سبب فتور القصص

ينشر الأستاذ «جب»، الأستاذ بمعهد الدراسات الشرقية في لندن دراسات مستفيضة باللغة الإنجليزية عن الأدب العربي الحديث، وقد تناولت هذه الدراسات النثر العربي والشعر العربي وسائر الأدب العربي الحديث في هذه الفترة الأخيرة من حياة مصر الأدبية، كما تناولت الأدب في القرن التاسع عشر وتأثره بادئ الأمر بالآداب العربية القديمة وبشعر الجاهلية وعصور الإسلام الأولى بنوع خاص، ثم تأثره بعد ذلك بالآداب الغربية، وبالآداب الفرنسية والإنجليزية بنوع خاصٍّ، وقد وقف من بحثه عند فن القصص والرواية من فنون الأدب، وأشار إلى أنها لم تتأصل بعد في الآداب العربية، وتكلم في هذا الباب عن قصص شوقي وعن «عيسى بن هشام» للمويلحي وعن روايات جورجي زيدان التاريخية، ثم وقف وقفة خاصة عند «زينب» وقال: إنها الأولى من نوع القصص الحديث، وتحدث بعد ذلك عن «إبراهيم الكاتب» للأستاذ المازني، وأشار إلى قصة «الأيام» التي قص فيها صديقنا الدكتور طه حسين فصولًا من حياته تشعر وأنت تقرؤها بأنك تقرأ عواطف فياضة تنتقل إلى نفسك وتنطبع فيها فتعجب بها إلى جانب إعجابك بالألفاظ وموسيقاها وجمال نظامها أشد إعجاب.

ووقفة مستر «جب» عند فنون القصص والرواية في الأدب العربي ليست بالشيء العجيب، وليست هي الوقفة الأولى من جانب من تصدوا لدراسة فنون هذا الأدب في عصرنا الحاضر من المستشرقين ومن الكتاب المصريين أنفسهم وقفوا هذه الوقفة متسائلين عن السبب في عدم ذيوع هذا الفن من فنون الأدب سواء في الشعر أو في النثر، في حين هو قد يقف من الأدب الغربي في الذروة من كل فنونه، والحق أن هذا الإقلال الغريب في فن القصة والرواية يدعو إلى العجب وإلى الدهشة، وهو كذلك بنوع خاص في مصر. فللمصريين في تاريخ الأدب القصصي مكان كريم؛ إذ يرجع إليهم — على أرجح الروايات — فضل «وضع ألف ليلة وليلة» وكثير من القصص المتداولة اليوم، والتي كتبت في عصور سابقة ولم تصل دراسة الأدب إلى تحقيقها تحقيقًا مضبوطًا. ثم إنَّ حب الرواية والقصص في الطبيعة المصرية، حتى لتجد أهل القرى أحرص الناس على رواية الكثير منها لأبنائهم وذويهم وأصدقائهم في الكثير من أوقات فراغهم، وليست الحوادث الوجدانية بالقليلة ولا بالنادرة الوقوع حولنا حتى تتهم الحياة المصرية بأنها قاصرة عن إلهام هذا الفن إلهامًا قويًّا، ومسارح القصة في الطبيعة المصرية كثيرة. كما أن لهذه الطبيعة من الجمال وتعدد صوره وألوانه ما يعاون الكاتب على أن يخلق لقصصه مختلف البيئات ذات الأثر في إلهام عاطفة من العواطف أو مأساة من المآسي أو مهزلة من المهازل. فكيف، وهذا هو الواقع، يكاد الأدب العربي الحديث يخلو من القصة؟ وإلى أي سبب يعزى هذا النقص المعيب في فنّ مكانته من فنون الأدب المكانة الأولى؟

يحلو لبعض الكتاب من المستشرقين وغير المستشرقين، أن يعزو السبب في هذا النقص إلى ضعف في الخيال يحول بينه وبين تأليف مجموع القصة، وإلى مثل هذا السبب يعزو أولئك الكتاب اقتصار أكثر كتاب مصر وأدبائها على نشر الرسائل الموجزة، وما أحسبني في حاجة إلى الإطالة في إدحاض هذا الزعم بأكثر من الإشارة إلى ما يقوله كتاب الغرب وساسته طعنًا في الشرق بأنه خيالي، وبأنه لذلك لا يقدر الطريق العلمية في البحث ولا في سياسة الدولة، وكيف يمكن أن يكون الشرق خياليًّا وضعيف الخيال في وقت معًا؟ ولِمَ يكون خياليًّا في العلم والسياسة حيث يكون الخيال مفسدًا، ثم يضعف خياله في الفن القصصي للأدب حين يكون الخيال المتصل بواقع ما في الحياة هو المرشد الأول لإتقان هذا الفن؟ أليس هذا كافيًا للدلالة على أن الاتهام بالإسراف في الخيال وبضعف الخيال يقصد به في الحالين إلى الطعن والتجريح لغايات لا ترضاها الحقيقة، ولا تعاون على حسن تفاهم الأمم بعضها مع بعض، وأن الغرض الحقيقي منه تثبيت الإيمان في نفس أمم الغرب بأنها متفوقة على الشرق في كل شيء تفوقًا يجعل من الحق لها أن تحكم أمم الشرق هذه، وتستغلها من غير أن يكون في ذلك اعتداء على ما للأمم من حق في الحرية والسعادة؟ وليس أدل على أن هذه هي الغاية الحقيقية من تلك الدعاية التي يُلبسها أصحابها ثوب البحث العلمي والتاريخي، والتي يؤيدون بها ما يدعيه بعض ساسة الغرب من أنَّ الأقدار ألقت عليهم عبء تحضير أمم الشروق وتمدينها، على حين أن مطامعهم هي التي ألقت عليهم عبء العسف بأمم الشرق والاستبداد بشؤونها.

ويعزو كتاب آخرون السبب في نقص فن القصص والرواية في الآداب العربية العصرية إلى اختلاف ما بين لغة الأدب ولغة الكلام اختلافًا يجعل قراء الأدب الراقي قليلين إلى حدٍّ يفتُّ في عضد الكتاب، ويصدهم عن المضي في سبيلهم، وفي هذا السبب ظاهر من الوجاهة. لكنه لا يعدو أن يكون ظاهرًا في اعتقادنا. فإن فن القصص في الأدب الغربي يرجع إلى أول أيام «البعث» الأوربي في القرن الخامس عشر، وفي ذلك العصر كان بين لغة الأدب ولغة الكتابة اختلاف لا يقلُّ عن الاختلاف الموجود اليوم في اللغة العربية بين لغتي الكلام والكتابة. مع ذلك ازدهرت حياة الأدب في أوربا، وكان للقصص والرواية مكان رفيع منذ القرن السادس عشر، بل منذ القرن الخامس عشر في إنجلترا، فهذا السبب وحده لا ينهض إذن حجة للنقص الذي يلاحظه الكل في شأن القصة والرواية العربية، اليوم ولا بد أن يقترن به سبب آخر لم يكن موجودًا في الغرب على حين هو موجود في الشرق، وهو الذي يدعو إلى تثبيط همة الكتَّاب عن القصة والرواية. بل لعل هناك أكثر من سبب واحد كما سنشير إليه من بعد.

ويجب كذلك أن نهمل ما يتهم به بعضهم كتَّاب مصر والشرق العربي من الميل إلى الكسل ومن قلة الإنتاج. فكثيرون من الكتاب المصريين ليسوا أقل خصبًا في الإنتاج من أكثر كتاب الغرب إنتاجًا. لكن إنتاجهم لا يتجه كله إلى ناحية القصة والرواية، بل يتوزع مجهودهم في نواحٍ شتى، إذا هي جمعت دلت على عظيم ما يقومون به من مجهود، وما يؤدونه إلى لغة بلادهم وآدابها من خدمة، وما أظنني مغاليًا إذا أنا قلت: إن كثيرين منهم أكثر مداومة للاطلاع وتدقيقًا فيه من كثير من كتاب الغرب. كما أن منهم من هم أعمق بكثير من الكتاب في بعض أمم أوربا المختلفة، ويكفي أن يرجع الإنسان إلى آثارهم ما نشر منها وما لم ينشر، ما جمع منها وما لم يجمع؛ ليقتنع اقتناعًا صادقًا بأنهم يقومون — في بيئة لا تقدر عملهم التقدير المشجع — بمجهود الجبابرة، ثم لا يبتغون من ورائه جزاءً ولا شكورًا. ما هو السبب الصحيح إذن في فتور الأدب العصري عن القصة والرواية؟ أو بعبارة أدق ما هي الأسباب المجتمعة التي أدت إلى هذا الفتور، وبخاصة في مصر حيث الميل إلى القصة أصيل في النفس منذ أبعد عهود تاريخنا حتى الوقت الحاضر؟

أشرت إلى أن اختلاف لغة الأدب ولغة الكلام مما يراه بعضهم سبب الفقر في القصة والرواية ليس إلا سببًا ظاهرًا لا يمكن أن ينهض وحده للدلالة على هذا الفقر، وبخاصة أنه لم يحل في أول «البعث» الأوربي دون ازدهار هذا الفن من فنون الأدب، والواقع أن هذا السبب يجب أن يضاف إليه أكثر من سبب آخر؛ ليكون بعض ما يمكن الاحتجاج به على هذه الحالة التي استوقفت نظر المستر «جب» واستوقفت من قبله أنظار كثيرين، وأول سبب يجب أن يضاف إليه: ذيوع الأمية وعدم انتشار التعليم في الشرق انتشارًا كافيًا. فهذه الأمية الذائعة تحول بين الجمهور وقراءة القصص كما تحول بينه وبين الاستماع لها مع تقدير ما تحتويه من فنون الأدب؛ لجهل الجمهور بهذه الفنون من جهة، ولأنه لو استمع لها لما زاد ذلك انتشارها بما يعوض صاحبها العوض المادي الذي يشجعه على المضي في كتابة ما يوحيه إليه خياله قصة بعد قصة، وقد يكون ذيوع الأمية من الأسباب التي تسرع إلى الزوال مع سير حركة التعليم الجديدة بهذا النشاط الذي تسير به في بلاد الشرق جميعًا، ومع نجاح المجددين في جعل أساليب الكتابة بعيدة عن ذلك التعقيد الذي كان يعتبره أسلافنا المباشرون، ومن لا يزال منهم يعيش بين أظهرنا، مقياس البلاغة والدليل على الاقتدار في الفن. لكنه لا يزال باقيًا، ولا يزال من آثاره هذا الفتور الذي يقعد بالكاتب عن متابعة السير في فنّ القصص، ويعدل به إلى ناحية أخرى من الكتابة أجدى عليه وإن لم تكن أجدى على الأدب نفسه.

يضاف إلى ذيوع الأمية فتور الأغنياء عن معاضدة الأدب كله، وعن معاضدة الأدب القصصي بنوع خاص، وهذه المعاضدة هي التي شجعت كتَّاب أوربا في القرون التي تلت «البعث» والتي كانت كعصرنا هذا غير بارَّة بالكتابة وبالكتَّاب. فإلى لويس الرابع عشر يرجع أكبر الفضل في بقاء الشعر الخالد الذي خلفه راسين وكورني وموليير ولافونتين، وإلى معاضدة الأغنياء يرجع الفضل فيما خلفه روسو وفولتير وديدرو وهلباخ … وغيرهم من كتاب القرن الثامن عشر، وأحسب عذر أغنيائنا عن فتورهم هذا أنهم لا يجدون من السيدات دافعًا إلى هذه المعاضدة. فقد كان لسيدات قصر لويس الرابع عشر الأثر الأكبر في معاضدة كبار شعراء العصر وكتّابه، ولسيدات «صالونات» الأدب الكبرى في القرن الثامن عشر الأثر الأكبر في حماية كبار كتّاب ذلك العصر وتشجيعهم، وما ما كان يتهم به بعض أولئك السيدات من الخفة والطيش، فإنهن قد أدين لبلادهن أجل خدمة بما ظهرن به معاضدات لفن من أرقى الفنون وأجملها، ولو أن كتاب الشرق وجدوا مثل ما وجد كتاب القرن السابع عشر من معاضدة لويس الرابع عشر، ثم لو أنهم وجدوا من حماية فضليات السيدات وعطفهن وتشجيعهن ما وجد أولئك، وما وجد كتّاب القرن الثامن عشر من بعدهم، وما يزال الكتّاب يجدونه حتى العصر الحاضر على صور تتفق مع حياة هذا العصر الذي نعيش فيه، إذن لرايت الأدب العربي، ولرأيت الأدب القصصي بنوع خاص، يجد من صور الإلهام ما لم يعرف حتى يومنا هذا، ولوجدت فيه نشاطًا وجدَّة وإبداعًا وفيض خيال ما أظن الغرب يستطيع أن يسابق الشرق فيه، بل أجزم بأنه لن يستطيع أن يسبقه إن هو حاول مسابقته.

ولا أريد لأيِّ اعتبار من الاعتبارات أن أضعف من خطر هذا السبب من أسباب فتور الأدب كله، وفتور الأدب القصصي والروائي منه. فلم يكن أثر السيدت هو الذي حفز الأدب في الغرب وحده إلى نهضة كبرى كالتي نهضها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ بل كان كذلك هو الذي حفز الأدب دائمًا في كل الأمم وفي كل العصور، ولن تعوزنا الأمثال إذا نحن رجعنا إلى العرب في الجاهلية وفي صدر الإسلام وفي أيام عظمته وازدهاره، وليس من المطلعين على الأدب العربي واحد لا يعرف ما كان لسكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب وحفيدة فاطمة ابنة النبي — عليه السلام — من أثر في الأدب وإنهاضه وتشجيعه. هذا، ولم تكن سكينة منفردة بذلك العمل، وإن كانت منفردة بين ضريباتها فيه بشرف حسبها ونسبها واتصالها أقرب اتصال بالنبي العربي، وليس في ذلك من عجب. فالقصة والرواية إنما تصور الحياة تصويرًا صادقًا تمليه العاطفة ويحلله العلم، ولا سبيل إلى هذا التصوير الصادق ما لم تشترك المرأة فيه بوحيها وبإلهامها، وما لم يتصل هذا الوحي والإلهام؛ ليجددا نفس الكاتب أو الشاعر، وليدفعا إليه حياة فتية جديدة كلما آذنت قوته بالفتور أو الضعف، وهذا الوحي والإلهام من جانب نصف الإنسانية الثاني هو في كثير من الأحيان خير عزاء عما يفقده الكاتب أو الفنان من ربح مادي؛ بل فيه دافع إلى التضحية بهذا الربح المادي في سبيل الفنّ ما دامت أدوات هذا الفن كاملة.

وهذا في رأينا هو السبب في أن كثيرين من الذين يكتبون قصصهم في الشرق يقفون عند القصة الأولى، يرون فيها تاريخ عاطفتهم الأولى حين كان الشباب ما يزال كافيًا يدفعهم إلى تخليد هذه الصفحة من صفحات حياتهم، فإذا وقعت لهم بعد ذلك تواريخ عاطفية أخرى، ولم يكونوا قد وجدوا التشجيع من ربح مادي أو رعاية عظيم أو تشجيع سيدة مهذبة تعرف كيف ترتفع بهم إلى ما فوق الاعتبارات الثانوية فتقوي ضعفهم، وتلقي عنهم غبار فتورهم — نزعوا إلى الناحية التي يرونها أوفر كسبًا، وأكفل بالشهرة وبالمجد، وإن تكن شهرة سريعة الانطفاء ومجدًا مقضيًّا عليه بالزوال.

وما دمت قد أشرت إلى السيدات وأثرهن في الأدب، فيجب أن أذكر في جوارهن أن ضعف أدب القصص والرواية كضعف استمتاعنا بالحياة استمتاعًا كاملًا، يرجع إلى عدم تربية عواطفنا تربية صحيحة، مع أن هذه التربية الصحيحة هي التي تكفل للعواطف حسن الاستمتاع بالحياة في أجمل صورها وأكثرها سموًّا وسناء ونورًا، وتكفل لذلك ازدهار أدب القصص والرواية ازدهارًا لا سبيل إليه في حياة ناقصة متبلدة العواطف إلى حدٍّ يجعل أهواء المرء وشهواته تحل من نفسه محل هذه المشاعر السامية، فتعبث به وتكون سبب برمه بالحياة وشقوته فيها؛ لأنها لا تكشف له من جوانبها إلا عن الفساد والنقص، ولا تدفع إلى نفسه حب الحياة حبًّا صحيحًا، وكلُّ فن لا يصدر عند صاحبه عن حبه لجانب من جوانب الحياة لا يمكن أن يزدهر، وفن القصص أكثر من سائر الفنون حاجة لحب صاحبه الحياة؛ لأن القصص صورة الحياة.

وأنا إذ أقول بنقص تربية العاطفة عندنا أتمثل أمام عينيَّ صورًا نراها كلنا كل يوم، وقد نمرُّ بها مستخفين غير آبهين لها أو واقفين عندها في حين هي ذات مغزى عميق لو أدركناه دعانا إدراكنا إياه لتغيير نظرتنا وتصرفنا، وقبل أن أقف عند العاطفة التي تتصل بالغريزة الجنسية في نظر كثيرين لأعالجها بشيء من التحليل يكشف عن النقص الذي أشير إليه، أود أن أقف قليلًا عند عواطف أخرى أمتحنها بشيء من المقارنة؛ لتتبين للقارئ الغاية التي أرمي إليها، ولتتضح أمامه الفكرة التي قدمت، ولنبدأ بعاطفة الإحسان، وأقصد البر بمعناه السامي. فأنت إذا دعوت إلى اكتتاب لمستشفى أو لمدرسة أو لعمل خير أيًّا كان، وكنت موضع ثقة الناس جميعًا، ألفيت مع ذلك ضعفًا في الإقدام لا يتغلب عليه في كثير من الأحايين إلا الإلحاف وإلا مطامع شخصية يرجوها المحسن من وراء إحسانه. فكثيرون لا يقدمون إلا رجاء رتبة ينالونها أو أملًا في مصلحة عاجلة أو آجلة تُقضى لهم. هذا على أنك ترى في إنجلترا مثلًا كثيرين يتبرعون بألوف ومئات الألوف لأعمال الخير والبر مدفوعين بعاطفتهم، ومن غير أن يطلب إليهم أحدٌ إحسانًا. بل يأبى كثيرون من هؤلاء أن يعرف اسمه، ويكتفي أن يضع المبلغ تحت تصرف هيئة موثوق بها تتولى إنفاقه في وجوه الخير التي يقررها هذا المحسن المحبوب. ثم إن العاطفة لذاتها نامية عند الجمهور الإنجليزي نموًّا تغبط إنجلترا عليه. فمستشفيات تلك البلاد تدفع نفقاتها من الإحسان العام يشترك فيه الناس كافة من طبقات الأمة كلها بغير تمييز بين بائع الصحف والتاجر الصغير والثري الكبير، وهؤلاء جميعًا يدفعون إلى المكلفين بتحصيل التبرعات عن طيب خاطر، بل مع الشعور بالغبطة لأداء واجب يؤمنون في أعماق نفوسهم بأنه فرض يؤلمهم عدم أدائه.

فلو أن تربية العاطفة عندنا كانت نامية نموّها في الأمم الأخرى؛ لكان أداؤنا واجب الإحسان صادرًا عن عاطفة تامة النمو كاملة الشعور تنغص علينا الحياة إذا هي لم تؤد هذا الواجب أداء كاملًا.

وعاطفة الرفق وما يتصل بها من عاطفة النجدة مثلها عندنا مثل عاطفة الإحسان سواء، وكثيرون منا من يمرون بحيوان ضعيف سقط إلى الأرض قد هده الإعياء، أو بأخٍ لنا من بني الإنسان هوى به الشقاء فألقى به مضعضعًا على قارعة الطريق، فلا تتحرك في نفوسهم عاطفة، اللهم إلا أن تكون حمدًا لله على ما أنجاهم من مصاب كالذي تقع عليه أعينهم ثم يمرون به معرضين، والذين يصنعون هذا رأوا عشرات المرات جماعة من الناس تهذبت فيهم عاطفة الرفق، وما تكاد أعينهم تقع على مثل هذا المنظر حتى تتحرك عاطفة الرفق في نفوسهم فتدفعهم إلى النجدة. فإذا فرغ أحدهم من نجدة الحيوان أو الإنسان المستحق لها، لم ينتظر من أحد جزاء ولا شكورًا، وانصرف وكل جزائه طمأنينة نفسه وراحة ضميره إلى أنه أدى واجبه الذي تمليه عليه عواطفه.

وأستطيع أن أعرض بالمقارنة لكثير من العواطف غير ما قدمت. على أني أود أن أشير إلى بعض العواطف الأولية التي يردها الكثيرون — ومن بينهم بعض العلماء — مرد الغرائز. تلك عواطف الحب وما يتصل بالحب من عواطف الأبوة والبنوة، وما أحسبني أغلو إذا أنا قررت أن الحب عندنا ما يزال قريبًا جدًّا من الغريزة الجنسية، محصورة دائرته أو تكاد فيما تلهمه هذه الغريزة لتلخيد النوع وتحسينه. فأما المناطق العليا التي يرتفع الحب المهذب إليها، فأما الحب بمعناه الإنساني السامي من الاشتراك التام في تمثل الحياة قوة وجمالًا وسناء، فأما الحب على أنه عاطفة إنسانية سامية أساسها إنكار الذات والرقي النفساني إلى عالم الخير والجمال والحق؛ لنخلع من كل ما في هذا العالم على نفسٍ أخرى تحاول من جانبها ما نحاول من التعاون على استيعاب كل ما في الحياة من رضًا ونعيم، فذلك ما قلّ أن يفكر فيه أحد أو يتصور وجوده إنسان. هذا، ولو ربيت العاطفة وهذبت وسمت إلى المكان الذي تستطيع إن هي حاولت أن تسمو إليه، لرأينا في الحياة غير ما نرى اليوم، ولشعرنا بأننا نستطيع أن نقصّ من مشاهداتنا فنونًا من الأدب هي القصة الضعيفة اليوم لضعف تربية العاطفة عندنا بما يجعل عواطفنا كلها هزيلة أنانية لا تستطيع أن ترتفع عن مقام الغرائز إلا بمقدار ضئيل.

وقد نشأ عن ضعف عاطفة الحب عن السمو إلى المكان الإنساني الجدير حقًّا بها أن أصبحت عواطف الأبوة والبنوة نفسها بعيدة عما يجب أن تكون عليه من جهاد كل جيل؛ ليسموَ بالجيل الذي يليه في عواطفه كما يسمو به في علمه وعقله، بحيث يدفعه؛ ليقطع شوطًا جديدًا في طريق الكمال، وإن كثيرين ليشعرون بأن الصلات المادية كثيرًا ما تكون ذات أثر في هذه العواطف القوية التي يجب ألا تتأثر بشيء من هذا، حتى لقد يعقّ أبناء آباءهم، وقد يحقدُ آباء على أبنائهم لغير شيء إلا لصلات مالية كان من الطبيعي ألا تخضع لها عواطف مقدسة كالأبوة والبنوة بأقل مقدار.

ما هو السبب في ضعف تربية العاطفة، وفي نقصها هذا النقص المعيب؟

تعوَّد كثيرون أن يقولوا: إن السبب في ذلك يرجع إلى تربية البيت لا إلى شيء آخر، وهؤلاء يريدون أن يقيموا حدًّا فاصلًا بين التربية والتعليم، بحيث لا يلقون على المدارس والجامعات أيَّة تبعة عن هذا النقص، وعندي أن هذا غلو فاحش، وبطلانه يزداد وضوحًا كلما ارتفع مستوى التعليم وسمت الغاية التي يقصد إليها من العلم. فقد كان العلم عندنا إلى زمن قريب وسيلة للارتزاق وكسب العيش ليس غير، فكان بذلك صناعة من الصناعات التي يتلقاها الناس؛ ليكسبوا من عرق جبينهم بها ما يقوتهم ويقوت عيالهم، وكان الكثيرون من المتعلمين لا يزيدون لذلك على صناع أداتهم القانون: لرجل القانون، أو المشرط للطبيب، أو ما إلى ذلك من الأدوات لغير هاتين الطائفتين من المتعلمين، وكان ذلك واضح الأثر في حياة تلك الطوائف التي يسمونها تجوزًا طوائف المتعلمين. فأنت لم تكن تكاد تخرج إلا بالقليل منهم عن النطاق الضيق الذي يعمل فيه لكسب قوته، وإذا به قاصر العرفان إلى حد مخجل، وإذا بك تستطيع أن تقول في غير غلو أو مبالغة: إن القانون في يد رجل القانون والطب في يد الطبيب مثله كمثل الفأس في يد الزارع والمنشار في يد النجار، لا فائدة منه لتهذيب النفس أو العقل، وإنما الفائدة لكسب العيش. فأما الذين يندّون عن هذه القاعدة ويقصدون من العلم والتعليم إلى غاية أخرى فأولئك شواذ موهوبون لهم فضلهم كما لهم ما تقابل به العدالة الطبيعية الفضل من نقص في نواحٍ أخرى، وما دامت غاية العلم كسب العيش ولم يكن يقصد به إلى الخلق لذاته أو الجمال لذاته، ولم يكن أمام المتعلم أي مثل أعلى غير الأنانية الوضيعة، أنانية كسب العيش، فمحال أن تسمو عواطف الشخص فوق مقام الغرائز إلا بمقدار، ومحال أن يحس بالحاجة الملحة إلى السمو نحو مراتب الإنسانية المهذبة الدائمة الطموح إلى الكمال.

وقد كان يُظن إمكان التعويض عن هذه الحال في المدارس المدنية، بتعليم أسمى غايةً في المدارس الدينية أو بعبارة صريحة في الأزهر والمعاهد التابعة له. فالدين بطبعه داعٍ إلى الكمال، دافع إلى استدامة البحث للوصول إلى الحق؛ ليؤمن صاحبه به عن معرفة وازعة على عمل الخير، وتهذيب العواطف الدافعة له إلى غاية حدود التهذيب. لكن الواقع يشهد بأن التعليم الديني عندنا ليس فيه شيء من هذا على الإطلاق، وأن غايته هو أيضًا إعداد رجال الدين؛ ليكون العلم الديني صناعة في أيديهم يكسبون بها عيشهم كما يكسبه الصانع والزارع والتاجر، وأنت إذا قصدت إلى حلقات الدرس في المعاهد الدينية لم تكد تسمع للمعاني السامية التي نزلت الأديان لتثبيت الإيمان بها في النفوس ذكرًا، بل رأيت كل هذا العلم الديني مقصورًا على تدريس العبادات والمعاملات بصورة ماديّة جافة، لا تخاطب القلب ولا تتصل بالروح، ولا تفقه معنى الكمال، ولا تتطلع إلى جناب الله، ولا ترجو من الحياة إلا أن يفتح الله عليها من أبواب الرزق وألا يقتر عليها فيه.

الغاية من التعليم في المعاهد الدينية كالغاية إذن من التعليم في المعاهد المدنية لا تتصل بالعاطفة، ولا تعني في قليل ولا كثير بأي شيء له بها عن قرب أو بعد صلة، وهذه الغاية لا تتوخى الحق ولا تريد النور، ولا تحاول أن تصل بين الإنسان والحياة وكل ما في الوجود، وإنما تتوخى الغاية الوضيعة التافهة، غاية ملء البطن وبلوغ ما يمكن بلوغه من الترف. في مثل هذه الحال يصح ألا يكون مخطئًا من يقول: إن تربية العاطفة من عمل المنزل، وإنها ليس لها بالتعليم أي اتصال. لكن هذه الغاية الوضيعة لا يجوز أن ترضاها أمة غاية للعلم فيها، بل يجب أن تكون غاية العلم أسمى وأنبل من هذا بكثير، يجب أن يكون العقل وتهذيب الروح والنفس بهدايتها إلى الحقيقة التي يجب أن تكون مطمح نظر كل متعلم، والعاطفة حقيقة يجب أن يجلوها العلم في مختلف صورها كما يجلو كل حقيقة أخرى، وهذا هو الواقع في بلاد العالم المتمدن كلها، وكل شيء جلاه العلم تهذب وسما، حتى المادة الجامدة التي لا حياة فيها، والتي تحتوي مع ذلك قوة لم يكن أحد يعبأ بها حتى كشف العلم عنها، وجعل منها مهذبًا لهذه المادة الجامدة. فإذا سمت غاية العلم على هذا النحو كان قمينًا أن يعتبر بحق وسيلة صالحة لتربية العاطفة في الإنسان، تربية أساسها اشتراك الإنسان باعتباره فردًا مع الجماعة كلها ومع سائر ما في الوجود للكشف عن الحق، ولعمل الخير، ولتجلية الجمال.

ولست أقصد إنكار ما للتربية المنزلية من نصيبٍ كبير في تهذيب عواطف الطفل بمقدار ما لها من نصيب في تهذيب ذوقه وروحه. لكني أعتقد تمام الاعتقاد أن الفصل بين التربية والتعليم على نحو ما يحاول بعضهم أن يفعل، أمر غير ممكن، وتربيتنا في معاهد العلم إنما تكمل من بعد بتربيتنا المستمرة الناشئة عن اتصالنا بالحياة، وهذه السلسلة المتصلة تجعل لتعليم الآباء في دور العلم أثرًا في تربية أبنائهم في البيت قد يعادل الأثر الذي يحصل الأبناء عليه من بعد في دور العلم، ونحن إذا أردنا البدء الصالح المثمر وجب علينا أن نلتمسه في دور العلم أولًا بالسمو بغاية العلم إلى التماس المثل الأعلى على نحو ما قدمت. يومئذ تسمو نظرتنا للحياة، وترتفع عواطفنا فوق الغرائز حتى تقرب من الكمال، ثم نورث ذلك أبناءنا بتنشئتهم عليه في البيت، ثم في دور العلم، فيكون لذلك أثره في الحياة فتسمو سموًّا يجعلنا أكثر بالحياة استمتاعًا وأكثر فيها سعيًا وإنتاجًا، ثم يكون له في الوقت نفسه أثره في بعث القوة والنشاط إلى فنِّ القصص والرواية من فنون الأدب؛ إذ تقع أعيننا يومئذ على جماعة إنسانية ازدادت رقيًّا وتهذيبًا، فكانت بذلك أقوى إلهامًا لرب الفن بما يطوع له أن يجد في متباين صور العواطف المهذبة ما يدعوه إلى كمال فنِّه.

يضاف إلى هذه العوامل عامل آخر يبعث على الفتور، ويدفع إلى الانصراف عن الكتابة وعن الأدب؛ ذلك ما لا يزال متحكمًا في أخلاق الشرق من الميل إلى هدم كل رجل ذي قوة وموهبة، وهدمه لأسباب لا صلة لها البتة بقوته وموهبته. فهذا كاتب قدير ولكنه يختلف معنا في الرأي السياسي أو ينافسنا في صفقة من الصفقات أو يثقل علينا ظله؛ إذن يجب علينا هدمه أمام الجمهور وإن اعترفنا له فيما بيننا وبين أنفسنا بالتفوق والمقدرة، وما دمنا لا نستطيع أن نهدمه من طريق النقد النزيه فيجب أن نحتال لذلك من كل طريق آخر.

وكثيرون — مع شيء كثير من الأسف — يضعفون أمام هذه المهاجمات غير الشريفة، ويرون فيها جحودًا لمجهود أكبر همهم منه خدمة لغتهم وبلادهم أكثر من خدمتهم أنفسهم، فيعدلون عن متابعة سيرهم، وينزعون إلى ناحية آمن لكرامتهم ولشرفهم، وأكفل بحياة أكثر طمأنينة ودعةً، وإذا كان من بين الكتّاب من لا يحفل بهذا الجحود، ومن يثور في نفسه الضياء الذي ملأ القدر به روحه فيدفعه غير مختار؛ ليفيض منه على الحياة ما يزيدها جمالًا ونورًا، وليؤدي للفن الرسالة التي ألقى القدر عليه أداءها، فإن صاحب الموهبة لا يستطيع من غير معاونة الأنصار والمؤيدين أن يرى في حياته تمامَ النجاح لرسالته، وإن كان هذا النجاح قد كفل لها ولو بعد موته، ولو أن الهدم خفت في النفوس وطأته وحلَّ محله التقدير النزيه لثمرات الأقلام، لقوَّى ذلك من هذا الضعف الذي يلاحظه الكثيرون في القصة والرواية في الأدب العربي.

ولا نستطيع أن نهمل عاملًا آخر له أثر في الجناية على الأدب. ذلك هو العامل السياسي. فقد كان من نتائج الحرب والحركات التي قامت بعدها في الشرق والغرب أن انصرفت الأذهان عن التأمل في الحياة وجمالها إلى صور من النضال والكفاح لكسب حقوق سياسية جديدة، أو لتنظيم شؤون اقتصادية زعزعت الحرب أركانها، أو ما إلى ذلك من الشئون العاجلة، ومن طبيعة هذه الشئون أن تلفت الناس إليها، وتبهرهم عن كثير سواها، وهي لهم أكثر لفتًا وبهرًا إذا هم رأوا من ورائها لأشخاصهم مكانة أرفع، أو مجدًا أشد بريقًا، أو رخاء ورغدًا لم يكونوا يطمعون من قبل فيه، وهذا العامل الذي شمل العالم كله كان أبعد أثرًا في الشرق؛ لأن الحرب بعثت إلى الشرق هزة عنيفة أيقظته من سباته، وفتحت عيونه على نواحي الحياة المختلفة المتباينة، فجعلته من أجل ذلك في شيء من الحيرة أي طريق يسلك، ثم كان الطريق الأول والأقدس هو التخلص من حكم أمم الغرب إياه، وهذا التخلص يقتضي نضالًا لا يقل قوة ولا خطرًا عن نضال الحرب بين الأمم المسلحة، فكما تستنفد الحرب جهود الأمم كلها، كذلك استنفدت هذه الثورات السلمية كل جهود أمم الشرق، وتدفع بالكتاب والأدباء إلى أن يضعوا قواهم ومواهبهم في خدمة بلادهم، وقد جزتهم بلادهم عن ذلك بما زادهم تشجيعًا عليه وحرصًا على المضي فيه، وهم لا يزالون كذلك حتى اليوم، وقد يطول ذلك بالكثيرين منهم إلى مدى يتعذر اليوم تحديده.

هذه العوامل كلها مجتمعة تجعل من المستحيل على الكاتب الذي أوتي موهبة في فن القصص والرواية أن يختص فيه وينقطع له. بل لقد صار كل ما يستطيعه هذا الكاتب أن يحاول وضع الأقصوصة تلو الأقصوصة في أوقات فراغه. فأما أن ينقطع لدراسة موضوعٍ يكون قصةً أو رواية كاملة فقد يقتضيه ذلك السنين الطوال، وقد ينتهي به الأمر إلى ألا يتم قصته إذا كان بدأ فيها، والتخصص في القصص كالتخصص في كل عمل من أعمال الحياة، هو مفتاح النجاح والوسيلة الوحيدة للخصب في الإنتاج وللوصول إلى الثمرة الصالحة الجيدة، وهو كذلك بنوع خاصٍّ في عصرنا الحاضر الذي انفسح فيه ميدان العلم الإنساني إلى حدٍّ أصبح معه المحيط بهذا العلم كله محيطًا بقشور قليل ما يتصل بها من اللباب، والذي أصبح كذلك بحيث يصبح الإنسان بعد دراساته العامة، وبعد تحصيله منها أوفر حظ تمكن منه الدراسات في المدارس والجامعات، في حاجة إلى التوجه في الناحية التي يملي عليه ميله التوجيه إليها فيتخصص فيها، بل في فرع من فروعها، وقد يعجب قومٌ إذا ذكرنا لهم أن ميدان الأدب القصصي والروائي قد أصبح لذاته فسيحًا إلى حد يحسن معه أن يتخصص الكاتب في أحد فروعه؛ لتعذر الإحاطة بفروعه كلها إحاطة يتيسر معها الإتقان والاقتراب من الكمال. لكن الأمر في الواقع هو هذا، وأنت إذا عدت إلى أكابر الكتاب القصصيين، وإلى أكابر الكتاب الروائيين رأيت لكل واحد منهم نوعًا خاصًّا يمتاز به ويغلب عليه حتى يعرف به. فأنت ترى في بورچيه غير ما تراه في أناتول فرانس، وغير ما تراه في زولا، وغير ما تراه في فلوبير، وغير ما تراه في موپاسان، وأولئك كلهم من القصصيين الفرنسيين في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وفي هذا الثلث الأول من القرن العشرين، وأنت ترى لكل واحد منهم ميدانًا خاصًّا امتاز به وتخصص فيه، وقصر مباحثاته على التعمق فيه وعلى معرفة ما سبق به إليه في العصور الأخرى وفي الأمم الأخرى، وهذا التخصص هو وحده الذي يجعل الإنسانية ترجو بلوغ الكمال في ميدان الأدب والفن، كما أنه هو الذي يجعلها ترجو بلوغ الكمال في ميادين العلم المختلفة.

ولا يُعترض علينا بأن كثرة القصصيين وغزارة المادة التي يأخذون عنها في أوربا هي التي تؤدي إلى هذا التخصص، على حين أنا ما نزال في حاجة إلى الإنشاء حتى ليدعونا ذلك إلى تقليد الغربيين أكثر مما يدعونا إلى الظهور بشخصية ممتازة لنا في عالم التأليف والأدب. فهذا الاعتراض على وجاهته الظاهرة ضعيف متداعٍ بطبعه، وهو إن حدث عن شيء فإنما يحدث عن ميلٍ إلى عدم البحث والاطلاع على صورة من الدقة العلمية تكفل تكوين المذاهب في القصص والرواية تكوينًا سليمًا، وقديمًا قيل مثل هذا في الطب والمحاماة، فظلت الصناعتان ضعيفتين في مصر حتى تخصص الأطباء كل في فرع من فروع الطب، أو في بعض فرع من فروعه، وحتى صار المحامون يعرف أحدهم بامتيازه في ناحية المعاملات المدنية، والآخر في المعاملات التجارية وهلم جرا، وإذا كان مظهر التخصص في الطب أوضح، ونتائج هذا التخصص فيه أكثر ظهورًا؛ فذلك لأن الحكم والقاضي في شؤون الطب هي الطبيعة التي لا تخطئ أبدًا، وحكم الجمهور في الأدب كحكم الطبيعة في الطب وفي الميكانيكا، وفي كل ما هو غير خاضع لأخطاء الإنسان وشهواته، وكما نجح الطب في مصر نجاحًا يقر به الكل في مصر وفي غير مصر منذ تخصص الأطباء تخصصًا تامًّا، فإني لا أرتاب لحظة في نجاح الأدب القصصي والروائي إذا عاونت العوامل الكتَّاب والموهوبين منهم بنوعٍ خاصٍّ على التخصص فيه، أو إذا جادت الطبيعة على هذه البلاد التي تتكلم العربية بعباقرة من الكتاب الذين يقدرون تقديرًا صالحًا عظمة الرسالة التي يحملونها؛ ليبلغوها إلى مواطنيهم وإلى العالم كله، فتغلبوا على الصعاب وهزموا العوامل التي أشرت من قبل إليها، ولم يتأثروا بشيء منها حتى يصدهم عن السبيل التي تكفل اقتراب هذا الأدب خطوة أو خطوات من ناحية الكمال.

على أن انتظار جود الطبيعة بالنابغة الفذ الذي يستطيع أن يحطم كل القيود، ويتغلب على كل الصعاب، ويتخطى كل العقبات — ليس من شيمة الأمم التي تجاهد ما تجاهد مصر وسائر بلاد الشرق العربي؛ لتتبوأ المكان اللائق بها في زمرة الأمم؛ بل الواجب على الذين يشعرون ممن يقرءون هذا الكتاب بأنهم يستطيعون أن يتقدموا بأية معونة للتغلب على عامل من عوامل الضعف والفتور التي ذكرت، أن يقدروا الواجب العظيم الملقى على عواتقهم؛ ليمهدوا لرجل الفن في القصص والرواية طريقه وييسروا سبيل نجاحه، وكل واحد منهم، رجلًا كان أو امرأة، يتحرك ضميره فيدفعه لأداء هذا الواجب، يقدم لبلاده أجل خدمة، ويبقى في التاريخ مذكورًا ما ذكر الكتاب والقصصيون الذين اتصلوا به واستمدوا المعاضدة أو التشجيع أو الوحي منه، والذين يقرءون تاريخ الأدب في بلاد العرب حين كان الأدب مزدهرًا، والذين يقرءون تاريخ أدب الغرب في العصر الحاضر، يرون كيف اقترنت أسماء أنصار الأدب والعاملين لإحياء نهضته بالأدباء والكتّاب أنفسهم وبالنوابغ والأفذاذ منهم بنوع خاص، وهذا جزاء وفاق وحق يجب أن يؤدي إلى هؤلاء الذين يعززون الأدب بنصرهم وبتأييدهم، وإني لعلى يقين، إذا وقع هذا الذي أدعو إليه، من أن ترى مصر وبلاد الشرق نهضة للأدب في زمان وجيز يكون لها في مصر وفي بلاد الشرق، بل في العالم كله، أثر يبهر الأبصار، ويخطو بالشرق كله خطوات واسعة في طريق البعث الذي بدأ منذ زمن ليس بالقصير. إذ ذاك تثبت خطاه، وتزداد سرعة عما كانت منذ حفزته الحرب الكبرى إلى أسمى معاني المجد والعظمة والحرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤