الفصل السابع

في الأجور

(١) في الأجرة الظاهرية والأجرة الحقيقية

الأجرة كما أسلفنا هي ما يأخذه العامل نظير أتعابه، سواء كان في كلِّ يومٍ أو في كلِّ شهرٍ أو في كلِّ سنةٍ، فالبستاني الذي يشتغل باليومية يستولي على حقوقه كلَّ مساءٍ، والصانع يأخذ أجرته عادةً في صباح كلِّ سبتٍ أو جمعةٍ، وأحيانًا في كلِّ خمسة عشر يومًا، وأمَّا المستخدمون فيأخذون مرتباتهم شهريًّا، والمديرون والموظفون وكاتمو الأسرار ينقدون كلَّ ثلاثة شهورٍ وأحيانًا كلَّ سنةٍ، فمتى دُفعت الأجرة شهريًّا أو في مواعيد أطول أمدًا من ذلك يُعطى لها عادةً اسم مرتبٍ، وهذا المرتب لا يخرج عن كونه أجرةً.

وقد قلنا في الفصل المتقدم: إن الأجرة تتركب من جزءٍ من إيرادات العمل والأرض ورأس المال، وقد قلنا الآن: إنها عبارةً عن دفعٍ تُعطى للعامل، وهنا نقابل صعوبةً عظمى في الموضوع الذي نحن بصدده، والعادة المتبعة الآن هي دفع الأجرة نقدًا، فالشخص الذي يشتغل بمهنةٍ في القطن يستخرج نسيجًا من القطن، ولكنه في آخر الجمعة لا يُوفى حقه قطنًا وإنما دراهم معدودات، وهذا أسهل منهجٍ ينهجه كل إنسانٍ في هذا الصدد؛ لأنه لو استولى العامل على حقه نسيج قطنٍ أو شيئًا آخر مما يصنعه لاستلزم بيعه لشراء قوته وملبوساته ودفع إيجار منزله، فبدلًا من أن يأخذ استحقاقه مما يستخرج من المصنوعات نفسها يأخذ من صاحب المال استحقاقه نقودًا.

وسترى الآن ضرورة التمييز بين الأجرة الظاهرية والأجرة الحقيقية، فنقول: إن ما يسعى وراءه العامل في الحقيقة هو المأكل والملبس والدخان والأشياء الأخرى التي تستلزمها احتياجاته المعاشية، فهذه الأشياء تكون الأجرة الحقيقية، فالعامل لا يهتم كثيرًا بازدياد أو قلة الدراهم التي ينقدها؛ لأنه لا يستطيع أكلها ولا استعمالها ولا يصرفها فيما يلزم لقوته، بحيث لو ارتفعت أسعار القمح والقطن تنقص أجور العمال؛ لأنه يمكنه شراء جزءٍ يسيرٍ منها بما ينقده من الأجرة، وأمَّا لو انخفضت أسعار البضائع زادت أجرة العامل؛ لأنه يمكنه في هذه الحالة اقتناء جملة سلعٍ بهذه الأجرة عليها، وقد اعتاد الناس على أن يوجهوا جلَّ اهتمامهم نحو كثرة النقود التي ينقدونها في كلِّ يومٍ من الشغل لتصورهم أنه بازدياد أجرتهم ٢٥ في المائة تزداد ثروتهم ٢٥ في المائة، غير أن هذه القاعدة ليست مطردةً في كلِّ الأحوال؛ إذ لو ارتفع متوسط ثمن السلعة ٢٥ في المائة تبقى ثروتهم على ما هي عليه دون زيادةً ولا نقصان.

ومن هنا قد علمنا أن أهم الأمور إنما هو تكثير الثمرة وتنمية الفائدة من العمل، فإذا كان في الاستطاعة مثلًا أن تصنع سلعةً من السلع كالقطن بعملٍ أقل مما تستلزمه حقيقةً، فإنه يمكن بيع هذه السلعة بثمنٍ أقل، ويقدر إذ ذاك كلُّ واحدٍ أن يشتري بمبلغٍ معلومٍ أكثر مما يشتريه بواسطته لو لم يقل العمل، وبتطبيق هذا الفرض على جميع المصنوعات اللازمة للإنسان كالأقمشة والجوارب والأحذية والآجر والمنازل والكراسي والموائد والكتب … إلخ، أي إنه يمكن أن يصنع من هذه الأشياء مقادير كثيرةً بنفس العمل الأول الذي كان يلزم لمقادير أقل لامتلك الإنسان الأشياء التي يحتاج إليها بمقادير وافرةٍ جدًّا.

ومن المؤكد أن نمو الأجر الحقيقي للشعب لا يكون إلَّا بعمل المصنوعات بأثمانٍ بخسةٍ؛ إذ لا يشكُّ عاقلٌ في أن التاجر يخسر حينما ترتفع أسعار البضائع التي يبيعها؛ لأن المستنفدين لما عنده من السلع والبضائع يقتصدون جزءًا من اللازم لهم منها، أمَّا إذا صنعت البضائع بأثمانٍ واهيةٍ فإن جميع المستنفدين يكتسبون، وبما أن كلَّ الناس مستنفدون فكلهم يكسبون ما داموا يستعملون الأصناف التي هبطت أسعارها، ولا يُستنتج من ذلك أن الصناع والتجار يتألمون من هذا النقصان؛ لأنه إذا اخترع أحد المخترعين اختراعًا من شأنه أن يسهل العمل مع إكثار المحصول، ففي إمكان الصانع أن يبيع نصيبه من المحصول بثمنٍ أرفع مما قبل، أي إن أجرته تزداد بدلًا عن أن تقل وتنقص النقصان الناشئ من هبوط المحصول، أمَّا التاجر فربما اكتسب قليلًا من كلِّ صنفٍ يبيعه، ولكن مكسبه يزداد بازدياد الكمية التي يبيعها، ومما تقدَّم يُستنتج أن ازدياد المحصول ونقصان ثمن البضائع يفيدان الجمهور ويكسبانه، وهذه هي الطريقة الصحيحة لجلب السعادة والرفاهية للأمة.

(٢) مصدر فرق الأجور

مما يهم الوقوف عليه وقوفًا تامًّا سبب الفروق التي تشاهد فيما يدفع من الأجور للأعمال المختلفة، فإن من العمال من يستولي في اليوم الواحد أكثر مما يستولي عليه غيره في مثل هذا الزمن مائة مرةٍ بل ألف مرةٍ، ويظهر أنه ليس من الإنصاف وجود هذا الاختلاف الواضح والفرق الجسيم، ولكن من السهل أن يقتنع الإنسان بأن ذلك ناتجٌ بالضرورة من تفاوت القوى العقلية والجسمية في الإنسان وتباين الطباع.

وكثيرًا ما نسمع الناس يقولون: إن بني آدم وُلدوا أحرارًا متساويي الدرجة والمقام، وهو قولٌ كما يصح أن يكون في محله من وجهٍ يصح أن لا يكون كذلك من وجهٍ آخر؛ إذ يوجد من الناس مَنْ يكون قوي البنية متين الجسم منذ الصغر، ومَنْ يكون ضعيفًا ولا يقدر على تناول ما يتناوله الأول من الأعمال، وكما يوجد تفاوتٌ في الأجسام والقوى البدنية، كذلك يوجد تفاوتٌ واضحٌ في المدارك والعقول، وتكفل الأجر نواميس تُسمى نواميس العرض والطلب سيأتي الكلام عليها فيما بعد.

وكما أن أثمان البضائع ترتفع إذا كان الموجود منها في الأسواق قليلًا والطلب متواترًا، ترتقي كذلك أجرة عمل العامل خصوصًا إذا كانت الكمية المتحصلة من عمله الخاص بنوعٍ من أنواع السلع غزيرة والموجود منه في الأسواق كميةٌ قليلةٌ، وليس من المهم تمييز الفرق بين طلب البضائع وطلب العمل الضروري لاصطناع هذه البضائع؛ لأنه إذا كان يلزم من شيءٍ ما كمية وافرة فإنه يلزم أيضًا البحث عن أناسٍ أكْفاء يقومون بعمل هذا الشيء.

فإذا اشتريت بارومترًا معدنيًّا فإني أدفع ثمنه قيمة عمل الصانع القادر على عمل مثل هذا البارومتر، وإذا راق لجملةٍ من الناس أن يقتنوا جملة بارومتراتٍ معدنيةٍ، وكان لا يوجد كثيرٌ من العمَلة الذين تتوفر فيهم الكفاءة الضرورية للقيام بعمل هذه البارومترات، فإن هؤلاء يطلبون سعرًا مرتفعًا للقيام بعملهم، نعم إن الذين يشترون البارومترات لا يدفعون عادةً للعمال أجرة عملهم؛ لأنه لا بدَّ من وجود شخصٍ يمتلك رأس مالٍ يشتري البارومترات ويعرضها للبيع في مخزنٍ عموميٍّ، وكيفية الشراء أن هذا المتمول يقدم أجر العمال لعدة أسابيع أو لعدة أشهرٍ على حسب ما إذا كان طلب البارومترات كثيرًا أو قليلًا، ويستخدم بناءً على ذلك العدد الكثير أو القليل من العمال، وبهذه المثابة يصير طلب البضائع تقريبًا كطلب العمل وموازيًا له، ثمَّ لا بدَّ من اعتبار الربح الذي يجب أن يكتسبه المتمول، ولكن فيما عدا هذا الاستثناء تكون أجرة العمَلة خاضعةً لناموس العرض والطلب كأثمان البضائع والسواد الأعظم من الرجال ما داموا في صحةٍ جيدةٍ فإن قوتهم العضلية تكفي للقيام بالأعمال التي تستلزم تجشم التعب والمشقة، وبناءً عليه فما يعرضونه من الأعمال يكون كثير الكمية، وما داموا لا يكتسبون معرفةً خصوصيةً أو مهارةً في فرعٍ من فروع العمل فلا أمل لهم في ارتفاع أجرتهم، والذين يقاربون الأقزام أي صغار القامات من العمال أو كانوا غايةً في ارتفاع القامة وبدانة الجسم ليسوا شائعين في الأعمال شيوع متوسطي القامة، فإذا حدث أن عملًا من الأعمال لا يمكن أن يقوم به إلَّا قزمٌ من الأقزام أو أحدٌ من ذوي القامات العالية جدًّا، فيكون الحق لأحدهما أن يلتمس أجرةً عاليةً جدًّا؛ لأن الأقزام يستعرضون في العادة على الجمهور من باب الغرابة والتعجب، وكذلك الرجال ذوي القامات المرتفعة والقوة الخارقة للعادة لا يصلحون لخدمةٍ خصوصيةٍ؛ لأن الأشغال القاسية التي تستلزم القوة العظيمة تعمل في هذه الأيام بواسطة الآلات، ومع ذلك فقد يمكنهم الحصول على أُجَرٍ رفيعةٍ باشتغالهم في قطع الفحم الحجري من مناجمه أو في إذابة الحديد على النار؛ لأن مثل هذه الأعمال يستلزم قوةً متينةً ومقاومةً عظيمةً، ولا يمكن القيام بها بواسطة الآلات إلَّا بعد صعوبةٍ وعناءٍ جسيمَيْن، والمشتغلون بإذابة الحديد يكتسبون في السنة نحو ٦٠٠٠ فرنكٍ.

وللمهارة والمعرفة دخلٌ عظيمٌ في حصول العامل على أجرةٍ عظيمةٍ؛ لأن الأغنياء يحبون التمام في كلِّ شيءٍ، والقليل من الناس الذين في استطاعتهم إتقان العمل الذي يعهد إليهم يلتمسون في مقابله أجرة عالية جدًّا، مثال ذلك أن كل أفراد العالم يمكنهم أن يحسنوا الغناء لدرجاتٍ تتفاوت عن بعضها تفاوتًا ظاهرًا، ولكن حيث كان يوجد قليلٌ منهم يمكنهم أن يغنُّوا مثل المستر سمس ريفس الشهير برخامة الصوت والمهارة التامة في التوقيع، فإن هذا الرجل ومن بلغوا شأوه في المهارة لا يتنازلون عن التماس أجرةٍ توازي ٥٠٠ أو ألف فرنكٍ عن كلِّ قطعةٍ غنائيةٍ يقومون بأدائها، وكما يحصل هذا بالنسبة للمغنين يحصل أيضًا بالنسبة لمهرة المشخصين والمحامين والمهندسين؛ إذ قد تكون المهارة في أحيانٍ كثيرةٍ رأس مال العامل، فالمصور مثلًا قد يمضي أشهرًا عديدةً أو سنواتٍ متوالياتٍ في رسم صورةٍ كبيرةٍ، فإذا بالغ في إتقانها كلَّ المبالغة باعها بآلافٍ معدودةٍ من الجنيهات، وكثيرٌ من الأغنياء يتهافتون على شرائها؛ لأن كثيرًا منهم يميل إلى اقتناء الصور المتقنة الرسم.

ومع ذلك فقد توجد ظروفٌ كثيرةٌ تجعل الأجر أكثر أو أقل في بعض الخدمات عمَّا هي في غيرها، وليس علينا لأجل تبيين ذلك إلَّا التعويل على ما قاله آدم سمث في هذا الصدد، فنقول: قد أورد هذا العالم خمسة ظروفٍ أصليةٍ أسند إليها أسباب التفاوت العظيم الذي يشاهد بين الأجر وبعضها في الخدمات المختلفة، وهذه الظروف هي:
  • أولًا: «محبة الخدمة»: إذا كان العمل محبوبًا بذاته فقد يجذب إلى القيام به عددًا من الصناع ربما كانوا لقلة أجرته لا يرضون بها لو لم يكن محبوبًا عندهم، ومن الشواهد على ذلك ضباط الجيش برًّا وبحرًا فإنهم لا يقبضون المرتبات التي توازي ما يبذلونه من المشقة والتعب، ولكنهم يميلون إلى أداء هذه الوظائف لما ينتظرونه من المجد والفخار واتساع نطاق النفوذ إذا قاموا بها، وكذلك الجزار فإن صنعته يأنف من تعاطيها كثيرٌ من الناس لما تستلزمه من قسوة القلب وشدته، ومع ذلك فإنه لم يعبأ بهذه الصعوبات لما ينتظره من المكاسب البليغة.
  • ثانيًا: «سهولة تعلم العمل والمصاريف التي تستلزمها هذه الدراسة»: إن لهذا الظرف أهميةٌ عظمى؛ وسبب ذلك هو أن السواد الأعظم من الأمة فقيرٌ لا يمكنه العناية بتربية أبنائه وتعليمهم صنعةً يستفيدون منها، فيلقون بهم إلى التمرُّن على الأعمال اليدوية الغليظة التي لا تكسبهم إلَّا ربحًا دنيئًا جدًّا، ولا يخفى أنه لأجل تعلُّم صنعةٍ من الصنائع كصنعة المهندس يلزم بعد صرف المبالغ الباهظة مقابلة اقتطاف ثمار العلوم المختصة بهذه الصنعة، أن يمضي الإنسان عدة سنواتٍ في جملةٍ من مكاتب المهندسين للتمرن على العمل واكتساب الأرباح الابتدائية، ومن هنا يظهر لك السبب في أن القليل ممن ينجحون في الصناعات الصعبة يكتسبون مبالغ عظيمةً جدًّا.
  • ثالثًا: «دوام الخدمة»: إذا كان الإنسان على ثقةٍ بأنه سيبقى ويقبض أجرته بانتظامٍ طول السنة، فمن العادة أن هاتين المزيتين إذا توفرتا تلزمانه الاقتناع بمرتبٍ ضعيفٍ، ومن السهل العثور على عساكر من رجال البوليس يقبض الواحد منهم على ٢٥ شلنًا في الأسبوع، ولو أنهم في مقابل هذا المبلغ الدنيء يضطرون إلى الاشتغال أثناء الليل بأعمالٍ غايةٍ في الصعوبة والخطر؛ والسبب في رضائهم بذلك المبلغ ثقتهم بدوام وظيفتهم ما دام أولياء أمورهم ممنونين من حسن سلوكهم وكمال أخلاقهم، أمَّا البنَّاء والنجار ومن كان على شاكلتهما من أرباب الصنائع فمن العادة أن يخلوا من العمل عقب الفراغ منه، وربما جاء وقت إخلائهم مطابقًا لوقت عسرهم وعدم إمكانهم موافاة عائلاتهم بالمساعدة المعيشية اللازمة، وكذا الحال في البنَّائين والطوَّابين الذين لا يمكنهم العمل أثناء فصل الشتاء وسقوط الأمطار، فإنهم يجعلون أجرهم رفيعةً في باقي فصول السنة. ورجال أرصفة المواني التجارية الذين هم على متانةٍ عظيمةٍ في البنية وقوةٍ وافرةٍ في العضلات ولكن لا مهارة عندهم، يكتسبون أجرةً عظيمةً إذا كانت الحركة التجارية في نشاطٍ ووردت السفن التجارية الكثيرة تحمل البضائع الوافرة، ولكن إذا ضعفت حركة التجارة وكثرت الأنواء بحيث تضطر السفن إلى البقاء خارج الميناء فإن الكثير منهم يقعون في هاوية الفقر المدقع؛ لعدم وجود ما يشتغلون به ويكتسبون منه القوت الضروري.
  • رابعًا: «الثقة التي يجب توفرها فيمن يقوم بالعمل»: لا يمكن للإنسان أن يأمل في الحصول على وظيفةٍ بأحد البنوكة مثلًا أو عند صانع الساعات والجواهر أو غيره إلَّا إذا كان حائزًا على شهرةٍ طيبةٍ وصيتٍ حسنٍ، ولا شيء أصعب على الشخص الخائن الذي لا شرف له من وجود وظيفةٍ لائقةٍ به، وبناءً على ذلك فحسن الصيت ضروريٌّ ليس فقط ليكون وسيلة الحصول على أجرةٍ رفيعةٍ، بل لأنه في ذاته من الأمور التي لا غنية للإنسان عنها، ولا يصير الإنسان الماهر مديرًا لعملٍ مهمٍّ من الأعمال إذا كانت ذمته موضوعًا للريب والشك.
  • خامسًا: «قد يكون الارتياب من النجاح في خدمةٍ ما سببًا في الضرر بأجرة الذين ينجحون في خدماتهم»: قد يحدث في كثيرٍ من الأحوال أن الإنسان يمكنه تقريبًا أن يمنع نفسه عن النجاح، مثال ذلك: أن الذين يُستخدمون في البنوكة أو في المكاتب العمومية بصفة كتبةٍ قد ينجحون في الأعمال التي تستلزمها هذه المحلَّات؛ ولهذا فإن أجورهم قلَّ أن تكون رفيعةً، ولكن الذين يتعاطون حرفة المحاماة عن الحقوق أمام المحاكم قد يوجد قليلٌ منهم واقفين على المعارف الخصوصية والمهارة اللازمة لتحقيق النجاح، ومع ذلك فإنهم يكتسبون المبالغ العظيمة، والذين لا ينجحون منهم في اكتساب هذه المبالغ يعدلون عن حرفة المحاماة ويتعاطون حرفةً غيرها.

وتوجد أعمالٌ كثيرةٌ أجرة القيام بها قليلةٌ جدًّا؛ لأنه يمكن الذين لم ينجحوا في غيرها من الأعمال أن يقوموا بها. وقد يحصل كثيرًا أن الإنسان بعد أن يتعلم حرفةً ويقف عليها وقوفًا تامًّا يجد أنها لا تصلح له بشيءٍ، وفي أحوالٍ أخرى قد يضطر بعض الصناع بسبب عدم إقبال الناس على مصنوعاتهم أن يبحثوا على تعاطي عملٍ غيره، وأولئك الصناع يكونون في العادة ممن تقدموا في السن ويمنعهم فقرهم من الابتداء في تعلم صنعةٍ جديدةٍ صعبةٍ. والذين تربوا التربية الحسنة وتلقوا العلم في المدارس ثمَّ لم يفلحوا يميلون في العادة إلى الاستخدام بوظائف كتابة الأسرار أو النيابة عن بعض التجار في جهةٍ من الجهات، وأمَّا غيرهم فيسوقون المركبات أو يدخلون العسكرية أو يقطعون الأحجار، وأمَّا النساء الفقيرات فتستخدم بصفة خياطاتٍ أو يشتغلن باليومية، وجميع هذه الأحوال براهين وطيدةٌ تدل على ضرورة تخويل كلِّ صانعٍ حرية الدخول في الصناعة التي يقدر على أدائها؛ إذ ليس من العدل أن تغلق أبواب الرزق وتضيق وجوه المكاسب على المساكين بواسطة التضييقات التي يعملها الذين يريدون الاستئثار بهذه الأرزاق والمكاسب.

(٣) اليومية الطيبة

كثيرًا ما نسمع أن العامل يجب أن يكتسب مقابل عمله يوميةً طيبةً وهي عبارةٌ لا حقيقة لمعناها، وغاية الأمر أنها تكافئ ما يُقال من أن الإنسان يجب أن يتحصل ما يجب أن يكون له، ولا توجد وسيلةٌ يمكن بواسطتها الاستدلال على ماهية اليومية الطيبة؛ فإن من العمال من يقبض شلنًا واحدًا في اليوم وآخرين ثلاثة أو أربعة أو خمسة شلناتٍ، وغيرهم عشرة أو عشرين شلنًا في اليوم الواحد، فما هي اليومية الطيبة من بين هذه الأجور المختلفة؟

نقول: إنه إذا أريد بهذه العبارة أن الجميع ينقدون اليومية الجيدة وجب أن يبتدأ أولًا بمساواة كل الرجال في الأخلاق والخواص المختلفة، وقد رأينا أن الأجور تختلف على حسب قوانين العرض والطلب، وأنه كلما اختلف الفعلة في المهارة والقوة كلما كانت نتائج مصنوعاتهم مختلفةً عن بعضها، فينشأ عن ذلك أن اليومية الجيدة متعلقةٌ بالعرض والطلب كأثمان القطن والحديد، فكما أن كلَّ من كان له حبوبٌ أو قطنٌ أو حديدٌ أو أي سلعةٍ أخرى له الحق في بيعها بأعلى ثمنٍ يمكنه بشرط أن لا يمنع غيره عن أن يعمل مثله، كذلك الصانع يُخوَّل له الحق في أن يشتغل بأعلى أجرةٍ يمكنه التحصل عليها بشرط أن لا يعارض العمَلة الآخرين في حريتهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤