الفصل الرابع

في توزيع العمل

(١) منشأ توزيع العمل

إذا اشتغل بعض العمال بعملٍ من الأعمال نرى أن كل واحدٍ منهم يتولَّى جزءًا من العمل ويترك لزملائه مزاولة بقيته، وينقسم العمل في أية جهةٍ من الجهات إلى فروعٍ كثيرةٍ، كلُّ فرعٍ منها صناعةٌ قائمةٌ بذاتها، ويصادف هذا التقسيم تامًّا عند الأمم المتمدنة ومتفاوتًا في التمام عند الأمم التي ليست ببربريةٍ محضةٍ، فإنك ترى في القرية الواحدة على حقارتها وضيق نطاقها الجزار والخباز والحداد والنجار. وتقسيم العمل يوجد في العائلة الواحدة؛ إذ لو تأمل المتأمل فيما يقوم به أفرادها من الأعمال يجد أن الزوج أي رب العائلة يحرث الأرض أو يقطع أشجار الغابات أو غير ذلك من الأعمال التي يتناولها الرجال، والزوجة تهيئ الطعام وتعتني بشئون المنزل وتنسج الأقمشة، والأبناء يصيدون الحيوانات أو يرعون الأغنام، والبنات يبعن الألبان، إلى آخر ما يناسب كلَّ فريقٍ منهم من الأعمال.

وجاء في إحدى الأغاني الأوروبية بيت شعرٍ معناه بالعربية: «ما الذي كان يصنعه المتظرفون حينما كان آدم يفلح الأرض وحواء تغزل؟!» ومعنى هذا القول أن توزيع العمل موجودٌ من الأزمان الموغلة في القدم؛ حيث الحاجة لم تَدَعْ لأحدٍ مجالًا يظهر فيه مظهر المتظرف الذي لا يبالي بالعمل ولا يلتفت إلَّا إلى قضاء الوقت في المسرات والحبور.

وفي الأزمنة الحاضرة يمتد العمل إلى ما لا نهاية له من الأشياء، فليست المدائن فقط تحتوي على الصنائع المختلفة، والصناع الذين يتناول كلٌّ منهم عملًا مخصوصًا، والوظائف العديدة المتباينة، بل إن المراكز أيضًا فيها الصنائع الخاصة بها، ففي أحدها تُنسَج الأقطان، وفي الثاني الصوف، وفي غيرهما التيل والحرير، وفي إنكلترا تختص مراكز ستافوردشير وكليفلند وبلاد الغال وجنوب أيقوسة بعمل الحديد، ومركز الغال الجنوبية بعمل النحاس، ونوتنجام وليسستر بأنواع الخزف والقبعات، وشمالي أرلندة بالأقمشة المخيطة، وهلمَّ جرًّا، وغير ذلك، فإن تقسيم العمل يوجد في كلِّ معملٍ؛ فلا بدَّ من أن يوجد فيه المدير والمحاسب ومساعدوه والمعلمون لكلِّ قسمٍ من أقسام العمل، والواسم (النشانجي) ومدير الآلات وسائقو العربات والسماسرة والحمَّالون إلخ إلخ، وهؤلاء عدا مديري الآلات الأصليين وأرباب الأعمال الخاصة.

فبناءً على ما تقدَّم يكون قانون العمل ساريًا على جميع أفراد الهيئة الاجتماعية من الصعلوك الفقير إلى الملك الكبير.

(٢) آدم سميث وتقسيم العمل

إن تقسيم العمل يفيد الإنسان فوائد جمَّةً بطرقٍ عديدةٍ، وقد بحث آدم سميث الذي أشرنا إليه في صدر هذا الكتاب في هذا الموضوع بحثًا مدققًا مفيدًا اسْتَحْسَنَّا إيراده هنا إتمامًا للفائدة.

قال ذلك العالم الفاضل: إن لتقسيم العمل ثلاث مزايا أصلية؛ أولها: زيادة حذق كلِّ عاملٍ في عمله الخاص به. ثانيها: تجنب ضياع الوقت الذي يُفقَد عادةً لدى الانتقال من عملٍ لتناول عملٍ آخر. ثالثها: المساعدة على اختراع عددٍ عظيمٍ من الآلات التي تذلل صعوبة العمل وتختصره، وتسمح للإنسان أن يقوم مقام جملةٍ من الناس غيره.

ولا يرتاب أحدٌ في أن التدرب والتمرن يزيدان في المهارة، مثال ذلك من يحاول اللعب على آلة البيانو بدون أن يكون قد تعلم قواعدها ووقف على أسرارها، أو مَنْ يقلد الحواة في أعمالهم المؤسسة على الرشاقة والخفة، وبدون التمرن الطويل لا يقوم الإنسان بما يقوم به صانع القوارير الزجاجية، وإذا وصل إلى عمل شيءٍ من الأشياء فإنه يتقن صنعه ويسرع عمله إذا كرره غالبًا، وقال آدم سميث: إن الحداد إذا لم يكن متعودًا على صنع المسامير لا يقدر أن يصنع منها في اليوم الواحد أكثر من ٢٠٠ إلى ٣٠٠ مسمارٍ رديءٍ، ولكنه إذا تمرَّن تمكَّن من عمل ٨٠٠ أو ١٠٠٠ مسمارٍ في اليوم، في حين أن الأطفال الذين تربوا في صنعة عمل المسامير قد يمكن الواحد منهم أن يصنع ٢٣٠٠ مسمارٍ في اليوم الواحد، ولا حاجة إلى الإكثار من إيراد الأمثلة، وغاية ما نقوله أن لا يَصنع الشيءَ بسرعةٍ وإتقانٍ إلَّا الذين صرفوا أوقاتهم وأتعابهم في تعلم صناعتهم.

ومن جهةٍ ثانيةٍ قد يضيع دائمًا زمنٌ كثيرٌ كلما انتقل العامل من عملٍ لمزاولة عملٍ آخر مراتٍ عديدةً في اليوم الواحد. واللازم قبل أن يصنع الإنسان عملًا من الأعمال أن يجمع كلَّ ما لديه من الآلات والمواد اللازمة لصنع صندوقٍ مثلًا، فإذا أتمَّه وجد في نفسه استعدادًا إلى صنع غيره بحذقٍ أكثر مما كان حينما صنع ذلك الصندوق، ولكن إذا تصدَّى بدلًا عن عمل الصندوق الثاني إلى إصلاح حذاءٍ أو تحرير خطابٍ للزم له أن يحضر أشياء كثيرةً استعدادًا لهذه الأعمال الجديدة، ويذهب آدم سميث إلى أن الرجل في هذه الحالة — أي حالة الانتقال من عملٍ إلى آخر — يجنح إلى الفتور والتهاون، فإذا تكرر الانتقال صار في عداد الكسالى المتهاونين بالأعمال. وجملة القول: إن آدم سميث برهن على أن تقسيم العمل يؤدي إلى اختراع الآلات التي تختصر العمل؛ لأن الناس على حسب زعمه يسهل عليهم العثور على الطريق الموصلة إلى الغاية التي يسعون إليها إذا كان انتباههم منصرفًا إلى هذه الغاية.

ونحن نشكُّ في صحة هذا القول، نعم نسلِّم أن العمال قد يكتشفون في بعض الأحيان على طرقٍ وأساليب لتقليل العمل أدت إلى اختراع أشياءَ مهمةٍ جدًّا، ولكن تقسيم العمل يساعد على الاختراع؛ لأنه يسمح للماهرين من الصناع أن يجعلوا صنعتهم مجالًا للاختراع، ولم يصل أشهر المخترعين مثل جمس وات وبراما وفولتون وروبرتس وسميث وهو وفربرن وويتورث وإستفانسن ووتيستون وبسمر وسيمنس إلى اختراعاتهم التي خلَّدت أسماءهم على صفحات التاريخ باتباع الطريق التي أشار إليها آدم سميث، إنما بإعمال قرائحهم ومزاولة الدرس والبحث، وكثرة التدرُّب على تشييد الآلات، والصحيح هو أن تقسيم العمل يساعد مساعدةً عظمى على الاختراع بطريق أنه يسمح لكلِّ معملٍ أن يتخذ نوعًا خاصًّا من الآلات، ويُرى تقسيم العمل ظاهرًا تمام الظهور في إنكلترا؛ حيث يندر رؤية نوعٍ من أنواع البضاعة لا يخرج إلَّا من معملٍ واحدٍ يمكن أن يحتوي حينئذٍ على الآلات الصالحة لإحداث هذه البضاعة، ومثل هذا الأمر حادثٌ في بلاد الولايات المتحدة الأمريكية، ويكون تقسيم العمل خصب المزايا من عدة وجوهٍ نوردها بالتوالي، وهي:

(٢-١) تعدد الخدمات

قد يمكن اقتصاد العمل بحيث إن العامل الواحد يمكنه القيام بخدمة جملة أشخاصٍ، كما لو قام بها لكل من هذه الأشخاص عاملٌ مخصوصٌ، ومن الشواهد على ذلك أنه إذا كُلِّفَ خادمٌ بالتوجه إلى البوستة ليودع فيها خطابًا فإنه يمكنه أن يودع فيها عشرين خطابًا بنفس السرعة التي يضع بها الخطاب الأول، وعليه فالعامل الواحد يمكنه أن يقوم بوضع كل تلك الخطابات كما لو توجه كلٌّ من أصحابها على حدةٍ لوضعها فيها، ومن هذا المثال يظهر السبب الذي من أجله يمكن إرسال خطابٍ من طرف مملكةٍ إلى الطرف الآخر ببنس أو نصف بنس، ويستحيل بالكلية إرسال الرسائل التلغرافية بمثل هذا الثمن القليل؛ لأن كلَّ رسالةٍ تُرسَل قائمةٌ بذاتها طول السلك وتوزع كذلك بواسطة مبعوثٍ خصوصيٍّ (الساعي) لا يمكنه أن يحمل أكثر من رسالةٍ واحدةٍ إلَّا في النادر.

ولاحظ واتلي — أحد رؤساء الأساقفة — أن السواحين الذين يكتشفون بقعةً من بقاع الأرض حينما يقفون عند هجوم الليل للمبيت يقتسمون الأعمال بالطبع، فيأخذ أحدهم على عهدته العناية بالخيول، والآخر يخرج الذخيرة والمؤن، وغيره يوقد النار ويهيئ الطعام، وغيره يأتي بالماء وهكذا. وبديهيٌّ أن يكون من الهذيان إذا أضرم كلٌّ من الاثني عشر سائحًا الذين وجهتهم واحدةٌ نارًا خاصةً به، أو هيَّأ طعامًا لنفسه؛ لأن إيقاد النار وتحضير الطعام لأجل اثني عشر نفسًا يستلزم تقريبًا عين الوقت الذي يلزم لعمل ذلك لأجل شخصٍ واحدٍ.

وكثيرٌ من الأشياء إذا عُملت صلحت لآلافٍ بل لملايين من الأشخاص، مثل ذلك إذا وصل لأحد الناس خبرٌ مهمٌّ كقيام زوبعةٍ مثلًا في البحر الأطلنطي، ففي وسعه أن يوصل هذا الخبر إلى علم أمةٍ بتمامها بنشره في الجرائد، وإذاعته على لسان صحف الأخبار. ومن الخيرات العميمة أنه يوجد في مدينة لوندرة مكتبٌ يقوم فيه اثنان أو ثلاثةٌ من العلماء بالبحث في حالة الجوِّ بجميع البلاد، فعلم بناءً على أبحاثهم ما سيكون عليه الوقت في المستقبل من حرارةٍ أو برودةٍ … إلخ، وعلى هذا المثال يمكن تطبيق قاعدة تضارب الخدمات وتعددها.

(٢-٢) تعدد الصور

وتعدد الصور من أنجع وسائل إنماء محصول العمل؛ لأنه إذا كانت الآلات والقوالب التي صلحت لعمل شيءٍ ما في حوزتنا فمن الممكن غالبًا الإكثار من عمل ذلك الشيء بعينه بدون صعوبةٍ ولا ارتباكٍ، وحفر قطعةٍ من الصلب لضرب نوعٍ من النقود أو لاصطناع الوسامات قد يستلزم عملًا طويلًا ومصاريف باهظةً، ولكن متى تمَّ الحصول على قالب النقود أو قالب الوسام المصنوع من تلك المادة سهل استخدام أحدهما لاصطناع كثيرٍ من النقود أو كثيرٍ من الوسامات، وتكون قيمة تكاليف الضرب زهيدةً جدًّا.

وأحسن مَثَلٍ يمكن إيراده هنا لتبيين مزايا تعدد الصور هو آلة الطباعة؛ إذ لا يخفى أن نسخ مؤلفات شكسبير الشاعر المشهور كان يكلف قبل اختراع هذه الآلة أكثر من ٢٠٠ جنيهٍ، وعليه فقد كان ثمن الكتب المكتوبة بخطِّ اليد رفيعة الثمن جدًّا، هذا فضلًا عمَّا كان يقع بها من الأغلاط العديدة.

ويسهل الحصول في أيامنا هذه على جميع مؤلفات ذلك الشاعر مطبوعةً طبعًا جميلًا على ورق تغليفٍ مجردٍ من الأغلاط بمبلغٍ قلَّ أن يزيد على شلنٍ واحدٍ، وعلى كلِّ مجلدٍ من روايات والترسكوت الشهيرة بستة بنسات، نعم قد يكلف جمع حروف أحد المؤلفات المهمة وطبعه جملة مئاتٍ من الجنيهات، ولكن متى تمَّ هذا العمل يمكن طبع مئات الآلاف من النسخ تُباع النسخة بزيادة مبلغٍ قليلٍ على ثمن الورق والتجليد، والمتأمل يجد تقريبًا أن جميع الأشياء التي نستخدمها في مصلحتنا اليوم كالكراسي والموائد وأواني السكر والشاي والملاعق … إلخ مصنوعةً بواسطة الآلة على مثالٍ أصليٍّ؛ ولهذا السبب أصبح في الإمكان ابتياع كرسيٍّ متينٍ بخمسة شلناتٍ أو أقل، ولكنه إذا رغب في الحصول على كرسيٍّ من مثالٍ آخر بلغ ثمنه أكثر من ثمن الأول خمس أو عشر مراتٍ.

(٢-٣) التطبيق الشخصي

ومن مزايا تقسيم العمل هو أن اختلاف الصنائع يسمح لكلِّ شخصٍ أن يختار الصنعة التي توافقه، ويرى أنه يقوم بها قيامًا أحسن من غيرها، فترى الرجل القوي المتين البنية يتخذ الحدادة حرفةً له، والرجل الضعيف يرأس صنعةً من الصنائع أو يتناول صنعة الأحذية، والماهر اللبيب يتفرغ إلى عمل الساعات، أما الجاهل والغبي فقد يستخدمان أنفسهما في كسر الأحجار وإزالة أسوار الحدائق مثلًا، وحيث كان كلُّ شخصٍ يتناول على العموم الحرفة التي يتسنى له فيها الحصول على أجرةٍ رفيعةٍ، فمن الخسارة استعمال المهارة في كسر الأحجار أو رفع القمامات من قوارع الطرقات، وخلاصة القول: إنه كلما اتَّسع نطاق تقسيم العمل كلما كثر عدد المصانع والمعامل، وكلما سهل على كلِّ واحدٍ وجود خدمةٍ تنطبق على معلوماته واستعداده، فيصنع العمال الماهرون العمل الذي لا يمكن لأحدٍ آخر القيام به؛ لأن لديهم طرقًا وأساليب تساعدهم على عمل الأشياء التي لا يستلزم عملها المهارة والحذق، ويرسم المعلمون خطة العمل ويوزعونها على العمال، ويقوم الكتبة المتعودون على الحساب بمسك الدفاتر ودفع المطلوب للدائنين وقبض المطلوب من المدينين ومدير المعمل، ولا بدَّ أن يكون رجلًا ماهرًا خبيرًا يبذل كل اهتمامه في إدارة الأعمال على أحسن وجهٍ، ويشتري اللازم لذلك المعمل بالأثمان المفيدة أو يخترع التحسينات العديدة التي من شأنها تسهيل العمل وتكثير الحاصل منه، ويكون كلُّ واحدٍ مشتغلًا على هذا المنوال بحيث يثمر عمله ثمرًا كثيرًا لينفع به غيره ونفسه.

(٢-٤) التطبيق المحلِّي

ثمَّ إن تقسيم العمل يفضي إلى التطبيق المحلي أي يأذن بإجراء كلِّ نوعٍ من أنواع الأعمال في المكان الأليق به، وقد علمنا مما تقدَّم [في الفصل الثالث] أن كلَّ نوعٍ من أنواع الأعمال يجب القيام به حيث تكون الفائدة منه كثيرةً غزيرةً، غير أن هذا لا يمكن أن يكون إلَّا بتقسيم العمل، وقد راعى الفرنسيون هذه القاعدة، فتراهم يصنعون النبيذ والأقمشة الحريرية وأصناف البضائع الباريزية الشهيرة ويستوردون القطن من مدينة منشستر Manchester والبيرة من بورتن وترنت Burton-ou-trent والفحم الحجري من نوكاستل Newcastle ومتى كانت التجارة حرةً وتقسيم العمل مؤسسًا على قاعدةٍ ثابتةٍ ومبدأٍ متينٍ، فإن كلَّ مدينةٍ وكلَّ مركزٍ يتعلم إتقان بضاعةٍ من البضائع أكثر من المدائن والمراكز الأخرى، وعلى هذا المنوال امتازت مدينة كلركنول Clerkenwell بعمل الساعات الفائقة في الإتقان، وبرمنغهام Birmingham بعمل الأقلام الصلب، ومدينة رديتش Redditch بعمل الإبر، ومدينة شفيلد Sheffield بعمل المُدَى، ومدينة ستوك Stoke بعمل أواني الخزف، ومدينة كوفنتري Coventry بعمل الشرائط، ومدينة سنت هلنس Saint-Helen’s بعمل المرائي، ومدينة لوتن Luton بعمل قبعات الخوص، وهلمَّ جرًّا.
وليس في الإمكان على الدوام إيضاح السبب الذي لأجله تتقن صناعة شيءٍ في جهةٍ دون جهةٍ أخرى، كإتقان صناعة الحرير في مدينة ليون Lyon مثلًا، ومع ذلك فإن هذا هو الحاصل في الغالب، ويجب أن يتمتع الشعب بتمام حريته في شراء البضائع التي يميل إليها أكثر من غيرها، فإن البضائع لم تُصنَع إلَّا لتحصيل السرور والمنفعة، وليس فقط لإيجاد العمل لأجل العمال.

ومتى منحت التجارة الحرية التامة أدت إلى تقسيم العمل، ليس فقط بين مدينةٍ وأخرى أو بين مركزٍ وآخر، بل أيضًا بين أمتين إحداهما متباعدةٌ عن الأخرى، واتصال علائق التجارة بين أمتين من أعظم وسائل زيادة الثروة واقتصاد العمل، وبهذا الاتصال تميل أمم الأرض إلى المعيشة في وئامٍ تامٍّ كأنها لم تكن إلَّا أمةً واحدةً.

(٢-٥) ترتيب الشغل

إنا نرى الآن المزايا التي تنجم عن إتقان كلِّ عاملٍ مهنة مخصوصة ويسمى ذلك بتقسيم الشغل؛ لأن الشغل ينقسم إلى جملة أجزاءٍ مختلفةٍ يقوم بكلٍّ منها فريقٌ من العمال حتى يمكنهم تتميم عملٍ واحدٍ بمساعدة بعضهم بعضًا، فمثلًا لأجل إيجاد كتابٍ يلزم أن جملةً من الصناع يساعد بعضهم البعض؛ إذ إن السباكين يذيبون الحروف، وصناع الآلات يركبون آلة الطبع، والورق يشغل من جهةٍ والحبر من أخرى، والمباشرون الطبع يديرون الأشغال وينظمونها، والمؤلف يورد الأصل (النسخة المراد طبعها) والجمَّاعين يصفُّون الحروف، والمصحح يصلح الغلطات، وعمال الطبع ينقلون الأوراق المطبوعة لحفظها، ثمَّ يأتي بعد ذلك المجلدون، كلُّ ذلك بخلاف الحِرف الصغيرة المتعددة التي تشغل الآلات اللازمة للحِرف العظيمة، فمثل الهيئة الاجتماعية كمثل آلةٍ متقنةٍ مركبةٍ من عدة دواليب يتحرك كلٌّ منها حركةً واحدةً مستديمةً، هذا ما يمكننا أن نسميه انتظامًا مركبًا، أي إن جملة أناسٍ ذوي حرفٍ مختلفةٍ يتعاونون معًا على إدراك غايةٍ مقصودةٍ، ومما يجب ملاحظته أن هذا التقسيم طبيعيٌّ لم يقرره أحدٌ، فضلًا عن أن أغلب الناس يجهلون عدد الحرف الموجودة وكيفية ارتباطها ببعضها؛ لأنه يلزم على الأقل ستة وثلاثون قسمًا من العَمَلة لتشغيل الأجزاء المتكون منها البيانو، وقد يشترط في تشغيل ساعة الجيب عمال أربعين مهنةٍ مختلفةٍ، وقد يزيد هذا العدد في تشغيل القطن حتى يبلغ أكثر من مائةٍ.

وكثيرًا ما تُخترَع حِرَفٌ جديدةٌ خصوصًا عقب اكتشافٍ جديدٍ، فالفوتوغرافيا (التصوير الشمسي) مثلًا كانت سببًا في وجود ست عشرة حرفةً جديدةً، كما أن السكك الحديدية أوجدت عدة وظائف لم يكن لها أثرٌ ولا عينٌ من مدة خمسين سنةً، وليس للحكومة دخلٌ في إنشاء هذه الحرف والتصريح بها؛ لأن القانون عاجزٌ عن تحديد عدد الصنائع وما يشترك في كلِّ واحدةٍ منها من العمال؛ إذ ليس في وسع أي إنسانٍ أن يعرف ما تقتضيه وتفتقر إليه ظروف المستقبل، ولكن كل هذه الأشياء إنما تنتظم بواسطة الإلهام الغريزي في الهيئة الاجتماعية، فكلٌّ يقوم بنوعٍ من العمل موافق لذوقه ومشربه، وجديرٌ بأن ينال منه ثمرة أتعابه، وقد يوجد نوعٌ آخر من تنظيم الشغل متباينٌ عمَّا تقدَّم كل التباين وهو التعاون على القيام بعملٍ واحدٍ معلومٍ، فمن هذا القبيل اتفاق البحارة على جرِّ حبلٍ واحدٍ، أو رفع حملٍ واحدٍ، أو التجذيف في مركبٍ واحدٍ، وهلمَّ جرًّا، فيقال في هذه الحال: إنه يوجد ترتيبٌ بسيطٌ؛ لأن الرجال يعملون نوعًا واحدًا من الشغل، وأمَّا إذا أرادوا أن يشتغل كلٌّ منهم في عملٍ مخالفٍ، فيقال حينئذٍ: إن الترتيب مُرَكَّبٌ، كما لو أراد إنسانٌ مثلًا أن يشتغل بتدبيب دبوسٍ وآخر بعمل رأسٍ له، وعلى كلِّ حالٍ ففي السفينة يوجد الترتيبان البسيط والمركب.

فإذا اشتغل جملة بحارةٍ في أرغاط (ونش) واحدة فالترتيب بسيطٌ؛ لأن كلَّ فردٍ منهم يعمل العمل عينه الذي يعمله الآخرون، ولكن القبطان الأول والقبطان الثاني والرئيس والنجار وريس البحرية والطباخ يشتغلون بترتيبٍ مركبٍ؛ إذ إن كلًّا منهم يهتم بأشغال مخصوصةٍ، وهكذا لو أخذنا فرقةً من العسكر لوجدنا أن الأنفار يعملون على ترتيبٍ بسيطٍ، ولكن الضباط لاختلاف وظائفهم واختصاصاتهم يعملون على ترتيبٍ مركَّبٍ، فالتعاون يجعل كمية الشغل أكثر بكثيرٍ عمَّا إذا اشتغل كلُّ واحدٍ بمفرده.

(٣) في مضار تقسيم العمل

حقيقةً توجد بعض مضار ناتجة من التقسيم الموجود اليوم في البلاد المتمدنة، ولكنها ليست بشيءٍ يُذكَر في جانب الفوائد التي نستنتجها منها، ومع ذلك سنأتي على بيانٍ كافٍ لها.

أولًا: يُستنتَج من تقسيم العمل تحديد وحصر قوة الشخص؛ لأنه لو تفرغ إنسانٌ لنوعٍ من العمل لما وجد الوقت الكافي لمباشرة الأعمال الأخرى وإتقانها حقَّ الإتقان، فالإنسان ليس في وسعه أن يشتغل — كما يقال — أكثر من جزءٍ من عشرة أجزاء الدبوس، بمعنى أنه توجد رجالٌ مثلًا لم يتقنوا إلا عمل رءوس الدبابيس. وكان الرومانيون يقولون: إن الرجل يلزمه التمسك بحالةٍ واحدةٍ، فإذا انتقل رجلٌ تعود على أن لا يصنع إلَّا دبابيس أو أحذيةً إلى بلاد فارويست Far-west بأميركا وجد نفسه غير كُفْءٍ للقيام بأعباء الأعمال المنوطة بالمزارع والفلاح النرويجي أو السويدي الذي يظهر لأول وهلةٍ أنه قاصر الفكر يمكنه ولا مرية بناء منزله وزرع أرضه والعناية بجواده واصطناع عرباته وأوانيه وأثاث بيته على قدر استطاعته، وكذلك تجد الجلود الحمر (قبائل بأميركا) ذوي كفاءةٍ واستعدادٍ أكثر بكثيرٍ من الميكانيكي الماهر في قضاء لوازمه الخصوصية الصناعية وهم يعيشون في الصحراء، وقُصارى القول أن الصانع مهما كانت حرفته يجب عليه أن يجتهد في التشبث والاكتفاء بالمهنة التي أتقنها، وأمَّا إذا أراد الشروع في عملٍ لا يستطيع أن يقوم به أحسن قيامٍ فتعود عقباه بالمضرة عليه وعلى غيره.

أمَّا الضرر الثاني من تقسيم العمل فهو زيادة ارتباك التجارة؛ إذ إن حصول أقل فشلٍ يعمُّ وينتشر، فكلُّ شخصٍ يتقن فرعًا واحدًا من مهنةٍ ما يبقى في فاقةٍ حتى يتعلَّم مهنةً أخرى، وإذا حصل تغييرٌ في الزي الجاري وكسدت بضاعةٌ لقلَّت الحاجة إليها، فكم كان في غابر الأزمان من بضائع شتى لها رواجٌ عظيمٌ وانقرضت مع توالي الأيام، وأصبح الناس الذين كانوا يتعيشون منها ملزمين بالسعي وراء أعمالٍ أخرى تقوم بأَوَد حياتهم. ومما زاد الطين بلةً أن كلَّ حرفةٍ أصبحت مشحونةً بما يلزمها من العمال الأكْفاء، ويصعب جدًّا على العَمَلة المستجدين لا سيَّما المتقدمين في السن أن يتعلموا هذا العمل الحديث وينافسوا مَنْ يشتغلون به من زمنٍ مديدٍ.

وقد تساعدهم التقادير أحيانًا فتنجح مقاصدهم، فمثلًا لما انتهى الشغل من مناجم «كرنواي» Cornouailles توجه العَمَلة إلى مناجم أخرى، وعلى العموم فإنه يصعب كثيرًا وجود أشغالٍ جديدةٍ في إنكلترا، وذلك يفرض على شركات العَمَلة Trade-unions عدم التعرض للعَمَلة الحديثين في تعاطي مهنةٍ لم يمارسوها من قبل.
وقد حاول عَمَلة مناجم الفحم منع عَمَلة كرنواي عند دخول المناجم خوفًا على نقصان أجورهم وهان عليهم ترك إخوانهم يموتون جوعًا، ولا يخفى ما في ذلك من حبِّ الذات والإضرار بالغير؛ إذ لو استأثر كلُّ صانعٍ بمهنةٍ واجتهد في إبعاد كل الصناع الآخرين عنها واحتكرها لنفسه، لرأينا فئةً كبيرةً ممن ساء حظهم يدخلون في مأوى عديمي التكسب Work-house من دون أن يقترفوا ذنبًا ما، فالأجدر تخويل الحق لكلِّ إنسانٍ في أن يشتغل بأي عملٍ يمكنه الحصول عليه؛ إذ من أهم الحقوق المقدسة التي يجب منحها للعامل هو منحه الحرية التامة في امتهان أية حرفةٍ شريفةٍ أرادها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤