ضريح «أبو أمين»

كتب إليَّ واحد اسمه جميل نوفل، وعلى ظرف مكتوبه طابع بريد بيروت، ومما قاله في رسالته اللطيفة:

عرفناك محبًّا للأموات، تبعثهم من قبور الإهمال والنسيان؛ فلماذا أغاظك تشييد ضريح للشاعر القومي أمير الزجل اللبناني؟

وأخيرًا يسألني: هل كان بينك وبين المرحوم شيء؟ …

يا مصيبتاه! في هذا الشرق الأدنى، ويا عجبًا لناسِنَا، كبارهم وصغارهم! … فهم لا يقيسون الأشياء إلا بالعداوة والبُغض … فالحقيقة لا حساب لها في دفاترهم.

وقد طوى السيد جميل نوفل كتابه على نَصِّ قرار أُجيز فيه لرئيس مصلحة الخزينة أن يدفع بصورة سُلفة مبلغ عشرة آلاف ليرة إلى المهندس هنري مشعلاني، رئيس منطقة لبنان الجنوبية، لنفقات أشغال إقامة ضريح لرشيد بك نخلة في مسقط رأسه.

قلت: وهذه أعاجيب بعض الخمسة والخمسين، فلو كانت طريق ضبعة، أو جرُّ مياه لعطاش، أو فتح مدرسة؛ لاعتصموا بالأعذار وأرجئوا تلك المشاريع إلى أن يُبْعَثَ المرحوم رشيد من قبره …

أمَّا مشروع كهذا يقف وراءه ابن الفقيد العزيز؛ فيجب تنفيذه حالًا لئلا يقال: يا معزِّي بعد حين يا مجدد الأحزان …

بقي ضريح الشدياق فرَّاجًا لكرب المكارين وعابري السبيل المزحومين نحو نصف قرن، ولولا الخط الهندسي الذي قضى بنقل ضريحه من مكانه لما استراح ذاك العظيم من زواره الثُّقلاء …

أقول هذا لأدلَّ على أنَّ المرحوم رشيد نخلة صاحب «كلنا للوطن» ليس أعظم من هذاك، ومع هذا لم يسمع صوتنا أحد من حكومة ذلك الزمان، وبقي «صقر لبنان» في تلك الوحلة البشرية التي نَكَبَه بها موقع قبره.

وأحلى ما سمعناه حول ضريح أبي أمين، شُكر ابنه اللبِق الأستاذ أمين نخلة لمجلس النواب، بعد أن أقرَّ تشييد ضريح لأبيه.

لباقة جميلة من لباقات أمين المعهودة، فهي من نوع مشي القاتل في جنازة المقتول.

فيا ليت شعر أمين، أكان شيء مما كان لو لم يكن نائبًا؟!

وإن زعم السيد نوفل غير ما أزعم، فليقل لي لماذا لم يشيِّدوا ضريحًا للمعلم بطرس البستاني، مؤلِّف دائرة المعارف، ومحيط المحيط، ومجلة الجنان، ومنشئ أول مدرسة وطنية علمانية؟

لماذا لم يقرر المجلس تشييد ضريح لعظام ناصيف اليازجي؟ فهل أنَّ محسن الهزان أعظم من مجمع البحرين وثالث القمرين؟

بل لماذا لم يبحثوا عن عظام أديب إسحاق؟

ما ذكرت الأسير ولا الأحدب — للتوازن الطائفي — لأنَّ لهما قبرين.

ولا أذكر الريحاني؛ فقد قررت أن أستغيثَ بالإنكليز والأميركان بشأن ضريحه، ولا تستطيع حكومتي أن تقول ما قاله سيف الدولة لابن عمه: ومن يعرفك بخراسان؟

جميلٌ تشييد ضريح لأمير الزجل، وهو جدير بهذا، ولكنَّني أُقسم ألْفَ يمين، أنَّه ما كان يفوز بثمن بلاطة توضع على قبره باسم لبنان لو لم يكن ابنه نائبًا.

سنظلُّ خاضعين للاستهتار حتَّى ينقرض حصر النيابة والوظائف في بيوت معلومة.

إنَّ نفس سجعان عارج طلبت الرحمة حين تذكَّرنا كلمته الشهيرة، فقد قال — رحمه الله: طلبنا انتداب فرنسا على لبنان؛ فانتدبت فرنسا علينا بيت الخازن.

ونحن نقول: انتخبنا هؤلاء النواب لينوبوا عنا، فما ناب أكثرهم إلا عن أنفسهم …

أستغفر عظامك يا صديقي أبا أمين، ويشهد عليَّ ربي، وتشهد أنت — لو نطقتَ — أني أحبك.

ولو كنتَ حيًّا لوقفت بجانبي؛ فقد عرفتك حرًّا جسورًا لا تُحابي.

عين كفاع، ٩ / ٨ / ١٩٤٨م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤