الفصل الخامس عشر

مضت أيام تم في خلالها إصلاح «البيانو» بمنزل الجيران، وكان «محسن» قد انقطع عن الذهاب إليهم طول ذلك الوقت … وكانت الأيام تمر وهو يرقب بصبر ملتهب، يوم يدعونه؛ كي يعود إلى الدرس عند «سنية» بعد أن غدا «البيانو» صالحًا للعزف عليه، وكان يسلي انتظاره بقراءة رواية «ماجدولين» ترجمة المنفلوطي.

وفي ذات يوم رجع من مدرسته مبكرًا، فلم يجد في البيت سوى «عبده» يشتغل برسم خريطة هندسية، سيقدمها في اختبار نصف السنة، فخلع «محسن» ملابسه الخارجية. وأراد أن يشغل وقت فراغ العصر، فراح يأتي بالرواية لينتهي من صفحاتها الباقية، غير أنه لم يجدها في مكانها المعتاد، فسأل «عبده» عنها فلم يعرف شيئًا عن أمرها، فاستغرب الفتى الصغير قليلًا، ولكنه عاد فاشتغل عنها بالتفكير في «سنية» وفي شأنه وشأن «عبده» و«سليم».

هل تراها فضلت أحدًا منهم على الآخر؟ ومن هو الذي تفضله!

وانتفض قلبه عندما ذكر قول «سليم»: إن البنت واقعة خالص … واشمأزت نفسه، وتساءل: أممكن لمثل «سليم» هذا أن ينال قلبها حقًّا؟ وتعزى قليلًا إذ تذكر «عبده» وحظه.

إن مثل «عبده» كان الأجدر على الأقل بإعجابها من الآخر، لكن ها هما ذان الاثنان «هو» و«عبده» لا يعرفان من مصيرهما شيئًا، وها هو ذا «سليم» منذ ذلك اليوم يخرج ويدخل مرحًا، ويذهب ويجيء وكله نشاط وبشر وفرح وخُيلاء وزهو؛ كأنما قد ملك وضمِن شيئًا.

وبينما هو في ذلك التفكير و«عبده» على مقربة منه منحنٍ على لوحة الرسم فوق مائدة الردهة، إذا «مبروك» الخادم يدخل حاملًا خطابا يلوح به في يده باسمًا في خبث: جواب ﻟ «سي سليم»، جواب عشان «سي سليم».

فاضطرب «محسن»، ورفع «عبده» رأسه، ونظر إلى الخطاب في يد «مبروك» لكنه لم يقطع صمته الطويل بكلمة، بل إنه عاد فانحنى على عمله؛ كأنه ركن إليه أخيرًا يلتمس فيه راحة القلب والبال … غير أنه لم يستطع منع فكره من الاشتغال بأمر هذا الخطاب، وتساءل في نفسه: ممن هو؟ … إن سليم لم يتسلم خطابات من أحد منذ أن نزل عندهم، ولماذا هذا الخطاب بعد هذه الحوادث الأخيرة؟ … دب الشك في قلبه، ومن الغريب أن كل ما جال برأسه كان يجول برأس الصغير «محسن» في عين الوقت، ولكن «محسن» تشجع وتقوى بعدئذٍ، وقال «لمبروك»: منين؟

فأتى الخادم بحركة تدل على الجهل، وعلى أن الخطاب مقفل طبعًا، فكيف يعلم من أين جاء؟

فرفع «عبده» رأسه ثانية، ونظر إلى الخطاب. ومد يده إلى «مبروك» وقال: هات لما اشوف ختم البوستة.

فناوله الخادم الخطاب، فقرأ على ختمه: بوستة السيدة زينب «صادر»، وأخذ يقلب الخطاب بين يديه، ويتمعن خط العنوان وقد ازدادت شكوكه، وبهت وجهه، فوضع الخطاب على المائدة بقربه، وقال «لمبروك» بصوت هادئ، ولكن به بعض التغير: طيب … خليه له هنا لما يرجع.

وعاد إلى عمله، كما انصرف «محسن» إلى نفسه، يحدثها في أمر ذلك الخطاب، وهل يمكن أن يكون من؟ والتفت «مبروك» إلى كل منهما، فلما ألفاهما لاهيين عنه انصرف هو الآخر، بعد أن قال إنه نازل يجلس بالباب في انتظار الغائبين.

وما إن ابتعد الخادم قليلًا حتى رفع «عبده» رأسه، وتناول الخطاب ثانية، وتأمله وقلبه بين أصابعه، والتفت إلى «محسن»، الذي كان يختلس إليه النظر عن بعد، ثم قال: الظرف مش مصمغ كويس.

وكأن «محسن» أدرك من هذه العبارة معنًى خاصًّا، فقال باندفاع ورغبة شديدة وموافقة: يا ترى الجواب ده فيه إيه؟

فقال «عبده» في تردد، وهو يرمق الخطاب بحب استطلاع جشع: ممكن فتحه ولزقه تاني.

فأجاب «محسن» مغريًا: آي والله … لازم فيه حاجات تضحك.

فقلب «عبده» الظرف، وقال بصوت متردد خافت: تیجي نشوف فيه إيه؟

فأجاب «محسن» على الفور بشبه فرح صبياني، وقد اقترب منه: أيوه … يللا والنبي نشوف فيه إيه؟

فرفع «عبده» رأسه ونظر إلى «محسن» نظرة ثاقبة، وقال: بس ماتقولش؟

فأجاب «محسن» بقوة: ماتخافش … أنا مجنون؟!

وفي الحال فض «عبده» الغلاف بحذر وحيطة، حتى يستطيع أن يغلقه ثانية ويعيده إلى أصله، وأخرج الرسالة ونشرها، وأخذ يقرأ بظمأ ورغبة، وقد التصق به «محسن» مزاحمًا إياه في القراءة بتلهف، ولم يفهما بادئ بدء شيئًا مما يقرآن، غير أنهما نظرا إلى الإمضاء في ذيل الرسالة، فانجلى لهما كل شيء، وجعلا يضحكان بملء شدقيهما في شماتة وتشفٍّ.

لقد كان هذا الخطاب مرسلًا في الأصل من «سليم» إلى الحبيبة، ولكنها بدل أن ترد عليه ردته إليه بالتالي، دون أدنى تعليق.

وما إن أدرك «عبده» و«محسن» هذا الأمر حتى عادا يتسليان بتلاوة هذه الرسالة الغرامية، ويلفظان بعض عباراتها في إلقاء تهكمي؛ كمن يكذب صدق ما جاء فيها من عواطف، والرسالة نصها هكذا:

عزيزة الفؤاد «سنية هانم» …

لقد أحببتك حبًّا لم يحبه أحد من قبلي أحدًا، وأخلصت لك إخلاصًا لا يضمر مثله أخٌ لأخيه، ولا والد لولده، وأجللتك إجلال العابد لمعبوده.

لقد ملأت فراغ حياتي كله بك، فلا أنظر إلا إليك، ولا أشعر إلا بك ولا أحلم إلا بطيفك، ولا أطرب لرؤية الشمس ساعة شروقها إلا لأني أرى فيها صورتك، ولا لسماع أغاريد الطير في أفنانها إلا لأني أسمع فيها نغم حديثك، ولا لمنظر الأزهار الضاحكة في أكمامها إلا لأنها تمثل لي ألوان جمالك، ولا تمنيت لنفسي سعادة في هذه الحياة إلا من أجل سعادتك، ولا آثرت البقاء فيها إلا لأعيش بجانبك وأستمتع برؤيتك.

إن كنت ترين أني لا أستحق الوصال، فأخبريني خبرًا بما بذلت لك في حياتي من دموع وآلام وشجون وأحزان.

والسلام ختام.

المحب الولهان
اليوزباشي سليم العطيفي

وفرغا من القراءة، فالتفت «عبده» إلى «محسن» وقال ساخرًا: بقا بذمتك معقول إن «سليم» يعرف يكتب كلمة واحدة من دول؟

فسكت «محسن»، قليلًا، كمن يتذكر، ثم صاح فجأة: يا خبر! … تعرف صفحة ١٧٣ من رواية «ماجدولين»؟ ناقلها بالحرف … نقل مسطرة.

فقال «عبده» في شيء من سرور التشفي: برافو عليه.

وأردف «محسن» مؤكدًا وفرحًا: أنا كمان بقول في عقلي جرى إيه؟ الصفحة دي أنا لسه قاريها أول امبارح. آه … فهمت … مش قلت لك إن الرواية مش موجودة في مطرحها؟

وعندئذٍ تناول «عبده» الخطاب بسرعة، ووضعه داخل الغلاف كما كان، باحتراس وتمهل وحذر، وألصقه؛ كي يعيده إلى الحالة الأولى؛ كأنه لم يفتح.

عاد «سليم» بعد قليل إلى المنزل وهو يدندن منشرح الصدر، فأخبره «مبروك» الخادم بالباب أن له خطابًا.

فما كاد يسمع تلك الكلمة حتى انتفض، وقال: فين؟ … هو فين؟

فأجابه «مبروك» وقد ابتسم لاضطرابه بأن الخطاب فوق في حفظ «عبده»، فلم يدعه «سليم» يتم كلامه؛ فقد تركه في الحال، وأخذ يصعد الدرج ناهبًا كل ثلاث في خطوة، ودخل على «عبده» وابتدره قائلًا: فين الجواب؟

فرفع «عبده» رأسه إليه في شيء من التهكم؛ كأنما يقول له: ابدأ بالسلام أولًا، غير أن «سليم» لم يأبه لشيء؛ بل كرر كلمته بلهجة قوية، وقد نفد صبره: فين الجواب؟

فلم ير «عبده» بدًّا من أن يشير له بيده إلى الخطاب على المائدة بقربه، فانقض «سليم» عليه وتناوله وخرج به من المكان حتى ينفرد بمطالعته، تاركًا خلفه «عبده» ينظر إلى «محسن» القابع في ركنه نظرات السخرية والتشفي.

ما كادت تمضي لحظة، حتى رجع «سليم» إليهما والخطاب في يده، وقد بدا وجهه هائلًا، واقترب من «عبده» وأراه الغلاف وصاح: الجواب مفتوح.

فتظاهر «عبده» بالدهشة وتجاهل الأمر: مفتوح ازاي؟

مفتوح وملزق تاني، والظرف لسه مبلول، أنا مغفل؟! أنا ماينطبخش فوق راسي الطبيخ.

قالها بلهجة مخيفة لم يعهدها فيه أحد من قبل.

فارتعد: «عبده» قليلًا، لكنه تجلَّد وقال في شيء من الحدة: إيه لزوم الكلام ده؟

فأجاب «سليم» صائحًا في غضب هائل: الجواب ده مايلزمنيش، ماستلموش، والله ما استلم الجواب ده … والله ما استلم الجواب!

فهاج هائج «عبده» وأجاب في لهجة عصبية: تستلمه والا ماتستلموش … أنا ما لي تقول لي الكلام ده … عنك ما استلمته يا سيدي.

فقال «سليم» وهو يُرغي ويُزبد: سافل ودون، ومنحط، اللي فتح الجواب ده، صحيح انه ندل … سافل … دون، وقليل التربية.

فأجاب «عبده» ببرود وهو يخفض رأسه، متظاهرًا بالنظر إلى لوحة الرسم: اللي فتحه!

فنظر إليه «سليم» محدقًا، وقال في هجوم: حضرتك ماتعرفش مين اللي فتحه و… السافل اللي فتحه؟

فغلى الدم في وجه «عبده» وصاح: قلت لك ألف مرة لأ، إنت رايح تدوشنا بجوابك؟

فقال «سليم»: والله العظيم ما اسكت عن المسألة دي من غير تحقيق … والا ما ابات فيها من الليلة … كله إلا مسألة فتح الجوابات الخصوصية.

فقال «عبده» ببرود: روح اعمل اللي تعمله، بس سیبني اشتغل، أنا مش فاضي … عندي امتحان.

فتركه «سليم» بعد أن وضع الخطاب في جيبه، ويمم شطر الباب وهو يقول: لك كبير يترد عليه … البيت مش سايب … مش فوضى.

قال هذا، وجذب باب الشقة خلفه بعنف، وخرج.

وعندئذٍ التفت «عبده» إلى «محسن» الصامت الواجم، وقال له مطمئنًا إياه: فضك منه، ولا تسأل فيه … أصل كل غيظه وناره الكسفة اللي أخدها، وجوابه اللي اترد له.

فوافق «محسن» بابتسامة باهتة، غير أنه ظل ساكتًا يغالب شيئًا يعكر عليه صفاء ضميره.

•••

خرج «سليم» من المنزل قاصدًا توًّا «مدرسة خليل أغا الابتدائية» ليقابل «حنفي أفندي» بصفة كونه كبير الأسرة ورئيس البيت، ويعرض عليه ما حدث، ويرى هل هذا يرضيه؟ وهل يسكت على مثل هذا الأمر دون أن يتدخل، ويظهر هذه المرة بعض السلطة والنخوة والشهامة التي تخولها له حقوقه الطبيعية؟

وكان «سليم» طول الطريق يفكر، ويقول في نفسه إن «حنفي أفندي»، مهما كان أمره؛ فهو رب البيت وإليه المرجع الأخير، وإنه لا شك مُظهر بعض الهمة في هذا الحادث؛ لذلك لم يتردد في وجوب الاعتماد عليه، ورأى في ذلك كل الرأي والحكمة.

كان «حنفي» في ذلك اليوم لا يزال بالمدرسة؛ إذ كانت عليه النوبة في مراقبة الألعاب الرياضية مع ضابط الجمباز المنوط بذلك، وكان عليه أن يظل بالمدرسة حتى منتصف السابعة مساء، وكان قد أخطر رفاقه في المنزل بذلك قبل ذهابه في الصباح؛ لذلك رأى «سليم» أن يقابله بالمدرسة، ويحكي له المسألة قبل أن يعود إلى المنزل، فيشوش «عبده» فكره بالتهويش، فيفسد على «سليم» الأمر.

وصل أخيرًا إلى المدرسة، وبحث عن البواب أو الفراش في حجرته الصغيرة، فلم يجده، فمشى في فناء المدرسة قليلًا يلتفت يمينًا وشمالًا؛ عله يصادف أحدًا، وأخيرًا التقى بتلميذ صغير يسير إلى حجرة المرشح، وهو يضرب الحجر والحصى بقدمه عابثًا، فأشار له بالدنو منه، فدنا، فسأله: فين يا شاطر «حنفي أفندي»؟

فنظر التلميذ إليه، وأجابه على الفور: «حنفي أفندي أبو زعيزع»؟

فبغت «سليم» قليلًا، وقال، كأنما يخاطب نفسه: أبو زعيزع؟!

ولم يلبث التلميذ أن استطرد مشيرًا بأصبعه إلى جزء من الفناء مختفٍ خلف بناء المدرسة: حضرتك عايزة؟ … هو هناك مع سنة أولى تالت.

وعندئذٍ ارتفع في الجو صوت ضحك صبية صغار، وما كاد التلميذ الواقف يسمع هذا الضحك حتى ترك «سليم» بغتة، وأخذ يركض نحو زملائه، وهو يضحك على ضحكهم، ويصيح بصوت حذر خافت: «حنفي أفندي أبو زعيزع»! … «حنفي أفندي أبو زعيزع».

ولكن سليم، صاح به مستوقفًا إياه، واقترب منه، وسأله أن يستدعي له «حنفي أفندي» في الحال.

وذهب التلميذ، وظل «سليم» ينتظر، وقد داخل قلبه الشك في نجاح مسعاه لدى «حنفي»، وقال في نفسه: هل ترى يرجى نفع من مثل «حنفي» هذا الذي عرف الكل، حتى الصغار، أن يسموه «أبو زعيزع»؟

لم ينتظر «سليم» طويلًا؛ فإن «حنفي أفندي»، ما لبث أن أتى مستغربًا مجيء سليم، ظانًّا أن شيئًا خطيرًا قد وقع بالمنزل، ولم يخب ظنه كثيرًا؛ فإن سليم، طفق يحدثه بما حصل في لهجة المبالغة والإغراق، مصورًا له هذا العمل أكبر تصوير، ومجسمًا للحادث أقسى تجسيم.

كل ذلك ورب الأسرة ساكت مطرق يصغي إليه في تؤدة، يحسبها الرائي رزانة وحزمًا … وأخيرًا التفت إليه «سليم»، وهز كتفه هزة عنيفة، وقال له: إنت ساكت ليه؟ مش تقول رأيك يا أخي؟

فرفع «الرئيس شرف» رأسه، وأجاب في الحال: رأيي إن معك حق.

– مش كده صحيح؟ هو «عبده» … مفيش غير الواد «عبده» اللي عاملها … أنا متأكد … أنا أحلق شنبي.

– أنا راخر متأكد واحلق دقني … مفيش غير الواد «عبده».

– وإيه العمل دلوقت؟

– معاك حق.

– معايا حق بس، مش كفاية، إنت يا سي «حنفي» بصفتك رب البيت، وكبير العائلة، ورئيس الجميع تسكت على كده برده؟ إلا واجب تستعمل سطوتك.

فانتفخ «حنفي» في نفسه، والتفت إليه في قوة وخُيلاء: لازم استعمل سطوتي.

ومد يده وجذب «سليم» وسار به: تعال معايا … ماتخافش، احنا نروح نخرب لك بيتهم.

قال هذا في حماسة وقوة آمن معها «سليم» واستبشر واطمأن.

•••

وصل «حنفي» و«سليم» إلى المنزل، ودخلا الشقة، وقد تأخر «سليم» خطوة، ودفع «حنفي» أمامه بيده مصدِّرًا إياه، وهو يهمس له: استعمل الشدة.

– ماتخافش.

ودخل «حنفي» فرأى «عبده» مكبًّا على لوحة الرسم، فتصنع العبوس والتقطيب، وقال متغاضبًا: إيه مسألة الجواب دي؟ … وازاي يحصل فتح جواب في البيت ده؟

فرفع «عبده» رأسه ولم يقل شيئًا، ولكن رمى «حنفي» بنظرة أرعبته، ثم صاح فجأة بلهجة عصبية قائلًا: إنه ليس مسئولًا عن خطابات أحد، وإنه لا يسمح لإنسان باتهامه هذه التهمة، وترك لوحة الرسم، واقترب من «حنفي أفندي»، وصاح به: وانت كمان، ماكانش لازم تنحشر في مسألة فارغه زي دي.

فسكت «الرئيس شرف» في الحال وأطرق.

فقال «عبده»: ساكت ليه؟ مش تتكلم؟

فرفع «حنفي أفندي» رأسه وتنحنح وتردد، ثم أجاب في تلعثم: معاك حق.

فما كاد «سليم» يسمع هذا حتى جن جنونه، وقبض على ذراع «حنفي أفندي» وقرصه، ثم هزه مذكرًا إياه بوعده وقوله إنه سوف يخرب بيتهم، ثم ذكره بالتهمة المنسوبة إلى «عبده» وطلب إليه مرة أخرى — في مواجهة الجميع — أن يبدي رأيه صراحة.

فالتفت إليه «رب الأسرة الشرف» وقال له: معاك حق.

وعندئذٍ صاح به «عبده»، وأراد أن يفهمه أن كل ما قاله «سليم» لا يهمه ولا يخصه ولا يثبت عليه شيئًا، وأن … وأن … ولكن «حنفي» وفر عليه الكلام بأن التفت إليه، وقال له هو الآخر: معاك حق.

ورأى «مبروك» الخادم ذلك فضحك كما ضحك «محسن» على الرغم من قلقه ووخز ضميره، وعلم الجميع أن «حنفي» هازل ولا يرجى منه … وقد أدار الحادثة وقلبها هزلًا، وأراد «سليم» أن يحتج وأن يغضب، وذهب إلى «الدولاب» الكبير ليجمع أمتعته وملابسه ويغادر المنزل وهو يردد: بيت هلس، بيت مالوش كبير … بيت فوضى … لكن الحق عليَّ، أعتمد على سي «أبو زعيزع».

غير أن «حنفي أفندي»، لم يدعه يذهب، واجتهد في تهدئته ملاطفًا إياه مرة، ومداعبًا ومضاحكًا مرة أخرى، وقال كأنما يتملقه ويسرُّه: وتزعل ليه بس يا سيد سليم؟ دا انت بالعكس تفرح، لأن المسألة واحد من أمرين … إما إنه كان جواب عادي وانفتح فمفيش ضرر، وإما إنه جواب حب وهيام وعشق وغرام، وفي الحالة دي كويس قوي.

فقال: سليم، من بين أسنانه: كويس قوي ازاي؟

فأجاب «حنفي» بحسن نية أيضًا، وهو حاسب أنه يسره: أمال، دا والله من حسن حظك انه اتفتح، علشان العذول ينكاد وينفقع … دي مصلحتك يا عبيط؛ هو حد طايل في الأيام دي ربع جواب حب؟ يا سلام! يا بختك يا «سليم»، دا انت كان واجب عليك تفتحه وتقراه علينا كلنا علشان نفرح بك، ونحتفل بحسن الوفاق.

وسمع «محسن» هذا وتصور وقع الكلام على «سليم»، وقد خذله ذلك «الجواب» فكاد يغلبه الضحك، وخرج يجري إلى المرحاض يطلق فيه العنان لضحكه.

ومر بالفسحة، فرأى «عبده» كذلك وجهه للحائط، وهو يكتم ضحكه بيده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤