الفصل الأول

(١) ما هو علم الاقتصاد السياسي؟

هو علمٌ يبحث في ثورة الشعوب والأسباب التي تجعل مرتبة أمَّةٍ فوق مرتبة أمَّةٍ أخرى في السعادة والرفاهية، والغرض منه الإرشاد إلى ما ينبغي القيام به؛ لتقليل عدد الفقراء والمساكين بقدر الطاقة، وإيقاف كلِّ واحدٍ على الوسائل التي توصله إلى اقتطاف ثمار عمله. ولا مراء في أنه توجد علومٌ أخرى ترمي إلى هذه الغاية بعينها كعلم الآلات؛ إذ بواسطته نهتدي إلى الحصول على القوة وكيفية التصرف فيها بما يساعد على إبراز نتائج الأعمال.

وعلم الكيمياء الذي نعرف به ماهية الجواهر النافعة الصالحة، وكيفية استخراج الألوان الزاهية، والصبغات الباهية، والأعطار الزكية، والزيوت النافعة من البقايا الكريهة الرائحة التي تتخلف من عمل الغاز، وعلم الفلك، ومن أهم منافعه الاهتداء على متن البحار والأقيانوسات وعلم طبقات الأرض، ويرشدنا إلى البحث عن الفحم الحجري واستخراج المعادن.

وليست هذه العلوم فقط ضروريةً لتقدم الإنسان وترقية شأنه وتحقيق سعادته، بل إن هناك علومًا اجتماعيةً أخرى ترجع إلى هذا الغرض كعلوم الحقوق مثلًا، فإنها تبحث عن الحق الشرعي لبني الإنسان، وعن الطريقة التي يحدد بها هذا الحق، وتكفله قوانين عادلة، وكذا علم الفلسفة السياسية؛ فإن القصد منه معرفة النظامات المختلفة للحكومة، ومزايا كل نظامٍ منها بالنسبة للآخر، وكذا علم الطب؛ فإنه يبحث عن أسباب المرض وعلل العاهات، وكذا علم الإحصاء؛ فإنه يحوي جميع الحوادث والأمور المتعلقة بمملكةٍ بأكملها أو بجزءٍ منها، فهذه العلوم كلها تهدينا إلى صراط الثروة والنعيم والعقل.

ولئن كان الغرض من هذه العلوم كلها هو عين الغرض من علم الاقتصاد السياسي، غير أن هذا العلم يمتاز عنها من جهة أنه يبحث في الثروة من حيث هي، وطرق التصرف فيها على الوجه الأحسن، وكيفية الاستفادة من العلوم الأخرى لاكتسابها. ومن الناس مَنْ يسيء الاعتقاد في علم الاقتصاد السياسي؛ لأنه يبحث في الثروة فقط من حيث هي، ويقولون: إن ثَمَّةَ أمورًا أَحرى من الثروة بالبحث والدراسة كالفضيلة والمحبة والكرم، ويودون لو تكون أبحاث العلماء قاصرة على هذه الأمور دون الثروة، مستندين على أن الإنسان في وسعه أن يُثري ويصير ذا سعةٍ بالحذق والمهارة في الأخذ والعطاء واكتناز نقوده كما يفعل البخيل الحريص على ماله، وحيث كان الأحسن والأولى هو صرف النقود في مصلحة الأهل والأقارب والخلَّان والجمهور على العموم، فقد ذهب فريقٌ إلى الطعن في مبادئ الاقتصاد السياسي. ونحن إذا تأملنا في حقيقة هذا العلم نجد أن لا محل لهذه المطاعن، ولا لاعتراضات المعترض عليه بقولٍ من تلك الأقاويل؛ إذ إنه قد غاب عن ذهنه أن الواجب أن يكون موضوع بحث أي علمٍ من العلوم شيئًا واحدًا، وأنه لا يمكن تلقينه جملة علومٍ اجتماعيةٍ كرة واحدة لإيقافه على حقيقة الغرض من ذلك الموضوع، وبديهيٌّ أنه لا يصح التنديد بعلم الفلك مثلًا لأن موضوعه دراسة الكواكب فقط، أو بالرياضيات لأن موضوعها الكمية والأعداد لا غير، وإلَّا اضطر المبتدئ لأجل الوقوف على هذه العلوم إلى درسها في مؤلفٍ ابتدائيٍّ يشمل معًا علوم الفلك، وطبقات الأرض، والكيمياء، والطبيعة، والفسيولوجيا … إلخ، وهو محالٌ. وكما أنه يوجد عدة علومٍ طبيعيةٍ ينبغي دراستها منفردةً عن بعضها، كذلك يوجد عدة علومٍ اجتماعية، لكلٍّ منها بحثٌ مخصوصٌ هو الغرض المقصود بالذات منها، وليست مباحث متعددةً يكون الكلام عليها مجملًا.

(٢) الوساوس التي رسخت في اعتقادات البعض بشأن الاقتصاد السياسي

إن العلم الذي نتصدى لدراسته قد كان في كلِّ وقتٍ مجالًا للظنون والوساوس من الذين لم يقفوا عليه الوقوف التام، ولا ريب في أن هذه الظنون والوساوس ناشئة من ادِّعائهم الإلمام بكلِّ ما له مساسٌ بالاقتصاد السياسي، وهم مع ذلك لم يَرِدوا حياضه ولم يقتربوا من سواحله، ومعلومٌ أنه لا شخص من ذوي الطباع المستقيمة والأذواق السليمة يجسُر على معارضة الكيماوي فيما يختص بفنه، والفلكي فيما له مساسٌ بالكسوف والخسوف، والجيولوجي العارف بطبقات الأرض فيما يتعلق بالصخور والأحافير، ولكن نرى جميع الناس يبدون آراءهم بأية كيفيةٍ كانت فيما يختص بالتجارة، وتأثير ارتفاع الأجرة، والضرر الناشئ من العمل بأثمانٍ بخسةٍ، إلى غير ذلك من المسائل ذات الدرجة العلية في الأهمية الاجتماعية. فأولئك الناس لا يدرون أن هذه الموضوعات أصعب إدراكًا من إدراك الكيمياء والفلك والجيولوجيا، وأن العمر بأكمله إذا أُفنِىَ في مدرسة قواعد تلك الموضوعات لا يتسنى الكلام عليها مع الوثوق من سلامة الوقوع في الزلل، على أن ذلك الفريق المكابر مع أنه لم يتصدَّ يومًا لدراسة الاقتصاد السياسي، يدَّعي أنه على وقوفٍ تامٍّ بقواعده ومبادئه.

وإذا بحثنا عن أسرار تهافت أولئك القوم على مثل هذه المدعيات الباطلة، نجد أنه كان يوجد في الأزمان الغابرة فريقٌ يبغض دراسة العلوم الطبيعية وينفر منها، كذلك يوجد الآن فريقٌ من الناس يعرضون عن علم الاقتصاد السياسي، وينأون عنه بجانبهم؛ وذلك لأن الإنسان فُطِرَ على المضيِّ مع ما تميل إليه أهواؤه ومزاعمه الباطلة، فإن استَلْفَتَ العارف أنظاره إلى أنه إنما يقصد الوصول إلى غايةٍ معلومةٍ من طريق غير الموصلة إليها، وربما كانت مناقضةً لهذه على خطٍّ مستقيمٍ، جاهر بالغيظ والغضب، وهذه الحالة تنطبق على الإحسان أو الصدقة؛ فإن كثيرًا من الناس يظنون أن من الثواب ومكارم الأخلاق إسداء الحسنة لمَنْ يسألها من الفقراء بدون نظرٍ إلى التأثير الذي تحدثه الصدقة عليهم، وإنما ينظرون بعين السرور وانشراح الصدر إلى أنهم أتوا عملًا صالحًا، ولكنهم لو تأملوا في عواقب هذا العمل الصالح وهو تكثير عدد السائلين، لَمَا أقدموا على عمله وانتظار المثوبة منه، ولو تأمل المتأمل في حقيقة ما يحصل أمامنا علنًا من الآثام العظام والذنوب الكبيرة، لوجدنا معظمها نتيجة صدقات الماضين الذين لم يفهموا معنى الصدقة الحقيقية، فكانوا سببًا في أن كميةً وافرةً من الأمة أخْلَدت إلى الكسل والسكون وعدم المبالاة بالبحث عن المعيشة بالكد والكدح، فالغرض المقصود من علم الاقتصاد السياسي هو البرهان على أن الواجب ليس إهطال الإحسان والصدقة بلا رَوِيَّةٍ ولا تدبيرٍ، وإنما هو الالتفات إلى تربية الشعب وتدريبه على العمل، وإرشاده إلى طرق اكتساب المعيشة، واقتصاد شيءٍ مما اكتسبه لينفعه في أيام الشيخوخة، حيث تخور القوى ولا تعود صالحةً للكدِّ والتعب، وإذا لم يتدبر في اقتصاد شيءٍ لهذه الغاية، فعليه أن يتكبد عاقبة سوء تَبَصُّره، ويتجرع كأس اغتراره بالمستقبل، ولكن لما كانت هذه المعاملة تظهر أنها على مكانٍ من الصعوبة والقسوة، فقد أنحى المبالغون في الرأفة بالفقراء والشفقة عليهم باللوم والتنديد على علم الاقتصاد، وقالوا: إنه علمٌ قواعده صارمةٌ، وإن القصد منه توسيع ثروة الأغنياء وإهلاك الفقراء.

وهو خطأٌ بيِّنٌ؛ إذ إن العالم الاقتصادي حينما يبحث عن الوسائل التي تمهد للإنسان طريق الوصول إلى الثروة والغنى، لا يقول: إن الواجب على الغني المحافظة على ماله كالبخيل أو الإسراف فيه كالمبذر السفيه، فإن علم الاقتصاد لا يحتوي مطلقًا على ما يُستفاد منه إلزام الغني بصرف ماله في غير طريق الخير إذا كان في طاقته الأخذ بيد القريب، ومعاونة الرفيق، وإنشاء الأماكن العمومية النافعة كخزانات الكتب وديار التحف والمستشفيات والمدارس وما شاكل، وتخفيف أعباء المصائب عن عواهن الذين ليس بحوزتهم ما يَقون أنفسهم به منها، وواجبات الشفقة تحتم على الأغنياء أن يوافوا أرباب العاهات والأمراض المعجزة بالمساعدة اللازمة التي تقي حياتهم من غوائل الخطر الناشئ من الحاجة. وجملة القول: إن أقصى ما يودُّه الاقتصادي أن توضَع الصدقة في محلها، بحيث لا تكون سببًا في ضرر الذين يُرام بها مساعدتهم؛ إذ كثيرًا ما كان فعل الخير يؤدي إلى الضرر البليغ بذات المقصود لمصلحته هذا الفعل.

ومما نذكره هنا مع الأسف الزائد والحزن الشديد، أن آلافًا مؤلفةً من الناس يسعون وراء تحسين أحوالهم الاجتماعية باستعمال وسائط تؤدي إلى ضد الغاية التي يرومون الحصول عليها، كالاعتصام والإضراب عن العمل، ورفض استعمال الآلات، وإلى غير ذلك من الأفعال التي تشف عن رغبتهم في تحصيل الثروة بلا كدٍّ ولا كدحٍ.

ومثل هذا حاصلٌ في مسألة حرية المبادلة التجارية التي تقضي على بعض شعوب أوروبا، ومنها إنكلترا بإطلاق الحرية التامة للتجارة، على أن عند الشعوب الأخرى — ومنها مستعمرة أستراليا — قوانين يُقصد بها توسيع نطاق الثروة، وإفاضة الخيرات على الأهلين مع منعهم من استعمال المحصولات الوافرة الواردة من البلاد الأخرى، ويزعم فريقٌ من الناس أنه لا يمكن زيادة الثروة بإحداثها، حيث يمكن إحداثها بكثرةٍ وسهولةٍ، فإن كل مركزٍ من مراكز التجارة، وكل مدينةٍ، بل كل أمةٍ يجب عليها أن تصدِّر إلى غيرها ما يمكنها تصديره بثمنٍ بخسٍ، كما يجب عليها أن تشتري المحصولات الأخرى من حيث يمكنها الحصول عليها بسهولةٍ وبخس ثمنٍ.

فعلم الاقتصاد السياسي يتعلم الإنسان منه التبصر في العواقب، والبحث عمَّا يعود منه الخير الشامل للعشيرة، بل للأمة بتمامها، وإذا نظرنا إلى ثروة إنكلترا في الوقت الحاضر نجد الجزء الأعظم منها نتيجة السير بمقتضى القواعد التي وضعها العالم آدم سميث Adam Smith في كتابه الذي سماه «ثروة الشعوب»، فلقد بيَّن في هذا المؤلف الجليل فائدة حرية العمل وحرية التجارة، وقد مضى على تصنيف هذا الكتاب نحو مائة سنةٍ تقريبًا، ومع ذلك فلم يجسُر أحدٌ على معارضة ما جاء فيه من التعاليم المفيدة. ومن المؤكد أن الشعب إذا لم يقف على قواعد الاقتصاد السياسي فهو مضطرٌّ بالطبع إلى استنباط قواعد في هذا العلم يخالها منطبقةً على منافعه تمام الانطباق، ولو لم تكن من الصحة والاستقامة في شيءٍ، وهذا من الأدلة الدامغة على حاجة الإنسان — ذكرًا أم أنثى — إلى قواعد من ذلك العلم تنزل منه منزلة الدليل المرشد إلى سبل المنفعة الثابتة.

(٣) تقسيم علم الاقتصاد السياسي

إن تقسيمات هذا العلم هي عين فروعه التي سيكون ترتيب هذا الكتاب جاريًا على منهاجها، فالذي ينبغي أن نعلمه أولًا هو معرفة الغاية من الثروة التي هي موضوع هذا العلم، ويأتي بعده تبيين كيفية استعمالها والتصرف فيها، وفي هذا الفرع يرى القارئ أنه لا يصح إطلاق لفظ الثروة على شيءٍ إلا إذا أمكن تطبيق هذا الشيء على مصلحةٍ ما، وأنه قبل الحصول على الثروة يجب الوقوف على طرق استعمالها والاستفادة منها، وفي الفرع الثالث يعلم القارئ كيفية تحصيل الثروة وإيجادها، وفي الفرع الرابع كيفية توزيعها على طبقات الناس الذين كان الغرض من كدِّهم وتعبهم إيجادها والحصول عليها.

وجملة القول نقول: إن علم الاقتصاد السياسي يبحث في أمورٍ أربعةٍ؛ وهي أولًا: المادة. ثانيًا: الاستنفاد أي الاستهلاك. ثالثًا: إحداث الثروة وتحصيلها. رابعًا: توزيعها.

والكلام في هذه الموضوعات كلها يستلزم الإلماع إلى ذكر الضرائب والرسوم، فإنه لا بدَّ لكلِّ بلدٍ تخصيص جزءٍ من ثروته لأجل القيام بمصاريف الدفاع عن البلاد وحكومة الأمة، ويمكن ضمُّ الفصل الخاص بالضرائب إلى القسم الرابع من أقسام علم الاقتصاد السياسي وهو قسم توزيع الثروة.

(٤) في الكلام على الثروة والمحصولات الطبيعية

إذا اقتصرنا في تعريف الاقتصاد السياسي بقولنا: إنه العلم الباحث عن الثروة، وكنَّا لا نعلم ماهية العلم ولا ماهية الثروة، لكان ذلك التعريف غير كافٍ لإبانة المعرف، وإذا عُرِّفَ حدٌّ بواسطة حدودٍ أخرى، فالذي ينبغي لنا هو فهم هذه الحدود؛ لكي يكون الموضوع واضح المعنى، وعليه فلنعرِّف معنى الثروة فنقول:

لا ريب في أن العدد العديد من الناس يتوهم أن ليس هناك صعوبةٌ في فهم معنى الثروة، وأن الصعوبة الوحيدة هي الحصول عليها، وهو غلطٌ فاحشٌ؛ إذ يوجد كثيرون اغتنوا بأنفسهم، ومع ذلك فإن القليل منهم — وربما كان لا يوجد واحدٌ منهم — يقدر على تحديد معنى الثروة، وفي الواقع فإنه ليس من السهل حل هذه المسألة وتمهيد هذه المعضلة.

والراسخ في معتقد العامة أن الثروة عبارةٌ عن نقودٍ مصنوعةٍ من معدنٍ نفيسٍ هو الذهب أو الفضة، وأن الإنسان المثري هو الذي يمتلك خزانةً من الحديد تحتوي على أكياسٍ ملآنة بالذهب أو الفضة، ولكن الحقيقة على نقيض ذلك؛ إذ من الثابت على العموم أن الأغنياء ليس في حوزتهم إلَّا قليلٌ من أموالهم، وأما الباقي فمودعٌ في بنوكة المضاربات.

وربما يُقال: إن المثري هو الذي يمتلك مساحةً فسيحةً من الأرض، على أن الثروة التي من هذا القبيل لا تتوقف على اتساع الأرض وانفساح مداها، وإنما على موقعها وطبيعتها؛ لأنه إذا اعتُبر المالك لقطعةٍ من الأرض في إنكلترا غنيًّا، فهو إذا امتلك قطعةً مساويةً لها في المساحة بأستراليا لا يُعتبر كذلك، ودليل ذلك هو أن متوحشي أستراليا الذين كانوا يمتلكون أراضي هذه البلاد قبل استيلاء إنكلترا عليها — ولا يخفى عِظَم مساحة هذه الأراضي — كانوا يتكبدون الفقر المدقع؛ ومن هنا يؤخذ بالصراحة أن الأرض وحدها ليست الثروة.

وفي هذه الحالة يمكن أن يُقال أيضًا: إنه لكي تكون الأرض ثروةً يجب أن تكون كثيرة الخصب والبركة، جيدة التربة، تتخللها جداول الماء الكثيرة الأسماك، وتحتوي على أحراشٍ يُنتَفَع بأخشابها، ويجب أن تبطن أرضها الكميات الوافرة من الفحم والحديد والنحاس ومعادن الذهب، ثم إذا كان البلد الذي فيه هذه الأرض جيد الطقس حاضر الشمس وافر المياه، فلا شكَّ في أنه يُعد من البلدان الغنية الكثيرة الخير والبركة، ولا ننكر أن هذه الأشياء سُمِّيَت أموالًا طبيعيةً، غير أننا لم نذكرها هنا إلا لنبين أنها ليست في حدِّ ذاتها الثروة المقصودة بالذات، ولا يخفى أنه توجد شعوبٌ كثيرةٌ تعيش في بلادٍ أموالها الطبيعية غزيرةٌ جدًّا، كهنود أميركا الشمالية الذين كانوا يعيشون في موقع الولايات المتحدة الآن، وهم مع ذلك في أخفض درجات الفقر؛ لأنهم لا يقدرون أو لا يريدون بذل مجهوداتهم لتحويل هذه الأموال الطبيعية إلى ثروةٍ أصليةٍ، كما يوجد شعوبٌ أخرى كالهولانديين مثلًا يعيشون فوق أرضٍ تكاد تكون عديمة الخير والبركة، ومع ذلك فهم في أرفع درجات الثروة والغنى بحذقهم ومهارتهم وصناعتهم وحسن تدبيرهم، ومن هنا يُعلَم أن الثروة أشدُّ علاقة بالمهارة والعمل منها بالأرض الخصبة والإقليم المعتدل، وهذا لا ينفي ضرورة خاصيتَي الخصوبة واعتدال الطقس في صيرورة ثروة أية أمةٍ معادلة لثروة أمة إنكلترا أو فرنسا أو الولايات المتحدة … إلخ.

(٥) ما هي الثروة؟

عرف الكاتب الاقتصادي الشهير ناسوسنيور الثروة بهذه الكلمات: «الثروة تشمل جميع الأشياء القابلة للتداول، المحدودة بالكمية، والتي تكون جالبةً للسرور أو مذهبةً للتعب بواسطةٍ أو بدون واسطةٍ.» وتوضيح ذلك هو أن جميع ما تشمله لفظة «ثروة» يجب أن تتوفر فيه ثلاثة أمورٍ يمتاز أحدها عن الآخر، وكلُّ شيءٍ توفرت فيه هذه الثلاثة أمورٍ حُكم بأنه جزءٌ من الثروة، وإذا استبدلنا هذه الجملة الطويلة «تكون جالبةً للسرور أو مذهبةً للتعب بواسطةٍ أو بدون واسطةٍ» بلفظة «نافعة» التي تؤدي معنى هذه الجملة بتمامها نقول: إن الثروة هي ما كانت:
  • أولًا: قابلةً للتداول.
  • ثانيًا: محدودة الكمية.
  • ثالثًا: نافعة.

فيبقى علينا الآن أن نفهم الغرض من كل هذه الصفات الثلاث، ونقف على معنى الثروة متى تكون قابلةً للتداول ومحدودة الكمية ونافعةً فنقول:

(٦) الثروة قابلة للتداول

الشيء القابل للتداول هو الذي ينتقل من حوزة شخصٍ إلى حوزة شخصٍ آخر، وتختلف كيفية الانتقال؛ فتارةً يكون عبارة عن انتقال الشيء نفسه انتقالًا حقيقيًّا كانتقال الكتاب من يدٍ إلى أخرى، وتارة يكون بواسطة عقدٍ محررٍ، أو امتلاكٍ شرعيٍّ كانتقال ملكية الأراضي والمنازل.

والخدمة التي يقوم بها الخادم لمولاه من الأشياء القابلة للانتقال، وكذلك نغمات الموسيقى ونصائح الواعظ، ومع ذلك فقد توجد أشياء كثيرةٌ نافعةٌ لا يمكن انتقالها من شخصٍ إلى آخر، مثال ذلك: أن السيد الغني يمكنه أن يكري خادمًا، ولكنه لا يقدر على شراء اعتدال صحة هذا الخادم، ويمكنه أن يكري معارف أحسن طبيبٍ، ولكن يتأتى أن هذه المعارف لا تفيد الصحة، وكذلك يستحيل في الحقيقة شراء أو بيع محبة الأقرباء واحترام الأصحاب وسعادة الضمائر الخالصة النقية، وبناءً على ذلك فعلم الاقتصاد السياسي لا يبحث عن أسباب السعادة؛ لأن هذه الثروة الأدبية التي لا تُشتَرَى ولا تُبَاع ليست من معنى الثروة التي نحن بصدد الكلام عليها بشيءٍ مطلقًا. وبديهيٌّ أن الفقير ذا الذمة الطاهرة والضمير السليم والصاحب المخلص والصحة الجيدة يمكنه في الحقيقة أن يكون أسعد من الغني المحروم من هذه المزايا، ولكن نقول من جهةٍ أخرى: إن الإنسان إذا حاز هذه المزايا لا تتوقف ثروته وغناؤه على حرمانه من فوائدها، فيُستنتج من هذا أن الثروة محمودةٌ في نفسها؛ لأنها تقي الإنسان من الاحتياج، وترفع عنه كلفة الأعمال القاسية.

(٧) الثروة محدودة المقدار

ومن وجهٍ آخر لا يمكن أن يكون الشيء ثروةً إلا إذا كان محدود المقدار، فإذا كان في قبضتنا من أي شيءٍ ما نرومه منه، فكلُّ كميةٍ أمكننا الحصول عليها من هذا الشيء نفسه لا تقع لدينا موقع الاعتبار، ومن الشواهد على ذلك الهواء الذي يحيط بنا، فإنه في الأحوال العادية لا يصح أن يُحسب ثروةً؛ إذ للحصول عليه ليس على الإنسان إلَّا أن يفتح فاه ويستنشق منه ما يستطيع، ولا مراء في أن هذا الهواء الذي نستنشقه نافعٌ جدًّا للحياة، غير أننا لا ندفع شيئًا من النقود نظير استعماله؛ لأن الموجود منه غزيرٌ ويكفي جميع العالم، أما إذا صارت كمية الهواء محدودةً كما يكون في ناقوس الغواصين أو بداخل مناجم المعادن، فإنها ولا شكَّ تُحسَب ثروةً تبذل دون الحصول عليها المبالغ الطائلة، ولا بدَّ أن يحصل ذلك إذا نُفذ مشروع الذين اقترحوا إنشاء سرداب تحت بحر المنش يوصل بلاد فرنسا بإنكلترا.

وهذا حجر الماس مع ارتفاع قيمته لا يصلح إلَّا في أمورٍ قليلةٍ، منها أنه يُستَعمَل للزينة أو لقطع الزجاج أو خرق الصخور، والسبب في ارتفاع قيمته ناشئٌ على الخصوص من قلته وندورته، ولكن لا يصح أن تكون الندورة فقط علة ارتفاع القيمة؛ إذ يوجد كثيرٌ من المعادن النادرة جدًّا تبقى بخسة القيمة حتى يظهر لها استعمالٌ خاصٌّ فيرتفع ثمنها بنسبة الرغبة فيها، ومن الأمثلة على ذلك معدن الإريديوم، فإنه يُباع بثمنٍ رفيعٍ؛ لأنه يصلح في عمل ألسنة الأقلام المصنوعة من الذهب، وغيرها من المصنوعات الدقيقة، وما يستخرج من ذلك المعدن القليل.

(٨) الثروة نافعةٌ

ومن وجهٍ ثالثٍ يمكننا أن نميز بسهولة أن كلَّ ما يدخل في تركيب الثروة يكون نافعًا، أو أعني يُستعمل في مصلحةٍ ويكون محبوبًا ومرغوبًا بطريقةٍ من الطرق، وقال سنيور Senior — وقوله الحق الصحيح: إن الأشياء النافعة هي التي تجلب السرور وتذهب العناء بواسطةٍ أو بدون واسطةٍ، مثال ذلك الموسيقى المتطابقة التواقيع المُؤداة أحسن أداءٍ، تكون من بواعث السرور، وكذلك الدواء المخفِّف لوطأة الألم على المريض، فإنه من جالبات السرور ومذهبات العناء، وكذلك تناول الأطعمة، فإنه يدفع ألم الجوع ويحدث لذة أكل الأغذية الطيبة. وبالجملة فالفائدة أي النفع موجودةٌ كلما ازداد السرور وقلَّ العناء، ولسنا نتعرض إلى البحث في ماهية هذا السرور وطبيعته؛ لأنه لا يهمُّ في علم الاقتصاد السياسي، كما لا نتعرض إلى تحديد وتعيين الأشياء الجالبة للسرور بدون واسطةٍ كالثياب التي تقي أجسامنا، أو بواسطةٍ كالآلات التي استُخدمت لعمل هذه الثياب، وتكون الأشياء نافعة بالواسطة إذا صلحت في اصطناع الأشياء التي يستنفدها الأفراد فيما بعد، كالآلات والعِدد والمواد الأولية (الخام) … إلخ، أما المركبة التي نتمتع بالنزهة في الخلوات فوقها فالمنفعة منها لا واسطة فيها، وهي بخلاف عربة الفران التي تأتي لنا بالعيش من الفرن كلَّ يومٍ، فإن الفائدة منها بواسطةٍ، ولكن يصعب في بعض الأحايين تمييز الفرق بين الحالتين، كما لو قلنا إن الغذاء الذي يدخل في الفم نافعٌ بلا واسطةٍ، وإن الملعقة التي توصل هذا الغذاء إليه نافعةٌ بواسطةٍ.

(٩) البضاعة

قد علمنا الآن بالدقة والضبط ماهية الثروة، ولكن بدلًا من استعمال هذه الكلمة على الدوام سنستبدلها فيما سيأتي الكلام عليه من موضوعات هذا الكتاب، تارةً بلفظة البضاعة، وتارةً بلفظة المال.

والبضاعة هي كل جزءٍ من الثروة محدود الكمية، نافعٌ قابل للانتقال، مثال ذلك: الصوف والقطن والحديد والشاي والكتب والأحذية … إلخ، تُعَدُّ من البضائع في بعض الظروف وليس في كلها؛ لأن الصوف الموجود على جسم الشاة الهائمة في الأودية والجبال لا يُحسَبُ بضاعةً، ومثله الحديد الموجود داخل المنجم ولم يُستَخرَج منه، فالبضاعة بناءً على ذلك هي كلُّ شيءٍ نافعٍ حقيقةً، مرغوبٌ فيه، يمكن بيعه وابتياعه.

وبدلًا عن استعمال لفظة البضاعة سنستعمل في الغالب كلمة المال؛ لأنها أعم وأسهل في النطق، مع تذكير القارئ بأن ألفاظ المال والبضاعة وأجزاء الثروة متكافئة المعنى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤