الفصل الثامن

التجارة

«إن المكانة الاقتصادية لتجارة الصادرات المصرية قد ضعفت واضمحلَّت لأن تنوع المواد التي تتكون منها الصادرات أخذ في النقص بدل الزيادة، وهذا يجعل اعتماد القطر على البلاد الأجنبية أشد وأعظم منه في أي زمن سابق»

لجنة التجارة والصناعة

يحمل الزمن أعلام التجارة المصرية، ولكل عصر من عصوره التي مرت بمصر علم خافق.

إن التاريخ مرآة الماضي، والناس ينظرون في هذه المرآة صورة تنبئ باليد التي طوَّقت بها تجارة مصر أعناق الشعوب، ولكن هذا التاريخ سيقف مرعوش اليد حين يكتب صفحة التجارة المصرية في ثلث القرن الأخير، لا يدري أيصل حاضرها بماضيها وهو لا يتصل، أم يعزله عنه فيشين كتابه الأبيض بصفحة سوداء؟

تستمد تجارة الأمة قوتها وسعة انتشارها من نماء المنتجات، لا فرق في ذلك بين ما تنتجه الأرض وما تنتجه الصناعة.

وإن شواهد الحاضر الذي تغامر فيه الأمم العاملة والحكومات المخلصة لتدل على أن أيَّة أمة لم تكن تبني مجد تجارتها إلا بهذه الشواهد.

يجتهد كل شعب، أو تجتهد الحكومات المخلصة لشعوبها لتحرز السبق في عدة أشياء لا بد منها لإحراز النصر في معركة الأسواق، فالبلاد التي تخرج أجود الحاصلات من أرضها وصناعتها، والتي تعرف كيف ترى الأذواق وإلى أين تتجه، والتي تجمع بين الاتقان والجمال ومطابقة الأذواق مع إدراك الحيلة لجعل النفقة أقل ما تكون بالقياس إلى غيرها، البلاد التي تفعل ذلك هي بلاد الأمة التي تنزل تجارتها من الأسواق أرفع منزلة، وتنال من الربح أوفر نصيب، وتبلغ من شيوع الذكر وسعة الانتشار ما يسير كالطير في جوه، كل شعب عامل عرف ذلك قديمًا وحديثًا وسعى ليستأثر به دون سواه، وقد كان الشعب المصري كذلك أيام كان قدوة الشعوب في الثروة والحضارة والقوة والمجد، فهل له اليوم هذه المنزلة؟ كلَّا، فقد ضاعت وصار إلى منزلة البوار فأصبح عالة، تجارته من يد الغير وبيد الغير، وحاجاته التجارية من عند الغير، حتى لو أن هذا الغير أبى عليه مادة التجارة، لما رأيت في مصر تاجرًا وطنيًّا.

كلما كانت صناعة الأمة راقية، متمشية مع روح العصر، قائمة على أساس صحيح من الوسائل العملية، وكلما كانت زراعة الأمة نامية، جيدة الثمرة، كثيرة الأنواع؛ كانت تجارتها عظيمة رائجة، وقد رأينا كيف أصيبت الزراعة والصناعة في مصر، فليس عندنا من غلات الأرض ما ندخل به أسواق العالم إلا القطن، وهو مع ذلك محمول على قيود، بعضها يجذبه من منزلته العالية إلى الأسفل، وبعضها يختص غير المصريين بربحه العظيم ولا يترك لهم إلا بقايا قد لا يقنع بها المنتج غير التاجر.

قالت لجنة التجارة والصناعة:

«إن مكانتنا الاقتصادية ترتكز على محصول زراعي واحد وهو القطن، وفضلًا عن ذلك فهذا المحصول مُعَرَّضٌ من حيث قيمته وكَميته لتقلبات أشد وأعظم مما يصيب سائر المحصولات المعادلة له في الأهمية».

وإذا سألت عن غير القطن فقل: أين غلات الأرض المصرية وهي التي تُنبت كل شيء وينضر فيها كل نبات؟ أين أزواج الفاكهة من كل صنف وخزائن الغلات من كل نوع؟ أين البقول والألياف؟ وأين خشب الغابات؟ أين ما يتبع نماء الزراعة وسعة الأرض من تربية الماشية والطيور؟ وأين أوبارها وأصوافها وألبانها وزبدها وسمنها وعسلها؟ كل ذلك شيء لا أثر له في تجارة مصر، وقد كان من خصائصها، وكانت تفيض به على العالم أجمع.

إذا لم تكن صناعة ولا زراعة، ولا عمل للانتفاع بمزايا الأرض والحيوان، فأي شيء تستمد التجارة منه قوتها وتعتمد عليه في انتشارها؟

ليس هذا وحده هو الذي نسخ ظل التجارة المصرية من أسواق العالم بعد أن كانت ملئها، فإن هناك شيئًا آخر، هو عدم العناية بمعادن مصر ودفائنها من جامد وسائل، وقد كانوا يقولون سترًا على وصمة الإهمال إن القطر المصري ليس من الأقطار التي استودعتها الطبيعة كنوزَها المدفونة، غير أن التاريخ كان يصيح من جانب الصدق بأنه قول زور، واليوم أقامت «لجنة التجارة والصناعة» البرهان الرسمي على كذب هذا القول الذي كان شبه رسمي، قالت اللجنة:

«كان المصريون يمارسون صناعة التعدين وسبك المعادن بدليل وجود الكثير من الآلات الزراعية المصنوعة من النحاس والتماثيل المصبوبة من البرونز والحديد».

على أن ما حدث أخيرًا شهد بأن أصحاب تلك الدعوى كانوا يدَّعونها لغاية في نفوسهم أبرزتها صورة الشركات١ التي أُلِّفَتْ لاستخراج زيت البترول من آبار «هرجادة» و«جمسة» ولم يكن فيها أثر ليد مصرية، حتى ولا يد الحكومة!

ومن البديهي أن عناية الحكومات بمواصلاتها البرية والبحرية على قدر عنايتها بتجارتها الوطنية، ويمكن أن يقال إنك أينما وجدت سفينة تجارية تمخر عباب البحر؛ علمت أن العلم الذي يخفق عليها علم حكومة تحارب حربًا تجارية وطنية، ويقال نتيجة لهذا: إنك حيثما وجدت البحار خالية من سفينة تُنسب إلى حكومة موجودة في الأرض علمت أن هذه الحكومة دفنت تجارة وطنها فلم تعبًا بما ينقلها من بلدٍ إلى بلد.

وبعد ذلك هل يتفضل الزمن الذي ينطق بلسان العمل في ثلث القرن الأخير فيدل الناس على سفينة تجارية للحكومة المصرية وبعبارة أخرى للشعب المصري؟ إن لأشد الأمم ضعفًا وافتقارًا سفنًا تجارية وتجارة منتشرة، أما مصر فليس لها شيء من ذلك، لا لأنها عاشت على هذا الفقر قبل ثلث القرن الأخير، بل لأنه جاء فنزع سفنها التجارية من يدها. ولم تزل هذه السفن موجودة تشق البحار، فسلوها ما سبب جفائها؟ سلوا شركة البواخر الخديوية: كيف انتقلت سفننا التجارية إلى يدها، ثم سلوا الأيام تخبركم: لماذا انتقلت؟

كانت مصر ذات تجارة واسعة نامية تعتمد على زراعة وصناعة واسعتين ناميتين، وكان لها أسطول تجاري يشارف الناس في أوطانهم بمجد التجارة المصرية، وكانت قوتها التجارية تنبعث عن نشاطها لنفسها وهي طليقة، واليوم فلا تجارة إلا ما يجود به مَن كانت مصر تجود عليهم؛ لأن الزراعة جامدة على حال لم تتغير مع الزمن، والصناعة مشدودة الوثاق بحبال وسلاسل، وهذه همة الشعب تقطع سلاسلها وحبالها، والشعب يستمد القوة على ذلك من قلبه، من إخلاصه، من ثقته بنفسه، من الحق الذي لا يخذل، فإذا خذلته الأيام كان شأنها عجبًا!

هوامش

(١) هذه الشركات إنكليزية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤