الفصل الثاني

مصر وتركيا

«ولكن عروة العواطف التي تربط مصر بتركيا كانت على وجه عام أقوى مما كان مظنونًا، وذلك رغم عدم الرغبة في سيادة الأتراك»

(المستر أرثر هور)

كلما تحرك المصريون في سبيل آمالهم، استطابت الصحف واستطاب بعض الكتاب والساسة أن يقولوا: إن هذه الحركات ليست إلَّا حنينًا لتركيا، وإن هذا الحنين ليس إلا فَورة المنزع الديني! ولكن الكلام عن آمال المصريين في حركاتهم، لم يكن خاصًّا بصحف إنكلترا وكُتَّابها وساستها، وإنما كان خاصًّا بهم أن يتجانفوا الحق في وصفها.

إن مصر الإسلامية تعلم من حكمة الإسلام وعدله ما يجمع لها الاستقلال المدني على أتم وجوهه، والتبعية الروحية على أتم وجوهها أيضًا، وقد أنصف المستر «أرثر هور» مراسل التيمس في الشرق الأوسط الحقيقة والتاريخ إذ قال: «ولكن عروة العواطف التي تربط مصر بتركيا كانت على وجه عام أقوى ممَّا كان مظنونًا، وذلك رغم عدم الرغبة في سيادة الأتراك».

غير أن المسألة تحتاج إلى بيان تنحسر به شبهة الباطل عن وجه الحق، فالذين يعرفون مصر وشعبها، والذين وقفوا على تاريخ النهضة المصرية منذ كانت لمصر قضية في تاريخ السياسة، يشهدون أن الشعب المصري لم يكن يأبى سيادة الأتراك المدنية ليقبل أية سيادة أخرى، ولكنهُ كان يأباها ليكون سيدَ نفسه وصاحب أمره، وهكذا كان الحكم الذي شرع الله له، لا فضل لأحدٍ على أحد إلا بالعدل والتقوى، وهيهات أن يرضى شعب لنفسه ما يرضى للسلعة تنتقل من يدٍ إلى يد بثمن أو بغير ثمن، فكيف بالشعب المصري وهو يحفظ قول «ابن الخطاب» حين اقتص لأحد المصريين من ولد «لعمرو بن العاص»: «متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا».

إذا كان المستر «أرثر هور» لا يرى غير أن يشير إلى أن مصر تأبى السيادة التركية، فإن مصر نفسها تجهر بأنها تأبى كل سيادة لأحد، بل أولى بهذا الإباء أن يكون ضرورة بديهية؛ لأن عروة العواطف القوية لم تصرفه عن تركيا، فمن البديهي ألَّا ينصرف عن غيرها لا سيما إذا انضم إليه ضعف العواطف أو عدمها كما يشهد المستر «أرثر هور» نفسه بقوله: «فلما انتصرنا في الحرب فوجئنا بعصيان أيقظنا من النوم، وظهر أن المصريين لا يحبوننا ولا يريدون الانتفاع بنا».

وقد لا يقتنع المعارضون إلا ببرهان أكثر وضوحًا وأوسع بيانًا. فإن كانوا كذلك قلنا: إن الإسلام يأبى أن يعيش محلول العروة، غير مستند إلى ركن ليس أرفع منه إلا الله، ولا يد فوقه إلا يد الله، وقد علم المسلمون في مصر وغيرها هذا الحكم من شريعتهم، وهم ينظرون اليوم كما نظروا منذ سبعة قرون فيجدون بقية هذا الركن في تركيا، ولا منافاة بين أن يجتمع الإخلاص للدين في حدوده المشروعة، والإخلاص للوطن في حدوده القومية، فالمصريون كغيرهم يريدون أن تبقى للمسلمين خلافة لا يتوسط بينها وبين الله شيء غير عنصر الإسلام، لتتم الولاية الروحية، وتستقيم عباداتهم وأوامر دينهم فيما بينهم وبين الله، ويريدون ألَّا تكون لأحد سيادة مدنية عليهم؛ ليشعروا بنعمة الحرية، وهي أعظم نعمة في الحياة.

نعم، يقول المصريون: نحن في عمل الدنيا المحض أولياء أنفسنا، وفي عمل الآخرة المحض تابعون إلى ولاية المسلمين الروحية العامة، فنحن نريد أن تكون هذه الولاية، وأن تبقى مصونة عن أن تكون فوقها يد غير يد الله، وليس لمن له بصيرة أن يتأوَّل هذا المعنى ليصرفه عن موضعه إلى الشحناء الدينية، فإن المثل قائم في المسيحية نفسها، فهناك ديوان الفاتيكان يأبى إلا أن يكون مستقلًّا، ويأبى الكاثوليكيون في كل بقاع الأرض إلا أن تكون له السيادة الروحية عليهم، وأن يكون محفوظ الكيان قوي السلطان، فهل قال أحد إن هذه العروة الوثيقة التي تربط أهل الكثلكة بالبابوية نزعة منهم إلى الشحناء الدينية أو تفريط في سؤددهم القومي؟!

على أن السيادة التركية المدنية التي أَلَحَّ عليها الزمن وجعل ينقصها من أطرافها حتى كانت في آخر العهد بها كالخيط دقة وكالطيف مثالًا، لم تكن قليلة الأثر في مدافعة الأيام، فقد كانت على ما بها من ضعف ووهن عقبة في سبيل الحالة الجديدة،١ وكانت النتيجة الضرورية لانقطاع ذلك الخيط الدقيق — لو أنه انقطع قبل الحرب الكبرى — أن تقف مصر وحدها مجاهدة لنفسها حيث لا تعينها قوة المشاكلة في الشعوب الأخرى، ولا ترفع يدها بحجة المبادئ والوعود التي خلقتها الحرب، فبقاء تلك السيادة إلى الوقت الذي خاضت فيه تركيا غمار الحرب أفاد القومية المصرية فائدة لا يختص بها مسلم دون قبطي.

في مصر أمة تعرف أنها كانت سيدة، وتعرف أن صاحب السيادة يأنف أن يكون مسودًا، وفي مصر المسلمون يأخذون بأيدي إخوانهم في الوطنية، عاملين جميعًا لغاية واحدة، هي أن يكونوا سادة أنفسهم في وطنهم، فلا المسيحي يشعر في وطنه بأنه مَسُودٌ، ولا المسلم يشعر بأن هناك سيدًا له ولابن وطنه الآخر، أما النجوى الروحية فلكل أن يناجي بها من شاء، ولكل أن يعترف بها في حدودها ومعناها لمن أراد، هذا سر العروة القوية التي تربط عواطف مصر بتركيا، وإن التاريخ ليشهد أن المصريين وقفوا أمام العثمانيين مواقف كثيرة يطلبون فيها استقلالهم المدني، بينا كانوا يحرصون كل الحرص على الخلافة، ويجيبونها إذا دعتهم لأمرٍ جليل لا يزيد سلطانها المدني عليهم، فهل غريب أن يقفوا هذه المواقف أمام غير العثمانيين؟ إنها إذن مشكلة لا تفهم!

هوامش

(١) هي الحماية التي أعلنتها إنكلترا على مصر في ١٧ ديسمبر سنة ١٩١٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤