مجهول الاسم، فحيلته الكبرى هي إنكار نفسه للإبقاء على نفسه، وليس من قبيل الصدفة أن يظهر أوديسيوس مجهول الاسم أمام الوحش ذي الأسماء المشهورة، فلعلَّه رأى أن إنكار النفس هو أقصر طريق إلى الشهرة، وأن التخلِّي عن الذات هو أضمن وسيلة للمحافظة عليها.

عرف أوديسيوس إذن كيف يحافظ على ذاته أمام الموت، لم يقض على الوحوش الهائلة، بل فوَّت عليها فرصة القضاء عليه، ولم يُبطل تأثيرها وسحرها، بل عرف كيف ينجو بنفسه منها، ولم يدخل معها في صراع ولا صِدامٍ حقيقي، كما فعل هرقل مع قوى الشر في مغامراته المشهورة، بل اكتشف نقط الضعف في قوتها الهائلة، وجانب القوة في ضعفه الإنساني. إنه لا يستسلم أبدًا لقوة تريد أن تمحوه أو تبتلعه، فالجزر المسحورة التي تعده بالسعادة عن طريق النسيان، لا تستطيع أن تغريه بالبقاء، والساحرتان القديرتان «كاليبسو وكريكه» تفعلان كل ما في قدرتهما لإقناعه بالزواج منهما فلا تستطيعان أن «تحرِّكا الشجاعة في صدره» على الارتباط بهما؛ ذلك أن الزمن الذي لا يتوقف ينجيه من العمالقة والوحوش، فهو المسافر الذي لا يستقرُّ في مكان (سلف السندباد!) يملأ الشوق صدره إلى وطنه إيثاكا (خشنة هي إيثاكا، ولكنها طيبة، وصالحة لإطعام الرجال). وتمر عليه التجارب المُرَّة والعذبة، فلا تنسيه أنه ليس هناك ما هو أعذب من الوطن والأبوين، إنه المسافر الباقي، المحافظ على ذاتيته دائمًا، في بعض الأحيان يضطره الأمر إلى تقديم الدليل، حين تنكسر به السفينة على الشواطئ الغريبة أو يتخفَّى في ملابس الشحاذين، أو يعود إلى بيته، ولكن كيف يتم له ذلك؟ بالتذكر؛ فالتذكر هو الخيط الذي يمسك به على محطات رحلته، والتذكر هو الذي يحفظه من أن ينسى نفسه أو يُنْسَى، وحين تتغلَّب عليه آلام التذكر تظهر حقيقته، فهدفه واحد لا يتغير، وهو الرجوع إلى وجوده القديم، والعودة إلى بيته ووطنه، وحين يعود إلى هذا الوطن، ويدخل بيته كما غادره شابًّا لم تغيره السنون، يبدو كأن الزمن الذي لم يكفَّ عن الجريان قد توقف، وأن شخصيته التي تهدَّدتها أهوال الرحلة لم تتغير ولم تُصَبْ بسوء، لقد كانت كالقدر المعلَّق فوق رأسه على طول الطريق، وإذا كانت النبوءة قد أخبرته من قبلُ أنه سيتعذَّب وسيعود إلى وطنه، فقد ظلَّت هذه النبوءة كالمستقبل الذي يتذكره قبل أن يحدث، لا الماضي الذي يستحضره بعد أن يفوت، وظل هو أوديسيوس الماكر الذي ينتصر على الخطر قبل أن يقع له، كأنه لا يتعلم ولا ينسى، ومع ذلك فالمكر له حدود، فهو مهما بالغ فيه لا يستطيع أن ينسى ولده، ولا أن يضحي باسمه، وهو مهما ادَّعى الجنون أو أنكر الاسم فلا يلبث أن يفضحه حرصه على المجد، كما يفضحه حرصه على الابن، وكلاهما ضمان لتخليد الذات عبر الزمن الدوَّار.

ونهاية أوديسيوس نفسها — على اختلاف رواياتها — تؤكد ذاتيته ولا تمحوها، فسواء كان موته على يد ولده تليجونوس من الساحرة كيركه، أم على يد ولده تليماخوس من زوجته بنيلوبه اللذين قتلاه دون أن يعرفاه، فإن موته لا يعني القضاء على شخصيته، على الرغم من محاولته أن ينكر نفسه ويبدو كأنه «لا أحد»؛ ذلك أن الولدين — وإن كتب على يديهما هلاك الأب — يحلَّان محلَّه ويُبقيان على اسمه من بعده، وذلك بأن يتزوج تليماخوس من كيركه وتليجونوس من بنيلوبه، وهكذا يمتد ذكر أوديسيوس امتداده الطبيعي على طريق الابن، وامتداده المعنوي عن طريق المجد والشهرة؛ لكي يبقى في ذاكرة الزمن رمزًا للبطل الذي حاول أن ينكر نفسه فلم يستطع أن يكون «لا أحد»!

•••

وتقابلنا شخصية أوديسيوس في العصر الحديث عند الشاعر برتولت بريشت في أقاصيصه «حكايات السيد كوينر» هنا نجد السيد «ك» (وهو اختصار لاسمه كوينر) الذي يصرُّ على تسمية نفسه «لا أحد»، إنه يحاول أن يجعل عدم الاكتراث مبدأ حياته، فتكشف حياته وأقواله عن اكتراثه بكل شيء! إنه يأخذ على سقراط أن منهجه هو عدم الاكتراث (لو أنه درس شيئًا لعرف شيئًا)، وهو يقف في صف العدالة (فمسكنه يجب أن يحتوي على أبواب كثيرة للخروج)، وهو يؤثِر الفيل على كل الحيوانات؛ فالفيل يجمع بين المكر والقوة، ويستطيع أن يكون حزينًا وغضوبًا، وهو لا يؤكَل ويُتقن العمل، ولا يلفت الأنظار بلونه ولكن بضخامته، وهو إذا أحسَّ باقتراب نهايته ذهب إلى الغابة فمات وحيدًا وفي صمت.

إن أوصاف السيد كوينر للحيوان الأثير لديه تنطبق على نموذج الإنسان عنده، فهو لا يحب أن يلفت الأنظار إليه، ويبالغ في ذلك إلى حد أن يسمي نفسه «لا أحد»، غير أن هذه التسمية لا تخدعنا؛ فالسيد كوينر ليس «لا أحد»، وهو لا يحب لنفسه ولا يمكنه أن يكون كذلك، فما الذي يدفعه إلى هذه التسمية؟ إن حكايةً صغيرة من حكاياته توضح ذلك، «فقد التقى ذات يوم برجلٍ لم يره منذ زمنٍ طويل، وحيَّاه هذا بقوله: إنك لم تتغير أبدًا، فردَّ عليه السيد ك. قائلًا: آه! وشحب وجهه.»

لا بد أن السيد ك. قد أحسَّ بأن أمره افتضح، وإلا فلماذا شحب وجهه؟ هل شعر من تحية صديقه أنه يتهمه بأنه وقف في مكانه فلم يتطور ولم ينضج ولم يتقدم خطوة إلى الأمام؟ قد يكون هذا تفسيرًا للشهقة التي انطلقت عنه، ولكن لو صحَّ ذلك لتوقعنا أن يحمرَّ وجهه خجلًا لا أن يشحب اصفرارًا، أم لعله شعر أن الرجل قد كشفه وتبيَّن أنه لا يزال كما هو واحدًا من الملايين بلا صفة تميزه، و«سيِّدًا» كآلاف غيره كلهم «كافات»؟ لو كان الأمر كذلك لما حق له أن يشحب وجهه، بل لرضِي بذلك وفرح؛ لأنه لم يتناقض مع نفسه، لا يبقى إذن سوى أن نقول: إن وجهه قد شحب؛ لأنه غير راضٍ عن الدور الذي يمثله دون أن يعبِّر عن حقيقته، ولأن صديقه قد عرف أنه ليس ذلك «اللاأحد» الذي يحاول جاهدًا أن يدَّعيه، فهو قد أنكر ذاتيته، وراح يحملها كأنها عبء لا يستطيع أن يتخلص منه، ومع ذلك فقد أكدها بإنكاره لها، وهذا هو الذي فضحه فشهق وشحب وجهه.

هل يكون «السيد ك.» صورةً جديدة من أوديسيوس في كهف الوحش الكثير الأسماء؟ إن أوديسيوس خائف من أن يكون لا أحد، إنه لا يمثل دور المنكر لنفسه كما يفعل شبيهه الحديث، بل يدَّعيه دفاعًا عن اسمه الحقيقي وتخليدًا له، ذلك هو مصدر خوفه، أمَّا السيد ك. فقد تخلَّى عامدًا عن اسمه، ولسنا ندري من حكاياته إن كان يحمل اسمًا سريًّا مما تحمله الشخصيات الخرافية التي تعيش تحت الأرض. فتخلِّيه عن اسمه لا يعني أنه تخلَّى عن ذاته، بل العكس هو الصحيح؛ لأن اسمه الجديد نوع من الإفلات من الاسم، يتيح له في نفس الوقت أن يعرف وأن يتجاهل ما عرف، أو يتظاهر بتجاهله. ولقد افتضح أمره؛ لأنه تعمَّد أن يستبعد التسمية؛ فلم يفلح في أن يظل بغير اسم، ورغم أنه لا أحد فلم ينجح في أن يكون لا أحد، أراد أن يبعد عن نفسه شبهة المعرفة، فتبين أنه عرف إلى حد السخط والثورة، وأصبح رمزًا لكل من يقف موقف الأعزل في وجه القسوة والظلم والوحشية، فيقاومها بعجزه عن المقاومة!

أضف إلى هذا كله أن السيد «ك» ليس أي واحد من الناس، إنه يلقي المحاضرات، ويُثبت أنه نافع (الفيل كذلك حيوان نافع: فهو يؤدي شيئًا في سبيل الفن إذ يقدم سن الفيل!) إنه يستطيع في بعض الأحيان أن يحتجَّ، فيعلن في إحدى خطبه العامة أنه يستنكر العنف والإرهاب، هنالك يلاحظ أن الحاضرين انسحبوا من محاضرته، ويلتفت السيد «ك» ليرى الإرهاب نفسه واقفًا وراءه! فإذا سأله ماذا كان يفعل؟ أجاب بأنه عبر عن سخطه عليه، يسأله تلاميذه: لِمَ لَمْ يكن له ظهر يحميه؟ أو لماذا خُلِقَ بغير عمود فقري؟ فيروي لهم حكاية عن «السيد إجه Herr Egge»، ففي زمن النازية الذي تعطلت فيه القوانين وسادت شريعة الفوضى جاء أحد عملاء هذا «النظام» إلى السيد «إجه» عارضًا عليه المسكن والمأكل، وسأله: هل تقبل أن تخدمني؟ ومضى السيد «إجه» يخدمه سبع سنوات بدون أن يقول كلمةً واحدة، وسمن العميل من كثرة النوم والأكل وإصدار الأوامر حتى مات، وحمل السيد «إجه» جثته إلى الخارج ونظَّف البيت وتنفس الصعداء، وقال: «لا.» ثُمَّ يُعقِّب السيد «ك» قائلًا: أنا بالذات لا يصحُّ أن يكون لي عمودٌ فقري؛ إذ يتعين عليَّ أن أعيش أطول مما يعيش الإرهاب.

وهنا نسأل: هل كان في استطاعة السيد «إجه» أن يصلح العميل ويردَّه عن خدمة العنف والإرهاب؟ لا شك أنه لم يكن يستطيع. هل كانت مصادفة أنه بقي حيًّا؟ نعم كانت مصادفة، هل أثمر الاحتجاج الصامت أية ثمرة؟ وهل فهم أحد أنه احتجاج؟ نعم، فقد فهمه السيد كوينر على أي شيء يحتج هذان السيدان إذن؟ من الواضح أن احتجاجهما البعيد المدى موجَّهٌ ضد الإرهاب، أمَّا الاحتجاج الظاهر فهو على التورط في الكلام، هنا يختلفان عن أوديسيوس، فلولا أناشيد هوميروس في ملحمته المشهورة لبقي أوديسيوس «لا أحد» مجهولًا، أما السيد كوينر فلا يمكنه في زمن البطش أن يغني أو يتكلم أو يعلن شيئًا، حتى ولو كان هذا الشيء هو اسمه؛ ولذلك فقد أنكر هذا الاسم، ولولا هذا الإنكار لظل «لا أحد». وأمَّا السيد «إجه» فلولا الصمت الذي لجأ إليه لبقي هو أيضًا لا أحد، كلاهما هرب من العدم إلى العدم، من ضياع طبيعي للاسم (أو قُل للشخصية والذات في ظل الإرهاب) إلى ضياع مفروض للاسم، غير أن حيلتهما العاجزة تثبت قوتها، واستسلامهما الصامت يثبت أنه هو السلاح الوحيد للمقاومة. لقد بيَّن كلاهما أننا نعيش في عالم يهدد ذاتية الإنسان بالتلاشي؛ ولذلك فليس عجيبًا أن نجد بريشت يوصي طوال حياته «بالتنكر»، ويصف نفسه — لكثرة الأقنعة التي لبسها — في نوع من الاعتزاز بمكره فيقول: أيًّا كان الذي تبحثون عنه، فأنا لست «هو»، وينصحنا في قصيدةٍ مشهورة فيكرر القول: «أقول لك: أخف الآثار.» ويصف المدن التي نعيش فيها اليوم بأنها كالأدغال التي تموت فيها الفيلة؛ لهذا كله وجدنا الذات المهدَّدة بالضياع في مركز أعماله الشعرية والمسرحية، فشخصية جالي جاي في مسرحية «رجل برجل» عنوان الإنسان الذي يمكن في العصر الحديث أن يتشكل بالشكل الذي يُراد له، وسائقو الطائرة المحطمة في مسرحية «بادن» التعليمية عن التفاهم والقبول، ويتحتم عليهم التضحية بشخصياتهم في سبيل المجموع التاريخي الرهيب، وشن-تي، إنسانة ستشوان الطيبة والشريرة معًا، تتصارع فيها شخصية المحسنة الفقيرة والمستغلة الجشعة، وتظل على هذا الصراع بين الفردية والمجموع حتى تصرخ في النهاية: لا بد من إيجاد حل. والسيد شميت في مشهد المهرج المفزع في المسرحية التعليمية السابقة يتخلى عن أعضائه شيئًا فشيئًا ليحسَّ بالسعادة حتى ينتهي به الأمر إلى التخلي عن رأسه. كل هذه الشخصيات لا تحتجُّ بالمعنى المألوف عن الاحتجاج، إنها تُخفي هذا الاحتجاج فتكون النتيجة أن تظهره، وتخنق صوته فيرتفع أعلى مما كان، وتحاول بكل قوَّتها أن تنكر ذاتها فتؤكدها، وسواء كان بريشت صادقًا فيما دعا إليه صراحة في بعض مسرحياته التعليمية من سحق الفرد ليحيا المجموع، والتضحية بالثائر لتبقى الثورة «لنلاحظ بهذه المناسبة أنه عدل عن هذا الموقف البشع في مسرحياته المتأخرة، وراح يبحث عن حلٍّ آخر كما فعل مثلًا على لسان تشن-تي في مسرحية إنسان ستشوان الطيب.» فإنه يُشير إلى نوع من الاحتجاج الأخرس الذي يخشى أن يكون هو الاحتجاج الوحيد الذي بقي للإنسان في عصر التجمعات والمحاكمات ومعسكرات الاعتقال، والملايين الصامتة المستسلمة في ظل نظم الفوضى التي نسميها بالفاشية والنازية، وإذا كان السيد «ك» والسيد «إجه» لا يقولان «لا» واضحة عالية، بل يُبعدان عن نفسيهما شبهة الاحتجاج بكل وسيلة حتى ولو استدعى الأمر أن يتخليا عن أسمائهما، فإن سكوتهما يظل عالي الصوت، واستسلامهما يصبح هو السبيل الوحيد للمقاومة، وامتناعهما عن قول «لا» يظل أقوى أثرًا من كل صيحات المتمردين والغاضبين، ولا شك أن هذا الاحتجاج الصامت الساخر من كل احتجاج هو في حقيقته أقوى من كل احتجاج. صحيح أن السيد «ك» والسيد «إجه» لم يحلَّا مشكلة «اللا آحاد» الكثيرين في هذا العصر، ولكنهما قد أشارا إليها على أقل تقدير.

•••

إذا كان في احتجاج أوديسيوس و«السيد ك» جانب من السخرية الخفية بالبطش والادِّعاء والظلم والزيف الذي يرتدي رداء البطولة، فإن هناك أنواعًا أخرى من السخرية والساخرين تستطيع أن تملأ قلوبنا بالبهجة وتُضيء عقولنا بالمعرفة، ولسنا في حاجة إلى البحث في الملاحم القديمة، ولا لتنقيبٍ في آداب الأمم الغربية لنجد آثار هذه السخرية المرحة؛ فهناك حكاياتهم التي تدور على ألسنة الشعب في الأسواق والطرقات، وهناك مغامراتهم التي نتذكرها في كل مناسبة تدعو إليها، هناك جحا في حياتنا، وهناك الأويلنشبيجل أو جحا الألمان. ويكاد يكون لكل شعب جحاه الطيب الضاحك الزاهد في كل ادِّعاء أو إصلاح، القادر مع ذلك على تصحيح كل وضع مقلوب أو شاذ.١

ولا يسمح المجال بالإضافة في الحديث عن هذين الأحمقَين العاقلَين، ولا يصلح للكلام في فلسفة الضحك والمضحكين؛ فذلك شيء يمكن أن يرجع فيه القارئ إلى كتبٍ كثيرة تعالج هذا الموضوع، ولكننا نلاحظ فحسب أن أسلوبهما هو أسلوب الإغراب الذي جعل منه بريشت وسيلة المعرفة التي تكشف عن مجتمعٍ كلُّ ما فيه غريب ومحتاج إلى التغيير، فالمعرفة التي يعلمنا إياها جحا أو الأويلنشبيجل هي بدورها معرفةٌ كاشفة، وشخصيتهما تشترك مع شخصية الأحمق أو المغفل في العصر القديم والوسيط إلى يومنا هذا في كشف «العالم المقلوب» الذي نعيش فيه، وهم جميعًا يسلطون لسانهم السليط أو نكتتهم اللاذعة عليه؛ لأنهم يرونه دائمًا عالمًا يقف على رأسه.

ولعل في شخصية سقراط الفيلسوف المبتسم المتواضع من ملامح شخصية الأحمقَين المشهورَين أكثر مما توحي به كتابات أفلاطون أو أكسينوفون التي بقيت لنا عنه، ولعل هذا أيضًا هو الذي دفع الكاتب الساخر أرسطوفان إلى هجومه اللاذع عليه، فهو في مسرحية «السحب» يصوِّره حالمًا خياليًّا، ويعلِّقه في سلةٍ بين السماء والأرض، ويمثله صاحب مذهب صوفي وخرافي، ويجعله في النهاية يحرق مدرسته الفكرية، ومع ذلك فقد فشل هجوم أرسطوفان؛ ذلك لأن سقراط لم يكن يحمل مذهبًا بقدر ما كان يجسِّده، وهذا وحده هو الذي جعل أكثر الفلاسفة المتأخرين والعصور التالية ترفعه إلى درجة التقديس. لقد كان — كما قال عنه كير كجارد بحق — سخرية خالصة، ولكن هذه السخرية لم تكن تشبه في شيء تلك النزعة التهكُّمية المُرَّة التي يُطلَق عليها اسم «الكلبية» cynicism، فهي — كما يقول عنها كير كجارد أيضًا — «نفي مطلق لا متناهٍ»، يعبِّر به صاحبه عن سخطٍ أبدي، ولكن هذا السخط يختلف عن خيبة الأمل، فهو لا يصدر عن مرارة الفشل، بل عن حرية العلو فوق الأوضاع القائمة، بغية نقدها وتغييرها والكشف عن تناقضاتها.

ومع ذلك قد يكون من المبالغة أن نقول عن الأويلينشبيجل أو عن جحا أنهما ساخران بهذا المعنى، فكلاهما لا يزعم أنه يلتزم بدعوى أو مذهب أو إصلاح، بل يُدْخِل نفسه في مآزق لا يستطيع أن يخرج منها؛ لكي يكشف بذلك عن حرجها أو تناقضها؛ ولذلك كانت حريته حرية الكشف والتعريف وتسليط الأضواء.

وقد عرفت الفلسفة اليونانية القديمة شخصيةً جذابة هي شخصية الفيلسوف ديوجينيس، أو ديوجينيس الكلبي كما اشتهر اسمه، ذلك المغفل الحكيم الذي راح في ضوء النهار يتجول في الأسواق حاملًا مصباحًا في يده، باحثًا عن إنسان. لم يكن ديوجينيس بالطبع يجهل أن المصباح لا ضرورةَ له في وضح النهار، ولا كان غبيًّا إلى الحد الذي يجعله يبحث عن «إنسان» لا وجود له، ولكنه اتبع أسلوبًا في الإغراب يجعله أقرب إلى «الأويلنشبيجل» أو إلى جحا، وإن اختلف عنهما في ملامح كثيرة؛ فهو لم يكن يدعو إلى حكمة «اللوجوس» التي كانت تلزم الجميع، ولا كان يخضع للقوانين اليونانية التي آمن بها سقراط إلى آخر لحظة من حياته كما ضحى من أجلها بهذه الحياة، ولكنه كان ساخطًا على طريقته، فهو يريد أن يقول للمدينة اليونانية «البوليس» إنه يكشف لها حقيقتها، ويقدِّم لها المرآة التي لا تحب أن ترى وجهها فيها. إنه يعيش عيشة الكلب، ويسير في الشوارع والأسواق حاملًا مصباحه المشتعل في يده، وكأنه يريد أن يقول لأهل المدينة: لست أنا الكلب، بل أنتم الكلاب! لا بل إنني لا أزعم أني إنسان، وإنما أبحث بينكم عن إنسان، أعرف سلفًا أنني لن أجده؛ لذلك لم يكن هو الساخر الحرَّ الذي نعنيه، بل الباحث الذي خاب أمله في عالمه؛ فراح يبحث عن شيء يعرف مقدَّمًا أنه لن يعثر عليه. إن بحثه عن الإنسان ليس بالبحث الحقيقي، وإنما هو أقرب إلى محاولةٍ يائسة يقوم بها رجل لم يجد ما يبحث عنه ولم يجده، ومِنْ ثَمَّ قيل عنه بحق: إنه الفيلسوف الكلبي، أو المتهكم الهازئ الذي لا يشارك مشاركة حقيقية في الفعل الذي يقوم به، ولا يتوقع أن يصل من ورائه إلى نتيجة، بل يؤمن إيمانًا مسبقًا بأنه جهدٌ عقيم لا جدوى منه.

في أي شيء يختلف هذا الكلبي الحكيم عن الأحمق والمغفل؟

قلنا: إن الأول يتهكَّم من أجل التهكم، ويصدر في سلوكه أو قوله عن مرارة وخيبة أمل في نفسه وفي العالم، أمَّا الثاني فيسخر سخرية الساخط الحر، وإن لم يزعم لنفسه أنه يقوم بدور المصلح أو الداعية؛ ذلك أنه يحشر نفسه في مآزق محرجة؛ ليبين لنا أننا نحن أيضًا نعيش في مثل هذه المآزق، وهو لا يقسم العالم إلى مخدوعين وخادعين وضحايا ومذنبين، بل يسلم الضحايا إلى قدرهم، ويبين للمذنبين أيضًا أنهم ضحايا ومخدوعون، ففي كل مغامرة يقوم بها، وفي كل حكاية من حكايات غفلته وعبطه يثبت لنا أنه قد دخل في مأزق لن ينجو منه إلا بصعوبة، حتى ليُخيَّل إلينا أنه يريد في كل حركة من حركاته أن يدمِّر نفسه. إنه يتعذب، ولكنه العذاب الذي يسبق كل معرفة حق؛ ولذلك فهو إذا ضحك على ذقون الناس وأضحكنا لم يتشفَّ فيهم ولم يحاول أن يثبت أنه يعرف خيرًا منهم، وإنما يتجاهل أو يعترف بجهله لكي يفضح مَنْ يدَّعون المعرفة الحقَّة، كما كان يفعل سقراط سواءً بسواء، ولكنه لا يهتم بأن يثبت لنا جهل الغير، ولا بأن يعلمنا شيئًا لا نعلمه، بل يكتفي بأن يُظْهِرَ لنا كيف يتعذَّب من تعالُم الآخرين، ويعبِّر بكلماته المقلوبة عن ألمه لأحوال «العالم المقلوب» الذي يعيش فيه، إنه يكشف لنا عن هذا العالم، ويُرينا أنه عالمٌ يقف على رأسه، ويدعونا — بغير أن يقول حرفًا — إلى إعادته لوضعه الصحيح.

إن لغة جحا أو أويلنشبيجل غالبًا ما تكون لغةً بسيطة تأخذ الكلمات مأخذًا حرفيًّا ساذجًا سليم النية، إنه لا يلعب بالكلمات ولا يقلبها على وجوهها كما يفعل أصحاب النكتة والقفشة، بل يقصد معناها الطبيعي القريب؛ فيكشف بذلك عن إساءة استخدامها على ألسنة الناس، ويبين كيف تسهم بدور أساسي في «قلب العالم» ومسخ كيانه، إنها لغة لا تخدع نفسها بأوهام الخيال ولا تتباهى بحيل الفصاحة، بل تبيِّن ببساطة كيف تتعرض — وهي لغة الطبيعة والإنسانية الأصلية — للخطر والدمار وسط لغةٍ جديدة يستخدمها الناس فيسيئون استخدامها ويبعدونها عن وظيفة اللغة الحقيقية. إن لغة هذا المغفل المسكين مثل شخصه يعكسان نموذجًا للإنسان الذي يبدو لنا سجينًا مجبورًا وسط عالم «حر»، بينما النظرة الدقيقة تكشف عن أنه هو الحر حَقًّا وسط عالمٍ يعيش سجين لغته وحيله وشطارته. هذا العالم المقلوب على رأسه لا يدَّعي الأحمق الحكيم أنه يعيده إلى الوضح الصحيح، بل يكتفي بإظهار ألمه لحاله وعجزه عن إصلاحه، ومع ذلك فلم يكن جحا ولا أويلنشبيجل بالعجز الذي يصورانه لنا، بل إن كليهما ساخرٌ مكار، ترسم حكاياته وخرافاته عالمًا أصيلًا عريق القِدَم، نُحسُّ بالحنين إليه، كما نحسُّ بالألم لأننا انفصلنا عنه. إن كل واحد منهما يبحث عن الحقيقة بالمعنى الأصيل لهذه الكلمة، أو هو صديق للإنسان بكل ما في هذه اللفظة من دفء ونبل وإخلاص.

في كل يوم نسأل أنفسنا كما نسأل غيرنا: ماذا؟ لماذا؟ أين؟ وإلى متى؟ وكل سؤال من هذه الأسئلة يعبر على نحوٍ من الأنحاء من عدم الوجود. فنحن نقف أمام شيءٍ غريب علينا، مختلف عَنَّا، لا ندري شيئًا عن أصله وسببه، وقد لا نعرف شيئًا عن مكانه وموضعه، ولكننا حين نسأل هذا السؤال معبِّرين عن غربته عَنَّا نُحسُّ بأن هذه الغربة تعود فتشملنا؛ فنحن أيضًا غرباء وضائعون، مكاننا في العالم ليس مكاننا، والنور الذي يحيط بنا لا يُضيء في عتمة المصير، إننا سنموت حتمًا، وسؤالنا عن الشيء الغريب يجعلنا نتعاطف معه، فهو الشيء الآخر بالنسبة لنا، كما أننا الآخر بالنسبة له. وفي كل سؤال نسأله عنه نوع من التضامن معه؛ لأننا نفتقده ونأسى لما يصيبه، وكل سؤال يعبر عن نوع من الانفصال في الوجود، ولكنه يعبر كذلك عن شوق إلى الاتحاد بما نسأل عنه؛ ذلك لأننا لا ننفصل عنه تمام الانفصال — وإلا ما أمكننا أن نسأل عنه — وإن كُنَّا لا نستطيع مع ذلك أن نتَّحد به تمام الاتحاد. وحين نصوغ سؤالنا في شكل كلام فإنما نقول للانفصال «لا»، بل إن كل كلمة نقولها تعبِّر بنفسها عن نوع من الاتحاد بالوجود ونوع من الاحتجاج عن الانفصال عنه، أي على عدم الوجود؛ ذلك لأننا لا نتَّحد أبدًا مع أنفسنا، ولا مع الآخرين، ولا مع جانب من جوانب الوجود أو الوجود كله؛ فنحن «في» الوجود كما أننا كذلك في مواجهته، وحين نتحدث عن طريق الكلمة أو الحركة فإننا نقيم جسرًا إلى الوجود لنصل إليه ونتَّحد به. ومن هنا كانت كل صورة من صور الكلام في نفس الوقت صورة من صور الوجود؛ لأنها لا تصوغ قطعة من الواقع، بل تجسِّم الوجود كله، فلغتنا إذن لا تنفصل أبدًا عن الوجود، ولكنها تعبر على الدوام عن انفصال عنه، والذي يستطيع أن يتكلَّم، والذي يستطيع أن يصمت، كلاهما يعبر عن نوع من الانفصال عن الوجود، وجهد للتغلب عليه؛ ذلك لأن اللغة في جوهرها هي قول «لا» لعدم الوجود.

وصعوبة قول لا هي صعوبة أن نقول لعدم الوجود لا، ذلك هو التعريف الأول لها، ولكن ما هو عدم الوجود؟ هل يجوز لنا أن نتحدث عنه؟ وما دمنا نتحدث عنه، أليس معنى هذا أنه موجود؟ سيقول بارمنيدز: «لا» لأنه لا وجود له، ولكن إذا صح أنه لا وجود له فلِمَ يقول «لا»؟ أو بمعنًى آخر كيف يستطيع أن يقول «لا»؟ أليس في كل قول «لا» عدم وجود؟ ألا تشهد قول «لا» بقوة عدم الوجود؟

هناك موقف واحد لا نستطيع فيه أن نشك في عدم الوجود، ذلك هو موقف الموت، وهو غير البحث عن الموت أو السعي إليه، فذلك هو «اليأس». ولكن عن أي شيء يبحث الباحث عن الموت؟ عن النهاية؟ وما هي النهاية؟ أهي الحد الأخير؟ أم نهاية كل الحدود؟ أهي التحرر من الجبر؟ ولكن من أي جبر؟ أهي عدم الحرية؟ أم الحرية التي لا حدَّ لها؟

كل كلمة نقولها تجسِّم عالمًا، فحيث لا تكون هناك أجسام، أو حيث تكون الأجسام قد استقرت معانيها مرةً واحدة وإلى الأبد، فهي لا تجسم شيئًا، وكلمة الوجود أو كلمة عدم الوجود تجسم كل منهما عالمًا؛ ولذلك فهما مزدوجتا المعنى؛ ولذلك أيضًا نحاول أن نحدِّد معناهما في كل ما نقوله وننطق به من الكلام، ولكننا لا ننجح في هذا، وما السبب؟ ألأن العالم مزيج من الوجود وعدم الوجود؟ أم لأن كل تجسيم — حتى ولو كان لكلمتي الوجود وعدم الوجود — فهو غير حقيقي؟ لنَقُلْ: إن «اللا» التي ننطق بها موجَّهة إلى عدم الوجود، ولكن ماذا نقصد بهذا؟ هل نوجِّهها له لأنه الشيء الآخر المخالف للوجود؟ ليس هذا هو السبب، بل لأن عدم الوجود هو التجسيم غير الحقيقي ولا المقنع ولا الكافي للوجود، وذلك هو معنى احتجاجنا حين نقول لا، فنعكس الصراع الذي نحسُّ به في أنفسنا بين الحقيقة والخطأ، والكمال والنقص، والأمل والياس؛ لأن في كل «لا» نقولها احتجاجًا على الجانب السلبي من الوجود، وتمرُّدًا على الانتقاص منه أو الجور عليه أو التفريط فيه.

لقد قلنا من قبلُ: إن الصمت من أبشع الأخطار التي نتعرض لها في العصر الذي نعيش فيه، وصمت الصامت يكون في بدايته نوعًا من الاحتجاج على لغوٍ عقيم لا ينقطع من أفواه الآخرين. إنه في هذه الحالة قد يكون صمتًا مُثمرًا، وتعبيرًا عن كبرياء تأبى مسايرة الانحطاط، وترفُّع عن الخضوع للضعف، ورفض الواحد الذي يُفكِّر لنفسه وبنفسه للضياع بين الملايين التي تريد أن تُفكِّر له أو تصنع به ما تشاء، ويتطور الأمر فتوشك اللغة التي يتكلم بها «الناس» أن تصبح شيئًا مرفوضًا. ومع الزمن يرفض الصامت هذا العالم الذي خلقته اللغة وخُلِقَت له، ويتجه بكيانه إلى عالمٍ آخر مسحور يتصور أنه في غير حاجة إلى لغة، ويبعد في غربته فلا يكتفي بأن يرفض الكلام؛ لأنه خطر عليه، بل يرفض كذلك الصمت الذي يعده الوجه الآخر للكلام، حتى يصل أو يُخيَّل إليه أنه وصل إلى حال من الرضا والسعادة التي قد نسمِّيها حالًا صوفية، وإن كان من المنطقي ألا نسميها بشيء؛ لأنها ليست مما تسميه الأسماء، وقد نختلف فنسمِّي ذلك زُهدًا أو تصوُّفًا أو وجدًا، ولكننا لا نختلف في أنه حال أشبه بالحياة في النعيم أو الفردوس، وأنه بجميع درجاته مصحوب بنوع من عدم الاكتراث، وأن أقصى قممه هي حال التلاشي والفناء التي يتحدث عنها البوذيون بوجهٍ خاص.

مهما يكن الأمر — وبلا خوض في الحلول التي يقدمها الزهد والتصوف لعبثية العالم وذلك بالفناء فيما ليس بعالم ولا في جدوى هذه الحلول — فلا يخفى على القارئ أن الهروب من العجز عن الكلام بمعناه الحق حين تُبْتَذَل اللغة إلى الامتناع الكامل عن الكلام (سواء كان عن رفض أو يأس أو بحث عن طريقٍ آخر للخلاص) لا يمكن أن يكون بديلًا عن اللغة، ولا يمكن أن يحلَّ مشكلة الموقف الإنساني المعين بتجاوزه إلى ما وراء اللا والنعم جميعًا؛ ذلك أن في الصمت الحقيقي — أي البشرى — نصيبًا دائمًا من الاحتجاج، وفي السكوت المهيب يرنُّ دائمًا صدى اللا. وهذا الصمت مهما طال لا بد أن يكون قادرًا في لحظةٍ معينة وموقفٍ معين على أن يخرج عن صمته ويتحوَّل إلى كلامٍ يرفض أو يؤكد، وإلا أصبح هذا الصمت — الذي كان في بدايته احتجاجًا على امتهان اللغة أو اتقاءً لضياع الذات — نوعًا من التمزق والتدمير والانتحار، يستر الضعف والفرار، كما يحاول أن يخفي النرجسية والإعجاب الزائد بالذات. فكما انتهت رغبة نارسيس — بطل الأسطورة اليونانية الذي راح يتأمَّل بإعجابٍ وجهه الجميل في صفحة النهر حتى غرق فيه! — في الاتحاد مع نفسه إلى الموت، فإن المنتحر يرجو كذلك بالموت أن يتَّحد مع نفسه؛ فالنفس الفارغة الضائعة تحاول عن طريق الموت أن تعود إلى نفسها التي لم تجدها، وتتَّحد بالكل الذي عذَّبها الانفصال عنه. ومن العجب حقًّا أن المدمر لنفسه — أو المنتحر — الذي كان احتجاجه على «عدم الوجود» في صورة من صوره دافعًا له على الإقدام على الانتحار، هو نفسه الذي يندفع إلى العدم ويقول له «نعم»، وبدلًا من أن يصمد للحياة ويقاوم ويقول «لا» لكل ما يدمِّر نفسه، نجده يقاوم هذا النفس لآخر مرة لكي يلقي بها بين أحضان «اللا» المُطلَقة أو العدم المُطلَق. ومن الواضح أن المدمر لنفسه يتحرك بغير أن يتحرك، أعني أنه يبحث عن المنبع والأصل على الدرب الخاطئ، في حين أن المنبع الحقيقي تقود إليه نعم كبيرة، سواء تصورنا أن هذا المنبع هو الإله في السماء أو الحق أو الجمال أو كرامة الإنسان، المنتحر يبحث عن شيء فيندفع إلى لُجَّة اللاشيء، وكذلك تفعل الإنسانية كلها حين تُلْقِي بنفسها في لجة حربٍ عالمية يدفعها إليها في الحقيقة — كما تُبيِّن تحليلات فرويد — دافع الموت وتدمير الذات. ولعل هذا الشوق الفاشل إلى المنبع الحق هو علة القلق واليأس الذي نقول اليوم إنه طابع العصر، ونتعرف على آثاره فيما نقرأ من أدب أو فن أو فلسفة، بل فيما نعانيه من تجارب الحياة كل يوم، ومِنْ ثَمَّ تُصبح مشكلة العصر هي كيف نوازن بين كفتَي القلق والشجاعة؟ كيف نجد القوة على تأكيد وجودنا المتناهي على الرغم من تهديد الموت والفناء؟ وبعبارةٍ واحدة: كيف نقول لا «لعدم الوجود» على اختلاف صوره الواقعية والأنطولوجية (الوجودية)؟

هنا تصبح مسألة التغلُّب على القلق بالشجاعة، وعلى التطرف بالاعتدال وعلى اللامعنى بالمعنى؛ مسألة المسائل في الزمن الحديث. ولن يُجدينا هنا أن نُطيل الوقوف عند تحليلات القلق واليأس التي تزخر بها الكتابات المعاصرة؛ فالمشكلة التي تشغل الجميع — من مفكرين وعمليين — هي البحث عن قيمة في الأشكال العقلية والحضارية التي فقدت قيمتها، أو الاهتداء إلى أشكالٍ جديدة تتجسَّد فيها قيمٌ جديدة. ولن يكون الحل في تجاهل القلق من العدم أو تناسي العبث واللامعنى أو إنكار اليأس في كل القلوب — فكلها حقائق رهيبة في عصرنا — بل يكون الحل في تقبُّلها ومحاولة البحث عن قيمة توازنها. وليس أخطر على الإنسان الحديث من أن يستسلم لها ويقول نعم؛ لأن ذلك معناه أن يفقد ذاته ويُدمِّر نفسه، ويهرب إلى نعيم الصمت الشقي. هذا البحث عن التوازن هو الواجب الأكبر لإنسان اليوم؛ ذلك لأن القيمة التي تجسد له هذا التوازن ليست قيمةً أبديةً صالحةً لكل مكان وزمان، وإنما هي مثل أعلى عليه أن يبحث عنه بحثًا متجددًا على الدوام، ويخلقه في كل تجربة أو موقفٍ جديد، إنه تجسيد لعقيدته وسعادته وراحة قلبه، وهدف أشواقه وآماله وأحلامه، ولن تنقطع مغامرته في البحث عنه والسعي إليه، ما دامت تحدوه الرغبة في التحرر من خيبة الأمل واليأس والفراغ.

•••

لا هي صيغة الاحتجاج.

وقول لا أصبح اليوم مهمة الفيلسوف الأولى.

أمَّا قول لا، فقد تبيَّنَّا بما فيه الكفاية أن وظيفته الأساسية هي الاحتجاج، وأمَّا الفيلسوف فلسنا في حاجة إلى تعريفاتٍ قديمة أو حديثة تبالغ في شأنه حتى يُصبح أسطورةً حية، أو تضع منه حتى يوشك أن يكون واحدًا من البلهاء الذين قد يتسع صدرنا لسماعه، ولكننا لا نتردَّد في طرده والتخلص منه! إنما الفيلسوف هنا اسم للإنسان الذي «ينصرف إلى الكل» ويدخل كل مجالات الواقع ليُبدي رأيه الحُرَّ فيها، دون أن يغلق الباب وراءه أو يتقيَّد بواحدة منها. وإذا كان من حقه أن يتكلَّم عن كل شيء، فهو حق من يسأل على الدوام، أعني من يملك في نفس الوقت حرية قول «لا»، حرية الاحتجاج، وهو في عصرنا إذا احتج على مشكلة العصر كله، وأعني بها تشييء الإنسان وإهدار ذاتيته وجعله موضوعًا يمكن أن يصنع به ما يُراد له، وتمزيق العالم بما يُبعده ويُبعد أعظم وأتعس سكانه (الإنسان) عن الوحدة السعيدة وعن منبع الوجود الأول؛ إذا احتجَّ على هذا كله فهو لا يحتجُّ باسمه فحسب، ولكنه يحتجُّ على الخيانة التي تُرْتَكَب باسم الإنسان، كما يحتج كذلك باسم الظالمين والمظلومين والجلادين والضحايا؛ لأنه احتجاج ينصرف — كما قلت — إلى «الكل»، ولا يتقيد بدائرة أو طبقة أو مجالٍ محدود، ولأنه احتجاج يحاول أن ينفذ إلى قلب الجميع؛ لأنه يقصد النموذج الإنساني الأسمى في الجميع. ولكن على أي شيء يحتجُّ؟ ولمن يوجِّه هذا الاحتجاج؟ وأين هي حدوده التي تجعله تمرُّدًا مثمرًا لا صراخًا أجوف؟ ليس من العسير الآن أن نتبين احتجاج من يقول «لا» لكي يؤكد النعم، وسخط من يؤذيه «عدم الوجود» الذي يوشك أن ينفذ إلى كل مجالٍ ظاهر أو باطن في الحياة من أجل وجودٍ سعيدٍ كاملٍ متَّحدٍ مع نفسه. إنه صرخة اللا التي لا تضيع في صحراء، بل تحاول أن تلفت الآذان إلى صوت المثل الأعلى، وتوجِّه الأنظار إلى قيمة تتجسد فيها كرامة الإنسان وحقه العادل المشروع في السعادة والأمان. هو إذن احتجاج على الأخطار الثلاثة التي قلنا إنها من أبشع الأخطار التي تواجهنا في العصر الذي نعيش فيه، وهي ضياع الذات وتدمير النفس والصمت المفروض على الملايين. احتجاج يواجه هذه الأخطار بالأمل والشجاعة؛ فيقول «لا»، ويعمل على تأكيد الذات وتكريم النفس وتحويل الكلام إلى حوارٍ حقيقي بين البشر فيقول: «نعم.»

١  تِل أويلنشبيجل Till Eulenspiegel: هو جحا الألمان، والشخصية المرحة التي دوَّن عنها الكتاب الشعبي المشهور في عام ١٤٧٨، وطُبِعَ لأول مرة باللغة الألمانية الفصحى في شتراسبورج سنة ١٥١٥، ثم طُبِعَ بعد ذلك وتُرْجِمَ إلى مختلف اللغات، وعالجه الكُتَّاب والشعراء إلى عصرنا الحاضر. وقد وُلِدَ في عائلة من عائلات الفلاحين في كنتيلنجن من أعمال براونشفيج (في مقاطعة زاكسن)، ومات في سنة ١٣٥ في قرية مولن جنوبي مدينة لوبيك، وما زال قبره هناك، وقد كُتِبَ على شاهده هذه الأبيات العجيبة: «هذا الحجر لا يجوز لأحد أن يرفعه، فهنا يرقد أويلنشبيجل، في السنة المسيحية ١٣٥»، وكأنه يزهد في البعث لليوم الأخير، بينما ينتظره بقية الأموات من عباد الله! وتِل هو مثال لشخصية العبيط الساخر المكَّار، الذي راح في نوادره وحكاياته الحقيقية أو المنسوبة إليه ينتقم للفلاحين المحتقرين من الطبقات البروجوازية، ويؤكد انتصار الدهاء الريفي على ذكاء أهل المدن، والبساطة والتواضع على التصنُّع والادعاء، ويطول بنا الأمر لو حاولنا الإشارة إلى حكاياته ومقالبه ودعاباته التي يسخر فيها من الغباء على اختلاف أنواعه، وكأنه يحمل في نفسه مرآةً خفية ينعكس عليها كل ما يعشش في رأس المجتمع من اليوم (ومن هنا كان اسمه الذي يمكن أن يُفْهَم فهمًا حرفيًّا على أنه مرآة اليوم!) ولكن نادرةً واحدة قد تكفي لتبين الصلة التي تجمعه بشخصية جحا في أدبنا الشعبي، كما تجمعه بكل أصحاب النوادر والخرافات والحكايات الساخرة على اختلاف البلدان والعصور، وتكشف من هذا الخليط العجيب من الذكاء والغفلة والحكمة والحماقة: فقد رحل أويلنشبيجل مرة إلى براغ، وكانت المدينة تزدحم بعلماء العصور الوسطى المتأخرة، فاضطر هو أيضًا أن يخلع طاقيته المضحكة ليستبدل بها قلنسوة العلماء ورداء الدكاترة الأشد إضحاكًا، وراح يطرح في كل مكان أسئلته المحيرة، كما طفق أصدقاؤه يشيعون عنه أنه يملك في إصبعه الصغير من الحكمة أكثر مما عند كلية الآداب بأجمعها! وأرسل إليه مدير الجامعة مَنْ يطلب إليه الحضور إليها ليجيب على أسئلة الدكاترة والماجستير، واشترط «تل» أن يطرحوا عليه أسئلة يستسيغها العقل السليم، وأن يريحوه من حكمة المدرسيِّين، وعلوم الوثنيين الأقدمين، ومشاكل آباء الكنيسة، وأُجيب إلى طلبه، وفي اليوم المحدد ازدحمت الجامعة بالعلماء والطلبة، وجاء تل ومعه بعض أصحابه المرحين — من المتسكعين والصعاليك وصغار العمال والتجار — يحملون في أيديهم عصيًّا خشنة لمواجهة الظروف! واستقبله المدير في حفاوة ووقار، وأجلسه على منصة، وسأله السؤال الأول: كم دلوًا من الماء في البحر؟ فأجاب تِل: جفِّفوا جميع الأنهار التي تفيض من البِرَك والبحيرات وتصب في البحر من جميع المسالك، وأوْقِفُوا المطر، وعندئذٍ أقول لكم: كم عدد الدلاء. هلل أصحابه وسكت الدكاترة، وعاد المدير يسأل: كم يومًا مضت منذ أنْ خُلق آدم إلى اليوم؟ فقال تِل على الفور: سبعة أيام يا أعزائي، هي التي مضت بالتمام والكمال، وحين لا يبقى من هذه شيء، تتبعها سبعة أخرى، وهكذا الأمر منذ عهد آدم وسيستمر كذلك إلى الأبد. وضحك الأصحاب، وتململ الدكاترة لأن مديرهم لم يفهم كيف يوقع الساخر المكار على الحديد الملتهب! وبلغ المدير غضبه وقال لنفسه: الثالثة ثابتة، وسأل: أين هو وسط العالم؟ وسُرَّ الدكاترة للسؤال الماكر الدقيق وقالوا في أنفسهم: هذا هو الفخ! فلو قال: إنه في روما، حيث يجلس الباب المقدس فسوف يغضب علماء الدنيا، ولو قال: إنه في براغ حيث الجامعة العريقة؛ لأغضب علماء الدين. وأجاب تِل: إن وسط الدنيا هنا في المكان الذي أقف فيه، وإن لم تصدقوا فقيسوه إن شئتم. صفَّق أصحاب تل، وذهب العلماء والأساتذة، وفكر المدير أن يطرح عليه سؤالًا في الفلك، بعد أن خيَّب ظنه في علوم الطبيعة والرياضة وطبقات الأرض؛ فسأله: ما هي المسافة من هنا إلى السماء البعيدة؟ وفكَّر تل قليلًا ثم أجاب: إن سماء أرضنا ليست بعيدة أبدًا يا سادة يا كرام، وهذا ما سأثبته لكم، إذا أردت الصعود إلى السماء والوصول إلى الملائكة المباركين، فناد من هناك أيها المدير المبجل، وسوف أسمعك من أسفل، ولكن المدير لم يكن مستعدًّا للتجربة، فسأله السؤال الميتافيزيقي الأخير: «كم يبلغ حجم السماء؟» فقال تِل: «الطول ألف متر، والعرض ألف متر، والارتفاع مائة ألف ذراع، فإن كان بينكم مَنْ قاسها خيرًا مني فليثبت أنني كذاب!» وألقى المدير السلاح، وسيق أويلنشبيجل في موكب المنتصر إلى الفندق الذي كان ينزل فيه، غير أنه آثر أن يواصل الرحلة في نفس الليلة خوفًا من انتقام الطلبة الغاضبين.
وحكاية جحا مع الرهبان أو العلماء مشهورة تكاد تتشابه في بعض تفاصيلها مع حكاية أويلنشبيجل مع علماء جامعة براغ، فالراهب الأول يسأل جحا — أمام سلطان الروم وكبار علمائها — عن وسط الدنيا، فيُشير جحا بعصاه إلى حيث وضع حماره رجله اليمنى ويقول: هو في المكان الذي وضع فيه الحمار رِجْلَه اليمنى تمامًا. فإذا سألوه عن الدليل قال: إن لم تصدقوني فعليكم بالكيل، فإن بدا لكم ما يخالف قولي من زيادة أو نقصان فكذِّبوني. ثم قام الراهب الثاني وسأله: كم عدد النجوم؟ فأجاب جحا على الفور: عدد شعر حماري، فسأله أحد الرهبان من أين عرف ذلك؟ فقال: إن لم تكن تصدق قولي فعدَّها! فعاد الراهب يسأل: وهل يُعَدُّ شعر الحمار؟ فأجاب جحا: وهل تُعَدُّ نجوم السماء؟ وقام الراهب الثالث فسأل: كم شعرة في لحيتي هذه؟ فلم يتردَّد جحا وقال: بقدر ما في ذَنَبِ حماري من الشعر. فسأل الراهب: كيف يثبت ذلك؟ فقال: بانتزاع شعرة من لحيتك وأخرى من ذَنَبِ الحمار، فإن اتفق المجموعان كان الحق معي وإلا فالحق معكم. ولم يملك الرهبان إلا الضحك، لا من أجوبة جحا فحسب، بل كذلك من علمهم الجاهل العقيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤