أفروديت

اختفت فرقة الموسيقى وراء ستور ذهبية الخليل التي انقلبت معبدًا فرعونيًّا قديمًا، وجعل كل من الحاضرين يصلح من ملابسه للمنظر الثاني من مناظر هذه الليلة الساحرة، وسادت برهة صمت لم تطل أن حلَّ فعل الشراب عقدة الألسن، وبعث إلى النفوس من معاني الابتهاج ما أعجزها عن السكينة … وأضاف ضياء القمر الذي ازداد نحولًا ورقة إلى بهجة النفوس هيامًا بالجو السائغ، وهيامًا أكثر منه بِدَلّ الراهبات الباسمات بسمات نعيم ورضا، ولبثنا على ذلك برهة لم تطل، ثم إذا بنا نحس بادئ الأمر، ثم نستيقن بعد ذلك أن أصواتًا موسيقية بعيدة تجيء إلينا مبطئة مبطئة، كأنما هي تهبط من سابعة السموات، ووقفت راعية هاتور مبطئة مبطئة هي أيضًا تستقبل هذا الصوت السماوي الهابط إليها مع شعاعة من ضوء القمر. فلما كادت قامتها تنتصب تقدمت برجلها اليمنى ورفعت يديها إلى ناحية الصوت، كأنما تستجدي من الآلهة مزيدًا في سعادة الليلة، وفي ضراعة استجداء الآلهة رقصت الراعية رقصًا قدسيًّا، فلم تترك وسيلة لاسترضاء أهل السماء أو للتأثير فيهم بها، إلا لجأت إليها، وما أحسب أن هذا القوام اللدن المتثني استعطافًا الواهب نفسه للأرباب هبة حلال، إلا نال رضاهم وما يطمع فيه من نعيم. فلم يكد هذا الرقص ينتهي حتى كانت دقات الموسيقى ترتفع في أنغام طرب وسرور وبهجة لم يستطع الجمع معها إلا أن يقوموا مبتهجين يشكرون للآلهة أنعمهم، وما دامت الآلهة قد بعثت من سماواتها رقص الطرب فإنما يكون شكرها بالإذعان لمشيئتها وبالإمعان في الطرب. على أن القوم لم ينتظروا طويلًا ليعرفوا هذه المشيئة؛ فقد ارتفع من خلف الستور صوت العواد منشدًا: «شكرًا للأرباب، أرباب السماء. قد منحونا غبطة وهناء، فانعموا بالعيش في لج القمر، عاشق القبة الزرقاء وهَّاب الثمر، ثمر العشق لمن جن غرامًا. شكرًا للأرباب …».

وعلى أنغام هذه الأنشودة انتقلت الراعية من رقص الاستجداء إلى رقص الشكر، ومن التثني في ضراعة إلى القفز في مرح، كأنما تريد أن تطير إلى آلهة أجدادها الفراعنة تقبلهم تقبيلًا، أما الجمع فاندفع يغني: شكرًا للأرباب أرباب السماء، وفي نشيده اختلطت أصوات الرجال القوية بالأنغام النسوية المشجية، وإن تميزت هذه الأنغام كما يتميز الماس المركب على الذهب الأبيض، وأمسى القوم في أنشودتهم وفي رقصهم زمنًا، حتى انقلبت الموسيقى مرة ثالثة إلى أنغام ردت النفوس إلى الشعور الديني، وعادت بالمنشدين إلى احترام معنى لباس الرهبان، ودعا القوم شبهها بموسيقى المنظر الأول إلى أن يقفوا صفين رهبانًا وراهبات؛ لتخطر بينهما راعية هاتور راقصة رقصًا دينيًّا هو رقص التوبة والاستغفار خرت في ختامه ساجدة وقد علا بالنحيب صوتها، وما كان أشد دهشتنا حين ألفيناها، بعد ما فرغت الموسيقى من عزفها وبعد أن اتجه كل إلى مقعده يريد أن يعود إليه، ما تزال دمعتها تنهل على وجناتها الخمرية اللون فلما سكن روعها قال الذي دعانا إلى الشاي: كذلك الحياة: ضراعة إلى النعيم فنهل منه فزهد فيه وتوبة عنه. صبًّا يتوثب، وشباب يستمتع، وشيخوخة تخشى وتستغفر. رجاء ما نكاد نحسبه تحقق حتى نراه حلمًا يتطاير. هذا معنى نراه كل يوم بأعيننا، لكنه لا يترك من الأثر في نفوسنا ما كان لدموع الراعية التي أذابت قلوبنا وفتحت على هذا المعنى نظراتنا التي لا ترى كثيرًا مما تقع عليه.

وعادت كل جماعة إلى مكانها، وعاد الأشيب مع السيدات والسادة فجلس إلى جانب فاتنة سميراميس كما كان. أما الشاب فقد ظل على مقربة من راعية هاتور يسألها عما بها، وإن كره الخليل هذا التحكك الذي أثار من غيرته. على أنه في رعايته حقوق الضيافة لم ينس أن ينادي السقاة؛ ليدوروا على الجمع بالشراب، وسرعان ما امتلأت الأكواب أترعها السقاة تتبعهم غادة المومياء. فلما عاد القوم إلى شرابهم استصحب الخليل الراعية إلى مجلسنا مع السيدات والسادة آملًا أن ينصرف الشاب إلى حديث غير حديث الهوى، ولم يخطئ الظن، فما كاد يستقر به المقام حتى اتجه إلى ناحية الذي دعانا إلى الشاي قائلًا: حق ما ذكره صديقنا نجيّ العجل المقدس. إن الناس اليوم هم الناس منذ بضعة آلاف السنين التي يعرفها التاريخ من تفكيرهم. لكني بإزاء ما رأيت منذ لحظة أسائل نفسي، أصحيحٌ أن الحقيقة المجردة وحدها يجب أن تكون موضوع عناية الباحث وغاية حياة الحكيم؟ وهل صحيح أن في الوجود حقيقة مجردة غير هذه الحياة التي نحيا بما فيها من شهوات وأوهام وآمال وبما تنتهي إليه من تفان وتجدد، يهبط بجيل إلى غيابات الفناء؛ ليطفوا بجيل آخر إلى عالم الشهوات والأوهام والآمال؟ وخير ما في هذه الأوهام من حقيقة هو ما نحن الآن فيه من نعيم كنا ننهل منه، وما يزال لنا أكبر الرجاء فيه بأن تعود الراعية الساحرة إلى الرضا عن الحياة لترضى الحياة عنا جميعًا.

فأسرع الخليل خشية أن يعود الشاب إلى ما يثير غيرته فقال: لقد ذكرتم أن هاتور في مصر هي سميراميس في آشور، وهي أفروديت عند الإغريق، وقد أسمعنا نجيّ أبيس من أمر هاتور حديثًا شهيًّا، فهل لنا أن نسمع عن أفروديت مثل هذا الحديث؟

وكأنما أراد الخليل بذكر أفروديت وبرواية قصصها أن ينسى الشاب وغير الشاب راعية هاتور؛ لتبقى خالصة له من دون الرجال الحاضرين جميعًا، فلا يضطر أن ينبه أضيافه إلى فضل الراعية وحبه لها في إعداد هذه الليلة لمتاعهم، وأن ينبه الشاب إلى ألا يخرج به الشراب عن صوابه.

وكان الأشيب قد نال من رعاية فاتنة سميراميس التي صدفت عن صاحبها الأول لنسيانه إياها في شرابه ما جعله يملق جمالها بنظراته دون أن يستطيع قولًا إلا همسًا لا يرى من اللياقة أن يسمعه أحد غيرها، لكنه إذ سمع دعوة الخليل إلى قصص حديث أفروديت، وإذ كانت أفروديت إلهة الجمال والحب والرغبة والخصب وكل معاني الحياة محققة على الحياة، فقد رأى في توليه قصص حديثها الوسيلة إلى مخاطبة صاحبته في شخص إلهة الرغبة؛ لذلك سارع إلى هذا القصص في لهجة مطمئنة تنطوي طمأنينتها على شيء من الإيمان بأفروديت يشبه إيمانه بسميراميس وفاتنتها. قال: ليست إلهة الجمال والرغبة أفروديت إغريقية الحسب، بل هي فينيقية من قبرص، ولعلها تتصل صلة لم يحدثنا عنها التاريخ بزيارة إيزيس جبيل باحثة عن أوزوريس. على أن أزيود يذهب إلى أنها نشأت نشأة أخرى. ففي معركة بين الإلهين القديمين أورانوس وكرونوس قط الأخير رجولة الأول، فسقطت هذه البقايا المقدسة على لج الموج، فحمل منها رغاؤه الذي ظل يجتمع حولها حتى كملت منه ساعة بلوغها قبرص الإلهة الساحرة ذات التاج الذهبي، ويذهب هوميروس إلى أن الإلاهات أعجبن بأفروديت ساعة رأينها، فأنشدن في حضرتها أغنيات المرح، وزُين آذانها بأقراط الذهب، وخلعن عليها ما كن يلبسن في أعناقهن وعلى صدورهن من أطواق ولبات. فلما تمت زينتها خرجن بها إلى الآلهة حافات من حولها. فما كاد الآلهة يرونها حتى هام كل بسحرها، وتحركت فيه لواذع الرغبة، وتقدم يريد منها زوجًا له وزينة لمضجعه الإلهي وكمالًا لربوبيته، وكيف كان لأي منهم سبيل إلى النجاة من سحرها، وقد كان الحب والرغبة بعض تبعها، وكان يتضوع مع عذاب شذاها سحر الحديث وسحر الابتسام وسحر الكذب وسحر المرأة جميعًا.

«على أن إلهة الجمال والرغبة كانت من الذكاء بما طوع لها أن تنال من رغبة كل إله، وكانت من الكرم والفطنة بما دعاها إلى أن تصل بين الآلهة والناس بأوثق صلة، وعلى الرغم مما كانت تعرفه وتشعر به من كبرياء الآلهة وحرصهم على ألا تختلط أنسابهم بأنساب عبادهم، فقد سخرت من هذا الحرص وتلك الكبرياء، وجعلت تخدع الآلهة في الناس والناس في الآلهة، فتدس في مضجع الإله جميلة من بنات حواء، وفي مضجع الإلهة … جبارًا من بني آدم، وكأنما دفعتها الرغبة آخر الأمر إلى تذوق ما أتاحت لغيرها ذوقه، أو كأنما حنق عليها أبو الآلهة زوس، فأراد أن يخضعها لما أخضعت هي له غيرها من الآلهة؛ لذلك ما لبثت أن رأت أنشيز يرعى أبقاره على سفوح الأيدا حتى امتلأ جسمها بجماله الساحر سحر جمال الآلهة غرامًا ورغبة. فأسرعت إلى معبدها، وأحاطت بها الشاريت حتى استحمت ثم عطرنها بالعطور الإلهية، وازيّنت ولبست ثيابها النمامة، وخرجت قاصدة سفح الأيدا، حتى إذا رآها أنشيز جنَّ بها ما يجن كل من رآها من الناس والآلهة طرًّا. على أن الخوف ملكه أن تكون إلهة فيصيبه من الاقتراب منها أذى. لكنها خدعته بقولها إنها ابنة ملك فريجيا، وإنها جاءت إليه بأمر أبيها لتصبح له زوجًا، ولم يطق أنشيز أمام جمالها صبرًا، وكان له مخدع وثير كساه من جلود السباع والضباع التي صادها، فذهب بها إليه وهي كاسرة الطرف تزعم الحياء، ولما أفاق من غشيته وبصر بها وقد ارتدت ملابسها لم تبق لديه ريبة في ألوهيتها، فتضرع إليها ألا يصيبه ما يصيب من تخالط الإلهات الخالدات من ذهوب الشباب. فطمأنته وإن لم تخف عليه أنه مصيبه الهرم الذي لا يرحم حين يهدم الناس هدمًا، ثم إنه سيعتاض من هرمه ومن مشيبه أبناء من الآلهة تخلد فيهم قوته. أما هي، أما أفروديت، فسيصيبها من فعلتها معه سخرية الآلهة إن هم علموا بشيء من أمرها. لذلك حذرت أنشيز أن يقول شيئًا أو يفخر بما صنع، وإلا أصابته الصاعقة بإذاعته سرًّا يجب كتمانه.

«وإنما كانت صلة أفروديت بأنشيز عماية ساعة. لكنها أولعت حبًّا بأدونيس، حتى لقد ذهب يومًا للصيد فاقتحمه حيوان مفترس وجرحه جرحًا مميتًا، وكان هذا المنظر بمرأى من أَفروديت، فطارت إليه ناسية أن تحتذي، فوطئت قدمها شجرة ورد جرحتها شوكتها فأسالت منها نقطة من الدم، وكان الورد إلى يومئذ أبيض اللون فاحمرَّ لونه من دم أفروديت، وأقامت تبكي محبها زمنًا أدهش الذين عرفوها صديقة الهوى والعابثة بكل معاني الوفاء.

«ولأفروديت غير هذا من قصص العبث بالآلهة والناس استيفاء لرغباتها ما يطول حديثه. على أن حكومتها هي وحيرا وهيلانة إلى الشاب البارع باريس لا يجهلها عالم بتاريخها. فقد تنافس النسوة الإلاهات الثلاث في الجمال فاحتكمن إلى باريس، وكيف كان له أن يتردد في حكومته بعد الذي تضوع به جمال أفروديت الباهر الفاتن، ولما حكم لها أرادت العبث بمنافستها هيلانة زوج أجا ممنون، فبعثت إلى نفسها عشق باريس حتى تبعته تاركة مضجع زوجها مرتضية الشاب الذي حكم عليها خليلًا لها، وكانت هذه الفعلة سبب حرب طروادة، وفي هذه الحرب برز كل من هذين الخصمين لصاحبه، فجر الزوج باريس من خوذته. لكن أفروديت أسرعت إلى معونة من قضى لها بحكومة الجمال فأنقذته وفرت به، وأرادت هيلانة أن تكفر عن خطيئتها بعد الذي رأت من ضعف خليلها. لكن إلهة الرعد هددتها إن هي فعلت أفسدت عليها وعلى زوجها الحياة، وأرغمتها بذلك على أن تظل في أحضان باريس برغم احتقارها إياه لضعفه وحنقها على نفسها.

وكذلك يملك الجمال أفئدة الآلهة والناس جميعًا إناثًا وذكرانًا، وكذلك حكمت أفروديت آلهة الأولمب كما حكمت الناس بذكاء جمالها الساحر، وحق لكل من منحت أفروديت أن تجلس على عرش الجمال حاكمة على القلوب والأرواح والأفئدة، مسخرة لرغباتها الآلهة والرجال تسخيرًا يستريحون له ويرضون عنه، بل يرغبون فيه أعظم الرغبة».

في هذا الموضع من حديث الأشيب التفت الشاب إليه وعلى شفته بسمة الساخر فقال: تحدث أخي تحدث. هات لنا من مثل ما ذكرت عن الآلهة والجميلات. حدثنا عن أفروديت إلهة البغي والفجور، وقل لنا بعد ذلك إنها إلهة تستحق العبادة، وأن تقام لها الصلوات، وأن يحرق لها البخور، ولك أن تذكر أكثر من هذا أن الإغريقيين القدماء الذين امتازوا بالفطنة والذكاء، والذين ألف مؤلفوهم خير ما كتب في الأخلاق، قد شادوا لبغيها ولفجورها من المعابد ما لا أدري أي دافع يدفعك إلى التحدث عنه بكل هذا الإطراء والإعجاب.

أتم الشاب حديثه، فأدار الأشيب إليه وجهه لحظة ارتسمت أثناءها على شفتيه ابتسامة ازدراء وإشفاق، ثم شاح بوجهه وتوجه به إلى نايحة صاحبته الفاتنة، وقال: يخطئ الذين يحسبون أفروديت إلهة البغي والفجور. إنما هي إلهة الخصب، تريد أن تهدي للعالم أجمل ثمرات الحب وأبهاها، ولذلك كان الإغريق يباركون باسمها الزوجين أول زواجهما ليكون لهما من الأبناء في مثل جمال أفروديت وذكائها، وكيف تريد بإلهة الجمال والرغبة ألا تهب من هذه الفضائل لكل مختاريها؟ أو لو ضنّ إله الحكمة بحكمته على الناس أيبقى مع ذلك جديرًا بالربوبية؟! ولو ضن إله الحصاد أو إله الخصب بالخصب وبالحصاد، وتركا الأرض جرداء قاحلة ليموت الناس جوعًا، أو ليطعموا الزقوم، أيكون أيهما قمينًا بقليل أو بكثير من حب الناس واحترامهم، والناس مطالبون بهما لكل إله؟! فماذا يستطيع إذن أن ينقم ناقم من أفروديت أو من سميراميس أو من كل إلهة من آلهة الجمال والخصب إذا هي اتصفت بالكرم أول صفات الآلهة، وخلعت من جمالها ومن رغبتها على العالم؛ لتزيد العالم جمالًا، ولتزيد الناس في العالم رغبة؟! ولسميراميس ولأفروديت في العالم رسل من بنات حواء لهن مثل جمال أولئك الآلهة، ويملكن من وحي الرغبة ما كانت الآلهة تملك. أولئك الرسل يباركن العالم ويبعثن إلى جوه شعرًا ونعمة.

وفي هذا الموضع من حديثه زاد توجه الأشيب للفاتنة ولمعت حدقتاه بندى بللهما وجعل منهما مرآة تسترد الفاتنة إليها لتردها إلى حنايا فؤاده، وشعرت هي منه بهذا، فتندت نظراتها هي أيضًا، ونسيت صاحبها العاكف على شرابه فما يسمع مما يدور حوله من الحديث شيئًا، ولا يتعفف عن أن يجيل عينيه في الراهبات حوله لا يفضل منهن واحدة على أخرى، وبدت من الفاتنة حركة دلّت على حرصها على أن تبدي جمال ذراعيها، كأنما تريد أن تبين عنهما للأشيب المسحور بجمالها لتقول له: هما لك يطوقان كل جيدك فلا يعرف بعد تطويقهما شيئًا، وتابع الأشيب حديثه، وقد تندى صوته كما تندت حدقتاه فقال: تبارك أولئك الرسل العالم، ويبعثن إلى جوه شعرًا ونعمة، وإذا هن لم يعنين بأن يكن أوعية خصب، فحسبهن فضلًا أن يوحين لغيرهن من تلك الأوعية حرصًا على أن يثمرن ثمرًا جميلًا. ألستم ترون إلى كل امرأة لم تؤت من الجمال الحظ الذي ترضى عنه تجاهد لتبدو جميلة، وتجاهد أكثر من ذلك لتنسل نسلًا يخفض من نسبة القبح في العالم ولو اقتصرت رسالة أولئك الرسل من ذوات وحي أفروديت، وعددهن على ما يزال عليه من قلة، على أن ينفحن العالم بثمرات جميلة، ولم يكن المثل الذي تجاهد غير الجميلات ليكون ثمرهن مثله، لكانت تلك الرسالة أقصر من أن تدفع بالعالم إلى نواحي الكمال كما تدفع رسالتهن الأفروديتية القدسية اليوم به.

ومع أن الأشيب كان متجهًا بكل حديثه هذا إلى فاتنته فقد افترت ثغور الراعية وحاسداتها عن بسمات الرضا لسماع قول هذا المفتون بالجمال، ومالت كل منهن عند ختام الحديث إلى ناحية الصاحب الذي يملقها، وكان الخليل قد نسي الشاب ونسي أنه صاحب الليلة، وترك نفسه لعواطفها، وجعل يحدث الراعية حديث هوى ورغبة. ألم يكن قد أخذ هو أيضًا من الشراب الحظ الذي ينسي الحكيم قيود الحكمة؟! ثم إنه لم يكن يخشى غضب أحد أن كان كلٌّ في شغل بنفسه وبمن يستلين فؤادها، وكان ذلك كله يحدث في رهبة المعبد الفرعوني الذي ازداد رهبة أن أطفئت رويدًا رويدًا بعد انتهاء المنظر الثاني كل الأنوار الساطعة، فلم تبق إلى جانب شعاعات القمر التي تخترق الستور سوى أضواء مستورة بحجب مختلفة الألوان تزيد جمال كل جميلة وضوحًا، وتخفي ما أحدثه عبث الزمن بالوجوه، فتلبس الكل حلة الشباب.

ونسيت فاتنة سميراميس نفسها لحظة في عذب حديث الأشيب وحلو ثرثرته، ثم أجالت النظر فيما حولها، فإذا بها تجد صاحبها الأول قد غادر المجلس كأنما لم تبق له برؤية منافسه طاقة، أو كأنما وصلت النشوة من غور نفسه حتى نسي كل ما حوله، فهبط إلى إحدى غرف الذهبية ليتمطى فيها، وأحس الأشيب تغيرًا في بسمات الفاتنة لم يرتب في أن الأسف، على ما حل بهذا الصاحب، كان سببه. لكن هذا التغيير لم يدم إلا قليلًا، وما لبث أن انقلب إلى زيادة في إقبالها عليه وفي صراحة إعجابها بحديثه ورضاها عنه، وزاد هذا الرضا في إشراق وجهها، وضحك عينيها، وفتنة ابتسامتها، وضياء كل جمالها ضياء زادته الرغبة ذكاء فضاعفت جماله، وعقد لسان الأشيب إزاء ما رأى. لكن عقدة لسانه جعلت صمته أكثر إيضاحًا عن كل ما يدور بنفسه من المعاني من كل كلام يمكن أن يعبر عنها، وأي كلام ولو أوقعت أنغامه على أوتار القدسية، يمكن أن يعبر عن التفاني في عبادة الجمال والإخلاص الصادق في العبودية لفاتنته! وذلك الإخلاص وهذا التفاني يتضاعفان إذا حلا نفسًا كنفس الأشيب أولعت طوال حياتها بتقوى الله وتورعت عما عند عباده، ولو كان ما عند عباده هو الجمال، وطال بهما الصمت وإن نطقت منهما النظرات أعذب منطق بكل ما تهتز به أعصابهما وأرواحهما وقلوبهما ونفوسهما من عواطف ورغبات ومعان.

وبعد زمن رفرف فيه إله الحب بجناحيه المضيئين على رهبان المعبد وراهباته، بعد زمن لم يدر هؤلاء الرهبان أطال أم قصر، عاود الخليل رجع من واجب المضيف، فإذا به يهيب من جديد بالسقاة وبغادة المومياء، وإذا به ينادي العواد وأصحابه: هلموا يا رفاق فأوقعوا لنا دورًا، ولعل الصحب جميعًا يغتبطون أكثر الغبطة إن أنتم أنشدتم: «غننا في الشوق أو غن بنا».

وأصلح الموسيقيون آلاتهم، وغنى العواد أنشودة كليوباطرة، وعاودت الجمع يقظة للوجود بعد أن كانوا قد نسوا الوجود في أحلام آلهة الجمال والهوى، وردد الليل الصامت على نواسمه الرقيقة وعلى أشعة عاشق السماوات أصوات الأوتار وألحان المغني الذي استثار من طرب الحضور واستحسانهم ما زادهم عرفانًا لفضل الخليل. فلما انتهى الدور ووضع الموسيقيون آلاتهم جانبًا، قال الذي دعانا إلى الشاي: ألا يشهد هذا اللحن من ألحان كليوباطرة بأن ملوك مصر القديمة وآلهتها كانوا يعيشون في حياة شعرية لا تقل عن حياة أفروديت كما وصفها لنا صاحبنا؟

قال نجيّ أبيس: كلا، لم يخلع قدماء المصريين على آلهتهم كل هذا الشعر الذي خلعه الإغريق على آلهتهم، وإذا كانت ابنة البطالسة ذات الحديث الساحر قد جعلت من حياتها قصة خيالية، فلعلها، من بين ربات عرش مصر وأربابه، الوحيدة التي خرجت على حكمة الأقدمين، ولعل لها من العذر أن لم يكن دم آبائها مصريًّا خالصًا، ولم يكونوا عبادًا مخلصين لآلهة الفراعنة الأقدمين. أما التاريخ فلم يحفظ لنا في قصص إيزيس ولا هاتور ولا أية آلهة أخرى مثل ما يقص تاريخ اليونان عن آلهته وإلاهاته، ولعل ذلك يرجع إلى الفرق الكبير بين طبيعة مصر وطبيعة اليونان. فبينا ما في هذه من جبال وأوية يجعل سماءها عرضة لتغيرات كثيرة تبعث إلى النفوس ألوانًا مختلفة من الشعور والحس، وتطبع التفكير نفسه بطابع التلون، إذا بمصر ساكنة إلى حياة واحدة هي الحياة على ضفتي النيل في نضرة الوادي الدائمة، تنفرج عنها الصحراوات إلى آفاق الآفاق، وتظلها سماء دائمة الصفو. هذا النوع من العيش أدعى إلى التفكير في القدسيات، وأولها الموت ثم ما بعد الموت، من تلك الحياة الإغريقية التي يُنسي حاضرها مستقبلها، ويجعل أهلها يكبون على المتاع بهذا الحاضر أشد إكباب، وليست قصة أفروديت وشهواتها وسحرها إلا صورة من نسيان المستقبل في الحاضر، وليست حياة باكوس إله الخمر ولا دمتر إلهة الحصاد إلا بعض هذه الصور. فأما آلهة مصر الفرعونية، فكانت تزين جباههم جميعًا سكينة خلد الوادي المطمئن إلى حاضره طمأنينة تبعث بخياله وبتفكيره إلى المستقبل الرهيب الذي ينتظرنا في الأبدية. هاته السكينة ترونها على جبهة أبيس كما ترونها على جبهة أوزوريس وإيزيس وهاتور من آلهة الخير، وترونها كذلك على جبهة إله الشر نفسه. جباههم جميعًا مطمئنة كجباه المصريين جميعًا، في حين تشتعل في حناياهم نار المستقبل والتفكير فيه، وهذا هو ما دعا الفراعنة الأقدمين إلى أن ينقروا في الصخر قبورهم، وأن يعدوا فيها كل معدات الحياة الأخرى، كي يكفلوا من طمأنينتها ما كفلوا من طمأنينة الدنيا، وهذا هو ما جعل صحاري مصر مأهولة في عصور كثيرة بمعتزلة الصحراء ممن يقضون حياتهم صومًا وصلاة؛ لينالوا الرضا في الحياة الآخرة، وهذا كذلك هو ما جعل مصر مهبطًا لوحي الحكمة أكثر منها مهبطًا لآلهة الشعر وشياطينه.

كان الشراب قد أخذ لب صديقنا الشاب. لكنه كان من قوة الإرادة بما يجعله يغلب فكره على نوازع غريزته كلما خشي أن يجد الناس في هذه النوازع موضعًا لنقد؛ لذلك ترك المحبين يعودون إلى التناجي بالأسرار، واندفع معقبًا على قول النجي: لست أعتقد أن الفراعنة من أجدادنا قد قصروا أنفسهم على الحكمة وحدها، وبخاصة على هذه الحكمة العبوس التي لا تعنى إلا بالموت وبما بعد الموت فلقد كان لديهم إلى جانب آلهة الخير، آلهة الزينة كهاتور، وآلهة الشر وما يزين الشر للناس من ألوان الحياة. ثم إن في القليل من القصص الذي قرأنا عنهم شيئًا كثيرًا عن هذه الدنيا ونعمتها والمتاع بها، ولعلهم كانوا ككل العالم الوثني في حرصه على المتاع بالحاضر، وفي تعلقه به تعلقًا اجتمع له من الحكمة حظ كبير. فنحن إذا نذكر المتاع على أنه أس من أسس الحياة ترانا ننتقل به إلى النظام الفكري الذي ألفناه، والذي نتوهم أن في العالم حقيقة واحدة يجب التوفر عليها. فإذا كان المتاع هو هذه الحقيقة وجب التوفر على الحاضر إلى حد الإفراط فيه بما يخرجه عن معنى الخير الصحيح الذي له، إلى النقيض منه ويجعله شرًّا بحتًا. أما هؤلاء الأقدمون الذين كانوا يحرصون على المتاع بالحاضر فكان لهم من سبل القصد في المتاع ما تمليه غريزة الاحتفاظ بالمتاع نفسه. هذه الغريزة التي تدلك في غير منطق ولا تفكير على أن دوام المتاع لا يكون بالتوفر عليه توفر إمعان وإدمان؛ بل بالنهل منه الفينة بعد الفينة لتدوم غبطتك به، كما أنك إنما تدوم غبطتك باليقظة إذا قطعتها كل يوم بالنوم إلى الحد الذي يريح النوم جسمك فيه إلى يقظة جديدة، وكما أن اليقظة حقيقة والنوم حقيقة، على أنهما ضدان متناقضان، فالمتاع حقيقة والامتناع حقيقة، وهما ضدان، وأنت في حاجة إلى الامتناع وإلى المتاع حاجتك إلى النوم وإلى اليقظة، وهذا شأن كل حقيقة إنسانية يجب أن تجتمع من الضدين اللذين يكونان الحياة، أي إنها يجب أن تكون الحياة في كمالها. فأما هذه الأمور التي نسميها حقائق؛ لأنها ترضي منطق العقل وحده فحظها من الحق ضئيل، أو قل إنها ليست من الحق في شيء.

ومضت بعد حديث الشاب برهة صمت أعقبتها ضحكة حلوة جاءت من إحدى نواحي المعبد لعلها كانت سخرية الحياة من العقل وتفكيره. ثم عاد التهامس إلى مثل ما كان تكلؤه أفروديت برعايتها، وكان الليل تولى مدبرة أعجازه، وكلما ولى بعضه ولى معه بعض الحاضرين ينحدرون إلى حيث يخلعون لباس الرهبان، ثم يستقلون السيارات إلى حيث ينتظرون مطلع ضياء الفجر، ولم يكن أحد يدري في أي سيارة جاء، وإنما كان يعود إلى حيث يريد في السيارة التي يدعى إلى العودة فيها.

واعتذرت فاتنة سميراميس لأصحابها عن العودة معهم بأن صاحبها مضطجع في الذهبية، ولا بد لها من انتظاره. لكنها لم تكد ترى المكان خاليًا إلا من الخليل والراعية، وترى رجال الخليل ينزلون ستور المعبد الفرعوني لتعود الذهبية كما كانت، حتى أشارت إلى الأشيب قائلة في ابتسام: هل لك في أن ترى مطلع الشمس على وجه أبي الهول عند سفح الأهرام؟

ولما أجابها في طرب واغتباط إلى ما أرادت، استأذنا الخليل والراعية، وخلعا لباس العبادة، ثم استقلا سيارة صاح الأشيب بسائقها: هيا بنا إلى الأهرام.

وصاحت الفاتنة: هيا بنا، إلى بيت مِنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤