الفصل الثاني عشر

لبث «عبده» يرمق «مبروك» بين الحنق والغضب لحظة أخرى بعد أن خاب أمله فيه … وأخيرًا صاح: الغلطة غلطتي، انغشيت، كنت فاكر انه بني آدم! … لكن صحيح طول عمر الخدام خدام.

ولم يكن «مبروك» الخادم يصغي إلى كلمة واحدة مما يقول «عبده»، فقد انتحى ناحيةً وأخذ يشتغل بتنظيف منظاره الجديد بورقة سيجارة شفافة كما يفعل «حنفي أفندي».

واستطرد «عبده» يقول دون أن ينظر إلى «مبروك»: على رأي المثل العامي: أصابع الإنسان مش زي بعضها. كان يجب أن أفهم كده من الأول … لو كان الطبايع والعقول من نوع واحد ماكانتش الدنيا بقت دنيا.

وأراد أن يستمر في هذا الكلام، لكن «سليم» ضرب كتفه ضربًا خفيفًا، موجهًا نظره إلى «مبروك» المنهمك في شأنه، المشغول بمنظاره، وقال له: وفر على دماغك دي الفلسفة، صاحبنا في دنيا غير الدنيا … واللي كان كان.

فالتفت «عبده» إلى ناحية «مبروك» ورآه، فهاج ثائره ونهض مستشيطًا وصاح: وكمان قاعد تلمع النضارة؟ … امشِ انجر من قدامي … إلا يكون يومك زي القطران النهارده.

فنهض «مبروك» واتجه نحو الباب، وهو يقول في هدوء: حقَّا بلا قافية صدقت! … النهارده الجمعة فيها ساعة نحس.

فصاح به «عبده»: بقول لك امشِ اخرج … مش عايز اشوف خلقتك.

فوضع «مبروك» منظاره على عينيه، ونظر بهما إلى «عبده» وقال: طيب ومن غير مؤاخذة تزعل ليه وتغير دمك؟ … الزعل ممنوع، والشكل مرفوع.

ثم خرج تشيعه نظرات «عبده» النارية، وكانت لحظة صمت قطعها أخيرًا «سليم» قائلًا: والعمل دلوقت؟!

غير أن «عبده» لم يجبه؛ كأنما لم يسمع، أو كأنما لا يدري ماذا يجيب، أو لعله مشتغل عنه بالتفكير في الخروج من تلك الورطة.

رأى «عبده» في لحظة أن التجربة لم تنجح وأن «زنوبة» لا محالة هازئة بهم متشفية فيهم، شاعرة بفوزها عليهم، ومع ذلك فها هو ذا «عبده» يرى أن لا بد من الرجوع إليها، ونارها ولا جنة «مبروك» اللعين، غير أن ما كان يشغل بال «عبده» كيف يعود إلى «زنوبة» صاغرًا … وكيف ينزل عن كبريائه فيخبرها بخيبة أمله وبالركون إليها، كي تسوي الأمور كما ترى حتى آخر الشهر؟

وكأن الله شاء ألا يهين كبرياء «عبده» والله يهيئ أحيانًا لكلٍّ ظروفًا تماشي خلقه؛ فقد ظهرت «زنوبة» فجأة بالباب وتقدمت في تردد، وعلا وجهها علائم الجد، كأنما تريد الإخبار بأمر هام.

فرفع «عبده» رأسه إليها ولم يتكلم بحرف، غير أنه لم يعبس في وجهها.

قالت «زنوبة» في الحال وبلهجة سريعة: سلك الكهربا انقطع عند الجيران.

فنظر إليها «عبده» دهشًا مستفسرًا، كمن يسأل عن شأنه في ذلك، فأخبرته «زنوبة» على الفور: أن الجيران «أي بيت الدكتور حلمي»، كانوا يريدون طلب أحد عمال الكهربا لإصلاح السلك الآن، خوف دخول الليل عليهم، لكن اليوم الجمعة ويخشون ألا يجدوا الآن أحدًا من عمال الشركة يمكنه الحضور، فاقترحت «زنوبة» عليهم أن يذهب «عبده» بصفته تقريبًا مهندسًا، فيصلح العطب بمنتهى السرعة، ولا الحاجة إلى عامل الشركة وإحداث ضجة من أجل شيء بسيط.

فما كاد «عبده» يسمع ذلك حتى نهض واقفًا على قدميه كمن مس بسلك، وقد علم أنه سيذهب إلى بيت الجيران، ونظر إلى «زنوبة» بعين الاهتمام، وقد بدا عليه أنه اغتفر لها كل ذنب وسيئة في لحظة.

– أروح دلوقت حالًا؟

– دلوقت والا العصر زي بعضه!

ومشى «عبده» يتلفت إلى كل جهة؛ كمن يبحث عن شيء وهو يقول: فين الشاكوش؟ فين الكماشة؟ فين المسامير؟ فين؟

ولم يُسرَّ «سليم» كثيرًا بهذا الخبر الجديد الذي جاءت به «زنوبة» وأخذ يراقب اهتمام «عبده» وما طرأ عليه من انقلاب، وهو يفتل شاربه متظاهرًا بالهدوء، وفي عينيه شيء من السخرية والحسد، فما إن رأى «عبده» يعجل البحث عن الأدوات، حتى قال في لهجة تهكم لاذعة: على مهلك … على مهلك، العجلة من الشيطان.

فنظر إليه «عبده» شزرًا وقال: نقطنا بسكوتك من فضلك.

فأجاب «سليم» ممتعضًا وهو يفتل شاربه: تروح للناس في ساعة غدا؟

فلم يجبه، وعندئذٍ قال «حنفي أفندي» وهو يفرك عينيه بيده ويتأهب باليد الأخرى لوضع منظاره على أنفه: بمناسبة الغدا، عملتم إيه في مسألة غدانا احنا؟

فلم يلتفت إليه «عبده»، والتفت إلى «زنوبة»، وقال: والسلك ده انقطع ازاي؟

فأجابت: كانت البنت «فاطمة» الجارية بتنفض الفسحة النهارده … قامت المقشة ضربت السلك على الحيط، وقع كله ووقعت مساميره.

ولبث «عبده» يفكر لحظة، وقد بدا له أن الأفضل الذهاب بعد الظهر؛ كي يستعد أيضًا، لا من حيث ما يلزم لإصلاح الكهرباء، بل من حيث ما يلزم لإصلاح هندامه هو وقیافته!

ولم يكن طبعًا من الصعب على «عبده» عندئذٍ أن يشير «لزنوبة» إلى مبلغ الخمسة والأربعين قرشًا الموضوعة على المائدة، ويطلب إليها في غير ذلة ولا رجاء أن تتدبر حتى آخر الشهر … وكلمها في ذلك بغاية الاختصار، وبلهجة مبتورة قاطعة، حتى لا يدع لها مجالًا لتفتيق ما حصل، فتشعر «زنوبة» برجوعهم إليها صاغرين، ولما رأت «زنوبة» المبلغ، وأرادت أن تلفظ صيحة الدهشة والاستنكار قائلة: يا دهوتي، دا باقي الجنيه؟

– أجابها «عبده» في الحال بشيء من الحدة: مفيش لزوم للكلام الكتير … تصرفي انتي … ووفري علينا وجع الدماغ.

فتناولت النقود من فوق المائدة في صمت، وذهبت بها إلى حجرتها، وقد رأت بفكرتها ألا داعي للتفنيد والتفتيق، واكتفت بما شعرت به ضمنًا من خيبتهم والعودة إليها.

•••

ما قاربت الساعة الثانية بعد الظهر، حتى شاهد الجميع «عبده» في حركة غير عادية؛ فقد كان يخرج من حجرة ويدخل أخرى، وحول عنقه الفوطة، وفي ذقنه الصابون؛ وفي يده الموس، وهو يبحث عن «مبروك» أو أحد لينظف له سترته ويزيل بقعها بالبنزين، وسمع «مبروك» ذلك فصاح: إحنا لاقيين ناكل لما نلاقي بنزين؟

غير أن «عبده» انتهره وأمره عابسًا صارخًا أن يساعده على ارتداء ملابسه؛ لأن الوقت حان.

وكان الجميع ينظرون إليه وأغلبهم غير مستظرف ولا مرتاح لاهتمامه وتأنقه، وجلس «سليم» صامتًا؛ وكأنه يحس شيئًا يقبض صدره، وجعل يفتل شاربيه ويختلس النظر إلى «عبده»، وهو أمام المرآة، يلطخ وجهه عقب الحلاقة ببودرة «زنوبة»، التي أحضرتها له من حجرتها بناء على طلبه … ولم يطق «سليم» صبرًا، فنظر إلى «حنفي»، الذي على الرغم من ظاهره البسيط، كان يتبع هو الآخر حركات «عبده» من خلال منظاره السميك، وغمز «سليم» الرئيس «حنفي» وأشار له إلى «عبده» وقال في سخرية صفراء: تقولش رايح رندفو؟!

فتظاهر «حنفي» بعدم السماع، وظل ينظر إلى «عبده» حتى فرغ من ارتداء ملابسه، ووضع الطربوش على رأسه بعناية وتمهل، جاعلًا الزر فوق الأذن اليمنى. ثم صاح «بمبروك» أن يلف له الشاكوش والكماشة، في جريدة قديمة، بغاية السرعة، ثم خطا خطوات نحو الباب.

فقال له «الرئيس شرف»، عندئذٍ في هزل يشبه الجد، ولكن في لطف: مش لازم لك صبي؟

فأجاب «عبده» في اختصار قاطع: لأ.

فألح «حنفي»: يشيل لك العدة يا معلمي.

– لأ.

وقال «عبده» هذه «اللأ» الثانية بلهجة باتَّة جافة تدل على الضيق، فالتفت «حنفي» إلى «سليم» وقال: لأ … لأ … الله الغني.

ذهب «عبده» إلى منزل «الدكتور حلمي» فوجد «زنوبة» بانتظاره على باب الصالة؛ كي تصحبه إلى حيث السلك المقطوع، وما كاد يضع قدمه فيها حتى جعل يختلس النظر يمينًا وشمالًا، غير ملتفت إلى «زنوبة» وهي تشير له إلى مكان الإصلاح المطلوب، وكانت الأبواب المطلة على الردهة كلها مقفلة، ما عدا بابًا واحدًا مقفلًا نصف إقفال وهو الباب المؤدي إلى «صالون البيانو»، ولكن «عبده» لم يستطع رؤية طيف ولا خيال خلفه، وأخيرًا قال بصوت ملأ الصالة كلها: فين السلم؟ مفيش هنا سلم خشب؟

وكان صوته ذا رنة إمرة وخُيلاء، فأسرعت «زنوبة» نحو الباب نصف المقفل ونادت: فاطمة … يا فاطمة.

ولم تنتظر مجيء الجارية، بل دخلت مسرعة من الباب المؤدي إلى الصالون، تاركة «عبده» وحده في الردهة. يتأمل رءوس الغزلان المعلقة بالحائط، والتمساح المحنط على باب الدخول، وعندئذٍ ارتجف قلب «عبده» فجأة؛ لأنه سمع في الحال صوت «بيانو» يرتفع بأنغام بديعة، وظل ينصت مبتهجًا مبتسمًا في شيء من النشوة، حتى ظهرت بغتة «فاطمة» الجارية تحمل السلم الخشبي، فالتفت إليها وتناوله وأسنده إلى الحائط، وأخذ يصعد الدرج وهو يصغي تارة، وتارة يسائل نفسه: لماذا ضربت على البيانو الآن؟ أتراها فعلت ذلك لما علمت بوجوده في المنزل؟ أم أنها المصادفة؟ أم هي عادتها أن تضرب في مثل هذا الوقت من كل يوم؟ … غير أنه أخذ في نفسه يستبعد كلًّا من الفرضين الأخيرين بحجج مختلفة، ويعزز الفرض الأول، وهو أنها لما علمت بوجوده وبمجيئه … نعم كل الدلائل تدل على ذلك.

وظهرت «زنوبة» تسأل «عبده» عما إذا كان يطلب شيئًا آخر، وترى إذا كان العمل سائرًا على ما يرام … وفي هذه اللحظة سكت صوت «البيانو» … ولم يلبث «عبده» المتيقظ أن سمع حفيف ثوب خلف الباب نصف المقفل، وصوتًا ناعمًا يهمس: أبلا … يا أبلا!

والتفتت «زنوبة» إلى الصوت، واتجهت إليه، غير أنها قبيل أن تصل إلى الباب، قال الصوت بلهجة واضحة مسموعة هذه المرة: نقدم «لعبده بك» قهوة والا شربات؟

فوقفت «زنوبة» والتفتت إلى «عبده» وقالت: «سنية هانم» بتقول لك تشرب قهوة والا شربات؟

وكان «عبده» قد سمع منذ أول مرة، وما كانت هناك حاجة أن تكرر العبارة، ولعلها فعلت ذلك لتتملق «عبده»، غير أن «سنية» ما كادت تسمع «زنوبة» تلفظ اسمها ﻟ «عبده»، حتى ضحكت أو تضاحكت خلف الباب، وتمتمت في حياء متكلف: كده يا أبلا؟ … إخص عليك.

وقبل أن يجيب «عبده» قفزت «سنية» مختفية، وقد بدا عن بعد لون فستانها الأخضر الفستقي الخاطف، وقد ملأ عيني «عبده»، فلم يعد يرى إلا اخضرارًا يمر في فكره السارح.

ولم يصحُ «عبده» من بغتته وحلمه إلا على صوت «محسن»، وقد خرج من الباب المؤدي إلى «الصالون»، وهو يسأل «زنوبة» في فتور عما إذا كانت حكاية السلك هذه قد انتهت أم لم تنته بعد؟

فنظر إليه «عبده» في دهشة وتجهم، وقال ببرود وجفاء: الله … إنت هنا؟! … بتعمل إيه؟

فأجاب «محسن» باقتضاب وفتور: الدرس.

– درس إيه؟

– درس «البيانو».

ومرت في قلب «عبده» بسرعة البرق، سحابة شابت هذه اللحظة اللذيذة التي سلفت منذ قليل، وتلك الموسيقى والصوت الهامس باسمه يدعوه لشرب القهوة أو الشربات، وأراد أن يجيب «محسن» وقد عبس وجهه، غير أن حفيف الثوب عاد، وبدا اللون الأخضر يخطف البصر خلف الباب … وصوت ينادي في رقة وعذوبة ودلال: «محسن»! … رحت فين وسبت الدرس؟

فهمَّ «محسن» بالذهاب إليها وهو يقول: حاضر يا أبلا «سنية»، جاي حالًا.

غير أنه التفت إلى «عبده»، وقال له بصوت مسموع فيه من البرود أو التشفي أو السخرية: صلح السلك كويس … بس اوعى تتكهرب.

فنظر إليه «عبده» نظرة نارية من أعلى السلم، ولكن «محسن» كان قد اختفى بسرعة عن عينيه، ولم يلبث «عبده» المملوء غيظًا أن سمع البيانو يعود فيضرب نغمة جميلة، تدل على أن ضاربها حاذق بارع، فظل يصغي ولا يزال به بعض غضب، حتى سمع فجأة هذه النغمة الجميلة تتلاشى، ويحل محلها صوت ضرب آخر يدل على ضارب مبتدئ يتخبط، ولم تمضِ لحظة حتى أحس حفيف الثوب، ولمح لونه الأخضر الخاطف يمر بين عارضتي الباب نصف المقفل، فخمد بصر «عبده» المصوب إلى ذلك الباب، وفجأة لم يدرِ عندئذٍ إن كانت يده قد مست سلكًا من الأسلاك الكهربائية التي يصلحها؛ فقد أحس قلبه ينبض نبضة واحدة قوية بسرعة البرق، ذلك أن عينيه قابلتا عينين أخريين سوداوين لم ير أجمل منهما، لهما فعل السحر ثم هف حفيف الثوب مرة أخرى، ومر اللون الأخضر أمام عينيه الساهمتين واختفى.

وعاد «عبده» وقد هدأ إلى نفسه يسائلها في شيء من الابتهاج ونشوة الظفر، لماذا هي تكثر من المرور أمامه؟ وهل هي تفعل ذلك عمدًا؟

وامتلأت عيناه ووجهه حياة، وقلبه أُفعم نشاطًا لم يعهد نظيره من قبل، فأمسك السلم الخشبي بيديه، ووضعه على جزء آخر من الحائط، وأخذ يصعد درجاته في قوة وحماسة؛ كأنه قلب يصعد درج الحب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤