الفصل العاشر

الإدارة

«وقد اقترح بعضهم حديثًا أن يتعلم المرشحون أمورًا تفيدهم في مناصبهم الرسمية في مصر والسودان وشرع في إخراج هذا الاقتراح من القول إلى الفعل على سبيل التجربة»

اللورد كرومر سنة ١٩٠٥

أمام الإدارة المصرية دائمًا شبح هائله مخيف هو شبح الأمن العام، ولكن الإدارة المصرية لم تُوَفَّقْ يومًا واحدًا لتأمين نفسها صولة هذا الشبح، فأنواع العلاج التي التمستها له لم تكن تزيده إلا خللًا واعتلالًا، واللجج الزواخر التي رفعتها من صنوف العمل والتدبير كانت ولم تزل تتكسر على صخرته الصماء، ضاع المال الذي لا يُحصى في سبيل الأمن العام، ونفدت الحيلة التي أظهرها أصحاب السيطرة في القرن الأخير، وهي تجربة قاسية تنطق بأن اليد التي تحركت لتصلح كانت قادرة على إضاعة المال والوقت فقط.

من الممكن أن يخرجوا اللوائح والمنشورات التي وضعت خلال ثلث قرن المعالجة الأمن العالم من خلله فيبنوا بها جبالًا من الورق، ومن الممكن أن يعودوا إلى الوسائل التي التمسوها لمعالجة الأمن العام من سقمه ليروا كيف لا تتعارف إلا كما يتعارف الماء والنار، ولقد كان النفي الإداري آخر وسيلة استعيرت من سياسة القرون المظلمة ليصلح بها الأمن العام في القرن العشرين ولكنها لم تفلح أيضًا، فهل هذه الخيبة كلها لأن مصر وادٍ من أودية الشياطين فلا يستطيع البشر رياضة أهله على الخير؟ أو لأن الداء الدفين في صدور غير صدور أهل البلاد؟

الإدارة المصرية فروع ترجع إلى أصل معين، أو هي كأعضاء الجسد تستمد الهداية من الرأس، ولا ريب أن الحياة التي تدب في أصل الشجرة تتمشَّى في عروقها جميعًا، وإذا صلح الرأس صلح الجسد كله، وإن الأغصان الجافة الميتة لتدل على جفاف أصلها وموته، وفساد الأعضاء ناطق بفساد الرأس، كانت فروع الإدارة المصرية في أيدي المصريين، ولكن أصلها لم يكن في أيديهم فكيف اعتلت؟

وماذا كان يُعجز الإدارة عن تقويم الاعوجاج الدائم الذي أصيبت به قناة الأمن العام؟ لو أن إنسانًا نَشَرَ بين يديه تاريخ الإدارة في ثلث القرن الأخير لرأى أداة العجز، فهنالك أوامر مقرونة بأن تُطاع طاعة وحي السماء، تصدر عن آمر يرى أنه معصوم في مثل هذا البلد، فلا يقبل إرشادًا ولا يسمع تعليمًا.

حتى إذا شرعت فروع الإدارة في تنفيذها عافتها نفوس الناس؛ لأنها مقطوعة النسب بعاداتهم وأخلاقهم ومشاربهم وقوميتهم، وإذ ذاك تضطرب تلك القناة التي يُراد تقويمها في أيدي الموظفين المصريين، وما أسهل أن يُقال إن هؤلاء الموظفين عجزة قليلو الخبرة، تعوزهم الوصاية ويفتقرون إلى الإرشاد الطويل. ثم يتلو هذه الشهادة المقلوبة أن يخلو ذلك الآمر بنفسه قليلًا وما هي إلا أن يخرج بأمر جديد ينسخ الأمر القديم، وهكذا تتكرر هذه التجارب بل لا تزال إلى الآن، أما إثمها فعلى الموظفين المصريين وأما خيرها المزعوم فلغيرهم، وإذا ذكرت بعد ذلك قيل إنها تجارب صحيحة ولكن البلاد لم تتهيَّأ لها بعد!

قال اللورد كرومر في تقريره سنة ١٩٠٥ وهو يصف طريقة انتخاب الموظفين الإنكليز للمناصب المصرية: «يجب أن يكون عمر الطالب عند تقديم طلبه بين ٢١ و٢٥ سنة»، وأكثر هؤلاء إنما كانوا يَتَوَلَّوْنَ مناصب الإدارة، وأكثرهم لم يكن يخطئه الحظ فيقبض بيده على منصب من مناصب التفتيش، هؤلاء الشبان هم الذين قال عنهم اللورد كرومر أيضًا إن بجانب كل مدير في الأقاليم مفتشًا إنكليزيًا يساعده، وهم الذين قال عنهم: إن طلبهم وظائف الحكومة المصرية عظيم حتى بلغوا سنة (١٩٠٥): ٢٢٠ طالبًا بينما كانت الوظائف الخالية ١٤ وظيفة، ولا تدل شهادة الواقع على أن مديري الأقاليم أهل الخبرة والتجربة، وأبناء البلاد العارفين بأخلاقهما وعاداتها وما يصلح لها وما لا يصلح، لا تدل شهادة الواقع على أن مديري الأقاليم الممتازين بهذه الصفات كانوا يبرمون أو ينقضون أمام الإرادة التي يكتنفها نزق الشباب في ابن الحادية والعشرين أو الخامسة والعشرين، فلو أن الإدارة المصرية صلحت بعد ذلك لكان صلاحها رمية من غير رامٍ، أو كان إحدى خوارق العادات!

كانت هذه علة الإدارة، ولا تؤدي هذه العلة إلى غير نتيجتها الطبيعية وهي خلل كل شيء يرجع إليها ولا سيما الأمن العام، فإذا أضيف إلى العلة الإدارية علة حرمان الأمة من التعليم والتهذيب كملت أسباب الخلل وكان أمرًا واجب الوقوع.

إن وازع العلم أبلغ تأثيرًا في النفس من وازع القوة، وقد كان يجب أن يكون أول يوم فتح به ثلث القرن الأخير أو يوم يفتح به الإصلاح الجديد خاليًا من كل عيب، خالصًا من شائبة النية المنحرفة عن الاستقامة، قالوا يومئذٍ إن الإدارة مريضة تحتاج إلى العلاج، وكان يجب أن يقولوا إن بناء العلم الذي وضع أساسه محمد علي ورفع قواعده خلفاؤه من بعده يحتاج إلى إكمال، ولكن الذي حصل غير ذلك، الذي حصل أن دُكَّ بناء العلم، وعولجت الإدارة بعقاقير تضاعف الداء، ووُجِدَتْ مضاعفات لم تكن موجودة من قبل، وهي انسياب سيل المدنية الفاسدة على البلاد، وتفتق الشهوات الشيطانية بما فعله الطمع في ركوب متن هذه المدنية، أمسى الناس وأصبحوا، فإذا هم في ظلمة حالكة، مصباح العلم ينطفئ قليلًا قليلًا، وفساد الإدارة يتجلى بأشكال وألوان من المغارم، وشيطان المدنية الفاسدة يُغوي الناس أن يلقوا بأنفسهم في مهاوي الهلاك، وسوء العمل لحفظ الثروة الفردية يقتلعها من جذورها، أعجيب بعد هذا أن تكثر الجرائم، وتشيع المظالم، ويطغى الفساد، ويقتل الناس بعضهم بعضًا؟ كلَّا، ليس هذا عجيبًا، ولكن العجيب أن يكون خلافه.

وقد توفرت الأمثلة من غرائب العهد المعروف، وربما كان أغربها أن يصدر الأمر القاطع فيتلقاه موظفو الإدارة المصريون بالطاعة والتنفيذ، فإذا نشأت عنه أمور يوجب القانون أن يكون لها قصاص، سيق الموظف المصري الذي سمع وأطاع ونفذ إلى موقف القصاص، فلا يجد ما يدافع به عن نفسه إلا أن يقول في نجواه: «غيري جنى وأنا المعذب فيكم»، ولم تزل الذاكرة تحفظ قصة أولى بها أن توضع بجانب القصص التي تنسب إلى الشرقيين للسخرية منهم، ولم يَفُتِ الصحف الوطنية أن تشير إلى قصتنا هذه في حينها، غير أننا نرويها تفكهة للقراء.

قالوا في السنة الماضية: إن أحد معاوني الإدارة المصريين رفع قضية على الحكومة يطالبها بتعويض لأنها فصلته عن وظيفته بسبب غير قانوني، أما السبب الذي قضى بفصله فهو أن عظيم الكفاءة شديد الذكاء؛ ولذلك كان ينتقد أعمال بعض زملائه، فعلم المفتش الإنكليزي خبره فأمر بنقله إلى إقليم آخر ظهرت فيه كفاءته العظيمة وذكاؤه الشديد أيضًا، ولكن المفتش علم ذلك مرة أخرى فكتب بجرة قلم واحد يأمر بفصله، ومثل هذا الأمر لا بد مطاع.

هكذا رُوِيَتِ القصة وهي لم تَخْلُ من بيان الذنب الذي قضى أن يفصل صاحبها من عمله، ولكن ذنبه أنه كُفْءٌ تام الكفاءة، ذكي عظيم الذكاء.

فهَلَّا يفهم الناس من هذا أن الموظف المصري المستقيم الجدير بأن يخلد في وظيفته هو الغبي العاجز؟ وهل سمع الناس أن الغباوة والعجز شرطان لا بد منهما في الوظائف الإدارية؟ وكيف يُنْتَظَرُ بعد هذه القصة أن يصلُح أمر الإدارة في مصر إذا لم تتغير الحال غير الحال؟!

ومن بدائع اللورد كرومر قوله في تقريره سنة ١٩٠٥ فيما تصلح به حال الموظفين الإنكليز:

«وقد اقترح بعضهم حديثًا أن يتعلم المرشحون أمورًا تفيدهم في مناصبهم الرسمية في مصر والسودان، وشرع في إخراج هذا الاقتراح من القوة إلى الفعل على سبيل التجربة».

ولم يعلم أحد كنه هذه الأمور غير اللورد والمقترِحين والمرشحين المتعلمين والأساتذة الذين يعلمونهم، ولكنَّا علمنا أنها أمور تفيدهم في مناصبهم بمصر والسودان، فأية ناحية كانت تنحاز إليها فائدة تلك الأمور؟ ناحية مصر أم ناحية إنكلترا؟ هذا شيء تنطق الحقائق الواقعة بجوابه.

علم المصريون كلَّ ما تقدم، وعلموا مصيرهم معه فلم يطمئنوا إليه، بل كشفوا غطاءه بالنقد الصحيح، وجعلوا يتَّقون عاقبته بالعمل على قدر التحرك في القيود الثقيلة، نهضوا بالتعليم فكانت آثار الأمة فيه أضعاف آثار الحكومة، وجاهدوا في تهذيب الأخلاق وصيانة العادات وحفظ القومية، فرفعوا منار الأمة حتى سطع نوره فرآه العالم، واليوم ترفع الحجب عن الحقيقة المستورة، فيشهد الناس أن في مصر أمة راقية وأنها رقت بنفسها بين عقبات تعيي القادر الطليق، كذلك فعل البطل يدرك القوز في معارك الأبطال، ولو أنها لم تكن كذلك لما كانت سلالة آبائها الأولين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤