الفصل الثاني عشر

في العُملة

(١) في المبادلة

قد تكون التجارة بواسطة المبادلة، فيعطي الإنسان شيئًا ويأخذ شيئًا بدله غير العُملة، كما لو أعطى قمحًا وأخذ سكرًا أو كتابًا وأخذ نظارةً، وهذه هي الطريقة المستعملة عند الأمم المتأخرة في التمدن، فالسائح في أواسط أفريقيا يأخذ معه كميةً وافرةً من الغلال والقلائد والخناجر ويعطي هذه الأصناف للأهالي مقابلة ما يؤدونه له من الخدم أو القوت، وتُستعمل المبادلة في بعض الأحيان بين أفراد الأمة الإنكليزية أو الأميركانية، ولكنها من باب النادر لما فيها من الارتباك.

فلو احتاج الإنسان إلى نظارةٍ وكان عنده كتابٌ لاضطر إلى بحثٍ طويلٍ حتى يهتدي على شخصٍ عنده نظارة يريد استبدالها بكتابٍ، ولو وجده محتاجًا إلى كتابه دون غيره لكان ذلك من أغرب الصدف، وفضلًا عن ذلك فربما أن قيمة الكتاب تزيد أو تنقص عن النظارة، ولا يمكن من كان عنده نظارةٌ جيدةٌ أن يشطرها شطرين، يعطي كلَّ واحدٍ منهما إلى شخصٍ معلومٍ بدون أن تضيع قيمتها.

(٢) في مزايا العُملة

إن العُملة تزيل صعوبات المبادلة؛ لأنها عبارةٌ عن بضاعةٍ قابلة للتجزئة ومقبولة عند جميع الناس بصفة مبادلةٍ، ويمكنه اعتبار جميع أنواع السلع عُملةً، فقد كانت الغلال في الأزمان الماضية عُملة للبلاد الزراعية، فكان الفلاح يخزن غلاله حتى إذا احتاج لابتياع حصانٍ أو عربةٍ دفع الثمن غلالًا، وإذا فرضنا أن العُملة المستعملة هي الغلال، وأراد شخصٌ استبدال عربةٍ بمحراثٍ فلا يضطر إلى البحث عمَّن يأخذ العربة ويعطيه محراثًا، بل يستبدل العربة بجانبٍ من الغلال، ثم يستبدل الغلال بمحراثٍ، وإذا زادت قيمة العربة عن المحراث لكفى صاحب المحراث إعطاء صاحب العربة شيئًا من الحبوب لإتمام الموازنة، فوظيفة العُملة أن تكون واسطةً في المعاملة فتقسمها إلى عمليتين.

بيع محراث
عملة
ابتياع عربة

ورغمًا عن فصلها العملية الواحدة إلى عمليتين فإنها تسهل التعامل؛ لأن العمليتين لا يُشترط إتمامهما مع شخصٍ واحدٍ.

(٣) في تقدير قيمة الأشياء بواسطة العُملة

عندما يتم الاتفاق على عُملةٍ ما يُقال لمن ينقدها: إنه مشترٍ، ولمن يأخذها: إنه بائعٌ.

ولو تأملنا في الحقيقة لوجدنا البيع والشراء لا يخرجان عن المبادلة، بَيْدَ أنَّ إحدى البضاعتين المبيعة أو المشتراة مستعملة لسهولة التعامل، وفي الإمكان تسمية العُملة بالبضاعة المتداولة؛ لأنها موضوعةٌ لتكون واسطةً للمبادلة، تنتقل من يد المبتاع إلى يد البائع، ففي كل عملية بيعٍ أو شراءٍ توجد نسبةٌ بين كمية العُملة وبين البضاعة، وتلك النسبة تدل على قيمة تلك البضاعة بالنسبة لغيرها، وقيمة المبادلة هي عين هذه النسبة [انظر الفصل الحادي عشر – القيمة تدل على نسبة في المبادلة]، فعندما تُستعمل العملة يكون القدر المدفوع منها للتحصل على بضاعةٍ ما هو ثمن هذه البضاعة، فيكون الثمن إذن عبارةً عن قيمة الشيء معبرًا عنها بالعملة، وبما أن العملة تستعمل في تقدير قيمة جميع الأصناف، فيمكن والحالة هذه معرفة قيمة أي صنفٍ بالنسبة للأصناف الأخرى، ولكن لو علمنا مقدار ما يلزم من النحاس للتحصل على جانبٍ من الرصاص، أو ما يلزم من الحديد للحصول على صلبٍ، وهلمَّ جرًّا بالنسبة للزنك والطوب والأخشاب، لما أمكننا مقارنة قيمة النحاس بالزنك، أو الحديد بالخشب، بخلاف ما لو علمنا أن المثقال الذهب يساوي من النحاس ١٧٠٠ مثقالٍ، ومن الرصاص ٦٤٠٠، ومن الحديد المصنوع ١٦٠٠٠، لحكمنا أن ١٧٠٠ مثقالٍ من النحاس تساوي ١٦٠٠٠ من الحديد وهلمَّ جرًّا، فحينئذٍ يكون الذهب أو الصنف الآخر الذي اتفق عليه ليكون عُملةً هو كناية عن مقياسٍ مشتركٍ لتقدير قيمة الأشياء، بواسطته يتيسر للإنسان معرفة أثمان أنواع البضائع، ويا لها من مزيةٍ عظيمةٍ تسمح لكلِّ إنسانٍ بتصور قيمة الأشياء، وبالتعبير عن هذه القيمة بعُملةٍ معلومةٍ عند الجميع؛ لأن قيمة كل بضاعةٍ معبر عنها بثمنٍ مخصوصٍ، فإذن يكون للعُملة وظيفتان:
  • الأولى: أنها واسطةٌ في المبادلات
  • الثانية: أنها مقياسٌ مشتركٌ لمعرفة قيمة الأشياء. ولا يعزب عن الفكر أن العُملة وإن أدت هذه الخدمة الجليلة فإنها لم تخرج عن كونها نوعًا من البضاعة معرضة قيمتها لقانون العرض والطلب [انظر الفصل الحادي عشر – قانون العرض والطلب]، وإذا زادت كمية العملة قلت قيمتها، أي ارتفعت أثمان السلع والعكس بالعكس.

(٤) في مادة العُملة

قد ذكرنا أن كل الأصناف صالحةٌ لأن تكون عُملةً، وقد استُعمل في أزمانٍ مختلفة النبيذ والبيض والزيت الطيب والأرز والجلود والتبغ والمحار والمسامير بصفة عُملة، ولكن قد أقر الرأي العام على أن المعادن هي أصلح لهذه المهمة، لا سيما الذهب والفضة؛ وذلك لعدة وجوهٍ:
  • أولًا: قد يكون هذان المعدنان سهلي الحمل، بمعنى أن جزءًا صغيرًا منهما يعادل قيمة كميةٍ وافرةٍ من القمح أو الخشب أو غير ذلك.
  • ثانيًا: لكونهما غير قابلين للإتلاف مثل البيض والنبيذ والخشب، بل إنهما يُحفظان إلى ما شاء الله بدون نقصٍ في قيمتهما.
  • ثالثًا: لأن معدنهما متحد الصفة، فالذهب النقي لا يختلف في شيءٍ عن مثله، ومهما اختلط بجسمٍ آخر أقل منه قيمةً سهل علينا معرفة مقداره.
  • رابعًا: لكونهما ينقسمان بسهولةٍ بدون نقصٍ؛ إذ يكون مجموع الأجزاء مساويًا للأصل في القيمة.
  • خامسًا: لانفرادهما بالبهجة واللمعان، ولاختصاص الذهب بالثقل يصعب تزييفهما، وبمجرد التموُّه يتيسر للإنسان معرفة الغش والاحتراس منه.
  • سادسًا: لأنهما لا تتغير قيمتهما بسرعةٍ.

فلو كان المحصول رديئًا تضاعف ثمن الغلال، كما أن أثمان الأشياء القابلة للفساد كالبيض والجلود وغيرهما تتغير كثيرًا، بعكس الذهب والفضة فإن تغيير قيمتهما بطيءٌ جدًّا؛ وذلك لطول أمدهما وقلة المحصول منهما، ومع ذلك فقد تتغير قيمة الذهب والفضة كما تتغير قيمة باقي الأشياء.

(٥) في العُملة المعدنية

إن أغلب المعادن مثل النحاس والحديد والقصدير والرصاص وغيرها قد استُعملت في النقود، فضلًا عما كان يستعمل من أنواع الأجسام المركبة كالبرنز والنحاس الأصفر، ولكن الأمم عدلت عن جميع هذه المواد وفضلت الذهب والفضة والنحاس، فالنحاس بالنسبة لقلة قيمته صعب النقل، وقد كان العملة الوحيدة لبلاد السويد، وقد رأينا قطعةً من نقود هذه البلاد طولها قدمان وعرضها قدمٌ، فالتاجر كان مضطرًّا لحمل نقوده في عربةٍ لو أراد شراءَ شيءٍ، وأما اليوم فالنحاس يُستعمل في القطع الصغيرة لا غير، وقد يضاف إليه جزءٌ من القصدير لزيادة متانته فيستحيل إلى برنز، وكانت العُملة الإنكليزية في العصر السكسوني كلها فضية، فكان ذلك عقبةً في سبيل دفع المبالغ الصغيرة والكبيرة، وأحسن طريقةٍ هي استعمال الذهب والفضة والبرنز كلٌّ فيما يجب، ففي إنكلترا نرى أن الذهب وحده هو العملة المعتبرة القانونية، بمعنى أن الإنسان ليس بمجبورٍ على قبول كميةٍ عظيمةٍ من نقودٍ غير النقود الذهبية، فمن كان مدينًا بمائة جنيهٍ يجب عليه دفع مائة جنيهٍ ذهبًا لوفاء دينه، وأما الفضة فلا يجبر الإنسان على قبول أكثر من أربعين شلنًا في دفعةٍ واحدةٍ، ومن البرنز لا يجبر على أكثر من شلنٍ واحدٍ.

(٦) في الجنيه الإنكليزي

إن أغلب المتعاملين بالجنيه الإنكليزي لا يدرون ما هو هذا الجنيه، وغاية ما يعلمونه عنه أنه قطعةٌ من الذهب، ولكن ما هي هذه القطعة؟ هي قطعةٌ من الذهب مسكوكةٌ بمقتضى أمر البرلمان في دار ضرب إنكلترا، منقوشٌ عليها علامة هذه الدار، ولا تقل زنتها عن مائة واثنين وعشرين قمحةً ونصف.

ومتوسط وزن الجنيهات هو ١٢٣٢٧٤ حبة، ولكن من الصعب أن يزن كل جنيهٍ هذا القدر بالتدقيق، وفضلًا عن ذلك فإن التداول يخلُّ هذا الوزن بسرعةٍ، والجنيه مقبولٌ قانونًا ما دامت زنته مائة واثنين وعشرين قمحةً ونصف وسكته ظاهرةٌ، وقد تعود الناس على قبول الجنيهات الناقصة عن ذلك القدر، والقانون يجبر على قبول عشرين شلنًا من الفضة في مقابل الجنيه الواحد الذهب، وذلك ضروريٌّ بالنسبة للقيم الجزئية؛ لأنه لو جعل الشلن من الذهب لسهل ضياعه وقل وزنه بالتداول، في حين أن الفضة الموجودة بعشرين شلنًا لا تعادل الجنيه من الذهب؛ لأن قيمتها تتغير بتغير أثمان الفضة، فالآن قيمة عشرين شلنًا من الفضة تعادل ستة عشر شلنًا وثمانية بنسات، أي خمسة أسداس الجنيه، ولمنع الناس عن إزالة الفضة اضطرت الحكومة إلى تنزيل مقدار الفضة في كل قطعةٍ عن مقدار الفضة المنقوش فوقها، وللسبب عينه لا يوجد في البنس من البرنز ما يساوي سدس بنسٍ، فلا يقدم أحدٌ على إذابة أو تبديل هذه القطع لما فيها من الخسارة عليه.

(٧) في عُملة الورق

كثيرًا ما تُستعمل في العُملة قطعٌ من الورق عليها وعدٌ بالدفع، بدل النقود الذهب والفضة والبرونز، وقد يستحسن استعمال الورق في حالة ما إذا كان المبلغ جسيمًا؛ لأن الورق سهل الحفظ خفيف الحمل، فورقة البنك المرقوم عليها خمسة جنيهاتٍ تعهدٌ من البنك الذي وضعها بدفع هذا المبلغ لمن يحملها؛ ولذا يقال: إن الورق قابلٌ للتحويل، فيما لو أمكن مالكها استبدالها بالنقود في أي وقتٍ يريده، ففي هذه الحالة تكون بمثابة النقود بل أفضل، وغاية ما يُخشَى منه أن البنك الذي وضعها يعجز عن إبدالها بالنقود في بعض الأحيان، وكثيرًا ما يحدث ذلك للبنوكات فتتوقف عن الدفع ولا تفي بما تعهدت به، ومع ذلك فقد تقوم الأوراق مقام النقود لو تعسر وجود عملةٍ أخرى، وحينئذٍ يقال لهذه الأوراق: إنها غير قابلةٍ للتحويل أو إنها عُملةٌ، فيقبلها كل إنسانٍ لعلمه أن غيره لا يقدر على رفضها لو عُرضت عليه، غير أن هذه الطريقة وخيمة العاقبة؛ لتعلق السندات بالقدر الذي وضع منها، حتى إن بعض الناس يتمكنون بواسطتها من سداد ديونهم بقيمةٍ أقل من القيمة التي استدانوها، وعلى كل حالٍ، فإننا لا نريد شرح هذه المسائل العويصة في هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤