عن الشجاعة

ماذا نقصد بقولنا: إن فلانًا من الناس شجاع؟

قد نقصد بذلك أنه لا يهاب الخطر، ولا يتردد في قول الحق، ولا يُحجِم عن التضحية بحياته في سبيل قضية يعتقد أنها عادلة، ولكننا لا نلبث أن نجد أن هذه الكلمة تلتقي فيها مشكلات عديدة: أخلاقية واجتماعية ودينية وفلسفية، بحيث يندر أن نجد فكرة مثلها تكشف عن طبيعة الوجود الإنساني، بل تضرب بجذورها في أعماق الوجود نفسه.

ولو قلَّبنا في تاريخ المناقشات الفلسفية للشجاعة؛ لوجدنا ذلك واضحًا في محاورة أفلاطون المبكرة «لاخيس»، فقد عاد المتحاورون لتوِّهم من حلبة الصراع، حيث شاهدوا عرضًا لألعاب السلاح لبطل يُكنُّون له الإعجاب، ويبدأ ليزيماخوس، الذي حضر مع صديقه ميليزوس ومعهما والداهما، في الكلام راجيًا أن يسترشد برأي قائدين شهيرَين هما: نكياس ولاخيس في أمر تربية الأبناء، وفي أفضل الوسائل التي تُعلِّمهم الفضيلة وحسن السمعة، وهو يسألهما إن كان تعليم المبارزة والنزال من بين هذه الوسائل، ويتوجَّه الجميع بالسؤال إلى سقراط، الذي يتخلَّص كعادته من إبداء رأيه قبل سماع بقية الآراء. ويتحدَّث نيكياس عن فوائد تعلُّم السلاح في تربية الأبناء على الاستقامة والشجاعة في الحرب والسلام، ولكن لاخيس يعارض كلامه، ويقرر أن الممتازين في المبارزة بالسلاح ليسوا بالضرورة شجعانًا في الحروب، وأن الجبان إذا تفوَّق في المبارزة اغترَّ بنفسه، وإذا أخطأ الشجاع فيها جلب على نفسه سخرية الناس. ويتطرق الحوار إلى الوسيلة التي يمكن أن تصل بها نفوس الشبَّان إلى الفضيلة، ثُمَّ إلى تعريف الفضيلة نفسها، غير أن هذه مهمةٌ شاقة كما يقول سقراط؛ ولذلك فهو يقترح أن يكتفوا بالكلام عن جزء منها، وهو الشجاعة التي تهدف إليها ألعاب المبارزة والنزال.

وتبدأ سلسلة من التعريفات الأولية للشجاعة، تُسْتَبْعَد واحدًا بعد الآخر؛ لقصورها عن الإحاطة بمضمونها في مختلف المواقف والميادين؛ فهناك الشجاعة في الحرب وفي السلم، وفي المرض والصحة، وفي مقاومة الألم والانتصار على الشهوة، بحيث لا يستطيع التعريف الواحد أن يدلَّ عليها جميعًا. ويتَّجه سقراط أخيرًا إلى القائد الحربي نيكياس، الذي ينبغي أن يعلم ماهية الشجاعة خيرًا من غيره، ويقول نيكياس، في ثقة تليق بأهل الحرب: إن الشجاعة هي العلم بما ينبغي أن يخشاه الإنسان وما يستطيع أن يتجاسر على الإقدام عليه، سواء في الحرب أو في غيرها من الأحوال، ولكن التعريف يلقى الاعتراض؛ فالشجاعة ليست علمًا ولا حكمةً، وإلا كان الأطباء الذين يعرفون موضع الخطر شجعانًا، وكذلك الشأن مع الزراع والصنَّاع وسائر المتخصصين في فرع من فروع المعرفة أو العمل، ولا يقلل من هذا الاعتراض أن يقول نيكياس: إنه يقصد الشجاعة العاقلة الذكية، أمَّا الإقدام عن جهل — كما نرى لدى الأطفال والحيوانات — فهو أقرب إلى الجسارة أو التهوُّر أو الغباء، ويعود المتحاورون فيضيقون الخناق على القائد، حتى يرى بنفسه أن تعريفه غير جامع ولا مانع، وأن الموضوع أشمل وأوسع مما يزعم، فإذا كانت الشجاعة هي العلم بما يخشاه الإنسان وما يُقْدِم عليه، وكان الخوف والإقدام مرتبطَين بما يحدث في المستقبل من خير أو شر، فإن العلم ينبغي أن يشمل الحاضر والماضي والمستقبل؛ لأن العلم ينبغي أن يكون واحدًا في جميع الأحوال، وأن يتسع لكل ألوان الخير والشر على السواء؛ وإذن فالشجاعة ليست جزءًا من الفضيلة كما زعم نيكياس، بل لا بد أن تكون الفضيلة كل الفضيلة. ويختتم سقراط المحاورة بهذه العبارة اليائسة: «وإذن فقد فشلنا في أن نكتشف ماهية الشجاعة»، وبوعد منه أن يبحث عن الرأي السديد عند أصحاب الرأي، وأن يتعلم الفضيلة ممن يستطيع أن يعلمها له ولغيره.

هذا الفشل أو هذا الحيرة في تعريف الشجاعة أمر بالغ الأهمية في إطار التفكير عند سقراط؛ فسقراط — كما نعلم — يرى أن الفضيلة معرفة؛ ولذلك فمن الضروري أن يكون الجهل بحقيقة الشجاعة هو السبب في استحالة كل فعلٍ يطابق هذه الحقيقة، وتعذر الوصول إلى تعريف كافٍ لها.

غير أن هذا الفشل يُعَدُّ مع ذلك أهم بكثيرٍ جِدًّا من كل تعريف قد يبدو في ظاهر الأمر أنه تعريف ناجح للشجاعة، حتى ولو قابلناه عند أفلاطون وأرسطو نفسيهما؛ ذلك لأنه يكشف عن مشكلةٍ أساسية من مشكلات الوجود الإنساني، ويبين أن فهم الشجاعة يشترط فهم الإنسان وعالمه، كما يفترض معرفةً ببناء هذا العالم وقيمه، ومَنْ عرف ذلك عرف أيضًا ما ينفي وما يُثبِت، وما يأخذ وما يدع، فالسؤال عن طبيعة الشجاعة من الناحية الأخلاقية يؤدي بالضرورة إلى السؤال عن طبيعة الوجود والعكس صحيح؛ لأن الشجاعة يمكنها أن تبيِّن لنا ما هو الوجود، كما أن الوجود يستطيع أن يكشف لنا عن حقيقة الشجاعة. ومع أننا لا نضمن أن ننجح حيث فشل سقراط، فإن هذا لا يمنعنا من إثارة المشكلة من جديد، على ضوء تاريخها في الفلسفة وموقف الإنسان في العالم المضطرب الحديث، فلعل هذه هي الطريقة الوحيدة التي تحيي المشكلة وتحثنا على النظر فيها من جديد؛ ذلك لأن المشكلات الفلسفية واحدة بطبيعتها في كل زمان ومكان، وإحياؤها في كل عصر أو موقفٍ جديد يواجهه الإنسان — لا الرد عليها ولا محاولة إيجاد حل نهائي لها — هو أقصى ما يمكن أن يطمع فيه المفكرون.

•••

الشجاعة فكرةٌ أخلاقية، من حيث هي فعلٌ بشري قابل للتقييم، والشجاعة فكرةٌ وجودية، من حيث هي تأكيدٌ كلي وجوهري للذات، وشجاعة الوجود هي ذلك الفعل الأخلاقي الذي يؤكد به الإنسان وجوده على الرغم من كل العناصر التي يقابلها في حياته وتتعارض مع تأكيده لذاته. فلنحاول الآن إلقاء نظرة سريعة على الشجاعة في تاريخ الفكر الغربي، مهتدين بالمعنيين السابقين اللذين سنجدهما صراحةً أو ضمنًا في كل مرحلة من مراحل هذا الفكر.

ذكرنا أن أفلاطون كان أول مَنْ تعرَّض لمناقشة المشكلة وحاول إيجاد تعريف للشجاعة، وعرفنا نتيجة هذه المحاولة في محاورة «لاخيس»، وقد عاد إليها مرة أخرى في جمهوريته، فجعل الشجاعة متعلقة بذلك العنصر الشجاع من عناصر النفس الذي يسميه بالثيموس thymos، كما ربط بينها وبين ذلك المستوى الاجتماعي أو تلك الطبقة التي يسمِّيها طبقة الحراس «الفيلاكيس phylakes»، وتقع الثيموس بين العنصر العقلي والعنصر الحسي في الإنسان، إنها ذلك الجهد الذي يجعل المرء يسعى سعيًا غير إرادي إلى كل ما هو عظيم ونبيل، وهي بهذا تحتل مكانة المركز أو الوسط من النفس، وتملأ الهوة الفاصلة بين العقل والحس، أو تستطيع على الأقل أن تملأها، ولكن الثنائية الحاسمة في تفكير أفلاطون ومدرسته، والازدواجية التي أكدت الصراع بين المعقول والمحسوس تأكيدًا استحال معه إقامة جسر حقيقي يربط بينهما، كان لهما أثرهما البعيد على مدى التاريخ حتى عهد ديكارت وكانط، ولعلهما هما المسئولان عن تشدد القانون الأخلاقي المطلق عند كانط، وعن تقسيم الوجود إلى الفكر والامتداد عند ديكارت. ومن المعروف أن تقسيم أفلاطون لملكات النفس يقابله تقسيمٌ موازٍ لطبقات المجتمع كما تصوَّره في جمهوريته، فالحراس عندهم هم الأرستقراطية المسلَّحة التي تمثل النبل والشجاعة، ومن طبقة الحراس تخرج صفوة الحكماء والفلاسفة الذين يضيفون الحكمة إلى الشجاعة. ولكن هذه الأرستقراطية انهارت وضاعت قيمها على أواخر العالم القديم كما ضاعت على يد البورجوازية الحديثة؛ لقد حل المستنيرون والمتحرِّرون محل الحكماء، كما شغلت الجماهير الموجهة بأساليب العلم في الدعاية والمذهبية محل الحراس، ومع ذلك فمما يُحسَب لأفلاطون أنه اعتبر مركز النفس ووسطها (التيموايديس thumoeides) وظيفةً أساسية في كيان الإنسان، وجعل منه قيمة أخلاقية وصفةً اجتماعية.
وجاء أرسطو فاحتفظ بهذا المعنى الأرستقراطي للشجاعة وحدَّد مفهومه، فعنده أن الدافع إلى احتمال الألم والموت في شجاعة هو أن من النبل أن يفعل الإنسان ذلك، ومن الوضاعة ألَّا يفعله (الأخلاق إلى نيقوماخوس، ٣، ٧، ٩)، فالشجاع يُقْدِم على الفعل من أجل ما هو نبيل؛ لأن هذا هو هدف الشجاعة، والنبيل والوضيع هنا ترجمة لكلمتَي: كالوس Kalos وأيسخروس Aischros اللتين اصطلح على ترجمتهما بالجميل والقبيح، فالفعل الجميل أو النبيل هو الذي يستحق الثناء، والشجاعة هي التي تقدم على ما يستحق الثناء وتتجنب ما يستحق الاحتقار، أو هي — بلغة أرسطو — التي تثبت جوهر الإنسان وهدفه الباطن، وتحقق في الفعل كماله وإمكانياته، على الرغم مما قد يواجهه من مصاعب وعقبات. إنها تحتوي على الممكن، كما تنطوي في بعض الأحوال على التضحية الضرورية لبعض العناصر المتعلقة بوجود الإنسان من أجل تحقيق كماله الأخير، وقد تنطوي هذه التضحية على اللذة والسعادة، بل قد تصل إلى التضحية بالحياة نفسها، ولكنها خليقة بالثناء في كل الأحوال؛ لأن الجانب الجوهري من وجودنا يتفوق في فعل الشجاعة على الجانب الذي يقل عنه في الجوهر، وجمال الشجاعة وخيريتها تأتي من تحقق الجمال والخير فيها، ومن أجل ذلك كانت نبيلة.
ويتحقق الكمال عند أرسطو وأفلاطون على مستوياتٍ طبيعيةٍ وشخصية واجتماعية، كما يختلف مدى تحقق الشجاعة — كتأكيد للجانب الجوهري من وجود الإنسان — باختلاف هذه المستويات، ولما كان المحك الأكبر للشجاعة هو الاستعداد للإقدام على أكبر تضحيةٍ ممكنة، وهي التضحية بالحياة نفسها، وكان المفروض في الجندي بطبيعة مهنته أن يكون دائمًا على استعداد لهذه التضحية، فقد اعتبرت شجاعة الجندي مثلًا أعلى للشجاعة،١ وظل هذا المعنى الأرستقراطي والعسكري للشجاعة مرتبطًا ببقاء الطبقة الأرستقراطية التي كان يحق لها وحدها أن تحمل السلاح، فلما انهارت التقاليد الأرستقراطية وفهمت الشجاعة على أنها المعرفة الكلية بما هو خير وشر، تداخلت الحكمة والشجاعة، وأصبحت الشجاعة الحقيقية شيئًا متميِّزًا عن شجاعة الجندي، هكذا كانت شجاعة سقراط في مواجهة الموت شجاعةً عقلية ديموقراطية لا بطولية أرستقراطية.

وعادت الصفة الأرستقراطية للشجاعة إلى الحياة مع بداية العصور الوسطى، وأصبح الشجاع هو النبيل، والفارس هو الجندي الذي تتمثل فيه الشجاعة على الحرب والقتال. ولكن هذا الفهم لم يستمر طويلًا؛ فسرعان ما دخلت الشجاعة بمعناها العسكري المرتبط بأخلاق الأرستقراطية والبطولة في بداية العصور الوسطى مع الشجاعة بمعناها المسيحي والإنساني المرتبط بأخلاق الديموقراطية والنزعة العقلية في أواخر ذلك العصر الوسيط، ولعل أوضح تعبير عن هذا الاتجاه هو مذهب القديس توماس الأكويني في الشجاعة، فهي عنده قوة العقل القادرة على الانتصار على كل ما يهدد تحقيق الخير الأسمى، إنها تتَّحد بالفطنة أو الحكمة، وهي عنده الفضيلة التي تتَّحد فيها الفضائل الأربع الأساسية، وهي الذكاء والشجاعة والاعتدال والعدل. ويحلل توماس الأكويني هذه الفضائل ليخرج من هذا التحليل بأنها ليست جميعًا في مستوًى واحد من الأهمية، فالشجاعة حين تتَّحد بالحكمة تنطوي على فضيلة الاعتدال بالنسبة للإنسان نفسه كما تنطوي على فضيلة العدل بالنسبة للآخرين، فأي الفضيلتين إذن أشمل من الأخرى، الشجاعة أو الحكمة؟ الجواب على هذا يرتبط بنتيجة المناقشة المشهورة حول العقل والإرادة وأيهما له الصدارة في ماهية الوجود، كما يرتبط نتيجة لذلك بالشخصية الإنسانية نفسها، والمعروف أن المفكر اللاهوتي الكبير يقف إلى جانب العقل؛ ولذلك فهو يرتب الشجاعة بعد الحكمة في سلَّم الفضائل المسيحية الأربع، وبذلك تصبح لديه «قوة العقل» التي تجعل الخضوع لأوامر العقل الكلي أو لتعاليم الوحي أمرًا ممكنًا؛ ومِنْ ثَمَّ كانت الشجاعة — التي يفضل دائمًا أن يسمِّيها بالصلابة أو الصمود «فورتيتيدو» — فضيلة من بين فضائل أخرى، وكانت إشارته المستمرة إلى شجاعة الجندي مثلًا واضحًا على هذا المعنى المحدَّد للشجاعة، وهو في هذا متفق مع اتجاهه العام في الجمع بين البناء الأرستقراطي للمجتمع الوسيط وبين العناصر الكلية الشاملة في التفكير المسيحي والإنساني. مهما يكن من شيء، فإن الشجاعة الكاملة في رأي القديس توماس هدية يهبها الروح الإلهي؛ فالقوة الطبيعية للعقل ترتفع عن طريق الروح القدس إلى الكمال الذي يتجاوز الطبيعة، وهذا يعني أن الشجاعة تتصل بالإيمان والأمل والمحبة، وهي فضائل أساسية في المسيحية. بهذا نلاحظ شيئًا من التطور في مفهوم الشجاعة، بحيث يدخل جانبها الوجودي (الأنطولوجي) في الإيمان والأمل، بينما يدخل جانبها الأخلاقي في المحبة، وهي مبدأ كل أخلاق دينية. ولم يكن القديس توماس في الحقيقة هو أول مَنْ أدخل الشجاعة في حظيرة الإيمان؛ فقد سبقه القديس «أمبروز» إلى هذا حين قال عن الصمود إنه «أسمى من سائر الفضائل»؛ فالشجاعة عندهما تنصت إلى صوت العقل، وتنفذ ما تقول به الحكمة والذكاء. ولولا قوة الروح وصمودها في مواجهة الخطر وإصرارها على تحقيق النصر لما كانت شهادة ولا شهداء، ومن هنا كانت الشجاعة هي سبيل المؤمن إلى العزاء والصبر، ولا سبيل إلى تمييزها عن الأمل والإيمان.

•••

من هذا العرض السريع يتبين لنا أن كل محاولة لتعريف الشجاعة لا بد أن تسير في طريق من اثنين: فإمَّا أن نعتبرها فضيلة من بين فضائل عديدة، ونُدخلها في فضائل أخرى أشمل منها كالأمل أو الإيمان، أو تحتفظ بمعناها الأوسع وتفسر الفضائل الأخرى عن طريقها، وفي الحالتين يتداخل المعنى الأخلاقي مع المعنى الوجودي بحيث يصبح من العسير الفصل بينهما، ولعل الشجاعة بمعناها الأخلاقي والوجودي الشامل لم تصل إلى ذروتها في يوم من الأيام كما وصلت إليها في أواخر العالم القديم وأوائل العصر الحديث على يد نفر من الحكماء الذين لا نملك إلا الإعجاب المتجدد بهم على الرغم من اختلاف رأينا فيهم، وأقصد بهم الرواقيين والرواقيين المحدثين، فكلاهما يمثل مدرسة من المدارس الفلسفية الكثيرة التي حفل بها العالم القديم، وكلاهما يزيد على هذا المعنى المدرسي المحدود بكثير؛ فيندر أن نجد مدرسةً فلسفية اجتمع فيها كل هذا العدد من الشخصيات النبيلة التي وحدت بين الفكر والسلوك، واستطاعت أن تجد الجواب العملي على كثير من مسائل الوجود التي كان غيرهم لا يسأم من الجدل العقلي فيها، وأن تقهر الخوف من القدر وتتغلب على الفزع من الموت؛ ولذلك فهي تعد فرقة دينية بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، سواء ظهرت في صورة مؤمنة أو ملحدة، وسواء تحدث باسمها إمبراطورٌ عظيم أو فيلسوفٌ مسكين.

كانت الصفة الأساسية للمفكر الرواقي الواسع الثقافة البالغ الفردية، هي الشجاعة في مواجهة القدر واحتمال الموت، ولكن هذه الشجاعة الزاهدة المتكبرة لم تكن من اختراع الفلاسفة الرواقيين، لقد عبروا عنها تعبيرًا عقليًّا. أمَّا جذورها فترجع إلى الأساطير القديمة وحكايات الأبطال وكلمات الحكماء والشعراء وكُتَّاب المسرح القدامى، وقرون من التفلسف سبقت ظهور المدرسة الرواقية، ولعل حادثةً واحدة هي التي أضفت على الشجاعة الرواقية قوتها الباقية، وهذه الحادثة هي موت سقراط؛ فقد كان موته بالنسبة للعالم القديم كله حقيقةً ورمزًا، كشف عن أصالة الموقف الإنساني في مواجهة القدر والموت، وعبَّر عن شجاعة استطاعت أن تؤكد الحياة؛ لأنها استطاعت أن تواجه الموت. لقد تغيَّر معنى الشجاعة القديم بموت سقراط؛ فلم تعد شجاعة البطولة كما كانت في الماضي، بل أصبحت شجاعة العقل والحكمة، واكتسبت معنًى ديموقراطيًّا يختلف عن معناها الأرستقراطي المرتبط بالفروسية والجندية؛ ولذلك استطاع الناس على اختلاف طبقاتهم أن يستمدُّوا منها العزاء الفلسفي الذي أعانهم على مواجهة كثير من الكوارث والتقلبات في العالم القديم.

عبَّر سنيكا الفيلسوف الروماني المشهور عن هذه الشجاعة في كتاباته خير تعبير، وبيَّن كيف يرتبط الخوف من الموت بالخوف من الحياة، كما ترتبط الشجاعة على احتمال الموت بالشجاعة على تقبُّل الحياة، إنه يتحدث عن «أولئك الذين لا يريدون أن يعيشوا ولا يعرفون كيف يموتون»، كما يتحدث عن غريزة الموت Libidp moriendo حديثًا يشبه ما يقوله عنها فرويد في الزمن الحديث، بل إنه يقترب من كثير مما يتكرر اليوم على ألسنتنا ويملأ صفحات جرائدنا وكتبنا حين يتكلم عن أناس يشعرون بأن الحياة سطحية وخالية من كل معنًى، ويرى ذلك نتيجة للاعتقاد في مبدأ اللذة، والسخط الدائم على النفس التي لا تستطيع تحقيق دوافعها؛ مما يؤدي بالضرورة إلى السأم واليأس والاشمئزاز، ولكن سنيكا قد عرف — كما عرف فرويد — أن العجز عن إثبات الحياة لا يعني القدرة على إثبات الموت، وأن الخوف من القدر والفزع من الموت قد يتسلطان أيضًا على الذين فقدوا إرادة الحياة، وإذا كُنَّا نجد الرواقيين يثنون على الانتحار، بل ويوصون به في بعض الأحيان، فهم لا يتجهون بهذا الرأي لمن قهرتهم الحياة، بل لمن انتصروا عليها، بحيث أصبحت لديهم القدرة على الاختيار الحر بين الموت والحياة؛ ولذلك فإن الانتحار الذي يمليه الخوف والهروب لا شأن له بالشجاعة التي يؤكدونها؛ لأنها في معناها الوجودي هي شجاعة الوجود، إنها الشجاعة التي تقوم على التحكم في العقل، ولكنهم لا يريدون بالعقل تلك القوة القادرة على التفكير والجدل، بل يريدون به «اللوجوس»، أو البناء المعقول للواقع بوجهٍ عام، وللعقل البشري بوجهٍ خاص، فإذا لم تكن هناك صفةٌ أخرى تتعلق بالإنسان بما هو إنسان غير العقل، فإن العقل — كما يقول سنيكا — سيكون هو الخير الوحيد الذي يملكه، وسيُساوي كل أنواع الخير الأخرى مجتمعة. معنى هذا أن العقل هو طبيعة الإنسان الحقة، وهو جوهره الذي يُعَدُّ كل شيء عداه عرضًا، ومعناه أيضًا أن شجاعة الوجود هي شجاعة إثبات الطبيعة العاقلة لدى الإنسان تجاه كل ما هو عرضي فيه، ومن الواضح أن العقل هنا قريب مما نسميه اليوم بالشخصية، وأنه مركز كل القوى والملكات الذهنية والنفسية، وجزء من العقل الكلي الذي يشارك فيه الحكيم الرواقي بنصيب واف، يمكنه من تحمل الألم والارتفاع فوق الشهوات، ومواجهة القدر والموت؛ وإذن فشجاعة الوجود هي الشجاعة في إثبات طبيعتنا العاقلة، على الرغم من كل ما يتعارض معها أو يعوق اتحادها بالطبيعة العاقلة للوجود الكلي العام؛ ولذلك فهي تقهر الخوف من الموت بالصمود، وترتفع بالعقل والحكمة فوق الشهوة والرغبة، وتنتصر على الألم بالزهد والكبرياء.

هذا الصمود والانتصار، هذا التأكيد لوجود الإنسان الحق برغم كل المخاوف والشهوات، لا بد أن يخلق الفرح. إن سنيكا يحثُّ تلميذه لوسيللوس في رسائله الجميلة إليه «أن يتعلم كيف يفرح»، ولكن هذا الفرح الذي يريده له لا يمكن أن يأتي نتيجة تحقيق الرغبات (فالفرح الحقيقي شيء قاسٍ وعسير!) بل هو السعادة التي تحسها نفس «ارتفعت فوق جميع الظروف»، إنه التعبير العاطفي عن «نعم» شجاعة نتقبل بها وجودنا الحق ونثبته ونؤكده. وفي هذا الإثبات للوجود الذاتي الأصيل تتجمع الشجاعة والفرح، ويتحد الموت بالحياة، هناك يصل الإنسان إلى قمةٍ وحيدة ومخيفة؛ فلا تزعجه المخاوف ولا تتلفه اللذات، ولا يخشى من الموت ولا من الآلهة كما يقول سنيكا في تعبيره القاسي الجميل. ولكن هل يستطيع الإنسان حَقًّا أن يرتفع إلى هذه القمة أو يبلغ هذه الحكمة؟ وهل تستحق أن يبذل في سبيلها ذلك الثمن الباهظ الذي دفعه معظم الرواقيين؟ أليست هذه الشجاعة التي تعلو فوق الألم والعذاب — أو تكابدهما بغير أن تسمح لهما بالتأثير على ملكة العقل والتفكير — شيئًا يقتصر بطبيعته على صفوة الناس دون غالبيتهم العظمى من البلهاء كما يحلو للرواقيين أن يسمُّوهم؟ أليست شجاعة نابعة من الوحدة، لا بل من اليأس المطلق كما يقول سنيكا نفسه؟ وأي يأس هذا الذي يعلو بصاحبه فوق كل إحساس باليأس نفسه؟! أليس الصمود هنا اسمًا آخر للصدود، والعلو تعبيرًا خاطئًا عن الاستعلاء؟ وهل وصل الحكيم الرواقي نفسه إلى هذه «الحالة» التي تتجاوز كل حالة بشرية ممكنة؟! أسئلةٌ كثيرة بغير شك، لا تحاول أن تشكك في صدق الرواقيين، بقدر ما تحاول الكشف عن استحالة طريقهم، وبيان ما فيه من تطرف في العزلة والتكبر والانفراد، وهو طريق يجد الحكيم فيه خلاصه، ولكن أين فيه الشجاعة التي تخلِّص الغير؟ وهل هناك أبعد من الفرق بين طريق الصدود والكبرياء وطريق الخلاص والنجاة؟

•••

تراجعت الرواقية عندما حل الإيمان بالخلاص الكوني محل شجاعة الزهد والصدود، ولكنها عادت في صورتها الحديثة عندما بدأ نظام العصر الوسيط الذي سادته مشكلة الخلاص في التحلل والانهيار، وأصبح ممثلوها صفوة من المفكرين الإنسانيين الذين رفضوا طريق الخلاص المسيحي، ولم يسيروا مع ذلك على طريق الرواقيين في التخلي والصدود. على أن المسيحية قد تركت أثرها على كل المذاهب الإنسانية الجديدة التي حاولت أن تحيي المذاهب القديمة، وإن أنكرت أفكار المسيحية في الخلق والتجسد أو تجاهلتها. يصدق هذا على محاولات إحياء الأفلاطونية والرواقية ومذهب الشك، كما يصدق على التجديد في الفن والأدب والسياسة وفلسفة الأديان، فقد تراجعت النظرة السلبية المتشائمة التي غلبت على أواخر العصر القديم أمام النزعة الإنسانية التي أصبحت تنظر إلى الحياة والتاريخ والإنسان نظرةً متفائلة بالمستقبل والتقدم والأمل، ولم يعد الفرد كفرد رمزًا لقيمة كلية فحسب كما كان الحال في العصر القديم، بل أصبح تعبيرًا فريدًا عن الكون كله، كما أصبح شيئًا بالغ الخطر لا يمكن أن يتكرر أو يقارن بشيءٍ سواه.

كان لهذا كله أثره الحتمي على مفهوم الشجاعة، فالنزعة الإنسانية في مطلع العصر الحديث ترفض فكرة الخلاص المسيحية، ولكنها ترفض كذلك فكرة الزهد الرواقية وتضع مكانها نوعًا من تأكيد الذات يعلو على ذلك الذي عرفه الرواقيون؛ لأنه يتضمن الوجود المادي والتاريخي والفردي، ومع هذا فقط نستطيع أن نسمِّي هذا الاتجاه الجديد بالرواقية المحدثة؛ لما فيه من عوامل مشتركة بينه وبين الرواقية القديمة، ولعل الفيلسوف الهولندي «إسبينوزا» (الذي يعرفه القارئ بمذهبه في وحدة الوجود أو بعبارته المشهورة الطبيعة أو الله)٢ هو خير ممثل لهذه المدرسة، وأهم مَنْ حاول وضع الأساس الوجودي الذي يقوم عليه الكيان الأخلاقي للإنسان، وذلك في كتابه الرئيسي «الأخلاق»، لا بل في عنوان هذا الكتاب نفسه. ولقد ركز إسبينوزا مذهبه الأخلاقي فيما يمكن أن نسميه اليوم «بشجاعة الوجود»، وهذه الشجاعة هي التعبير عن «تأكيد الذات»، وهو الفعل الأساسي الذي يشارك به كل شيء في الوجود، وتتضح أهمية تأكيدات الذات في مذهب إسبينوزا في قضية كهذه: «إن الجهد الذي يبذله كل شيء ليصمد في وجوده الخاص به، ليس إلا الماهية الفعلية لهذا الشيء نفسه (الأخلاق ٣، القضية ٧). هذا الجهد أو هذا السعي هو الذي يجعل الشيء على ما هو عليه، بحيث إذا اختفى فإن الشيء نفسه يختفي باختفائه، والسعي إلى المحافظة على الذات أو تأكيد الذات هو قوة وجود هذا الشيء أو حقيقته الفعلية، وقوة وجود الشيء هي فضيلته، وفضيلته هي جوهر طبيعته، والفضيلة هي القوة التي تجعل الإنسان يسلك وفقًا لطبيعته الحقة، وتُقاس درجة فضيلته بقدرته على تأكيد وجوده، وتأكيد هذا الوجود أو تأكيد الذات هو جماع الفضيلة، ولكن تأكيد الذات هو تأكيد الوجود الحقيقي، ولا تتأتى معرفة الوجود الحقيقي إلا عن طريق العقل، وهو قدرة النفس على امتلاك الأفكار الكافية؛ ولذلك كان السلوك النابع من الفضيلة مساويًا للسلوك على هدي العقل من أجل تأكيد الوجود أو الطبيعة الحقة» (الأخلاق ٤، القضية ٢٤).
هكذا تتضح العلاقة بين الشجاعة وتأكيد الذات، ويستخدم إسبينوزا في الأصل اللاتيني لكتابه كلمتَي: Fortitudo وAnimositas، أما الكلمة الأولى فهي قوة النفس أو قدرتها على أن توجد وجودها الحق، وأمَّا الكلمة الثانية فهي مشتقة من كلمة Anima أو النفس، ويريد بها الشجاعة بمعنى الفعل الصادر عن الشخص ككل، إنه يعرِّفها بقوله: «أريد بالشجاعة تلك الرغبة التي تجعل كل إنسان يسعى إلى المحافظة على وجوده وفقًا لتعاليم العقل وحده» (٣، القضية ٥٩).

ولكن هل يقف الأمر بتأكيد الذات عند هذا الحد؟

إنه — كما يقول إسبينوزا — هو المشاركة في تأكيد الذات الإلهية، فالقوة التي يحافظ بها كل موجود جزئي — وبالتالي الإنسان — على وجوده هي قوة الله (٤، القضية ٤). ومشاركة النفس في القوة الإلهية تُفَسَّر من خلال المعرفة والحب، فإذا عرفت النفس أنها جزء من الروح الأبدي، فستعرف وجودها في الله، وهذه المعرفة بالله وبوجودها في الله هي علة السعادة الكاملة، وهي تبعًا لذلك أيضًا علة الحب الكامل لسبب هذه السعادة، هذا الحب روحاني أو عقلي intellectualis؛ لأنه حبٌّ خالد؛ ولذلك فهو عاطفة لا تخضع للانفعالات المرتبطة بالجسد، وعن طريق المشاركة في الحب الروحي غير المتناهي يتأمل الله نفسه ويحب نفسه، وحبه لنفسه يجعله يحب ما يتعلق به من مخلوقات، أي يجعله يحب البشر.

هذه العلاقات تكشف لنا عن طبيعة الشجاعة، فهي من ناحية تفسر لنا لماذا كان تأكيد الذات هو الطبيعة الحقة لكل موجود، ومِنْ ثَمَّ خيره الأسمى، فالتأكيد الكامل للذات ليس في الواقع فعلًا منعزلًا ينشأ في نفس الفرد، بل مشاركة في الفعل الإلهي الشامل لتأكيد الذات، وهو منشأ كل فعل فردي وقوته الدافعة، وفي هذا كله تعبير أساسي عن الشجاعة كفكرةٍ وجودية «أنطولوجية»، وهي من ناحية أخرى تكشف لنا عن القوة التي تجعل الانتصار على الشهوة والقلق أمرًا ممكنًا، إن الرواقيين لم يستطيعوا أن يجدوا تفسيرًا لذلك، حتى جاء إسبينوزا بفكرته عن المشاركة، فلقد عرف أن العاطفة لا تقهرها إلا عاطفة مثلها، وأن «عاطفة» العقل هي وحدها التي يمكنها أن تنتصر على عواطف الجسد وانفعالاته؛ لأنها هي عاطفة الحب الروحي أو العقلي التي تحسُّ بها الروح نحو أصلها الخالد، وتعبر بها عن مشاركته في حب الله لنفسه؛ ولهذا كانت شجاعة الوجود ممكنة من حيث هي مشاركة في التأكيد الذاتي للوجود نفسه.

غير أن هناك سؤالًا أخيرًا يظل بغير جواب، سواء عند إسبينوزا أو عند الرواقيين، إن إسبينوزا نفسه يعبر عنه على هذا النحو في ختام كتابه العظيم «الأخلاق»: لماذا يهمل معظم الناس طريق الخلاص الذي أوضحه؟ ويجيب الفيلسوف إجابة لا تخلو من كآبة؛ لأنه عسير ومِنْ ثَمَّ فهو نادر، ككل ما هو سامٍ ونبيل …

•••

الشجاعة إذن هي تأكيد الذات الإنسانية بالرغم من … ونسأل الآن: بالرغم من أي شيء؟ لا بد أن يكون الجواب: بالرغم من شيء يهدد تأكيد الذات أو يحاول أن يلغيه، أي أن الشجاعة التي وصفناها بشجاعة الوجود لا بد أن تواجه كل «عدم وجود» يحاول تهديدها، سواء على الصعيد الأنطولوجي أو الأخلاقي أو الاجتماعي … إلخ. وإذا كانت هناك فلسفة اهتمت بألوان «عدم الوجود» التي تواجهها الشجاعة فتؤكد ذاتها «على الرغم منه» فهي فلسفة الحياة على اختلاف مذاهبها وأصحابها، فهي قد فسرت الوجود من ناحية الحياة أو التغير أو الصيرورة، وبذلك جعلت لعدم الوجود أهمية لا تقل عن أهمية الوجود نفسه، وكان لا بد لفلسفة الحياة أن تحاول تفسير هذا الشيء السلبي الذي يحاول — كما قلت — إلغاء الذات أو تهديد كيانها، والذي تثبت الشجاعة في وجهه على الرغم من ذلك، ولم تستطع الرواقية ولا الرواقية المحدثة أن تقدما تفسيرًا لهذا الشيء أو هذه القوة السالبة، فإذا نظرنا إلى فلسفة إسبينوزا وجدنا من الصعب أن يكون لهذا الشيء أو القوة أو العنصر السلبي مكان في مذهبه … فما دام كل شيء عنده ينبع ضرورة من طبيعة الجوهر الأزلي، فلن يكون لأي موجود من القوة ما يهدد به وجود شيء آخر أو تأكيده لذاته، سيكون كل شيء في مكانه وعلى حاله المرسوم، ولن تزيد كلمة تأكيد الذات عن كونها مبالغة في ذاتية شيء مع نفسه، صحيح أن إسبينوزا يتحدث عن تهديد حقيقي للذات، وعن تجربته التي علَّمته كيف أن معظم الناس يخضعون لهذا التهديد، وهو يتحدث عن الجهد أو السعي Conatus كما يتحدث عن قوة Potentia تأكيد الذات، ولكن هذه الكلمات جميعًا يجب ألا تؤخذ بحروفها بل من جهة التشبيه، فكلمة مثل كلمة القوة (سواء كانت قوة الإمكان Potentia أو قوة الطاقة والحركة Dynamis) أو كلمة الإرادة قد لعبت دورًا كبيرًا في تاريخ الفكر الفلسفي منذ أيام أفلاطون وأرسطو، مارة بالقديس «أوغسطين» و«دونيس سكوتس» و«بوهمه» و«شلنج» و«شوبنهور»؛ لتمهد الطريق لتعبير نيتشه الذي هزَّ العصر الحديث كالإعصار، ونقصد به «إرادة القوة»، وهو تعبير يجمع بين الكلمتين السابقتين، ولا بد من تفسيره على ضوء معناه الأنطولوجي. ونستطيع أن نقول: إنه لا يريد به الإرادة ولا القوة، أعني أنه لا يريد به الإرادة بمعناها النفسي ولا القوة بمعناها الاجتماعي أو البيولوجي، فهي تدل في الحقيقة على تأكيد الحياة لنفسها بما هي حياة، أعني بما هي بقاء أو نمو وتجاوز للحياة نفسها؛ ولذلك فالإرادة تريد نفسها ولا تريد شيئًا خارجًا عنها، تلك هي قوتها التي تؤكد بها نفسها وتتجاوز بها نفسها في وقت واحد، وإرادة القوة هي إرادة تأكيد الإرادة باعتبارها الحقيقة الأولى والأخيرة في الحياة.

والحياة بهذا المعنى هي العملية التي تحقق بها إرادة الحياة والوجود نفسها، ولكنها حين تحقق نفسها تتغلب على كل ما يلغي الوجود والحياة في داخل الوجود والحياة، بحيث نستطيع أن نسميها الإرادة التي تناقض إرادة القوة. ويشير نيتشه في أحد فصول كتابه: «هكذا تكلم زرادشت» — وهو الفصل الذي سماه «وعاظ الموت» — إلى الأشكال المختلفة التي تغري الحياة بقبول ما ينفي الحياة حيث يقول: «إنهم يقابلون مريضًا أو شيخًا أو جثةً فيسارعون قائلين: «لقد دحضت الحياة!» ولكنهم هم الذين يدحضون، وعينهم التي لا ترى إلا جانبًا واحدًا من الوجود»، فالحياة ذات جوانب متعددة، وهي غامضة أو مزدوجة المعنى، (وقد وصف نيتشه غموضها في الشذرة الأخيرة من مجموعة الشذرات التي جُمِعَت بعد موته تحت عنوان «إرادة القوة») والشجاعة هي قوة الحياة التي تجعلها تؤكد نفسها على الرغم من هذا الغموض والازدواج، بينما الجبن هو سلب الحياة بسبب سلبيتها، أو إنكارها ونفيها لما فيها من أوجه النفي والإنكار. والشجاعة التي يريدها نيتشه ويتنبأ بها هي شجاعة الإنسان الذي تجاوز نفسه فأصبحت لديه إرادة القوة التي يؤكد بها الحياة — أو شجاعة الإنسان الأعلى — في وجه عصر تتحلل فيه الحياة وتمرض وتنهار، عصرٌ عدميٌّ كان نيتشه قد رأى أشباحه الزاحفة وحاول أن يحذر منه ويثير عاصفة القوة التي تقاومه.

كان المثل الأعلى للشجاعة عند نيتشه — كما كان عند الفلاسفة السابقين عليه — هو المحارب، الذي يميزه عن الجندي العادي، إنه يقول في زرادشت: «تسألون ما هو الخير؟ الخير أن تكون شجاعًا» (١، ١٠)، والخير ألا تهتم بالحياة الطويلة، ولا بالنجاة من الأخطار، وألا تحب الحياة حُبًّا يجعلك تتعلق بها مهما نفت إرادة القوة والحياة فيك، فتأكيد النفس تأكيدٌ للحياة وللموت الذي يعد جزءًا من الحياة، وموت المحارب والرجل الناضج لن يكون ذنبًا تُلام الأرض عليه (١، ٢١)، والفضيلة هي كذلك تأكيد الذات، إنه يقول في فصل «الفاضل»: «إنها نفسك العزيزة، إنها فضيلتك، إن عطش الخاتم (رمز العود الأبدي للشبيه) فيك، كل خاتم يكافح من أجل الوصول إلى ذاته من جديد، ويُدير نفسه» (٢، ٢٧). وليس هناك تعبير عن تأكيد الذات أفضل من هذا التعبير؛ فالذات تملك نفسها، ولكنها تحاول في عين الوقت أن تصل إلى نفسها؛ ذلك لأن حقيقة الفضيلة تكمن في أن الذات موجودة فيها بكلِّيتها، وليست شيئًا خارجيًّا عنها، تشهد بذلك هذه العبارة الجميلة المؤثرة في زرادشت: «أن تكون نفسك الحقة في فعلك، كما تكون الأم في طفلها، هذا هو مبدأ فضيلتك!» (٢، ٢٧).

ما دامت الشجاعة هي تأكيد الذات أو تأكيد الحياة فهي الفضيلة الحقة، أو هي فضيلة الفضائل، والذات التي يكون تأكيدها لذاتها هو الشجاعة أو الفضيلة هي الذات التي تتجاوز نفسها: «وهذا السر باحت به الحياة نفسها إليَّ، انظر! أنا ذلك الشيء الذي لا بد له أن يتجاوز نفسه على الدوام» (٢، ٣٤)، ولكن ما معنى هذا التجاوز؟ أهو التجاوز أو العلو الذي يقول به المتصوفون وفلاسفة «الترانسندنس»؟ أم هو شيءٌ آخر يضرب في جذور الحياة ويكشف عن جوهرها الحق؟ إن نيتشه يكمل الكلام قائلًا: «… هناك تضحي الحياة بنفسها من أجل القوة!» وبذلك يبين كيف أن تأكيد الذات ينطوي على نفيها، وأن «النعم المقدسة» للحياة تحتوي على «اللا» الرهيبة التي تسلبها وتلغيها، لا من أجل السلب والإلغاء، بل من أجل التأكيد الأعظم، من أجل القوة: قوة الحياة، فالحياة تخلق، والحياة تحب ما خلقته، ولكنها سرعان ما تنقلب على نفسها: «فهكذا تريد إرادة حياتي»؛ ولذلك يصبح من الخطأ أن نتحدث عن إرادة الوجود أو إرادة الحياة؛ إذ لا بد أن نتحدث عن «إرادة القوة» وأن نقصد بالقوة المزيد من الحياة، الحياة التي تريد أن تتجاوز نفسها هي الحياة الخيرة، والحياة الخيرة هي الحياة الشجاعة، إنها حياة «النفس القوية» و«الجسد المنتصر» الذي تكون فضيلته في التمتع بذاته. مثل هذه النفس تنبذ كل ما يتصف بالجبن، إنها تقول لنفسها: الشر هو الجبن، ولكن هذا النبل بعيد عن الفوضى والعصيان، فالنفس لا تصل إليه إلا بالطاعة والأمر أو بالأحرى بالطاعة للأمر والخضوع للضرورة، وهو كذلك بعيد عن الذل والإذعان؛ لأنهما صورة الجبن الذي لا يجرؤ أن يخاطر أو يغامر، والنفس الذليلة الخاضعة هي عند نيتشه نقيض النفس التي تؤكد ذاتها، حتى ولو كان ذلها وخضوعها لإله، إنها تريد أن تهرب من ألم إيذاء الغير أو إيذاء النفس، أمَّا النفس المطيعة الخاضعة حَقًّا فهي التي تصدر الأوامر لنفسها وبذلك تغامر بنفسها (٢، ٣٤)، وهي — إذ تصدر الأوامر لنفسها ولا تخضع إلا لذاتها — تجعل من نفسها القاضي والضحية في آنٍ واحد؛ ذلك لأنها تأمر نفسها بما يقضي به قانون الحياة، قانون تجاوز الذات، وهي حين تفعل ذلك تتحد بالحياة نفسها وبسرِّها الخالد. إن إرادتها خلَّاقة؛ لأنها منبعثة من إرادة الحياة، وهي لا تنظر إلى الوراء، بل تتجاوز الضمير المذنب، وترفض روح الانتقام التي هي أصل كل إحساس بالذنب؛ لأنها هي إرادة القوة وإرادة الحياة. إن هذه النفس الشجاعة تتجلى في أبهى صورة في هذه القطعة من زرادشت: «ألديكم الشجاعة يا إخوتي؟ … لا الشجاعة أمام الشهود، بل شجاعة النساك والنسور التي لم تعد تملكها الآلهة نفسها؟ … شجاع من يعرف الخوف ولكن يهزمه، يرى الهاوية ولكن بافتخار، إن من يرى الهاوية ولكن بعيني نسر، ومن يقبض على الهاوية بمخلبي نسر هو الذي يملك الشجاعة» (٤–٧٣).

كلمات تكشف عن الجانب الوجودي في تفكير نيتشه، وتعبر عن الشجاعة التي تمكِّن صاحبها من النظر في هاوية العدم، والوحدة المطلقة التي يحس بها ذلك الذي آمن برسالة زرادشت، وسلَّم بأن الإله القديم قد مات ليبزغ فجر الإنسان الأعلى، الإنسان الذي تتجسد فيه إرادة القوة والحياة؛ لأنه هو الذي استطاع أن يتجاوز نفسه، أو لأنه باختصار هو الإنسان الشجاع.

•••

الشجاعة إذن هي تأكيد الذات على الرغم من … أعني على الرغم مما يحول بينها وبين تأكيد نفسها. هذا الذي يحول بينها وبين تأكيد نفسها يصل إلى ذروته فيما يلغي وجودها، أعني في العدم.

والعدم فكرة من أصعب الأفكار الفلسفية التي أخذتها فلسفات الحياة — مختلفة في ذلك مع الفلسفات الرواقية قديمها وحديثها — مأخذ الجد الخالص، فهي حين فسرت الوجود من ناحية الحياة أو التطور أو الصيرورة، اضطرت أن تفسح للعدم مجالًا لا يقل عن مجال الوجود، أو قل: إنها اكتشفت العدم الكامن في قلب الوجود، لقد جعلت من الشجاعة مفتاحًا لتفسير الوجود نفسه، ولكنها حين أرادت هذا المفتاح وجدت أمامها الوجود وعدم الوجود، والوحدة التي تجمع بينهما في صراعٍ أبدي لا يهدأ.

والعدم — كما تقدم — من أصعب الأفكار الفلسفية، وأحفلها بالخطر والخصوبة والإغراء. لقد شغل التفكير من عهد بارمنيدز إلى عهد سارتر وهيدجر، فالقارئ يعلم أن بارمنيدز قد حاول أن يستبعده ويؤكد استحالة التفكير فيه، وذلك حين قال عبارته البسيطة «المعقولة» في ظاهرها، غير الفلسفية في صميمها، من أن الوجود موجود والعدم عدم، وقد ضحَّى بالحياة نفسها ليقولها، ثم جاء ديموقريطس فحاول أن يعيد للعدم مكانته، فجعله هو والفراغ شيئًا واحدًا، وذلك لكي يجعل الحركة ممكنة، واستخدم أفلاطون فكرة عدم الوجود حين وجد أنه بدونه لا يمكن فهم التعارض بين الوجود العيني وبين الماهيات الخالصة، وتضمنه تفكير أرسطو عندما ميَّز بين المادة والصورة، وكان عند أفلوطين وسيلة يصف بها فقدان النفس الإنسانية لذاتها، كما استعان به القديس أوغسطين لتفسير خطيئة الإنسان، ثُمَّ جاء المتصوف البروتستنتي وفيلسوف الحياة يعقوب بوهمه، فقال عبارته المشهورة من أن كل الأشياء تضرب بجذورها في نعم ولا، وانطوى مذهب «ليبنتس» في التناهي والشر على فكرة الوجود، كما تضمنتها تحليلات «كانط» لمحدودية المقولات ومحدودية الوجود الإنساني بوجهٍ عام، وإيمانه بأن من واجب الإنسان إذا أراد أن يعرف شيئًا أن يقصر نفسه على علم التجربة وعالم الذهن الذي يضع قوانينه، بغير أن يتطلع إلى عالم المثل والأفكار والأشياء في ذاتها، فيقع فيما لا آخر له من ضلالات وأوهام، وجاء «هيجل» بمنهجه الديالكتيكي فجعل العدم هو القوة المحركة للطبيعة والتاريخ، وتبعه فلاسفة الحياة في أيام شيلنج وشوبنهور، فجعلوا الإرادة هي المقولة الأساسية من مقولات الوجود؛ لأنها تملك القدرة على سلب نفسها بغير أن تفقد نفسها، وكذلك فعل فلاسفة مثل برجسون وهويتهيد فجعلوا للعدم مكانًا لا يقل عن مكان الوجود في فلسفتهم عن التطور، وجاء فلاسفة الوجود المعاصرون — وفي مقدمتهم هيدجر وسارتر — فوضعوا العدم في مركز تفكيرهم الأنطولوجي، بحيث قال هيدجر: إن العدم «يعدم» فيفتح عيني الإنسان، فيما يشبه ضباب الغسق، على نور الوجود الذي يتجاوز كل ما هو موجود، كما جعله سارتر أساس الأسس في مذهبه في الحرية والالتزام، وكل هذه الفلسفات والآراء حول العدم ترتكز في الواقع على خلفية التجربة الدينية بزوال الحياة وفناء كل ما هو مخلوق، وعلى قوة العنصر «الشيطاني» في النفس والتاريخ، فهذا المبدأ السالب أو العدمي — وأقصد به الشيطان — يشارك في القوة الإلهية الخالقة على الرغم من معارضته الأزلية لها؛ وهو لذلك مبدأ أساسي لا يمكن أن نتصور الخلق والوجود بدونه.

ولا يتسع المقام هنا بالطبع لتحليل فكرة العدم التي تحتاج في الحقيقة إلى مجلدات ومجلدات، ولكننا إذا سئلنا عن العلاقة بين عدم الوجود والوجود، استطعنا أن نقول على سبيل المجاز: إن الوجود يضم نفسه كما يضم عدم الوجود، أي أن الوجود يحتوي في ذاته على عدم الوجود، باعتبار أن الأخير حاضر في عملية الحياة نفسها منذ الأزل وإلى الأبد، وأنه هو العنصر الذي تصارعه وتهزمه الحياة كذلك من الأزل إلى الأبد؛ فالحياة تؤكد نفسها بالخلق تأكيدًا مستمرًّا، وتغزو ضدها أو عدمها غزوًا مُستمرًّا، ومِنْ ثَمَّ كانت الحياة أو كان الوجود هو أصل التأكيد الذاتي لكل حي أو موجود متناهٍ، وكانت كذلك هي أصل الشجاعة التي تحفظ عليه الوجود، وكان العدم أو عدم الوجود هو ذروة الخطر الذي تواجهه الشجاعة ويواجهه الإنسان الحديث في سعيه إلى تأكيد ذاته والمحافظة على حضارته وحياته. وإذا كانت الشجاعة توصف عادةً بأنها قدرة العقل على مقاومة الخوف، فلم يسبق للإنسان أن طولب بما يطالب به اليوم من شجاعة على تحدي الخوف من الفناء الشامل، ومواجهة الخطر من الإلغاء المطلق لذاته، نقول: الخوف، ولعل الأصح أن نقول: القلق، فقد ميَّزَ المحدثون بين الخوف الذي ينصبُّ على موضوع بعينه (كالمرض أو الفقر أو الموت أو العار أو العدو) وبين القلق الذي ينصب على إحساس الموجود بإمكان عدم وجوده، إنه الإحساس «الوجودي» بالفناء، وبفنائه هو نفسه قبل كل شيء، لم يسبق للإنسان — كما قلت — أن أصبح القلق من الموت أو الفناء تجربةً عامة وذاتية في آنٍ واحد، حتى سُمِّيَ عصرنا بحق عصر القلق؛ فقد أحسَّ الإنسان دائمًا إحساسًا خفيًّا أو واضحًا بالموت، حين يرى غيره من الناس يموتون، أو حين تداهمه الأوبئة أو الحروب أو كوارث الطبيعة، كان الموت دائمًا يتربص به سواء جاءه على يد زلزال أو وباء أو طوفان، أو جاءه على يد عدو أو جلاد أو حاكم ظالم، وكان يحس دائمًا أن هناك شيئًا سيبقى بعد فنائه، وأن موته لا يمكن أن يكون مُبرِّرًا لليأس المطلق. وشكوى العازف الفرعوني الأعمى على القيثار، أو شكوى زميله «المتعب من الحياة»، أو صرخات أيوب المبتلى من ربه، لم تكن في الحقيقة تعبيرًا عن يأس شامل من كل شيء وكل أمل، بل كانت تبكي قدر صاحبها الشخصي أو قدر قومه وشعبه، أمَّا إنسان اليوم الذي يواجه أخبار التهديد بالفناء الشامل صباح مساء، ويسمع بأنباء الحرب الذرية أو حرب الأوبئة مع كل جريدة يفتحها على الإفطار، ويقرأ أنباء التعذيب بالجملة أو استعباد الإنسان في بلاد الشرق والغرب، فهو يواجه ما لم يواجهه آباؤه وأجداده من خطر الموت الأكبر، ويجد في كل يوم ما يدعوه إلى القلق الحقيقي على الحياة نفسها، لا على حضارته أو تاريخه أو تراثه فحسب؛ ذلك لأن القلق هنا لا يتعلق بموضوعٍ بعينه، بل هو القلق من انعدام كل موضوع، أو هو القلق من مصدر كل قلق، ألا وهو العدم نفسه! قد يحسُّ القارئ في هذا الكلام نوعًا من المبالغة أو التهويل، وقد يسأل مستنكرًا: ألا تحمل الحياة دائمًا بذرة الأمل؟ ألا تكفي الحياة بنفسها — حتى ولو لم يبق لها أثر إلا في البذرة أو الخلية الواحدة — لنفي كل تفكير في اليأس المطلق؟ وكل هذا صحيح بالفعل، ولا يمكن أن يتحول الكاتب إلى بومة الخراب، ولا يجوز أيضًا مهما اشتد الخطر أو أطبق البلاء أن يدعو إلى العجز المطلق أو ينذر بالفناء الأخير، وليست مهمته في الحقيقة أن يتنبأ أو يبكي، وليس كذلك أن يعظ أو يدعو إلى التفاؤل، إن مهمته الحقة هي أن يفهم وأن يكون شاهدًا على عصره، فإذا كان هذا العصر — على اختلاف كل عصر سواه — قد جعل المستحيل ممكنًا في كل لحظة، لا بل جعله على أطراف أصابع بعض الجنرالات والأزرار، فليس من التهويل عندئذٍ أن يتوقع الخطر، ويطالب معاصريه بأقصى قدرٍ ممكن الشجاعة، وإذا فعل ذلك فلا يصح أن نصفه بالتشاؤم أو بالتفاؤل، ولا أن نلبسه مسوح الواعظ ولا قناع الشيطان، إن عليه أن ينطق بما يشهده ويراه، أمَّا ما سيكون في المستقبل فشيء لا يدخل في مجال علمه ولا عمله، والذي يشهده اليوم ولا يستطيع أن ينكره عليه أحد هو أن إمكانية «العدم» (على اختلاف صوره) قد أصبحت أقرب من أي وقت مضى، وأن ضرورة الشجاعة قد صارت أشد الضرورات إلحاحًا على عقل الإنسان الحديث وضميره، وأن سؤال هاملت في وحدته: «هل أكون أو لا أكون»، لم يعد هو السؤال الذي يؤرق هاملت وحده …

•••

لا نريد أن نخوض الآن في أشكال القلق المختلفة كما حللها علماء النفس والاجتماع وفلاسفة الوجود، ولا نريد أن نفيض في الحديث عن القلق الوجودي من العدم أو العبث، ولا عن شجاعة اليأس التي تعبر عنها اليوم أعمال الكثيرين من الفنانين والأدباء المفكرين، فإن الحديث في ذلك يسوقنا إلى أبعد مما نريد أو نستطيع، كما أن القارئ يستطيع أن يلتمسه في غير هذا المكان،٣ وعلينا الآن أن نعود إلى سؤالنا الحقيقي الذي نقصده من وراء هذا الكلام: مَن هو الشجاع؟

ليس شجاعًا من لا يُجرَح، فالشجاع هو الذي يُقدِّر أنه قد يُجرَح أو يموت في معركة، فلا يمنعه ذلك من أن يظل شجاعًا. والشجاعة لا يمكن تصورها بغير إمكانية الجرح أو الألم أو الخوف أو الضرر أو الموت، وهو أقصى وأعمق الجراح.

لا الملاك ولا الحيوان يمكنهما أن يكونا شجاعَين، فالملاك لا يمكن أن يُجرَح أو يموت، والحيوان لا يعرف شيئًا عن معنى الجرح أو الموت؛ ولذلك فهو لا يعرف شيئًا عن معنى الشجاعة. ما نصف به رجلًا من أنه شجاع كالأسد، هو نوع من التشبيه الإنساني الذي يجعلنا ننزع إلى تصوير عالم الأشياء والأحياء في رداء إنساني، فالأسد لا يمكنه أن يكون شجاعًا؛ لأنه لا يحسب حساب الموت في أية معركة يخوضها، ولو أدرك الأسد بإحدى المعجزات أنه يمكن أن يموت لاستحال عليه أن يكون أسدًا.

الشجاعة إذن متعلقة دائمًا بالموت، والشجاع هو الذي يواجه الموت في كل حين، بل إن الشجاعة في حقيقتها ليست إلا الاستعداد للموت، أو هي بمعنًى أدق استعداد الإنسان لأن يسقط ميِّتًا في معركة، وكل فعل نصفه بالشجاعة إنما يعيش على فكرة الموت، مهما بدا لنا من الظاهر أنه بعيد عنه، وكل فعل لا يضرب بجذوره في أرض الموت، ولا يقدر احتمال السقوط، فهو فعلٌ فاسدٌ بعيد عن الشجاعة، مجرد من قوة الوجود؛ ولذلك فإن الشجاعة تُقاس عادةً بمدى الاستعداد للتحمل، والتحمل بمدى القدرة على ملاقاة الموت؛ ولذلك أيضًا كان الاستشهاد هو غاية الشجاعة، وكانت شهادة الدم هي تاج الشجاعة، يستوي بعد ذلك أن تكون هذه الشهادة في سبيل العقيدة أو المبدأ أو الوطن أو تحقيق رسالة الحياة. وما أتعس الزمن الذي تختفي فيه القدرة على الاستشهاد والاستعداد له، ويصبح المثل الأعلى للناس هو المحافظة على الحياة وتقديس الراحة والأمن والاستقرار! وما أصدق كلمة «جوته» في القسم الثاني من قصيدته الكبرى «فاوست»: «لا يستحق الحياة ولا الحرية إلا من يغزوهما كل يوم!»

نقول: إن الشجاع هو الذي يرضى بالجراح.

ولكنه لا يسلِّم بالجراح من أجل الجراح، ولا يرحب بالموت من أجل الموت، إنه يقبل أن يُجرَح أو يُضار في جسده أو نفسه؛ لكي يبقى شيءٌ آخر أكثر حقيقة من الجسد والنفس، وأعمق من الجرح والموت جميعًا، لنسمِّ هذا الشيء مبدأً أو عقيدةً أو فكرة أو ما شئنا من أسماء، فهو عند الشجاع حقيقة تستحق منه أن يفنى لكي تبقى بعده، ويقين يقربه من قلب الوجود وإن أبعده عنه في واقع الحياة؛ لذلك كان سقوط الشجاع ارتفاعًا وهزيمته انتصارًا وموته حياة، وليس عجيبًا — كما يُقال — أن يموت الشجعان دائمًا وعلى شفاههم ظل ابتسامة! ولا أن يقول أحدهم: إننا ننتصر حين نُسحق، ونفلت من القضاة حين نُساق أمامهم.٤

ومع ذلك فليس حتمًا أن يُجرَح الشجاع أو يموت، ولكن لا مفر من أن يعيش ويعمل دائمًا وفي فكره أنه يمكن أن يُجرَح أو يموت؛ ذلك لأن من صميم الشجاعة أن تدخل دائمًا في معركة، إمَّا أن تنتهي هذه المعركة في أغلب الأحيان بموت الشجاع أو بإصابته، فذلك قدر تفرضه طبيعة العالم الذي نعيش فيه، وهو عالمٌ يغلب عليه الشر كما نعلم جميعًا!

قد يقول القارئ: ولكن الشر قوةٌ هائلة وطاغية، وهو لا يمكن أن يختفي من الوجود؛ لأنه كامن في طبيعة الوجود، والحق أن الشر قوةٌ لا يمكن إنكارها، فنحن نلتقي ببشاعتها كل يوم، غير أن الصراع مع هذه القوة البشعة — بالمقاومة حينًا وبالهجوم حينًا آخر — هو — على التحديد — وظيفة الشجاعة، بل إن وجود الشجاعة نفسها — كما يقول القديس أوغسطين — هو الدليل الصريح على وجود الشر،٥ وإقدام الشجاع على محاربة الشر على اختلاف ألوانه وباختلاف البلاد والعصور، هو كذلك دليل على أنه قوة يمكن أن تُهزَم، وقد يكون صحيحًا أن هذه الهزيمة لن تكون مطلقة، ولكن الشجاعة لا بد أن تحاول الانتصار عليها في كل مرة؛ لأن هذا الانتصار لن يكون بدوره انتصارًا مُطلَقًا.

هل نكون بهذا قد أفسحنا المجال لنوعٍ جديد من الشجاعة، لعله لم يكن معروفًا في غير هذا الزمان؟ إن الشجاع الذي يستشهد من أجل مبدأ أو عقيدة يحس يقينًا أن موته لن ينصر هذه العقيدة أو ذلك المبدأ نصرًا مُطلَقًا، ومع ذلك فإن لديه من التفاؤل والثقة ما يدفعه على الإيمان بأن موته سيساهم في هذا النصر المؤكد الذي لا يشك في أنه آتٍ حتمًا في زمانٍ قريبٍ أو بعيد.

ولكن ما حال ذلك الذي يدخل في معركة مع عدو يعرف سلفًا أنه لا يقبل الهزيمة، وأنه وإن أفلح في نزع أظافره فلن يفلح في أن ينزع عنه الحياة؟ ألم يكن الأجدر به — وهو يحارب هذا العدو الذي لا يُهزَم — أن يوفر على نفسه عناء الدخول معه في معركة؟ أهناك معنًى لدمه المسفوك وهو يعلم أنه يبذله بغير طائل؟ نعم، ذلك نوع من الشجاعة لم تعرفه عصور الشهداء في مختلف العقائد والمذاهب والأديان، إنها شجاعة يمكن أن نسميها الشجاعة اليائسة، فهي تتحدى وتحارب وتستشهد وتعلم أن هذا كله لا معنى له؛ لأن الوجود كله عبث ولا معنى له أيضًا! وهي على العكس من كل ألوان الشجاعة التي عرفتها الإنسانية من قبل، متشائمة متجهِّمة الوجه، تقبل على الموت ثابتة العينَين مزمومة الشفتين، مؤمنة بأن مغامرة الإنسان كلها باطلة، إنها تدخل المعركة وكفى، لا تبتسم ولا تغني ولا تحلم بتاج النصر، وإنما تُقْدِم لأنه لا بد من الإقدام، وتدخل الحرب لأن العدو ينبغي أن يحارَب مهما كانت النتيجة، ربما لأنه ليس هناك أمل في القضاء عليه، وربما لأنه ليس هناك أمل في أي شيء على الإطلاق! ولأنها لا تريد أن تثبت شيئًا أو تؤكد مبدأً أو تنصر عقيدة، فكل هذه كلمات ضخمة لا تساوي لحظة التفكير فيها، ما الذي يدفعها إلى هذه التضحية اليائسة؟ ما الذي يدعوها إلى إسالة الدم المهدور؟ لا شيء أيضًا، فالنفي هنا أو العدم يطغى على كل شيء، ومع ذلك فلعله شيء يمكن أن نسمِّيه كبرياء القلق أو عذاب الضمير أو غريزة المغامرة المتجددة، مهما تكن هذه المغامرة فاشلة أو عقيمة، ولعلها أخيرًا الرغبة في تأكيد أن الإنسان الذي يعرف أن الموت لا مفر منه يريد كذلك أن يؤكد لهذا الموت نفسه أنه يرفض الاستسلام له، وأنه لن يموت إلا واقفًا على قدميه! كبرياء وتحدٍّ وعناد، لن تخلو في الحقيقة من روح التفاؤل العظيم ونبل البطولة المعذَّبة!

ولكن لنترك هذه الشجاعة اليائسة جانبًا، ولنعد إلى سؤالنا الأول عمن هو الشجاع؟

الشجاع يرضى أن يُصاب بالجراح، لا بل قد يرحب بها ويذهب إلى حد أن يعانق الموت نفسه، ولكن هل يرحب بالجرح أو الموت لذاتهما أم أن وراءهما شيئًا يهون في سبيله الموت كما تهون الجراح؟!

هنا ستختلف الآراء بسبب اختلافها في مفهوم الشجاعة؛ فهي ليست شيئًا مُطلَقًا، أو مُعلَّقًا في الفراغ، بل هي دائمًا شجاعة من أجل هدف نريد تحقيقه، فالقديس توماس الأكويني مثلًا يقول: «من أجل الخير يعرِّض الشجاع نفسه لخطر الموت»، وكذلك سيقول كل من يفهم الهدف من الحياة فهمًا دينيًّا أو أخلاقيًّا، فهو لا يرحب بالموت لذاته، بل يُسلِّم به حين يكون هو الطريق الوحيد إلى الخير، غير أن هذا يفترض بدوره أن يعرف الشجاع ما هو الخير، وأن تكون شجاعته في سبيل تحقيقه، وسواء بعد ذلك أن نَصِف هذا الخير بأنه معرفة حقيقة الوجود أو تحقيق المجتمع الأفضل أو رفع الظلم عن المظلومين … إلخ. ومِنْ ثَمَّ فإن في استطاعتنا أن نقول: إن الشجاعة — وإن كانت تتطلب أعظم التضحيات — ليست هي أولى الفضائل ولا أعظمها، إنها بطبيعتها تردنا إلى فضيلتين سابقتين تتلقى منهما معناها وحقيقتها، ألا وهما الذكاء والعدالة، فبغير الذكاء والعدالة لا توجد الشجاعة، والذكي العادل هو الذي يستطيع وحده أن يكون شجاعًا، «وليس عجيبًا بعد ذلك أن نجد المسيحية ترتب الفضائل الأساسية هذا الترتيب: الذكاء فالعدالة فالشجاعة فالاعتدال.»٦

أمَّا الذكاء، فلا صلة له بما نفهمه اليوم تحت هذه الكلمة من معاني «الشطارة» و«الدهاء» و«الفهلوة»؛ فليست هذه إلا حيلًا يحتال بها الجبناء لتفادي الخطر وتحقيق أكبر قدر ممكن من المنفعة، لا بل إن الذكاء بهذا المعنى أقرب ما يكون إلى الغباء والأنانية، أمَّا الذكاء الذي نقصده ونجعله شرطًا لا غِنى عنه للشجاعة فهو تلك الحكمة التي تجعل الإنسان يفهم كل شيء على حقيقته، وينظم سلوكه ومعرفته على أساس هذا الفهم الموضوعي للواقع؛ فالذكاء يعكس حقيقة الأشياء الموجودة من ناحية، كما يعكس «خيرية» السلوك من ناحية أخرى، أو لعل الأفضل أن نقول: إنه يترجم المعرفة بحقيقة الأشياء إلى السلوك الطيب الخيِّر في الحياة، وهو يُعَد بهذا المعنى أب الفضائل جميعًا، أو هو صورتها الباطنة، كما تكون النفس هي الصورة الباطنة للجسد. والشجاع مطالَب بأن يكون ذكيًّا، أعني أن تكون لديه المعرفة بحقيقة الأشياء، وبالسلوك الخيِّر الذي يطابق هذه المعرفة، فالذكاء هو الذي «يخبر» الشجاعة أو ينقل المعرفة إليها، وإذا كان يبصرنا بالخير في الواقع والسلوك، وكانت العدالة تسهر على تحقيق هذا الخير؛ فإن الشجاعة هي التي تحميه أو تمهد الطريق لتحقيقه؛ ولذلك لا يكون الشجاع شجاعًا حين يركب رأسه ويُعرِّض نفسه لكل ما هبَّ ودبَّ من الأخطار، وإلا لكان معنى هذا التهور الأعمى أن الحرص على حياته لا يساوي في قيمته ذلك الشيء أو تلك الأشياء التي يقدم عليها بغير تروٍّ. إن الشجاعة الحقة تفرض نوعًا من المعرفة والبصيرة والتقدير الصحيح للشيء الذي نُضحِّي به وللشيء الذي نريد أن نصونه ونُبقي عليه بهذه التضحية؛ ولذلك فلا يستطيع أحد أن يقول: إن دون كيشوت شجاع حين يهجم على طواحين الهواء ظنًّا منه أنها أرواح شريرة أو شياطين، فبقدر إعجابنا بمغامرته الهائلة يكون أسفنا للاندفاع الأعمى الذي يصحبها، وللآلام البشعة التي يُقاسيها الفارس الحزين!

الشجاع بصير، فهو يرى الواقع على حقيقته، ويُقدِّر الفعل الذي يناسب هذه الرؤية، إنه لا يزوِّر هذا الواقع ولا يبدِّل من قيمته؛ لأنه يعرف طعمه، ويقبله على علَّاته، إنه لا يحب الموت، ولكنه لا يتردد عن الإقدام عليه إذا وجد أنه لا مفرَّ منه لإنصاف قضيةٍ عادلة أو تحقيق قيمةٍ عالية، وهو لا يحتقر الحياة، ولكنه على استعداد للتخلِّي عنها إذا كانت ترتبط بالمهانة أو تحطُّ من الكرامة. والشجاع يخاف الموت؛ «فليس أبعد عن الشجاعة من عدم المبالاة أو من مغامرة تصدر عن يأس أو سأم أو تعب من الحياة»، إنه يقبل الأذى ويتحمل الجراح وقد يُقْدِم على الموت وهو يعلم أنها جميعًا شر لا غنى عنه. فليس الشجاع هو الذي لا يعرف الخوف، وإلا كان ذلك شيئًا يُنافي طبيعة البشر، بل هو الذي لا يضطره الخوف إلى قبول الشر ولا يمنعه عن تحقيق الخير، فالشجاع يخاف الشر ولا بد أن يخافه، ولكنه لا يدفع بنفسه إلى الخطر قبل أن يعرف مداه ويتحقق من أن الاندفاع إليه هو السبيل الوحيد لتحقيق الخير. إنه يُعرِّض نفسه لهذا الخطر، لا عن طموح إلى البطولة أو خوف من الاتصاف بالحبن، بل لأنه يعرف أنه شيءٌ مخيف ومع ذلك لا يمنعه الخوف من خوضه. ويصل الخوف من الخطر وانعدام الخوف منه مع ذلك إلى أقصى درجاته في الاستشهاد، هنالك يكون الشهيد هو الشجاع بالمعنى الحقيقي للشجاعة، وتكون الشهادة هي المقياس الحقيقي للبطولة، فهي عنوان الصبر والصمود — وهما من أهم ما يميز الشجاعة — ورمز الثقة بالنفس والإيمان بقيمة تعلو على الحياة والموت، وليس الشهيد من لا يخاف (فالمسيح نفسه كان يبكي ويصرخ وهو على الصليب)، بل هو الذي لا يمنعه خوفه من مواجهة المخيف، فإن سأل سائل: ولِمَ يستشهد الشهيد؟ قلنا: لأنه يجد أن الموت هو السبيل الوحيد للكشف عن عظمة الإنسان وإصراره على سيادة الخير وتحقيق العدالة، إنه يريد أن يفقد الحياة؛ ومن هنا كان صبره واستسلامه للعذاب، ومن هنا أيضًا كانت ثقته في نفسه وأمله في الإنسان. ولعلنا لا نجد أحدًا تتمثل فيه مفارقة الوجود الإنساني كما تتمثل في الشهيد، إنه يجمع بين ذروة القوة وهاوية الضعف، ولم يكن المسيح في يوم من أيام حياته أقوى منه وهو على الصليب ينزف ويصيح: «لِمَ تَرَكتَني؟» ألم يقُل لحوارييه: «ها أنا أرسلكم كغنم بين ذئاب» (إنجيل متى، ١٠، ١٦)، فالشهيد أو الشجاع العادل مضطر إلى الحياة بين الذئاب، والويل لمجتمع أو زمن خلا من الشهداء؛ لأن هذا معناه أنه لم يبق فيه إلا الذئاب، أو لم يبق فيه إلا الغنم والحملان!

هناك شجاعة سياسية، وهناك شجاعة صوفية، الأولى تقاوم ما يعترضها من صعاب من أجل تحقيق العدل، والثانية تسير بالنفس في «ليل العالم»، وتخترق بها ظلام المادة والحواس من أجل الاتحاد بالله، ومع أن النوعين من الشجاعة مختلفان، إلا أنهما ينبعان من نبعٍ واحد، وذلك هو التخلي عن الذات أو العالم والاستعداد للتضحية بالنفس في سبيل قيمة أسمى. كلاهما يحارب الشر في العالم، ويحدوه الأمل في النصر الأخير — فلولا هذا الأمل لاستحالت الشجاعة — ولكنهما على ما بينهما من اختلاف في الوسيلة والهدف، يحلمان بعالمٍ أسمى وأسعد، فالشجاع الذي يحارب الشر يضحِّي بنفسه؛ لكي يبني عالمًا جميلًا، أو مدينةً فاضلة وعادلة على هذه الأرض. وإذن فلا بد للشجاعة التي لا يهديها الذكاء ولا تجند نفسها لخدمة قضيةٍ عادلة من أن تكون شجاعةً فاسدة، فليست الجراح هي التي تصنع الشجعان والشهداء، بل القضية التي يُناضِلون من أجلها. ولا بد أن نسأل أنفسنا دائمًا حين نسمع عن إنسان شجاع: هل كان عادلًا؟ وهل كانت شجاعته من أجل العدالة؟

من المستحيل علينا إذن أن نقدر شجاعة الشجاع قبل أن تتوافر لدينا العدالة؛ فنحن لا نستطيع أن نطلب من ظالم أن يعرف حق الشجاع أو يحتمل وجوده؛ ذلك لأن الشجاع عادل بطبيعته، ولن يستطيع أن يفهمه إلا عادلٌ مثله، أعني شجاعًا مثله.

وإذا كُنَّا اليوم نحاول أن نقضي على ظلم القرون والأجيال، ونسعى جادِّين لبناء مجتمع اشتراكي تتوافر فيه الكرامة والحرية والعدالة، فإن من ألزم واجباتنا أن نسأل أنفسنا كل يوم — بل كل لحظة — عن معنى الشجاعة، ونجاهد — على الرغم من كل شيء — أن نحيا حياة الشجعان، على كل واحد مِنَّا في مجال عمله أن يسأل نفسه: هل قلت كلمة الحق؟ هل وجدت في نفسي الشجاعة الكافية لأصرخ في وجه الظلم والتبجُّح والغباء والفساد بأعلى صوتي قائلًا «لا!» أم أذلَّني الحرص الذي يُذلُّ أعناق «الرجال»، ففقدتُ الرجولة، أعني فقدتُ الشجاعة؟!

لا بد أن نسأل أنفسنا مثل هذه الأسئلة، إن كُنَّا نريد إقامة مجتمع الكرامة والعدل، أعني المجتمع الذي لا يَبْنيه إلا الشجعان.

١  جدير بالذكر أن الكلمة اليونانية التي تدل على الشجاعة أو الرجولة (وهي أندريا Andrea)، مثلها في ذلك مثل الكلمة اللاتينية «فورتيتيدو Fortitudo القوة والصلابة»، تشيران بوضوح إلى هذا المفهوم العسكري لمعنى الشجاعة.
٢  كما يعرفه أيضًا من الكتاب القيِّم الذي ألَّفه عنه الدكتور فؤاد زكريا، ونال عليه جائزة الدولة عن جدارة (صدر عن دار النهضة العربية، بالقاهرة، ١٩٦٢، ص٣٨٧).
٣  انظر على سبيل المثال: كتاب باول تليش الذي اعتمدتُ عليه كثيرًا في هذا المقال «شجاعة الوجود»، وخاصة الفصلين الأخيرين منه، مطبعة جامعة ييل، ١٩٦٢.
Paul Tillich: The courage to be, New Haven and London, 1953, Yale Univ. press, 1962.
٤  ترتوليان، الدفاع، ٥٠.
٥  مدينة الله، ١٩، ٤.
٦  راجع في هذا: يوسف بيبر، معنى الشجاعة، ميونيخ، دار نشر كوزال، ١٩٥٩.
Joseph Pieper: Von Sinn der Tapferkeit. Munxhen Kosel Verlag, 1959.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤