مقدمة الطبعة الثانية

١

صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب سنة ١٩٥٣م، ونفدت تلك الطبعة الأولى في سنوات قليلة بعد صدورها، وكانت طبائع الأمور تقتضي أن يُعاد طبع الكتاب فَوْر نفاده، لكنني آثرت عندئذٍ ألا أُخْرِجَ الكتاب في طبعته الثانية إلا بعد أن يُضاف إليه — في صُلْب نصوصه — شروح توضِّح الأفكار التي غمضت حقائقها على القارئ، وذلك إما لاكتفائه بقراءة عجلى تخطف المادة المقروءة خطفًا من أطرافها، وإما لسيطرة أفكار مسبقة على ذهنه سيطرة انتهت به إلى سوء الفهم، ثم مَن يدري؟ فلعل مؤلِّف الكتاب لم يُحسن العبارة ولم يوضِّح الغامض؛ فكان من جراء ذلك كله أن وُجِّهَت إلى الكتاب هجمات نقدية، كنت يومئذٍ أدرك مواضع بطلانها، ومن هنا اعتزمت ألا تكون للكتاب طبعة ثانية إلا إذا جاءت مشتملة على ردود تُبيِّن لهؤلاء الناقدين مواضع البطلان.

لكن الأعوام أخذت تمضي سراعًا، عامًا بعد عام، وكانت كلما انقضى عام منها، ترك لي وراءه شاغلًا فوق شواغل، فتزداد دواعي الإرجاء، حتى أوشكت على اليأس من أن تشهد الطبعة الثانية نور الحياة؛ بَيْدَ أن سؤال الدارسين والقارئين لم ينفك عن ملاحقتي، فماذا عسى أن أصنع وقد أُضيفَت إلى شواغلي الأولى عِلَل وأمراض؟! وكيف لا يحدث وقد مضت بعد الطبعة الأولى ثلاثون عامًا؟ فبات قريبًا من المُحال أن أحقِّق ما اعتزمت أداءه بادئ الأمر، وهو أن أعيد كتابة الكتاب إعادةً تتيح لي أن أعرض الأفكار على صورة تتضمَّن الردود على معارضات الناقدين، فرأيت أن أكتفي بمقدمة أقدِّم بها الطبعة الثانية، واضعًا فيها تلك الردود والشروح في شيء من الإيجاز، مُبْقِيًا على النص القديم كما هو بغير تعديل بكل ما فيه من قوة وضعف، ووضوح وغموض، وحسنات ومآخذ؛ فلقد بَعُدَ به العهد، وأصبح من حقه أن يُصان ليكون بمثابة وثيقة تشهد على فِكْر المؤلِّف وطريقة تعبيره عن ذلك الفِكْر في مرحلة مبكرة نسبيًّا من مراحل عمره.

٢

كان أوجع نقد وأَبْشَعَهُ، هو أن اختلط الأمر على الناقدين فخلطوا بين فلسفة ودين، حتى خُيِّلَ إليَّ يومئذٍ أن بعض هؤلاء الناقدين — على الأقل — لم يقرءوا من الكتاب شيئًا، وهم إما أن يكونوا قد اكتفوا بقراءة عنوانه — في طبعته الأولى — «خرافة الميتافيزيقا»، قائلين لأنفسهم شيئًا كهذا: الميتافيزيقا هي ما وراء الطبيعة، وما وراء الطبيعة هو الغيب، وأيضًا هو الله سبحانه وتعالي، وإذن فهذه الجوانب الهامة من الإيمان الديني خرافة عند مؤلِّف هذا الكتاب. أقول: إن بعض الناقدين إما أن يكونوا قد اكتفوا بقراءة عنوان الكتاب، ثم أخذت خواطرهم تتسلسل على النحو المذكور، وإما أنهم كانوا أقل من ذلك درجة، وطفقوا يردِّدون ما يسمعونه عن غير وعي ولا دراية.

نعم، إنهم خلطوا بين فلسفة ودين؛ فالفيلسوف عندما يقيم بناءه الميتافيزيقي من النوع الذي نرفضه؛ لأن هناك نوعًا ثانيًا من الميتافيزيقا مقبولًا عندنا، وسنذكر ذلك بعد حين؛ أقول: إن الفيلسوف عندما يقيم بناءه الميتافيزيقي، إنما يضع في بداية طريقه «مبدأً» معينًا ينطلق منه، معتقدًا — بالطبع — صواب ذلك المبدأ، وليس لديه من سند يرتكز عليه في ذلك الاعتقاد، إلا ظنه بأنه قد رأى ذلك المبدأ بحدسه (أي ببصيرته) رؤيةً مباشرة؛ لكن اعتقاده في صواب مبدئه لا يمنع فيلسوفًا آخر من أن يضع لنفسه مبدأً آخر يعتقد — بدوره — أنه هو الصواب.

ولنضرب لذلك مثلًا أفلاطون، ثم أرسطو من بعده، فقد رأى الأول أن الأفكار المجردة التي هي بمثابة النماذج الأولى، وعلى غرارها جاءت الكائنات الجزئية، هي ذات وجود موضوعي مستقل وقائم بذاته، فالقِطُّ الذي تراه أمامك سائرًا على أرض غرفتك، قد خُلِقَ وفق «المثال» الأزليِّ للقِطِّ، وما ذاك المثال إلا فكرة مجردة عن طبيعة القِطِّ الجوهرية كيف تكون. وكيف عرف أفلاطون ذلك؟ عرفه من رؤية مباشرة رأى بها تلك «المُثُل» حين صعد إليها في مدارج التأمُّل الفلسفي حتى بلغها، وجاء بعده أرسطو ليرى رؤيةً أخرى فيما يتخذه لنفسه «مبدأً» يقيم عليه بناءه الفلسفي، وهو فكرة «الصورة» التي من شأنها أن تتجسَّد المادة فتكون هذا الكائن أو ذلك، فليست صورة القط — أي جوهر طبيعته — فكرة مجردة مستقلة عن القط، بل هي سارية فيه مُجسَّدة به … إلى آخر ما يذهب إليه الفيلسوفان في ذلك، مما يمكن الرجوع إليه في كتب الفلسفة.

على أن الأمر الذي يهمنا هنا، هو أن الفيلسوف المُعيَّن مطالَب بإقامة البرهان العقلي الذي يبيِّن به صواب مبدئه، وصواب النتائج التي استدلَّها من هذا المبدأ، والذي نرفضه نحن ونطلق عليه صيغة «الخرافة» من عنوان هذا الكتاب — كما كان في طبعته الأولى — ليس هو أن يتَّخذ الفيلسوف الميتافيزيقي لنفسه ما شاء من «مبدأ»، ولا هو — بالطبع — النتائج التي استدلها، ما دام استدلاله لها جاء على منطق العقل؛ بل المرفوض هو أن يبني الفيلسوف بناءه الفكري في ذهنه، ثم يزعم أنه تصوير لحقيقة الكون كما هي قائمة في الوجود الواقعي خارج ذهن الإنسان صاحب البناء، فشأن الفيلسوف الميتافيزيقي وهو يقيم البناء العقلي نتائج مستمدة من مبادئ، هو نفسه شأن الرياضي حين يقيم بناءه الرياضي، مستخرجًا فيه النتائج من المُسلَّمات، كما نرى — مثلًا — في هندسة إقليدس، لكن الرياضي إذ يُقدِّم بناءه الرياضي المُحكَم في روابطه المنطقية، لا يدَّعي أنه تصوير للكون الخارجي. وكيف يدَّعي ذلك، وهو يعلم أن في مُستطاع رياضي آخر أن يضع لنفسه مُسلَّمات أخرى، فيُخرج منها نتائج أخرى؟ فالبناء الرياضي يُحْكَم عليه «داخليًّا» على أساس سلامة الاستدلال، لا «خارجيًّا» على أساس مطابقته للواقع؛ لأن ما هو صحيح رياضيًّا قد يأتي مطابقًا للواقع وقد لا يأتي، وهكذا يجب أن تكون الحال بالنسبة للبناءات الميتافيزيقية في الفلسفة.

وأما العقيدة الدينية فأمرها مختلف كل الاختلاف؛ لأن صاحب الرسالة الدينية لا يقول للناس: إنني أقدِّم لكم فكرة رأيتها ببصيرتي، بل يقول لهم: إنني أقدم رسالة أُوحِيَ بها إليَّ من عند ربي لأبلغها، وها هنا لا يكون مدار التسليم بالرسالة برهانًا عقليًّا على صدق الفكرة ونتائجها المُستدَلَّة منها، بل يكون مدار التسليم هو تصديق صاحب الرسالة فيما يرويه وحيًا من ربه، أي إن مدار التسليم هو الإيمان.

فكيف يجيء الخلط بين موقفَين: أحدهما موقف الميتافيزيقي وهو يُقدِّم للناس بضاعته هو، مستندًا إلى منطق العقل في إقامة البرهان، والآخر هو موقف صاحب الرسالة الدينية وهو يُقدِّم وحيًا أُوحِيَ به إليه، ويطلب من الناس إيمانهم بصدق ما يقوله. إنه إذا اعترض مُعترِض على الفيلسوف فيما يُقدِّمه، فعليه أن يبيِّن أدلته المنطقية التي تُبرِّر اعتراضه، وأما إذا اعترض مُعترِض على صاحب الرسالة الدينية، فذلك ليس لأنه رأى خللًا في منطق التفكير، بل لأنه لم يصدِّق صاحب الرسالة وكفى.

أفبعد بيان هذا الفرق الشاسع بين الموقفَين: الفلسفي والديني، يمكن أن يُقال للمعترض على الفيلسوف، الذي يزعم أن بناءه الفكري هو أيضًا تصوير للكون الخارجي: إنك باعتراضك هذا بمثابة مَن يعترض على رسالة الدين؟! اللهم سبحانك.

٣

يوشك الرأي في طبيعة التفكير الميتافيزيقي أن يكون على إجماع بأنه هو ذلك التفكير الذي لا يقف — في تعليله لما يتصدَّى لتعليله — عند مصادره القريبة، بل يُمعِن في الغوص وراء تلك المصادر القريبة حتى يبلغ أقصى ما يمكن بلوغه؛ فالنظر في العلل القريبة متروك للعلوم، فإذا كان علم البيولوجيا — مثلًا — يكفينا لتفسير التكاثر، كائنًا حيًّا من كائن حي كيف يتم، فإن الفِكْر الميتافيزيقي لا يكتفي بهذا المصدر القريب، بل يرتد بمنطقه خطوة وراء خطوة؛ ليعرف ما الحياة نفسها؟

لكنه إذا كان هنالك إجماع على هذه الطبيعة العامة للفكر الميتافيزيقي، فإن هذا الإجماع سرعان ما ينحلُّ دروبًا مختلفة عندما نسأل عن الموضوع الذي نردُّه إلى أصوله الأولى، ما هو؟ هنالك فريق يقول إنه الكون بكائناته الحية والجامدة، بشموسه وأقماره ونجومه وهوائه ومائه … إلخ، هذا هو الذي نريد أن نردَّه إلى أصله الأول البعيد. وهنالك فريق آخر يفضِّل أن يوجِّه بحثه نحو الأفكار لا نحو الأشياء، فنسأل عن الأفكار العلمية: ما أصولها الأولى؟ فكيف نشأ العلم الرياضي، وكيف نشأت العلوم الطبيعية؟ وكيف نشأت النُّظُم المختلفة؟ وليس السؤال هنا سؤالًا عن النشأة التاريخية متى كانت، بل هو سؤال عن النشأة المنطقية، كيف تأتَّى للعقل الإنساني أن يُفرِز علمًا رياضيًّا وعلمًا طبيعيًّا وهكذا؟

وقد تُسَمَّى الميتافيزيقا التي هي من النوع الأول بالميتافيزيقا التأمُّلية، والميتافيزيقا من النوع الثاني بالميتافيزيقا النقدية. ويمكن التمثيل للتأمُّلية بالفيلسوف هيجل، وللنقدية بالفيلسوف كانط، وكلاهما ألماني من تاريخ الفلسفة الحديثة.

كِلا النوعَين من الميتافيزيقا عملية فكرية مشروعة إذا وقفت عند حدود إمكانها، أما الجانب غير المشروع فهو مجاوزة ذلك الإمكان، فتأتي المحاولة كالضَّرب في هواء. والرأي عندنا هو أن الميتافيزيقا التأمُّلية مقبولة إذا هي وقفت — كما أسلفنا — عند مجرد إقامة البناء الفكري النظري، بأن تفرض لنفسها نقطة ابتداء، ثم تولِّد منها النتائج، فيكون لها بذلك بناء مُتَّسق الأجزاء شبيه بالبناءات الرياضية، ولكنها تُجاوِز مجرد إقامة البناء لتزعم بأنها تُصوِّر الكون كما هو موجود بالفعل، وهنا يكون موضع الخطأ، الذي يشبه الخطأ الذي تقع فيه الخرافة، حين يُعلِّل الناس حدثًا بغير عِلَّته، فيقولون مثلًا: إن مرض المريض علته حين سَكَن الجسد المريض، أو إن موت المسافر علته نعيق الغراب فوق سطح الدار ليلة السفر، وهذا الزعم من الميتافيزيقا التأمُّلية هو وحده الذي نرفضه ونَصِفُه بالخرافة.

وأما أن نوجِّه جهودنا التحليلية نحو العلوم ونتائجها؛ لنرى متى تعوجُّ ومتى تستقيم، وهل هي يقينية الصدق أو أنها لا تزيد في صِدْقها على درجة من درجات الاحتمال، فذلك ضَرْب من الميتافيزيقا سديد ونافع ومقبول.

إننا إذا أخذنا بوجهة النظر التي تجعل الميتافيزيقا لا محاولة لتحليل الوجود الشيئي ورده إلى مصادره الأولى، بل المحاولة لتحليل قضايا العلوم تحليلًا منطقيًّا، بردِّها إلى جذورها الأولى ردًّا يتبيَّن منه مدى مشروعية التركيب اللفظي الذي صيغت فيه قضية علمية معيَّنة: أهو مُتَّسق الأجزاء بعضها مع بعض، أم هو مُنطوٍ على تناقض مستتر؟ أهو تركيب في طبيعته ما يمكِّن الباحث من المقابلة بينه وبين ما يشير إليه من حقائق العالم الواقع، أم هو مشتمل على مفردات لغوية، وعلاقات رابطة بين المفردات، تجعل التحقُّق من الصواب أو الخطأ أمرًا محالًا؟ أقول: إننا لو أخذنا بوجهة النظر التي تجعل الميتافيزيقا تحليلًا منطقيًّا لقضايا العلوم، انتهينا إلى فكرة رائعة بالنسبة إلى الفلسفة وطبيعة عملها، إذ يتضح لنا في جَلاء أن الفلسفة ليست مطالبة بأن يكون لها قضايا خاصة بها، ولا هي مستطيعة ذلك حتى إذا أرادته لنفسها؛ لأن العلوم المختلفة — كل في ميدانه — هي وحدها المؤهَّلة بمناهجها للوصول إلى حقائق الكون والإنسان، وحسب الفلسفة — إذن — أن تسير وراء العلوم تتسقَّط أقوالها لتصبَّ عليها ضوء التحليل المنطقي، فتكشف ما قد يكون فيها من خلل يستدعي من العلماء إعادة النظر.

وقد تسألني: ولماذا لا نترك الخبز لخَبَّازه، فنترك للعلماء أنفسهم تحليل قضاياهم على النحو الذي تشير إليه؟ وجوابي هو: أن ذلك هو ما يحدث في معظم الحالات، ففيلسوف العلم هو نفسه — عادةً — رجل العلم بعد أن استوقفته الأُسُس التي يبني عليها علمه، دون أن يفكر أحد من الزملاء العلماء في تحليل تلك الأُسُس ذاتها، لنرى من أي الجذور جاء نبتها؟ كأن يقف أحد علماء الرياضية — مثلًا — ليحلِّل «العدد» الذي هو أساس البناء الرياضي تحليلًا يبيِّن كيف نبتت فكرة العدد في العقل؟ هل نبتت في أصولها من التجربة البشرية في فجر ظهور النوع الإنساني؟ أو هي من مقوِّمات العقل في فطرته، ولا تحتاج إلى اكتساب من تجربة مع العالَم الخارجي؟ فيكون مثل هذا البحث هو «فلسفة الرياضة».

وشيء كهذا هو ما صنعه «عمانوئيل كانط» في كتابه «نقد العقل الخالص»؛ وذلك أنه — بادئ ذي بدء — أراد أن يلتمس طريقًا للبحث الميتافيزيقي يؤدِّي بنا إلى مثل اليقين الذي نراه في نتائج العلوم الرياضية والطبيعية، فكان منهجه في ذلك هو أن يبدأ بتحليل الوسيلة التي تؤدي بالعقل إلى الوصول إلى الحقائق الرياضية، ثم الوسيلة التي تؤدي به إلى قوانين العلوم الطبيعية (وقد كان كانط أستاذًا للعلوم الطبيعية) فلمَّا أن فرغ من مشروعه التحليلي الضخم في ميدان الرياضة وميدان العلوم الطبيعية، ووصل إلى ما وصل إليه من نتائج؛ أدرك أن ذلك التحليل نفسه لقضايا العلم بشطرَيه الرياضي والطبيعي هو الميتافيزيقا، بعد أن كان يظن في البداية أنه إنما قام بذلك التحليل ابتغاء الكشف عن المنهج القويم الذي يعالج به موضوع الميتافيزيقا بعد ذلك، وتلك هي ما أسميناها بالميتافيزيقا النقدية، في مقابل الميتافيزيقا التأملية. ونحن نُقِرُّ الأولى ونرفض الثانية للسبب الذي ذكرناه فيما سبق.

٤

ونضيف الآن سببًا آخر، يدعونا لرفض الميتافيزيقا التأملية، وهو أن عباراتها — بحكم طبيعة الموضوع — تشتمل دائمًا على حدود لا يكون لها معنًى إلا في مجالها، فإذا قلنا عن أنواع الجملة إنها ثلاثة من ناحية كَوْنها صادقة حتمًا، أو باطلة حتمًا، أو أنها مما يحتمل الصدق والكذب، وجدنا الجملة الميتافيزيقية لا تندرج تحت أي قسم من هذه الأقسام.

الجملة الصادقة حتمًا هي التي تكرِّر المفهوم الواحد مرتَين في صورتَين مختلفتَين: إحداهما تحلِّل مضمون الأخرى، كأن تقول ٢ + ٢ = ٤، والكل أكبر من أي جزء فيه؛ والجملة الباطلة حتمًا هي التي ينقض شطرُها الثاني شطرَها الأول، كأن تقول إن المثلث لا تحيط به ثلاثة أضلاع؛ والجملة التي تحتمل الصدق والكذب هي الجملة التجريبية، كأن تقول إن جبل الهملايا صخوره بركانية. وعلى ضوء هذا التقسيم للقضايا من حيث صدقها أو كذبها، انظر إلى جملة من النوع الذي تورده الميتافيزيقا التأملية في سياقها، وسنختار جملة قد تبدو للقارئ أنها دالة على معنًى من جهة، وأن معناها هذا صحيح من جهة أخرى؛ لكثرة ما أَلِفَ القارئ سماعها وسماع أمثالها، وهي «الخير غاية الوجود»، وهكذا قال أفلاطون حين جعل مثال الخير قِمَّةً لسائر المُثُل، فكأنما المُثُل جميعًا تتجه نحو الخير باعتباره غاية الغايات.

انظر إلى هذه الجملة؛ فهل هي من الجمل التحليلية التي نجزم بصوابها بحكم بنائها اللغوي نفسه، كما حكمنا على جملة «الكل أكبر من أي جزء فيه»؟ كلَّا، إنها ليست كذلك؛ لأن تحليلنا «للخير» لا يتضمن أن جزءًا من معناه الضروري هو أن يكون غاية الوجود، فهل الجملة محتومة البطلان بحكم تركيبها اللغوي، كما حكمنا بذلك على جملة «المثلث ليس محوطًا بثلاثة أضلاع»؟ كلَّا؛ لأن «الخير» و«غاية الوجود» ليس بينهما تناقض داخلي يجيز لنا أن نحكم ببطلان الصِّلة الإيجابية بينهما. أفنقول إذن إن الجملة من النوع التجريبي الذي يكون مَرَدُّ الحكم بصوابه أو خطئه إلى التجربة؟ كلَّا مرة ثالثة؛ لأنه إذا جاز لنا الزعم بأننا نعرف حقيقة الخير من خبرتنا بالحياة، فليست «غاية الوجود» جزءًا من تلك الخبرة، أي إنه مُحَال علينا أن نجد في دنيا التجربة ما يؤيِّد أو ما ينفي أن يكون الخير غاية للوجود؛ فما معنى ذلك كله؟ معناه هو أن الجملة الميتافيزيقية إذا انتُزِعَت من سياقها الذي وردت فيه، وجدناها غير صالحة للحكم عليها بصدق أو بكذب، أي إنها ليست قضية منطقية على الإطلاق، إذ إن تعريف القضية المنطقية هو أنها ما يمكن الحكم عليه بالصدق أو بالكذب، وبهذا تكون الجملة الميتافيزيقية خالية من المعنى.

٥

وهنا لا بد من وقفة قصيرة نشرح فيها ما نريده عندما نقول إن العبارة الميتافيزيقية من النوع التأملي، هي عبارة بغير معنًى؛ إذ إن العبارات ذوات المعنى لا تخرج عن أن تكون واحدة من صنوف ثلاثة أسلفنا ذِكْرها، على حين أن العبارة الميتافيزيقية — وضربنا مثلًا لها عبارة «الخير غاية الوجود» — لا تندرج تحت أي صنف من الأصناف الثلاثة، أقول: لا بد لنا هنا من وقفة قصيرة شارحة؛ لأن القارئ يغلب عليه أن يقف ذاهلًا أمام قولنا إن جملة «الخير غاية الوجود.» بغير معنًى، إذ هو يشعر بينه وبين نفسه أنه يفهم معناها أوضح الفهم.

ففكرة «المعنى» وما يُقصَد به، هي من أهم ما شَغَلَ الفلاسفة المعاصرين، إلى الحد الذي جعل بعضهم يذهب إلى أن تعريف الفلسفة هو أنها «تحديد المعاني»، وإن الرأي عند هؤلاء الفلاسفة لَيَتَشَعَّب عند تحليلهم لمعنى كلمة «معنًى»، فمنهم مَنْ جعل معنى اللفظة المعينة هو «الشيء» الحسي نفسه الذي تشير إليه اللفظة؟ ومنهم مَن وجد مثل هذا التحديد أضيق جدًّا من أن يشمل جميع الحالات، فقال إن «المعنى» هو «التصوُّر الذهني» (أي المفهوم) الذي تشير إليه اللفظة، ثم لَحَظَ فريق ثالث بأن هذه التحديدات تقتصر على اللفظة وهي «اسم» قائم وحده، على حين أن الأهم هو «الجملة» فقالوا إن الجملة ذات «المعنى» هي تلك التي تتضمن بطريقة مفرداتها وتركيبها إمكان التحقُّق العملي من صدقها، وإلا فهي جملة بغير معنًى.

وهذا هو موقفنا عندما زعمنا أن الجملة الميتافيزيقية التأملية بغير معنًى، وإلا فكيف يكون التحقق من صِدْق قولنا «الخير غاية الوجود»؟ وما الفرق — من هذه الناحية — بين هذا القول والقول الذي ينقضه فيزعم أن الشر هو غاية الوجود؟ كلا القولَين سواء في عدم قابليتهما للتحقق من صدق أيِّهما أو كذبه، فلا يبقى أمام السامع أو القارئ — في هذه الحالة — إلا أن يحتكم إلى «شعوره»، (لا إلى منطق العقل)؛ ليرى مع أي القولَين يشعر بالرضى.

وها هنا تبرز نقطة ذات أهمية خاصة، هي الألفاظ الدالة على «قِيَم» أخلاقية وجمالية، فلئن كان القارئ العادي لا يكاد يعبأ بما نقوله عن «المطلق» و«الوجود» و«الصورة» وما إلى هذه المعاني الفلسفية المجردة، فهو شديد الحساسية لما نقوله عن الألفاظ الدالة على قِيَم الأخلاق بصفة خاصة؛ ولذلك كان من بين المواضع التي استثارت نفوس الذين وجَّهوا النقد إلى الطبعة الأولى من هذا الكتاب ما ورد عن «القِيَم» من أنها معدودة بين المفاهيم الميتافيزيقية التي رفضنا أن يكون لها معنًى خارج البناءات الفكرية التي وردت فيها؛ فأخذت هؤلاء الناقدين ظنونٌ بأن في مثل ذلك القول تنكُّرًا للأخلاق نفسها.

وحقيقة الموقف بعيدة عن ظنونهم تلك بُعْدًا شاسعًا، فلسنا نعرف ضربًا واحدًا من ضروب الفكر الفلسفي تنكَّر للقِيَم الأخلاقية والجمالية في ذاتها، ولكن الأمر أمر تحليل يكشف عن طبيعتها، وفرق بعيد بين أن تقول عن شيء ما إنه «غير موجود» وبين أن تقول عنه إنه موجود، وحقيقته هي كذا وكذا؛ والذي نزعمه عن أي لفظ يشير إلى قيمة أخلاقية أو جمالية، هو أن دلالة ذلك اللفظ ليست جزءًا من الواقع الخارجي، ولكنها كائنة في طَوِيَّة الإنسان وتظهر عندما ينفعل ذلك الإنسان بما يراه في مجرى الأحداث الخارجية، فإذا هو رأى جنديًّا من بني وطنه يقتل رجلًا من جيش العدو في ساحة القتال، وحَكَمَ على الفصل بأنه «شجاعة» تستحق الثناء، فإنما جاء الحكم من الطريقة التي ينظر بها صاحب الحكم إلى الموقف الذي رآه وحكم عليه بأنه شجاعة محمودة، وقد يرى شخص آخر ذلك الموقف نفسه، بعين أخرى تمقت الحروب على إطلاقها، فيحكم على الفعل بأنه نذالة وهمجية، ومعنى هذا كله هو أن القيم الأخلاقية والجمالية هي ضرب من «الرؤية» التي توحي بها ثقافة الشخص الذي يُطلِق تلك القيم على المواقف؛ فليس الاختلاف على قيمة الشجاعة في ذاتها، بل الاختلاف على ماهية الموقف الذي يستحق أن تُطْلَقَ عليه هذه القيمة.

٦

نقطة أخيرة أقدمها إلى القارئ؛ ابتغاء مزيد من التوضيح؛ وأتمنى لو أنه كان في مستطاعي أن أقدمها مكتوبة بمصابيح «النيون» الساطعة بنورها؛ ليراها الأعشى والمبصر على السواء؛ لأنها كانت مصدرًا لخلط عجيب؛ وتلك هي أن كل ما أكتبه في سبيل التجريبية العلمية، إنما يُقْصَد به مجال واحد من مجالات القول — وهي كثيرة — وأعني به مجال «العلم» بمعناه الطبيعي التجريبي، ولم يَقُل أحد بأن اللغة لم تُخْلَق إلا لهذا المجال العلمي وحده، فهنالك مجالات الشعر والنثر الأدبي، وشتَّى صنوف التعبير الوجداني على اختلافها، بل ومجال السحر والخرافة وأساطير الأولين. نعم، هنالك هذه المجالات كلها، وبديهي أننا إذ نشترط شروطًا خاصة للعبارة العلمية كي تكون مقبولة على أُسُس منطقية تجعل لها «معنًى» قابلًا للتحقيق، بحيث يمكن الحكم عليها بالصواب أو بالخطأ، لم نكن نريد أن تُطَبَّق تلك الشروط على قصيدة الشعر أو على قصة بناها الخيال. فلكل صنف من صنوف القول الأخرى — التي ليست من صنف التفكير العلمي — معياره الخاص به، فللشعر الجيِّد معياره، ولأي جنس أدبي غير الشعر معياره، وهي معايير تختلف كل الاختلاف عن معيار المنطق العقلي الذي تُضْبَط به مناهج القول في دنيا العلوم.

إنه إذا تحدَّث إلينا متحدث بخبر يرويه عن «هاملت» أو عن مصباح «علاء الدين»، وأردنا أن نتحقق من صدق روايته، فلن يكون سبيلنا إلى التحقيق هو الرجوع إلى عالم الطبيعة بأشيائها وكائناتها بحثًا عن رجل اسمه «هاملت» بين الرجال، أو عن شاب ذي مصباح سحري بين الشباب، ولو فعلنا لما وجدنا، فهل نقول عندئذٍ إن الجملة التي رواها المتحدث عن هاملت أو عن علاء الدين مرفوضة؛ لأنها ليست بذات «معنًى» ما دام العالم الواقعي لا يشتمل على موضوع الحديث؟ كلَّا، بل إننا في هذه الحالة نرجع إلى العالم الخاص بكل موضوع على حِدَة، فترجع بالنسبة لهاملت إلى رواية شيكسبير المعروفة، كما نرجع بالنسبة لمصباح علاء الدين إلى الحكاية الخاصة به بين حكايات ألف ليلة وليلة، وهناك نراجع حديث المتحدث على ما ورد في عالمه الخاص.

لكن الأمر يختلف إذا ما كان الخبر المروي لنا خبرًا عن حقيقة من حقائق العالم المادي من حولنا، كأن يُقال لنا — مثلًا — شيء عن أشعة الضوء وسرعتها وزوايا انكسارها، أو خبر عن مياه البحر الأحمر، أو رياح الخماسين في مصر؛ فها هنا يتجه التحقيق العلمي نحو الواقع الطبيعي بكل ما لدى الإنسان من حواس أو أجهزة تعين تلك الحواس على دقة الإدراك.

ولمَّا كان موضوع اهتمامنا في هذا الكتاب هو التفرقة بين ما يجوز قبوله وما لا يجوز قبوله في مجال القول «العلمي» وحده — دون سائر المجالات — قَصَرْنَا معاييرنا على موضوع اهتمامنا، فلم نَسْلَم من هجمات الناقدين الذين لم يكن لهم من دقة النظر ما يفرِّقون به بين مجال أردناه ومجالات أخرى لم نُرِدْهَا، حدثناهم حديثًا عن زيد، فراحوا يلتمسون التطبيق على عمرو؛ فلما لم يجدوا التطبيق مُوَاتِيًا؛ وجَّهوا التهمة إلى مؤلِّف الكتاب لا إلى أنفسهم.

أما بعد، فقد رأيت أن أَسْتَبْدِلَ بعنوان الكتاب في طبعته الأولى — وكان «خرافة الميتافيزيقا» — عنوانًا آخر هو «موقف من الميتافيزيقا»؛ لعل هذا العنوان الجديد أن يكون أخفَّ وقعًا على الأسماع، وأقرب إلى الموضوعية والحياد.

وبالله التوفيق.

زكي نجيب محمود
الجيزة في نوفمبر ١٩٨٢م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤