الفصل السابع عشر

عاد «محسن» إلى المنزل فوجد عمته «زنوبة» قد جهزت الهدية التي سيحملها معه في الصباح، ولم يكن بالمنزل وقتئذٍ غيرها وغير «مبروك» الخادم على مقربة منها، يشتغل بربط «الطرد» بخيوط «الدبارة». وما إن رأت زنوبة «محسن» مقبلًا يلهث حتى أخبرته أن كل شيء قد هُيئ ولم يبقَ غير ملابسه، وأنها كانت تود أن تجهز ما سيأخذه منها … ولم تأتِ السيدة والدة «سنية» … وما كادت «زنوبة» تذكر ذلك حتى عادت فاستدركت بسرعة، وارتبكت وكأنما أخطأت في ذكر هذا، لكن «محسن» انتبه، فسألها على الفور في بعض استغراب: هي كانت هنا؟

وأرادت «زنوبة» أن تغالط، فاقترب منها «محسن» بلطف، وقد داخله شك، وما زال بها يلاطفها، ويتزلف إليها، حتى أخبرته قائلة: أيوه كانت هنا، تعرف ليه؟ … كلام في سرك يا «محسن» … ماتقولش لحد.

وكانت لهجتها لهجة من يُفضي بسر، فأجابها الفتى على الفور في جد: ماتخافيش، قولي يا عمتي.

فترددت قليلًا ثم مالت عليه هامسة، وأخبرته أن والدة «سنية» جاءت اليوم كي تقول لها: إن «الدكتور حلمي» زوجها قد وقع في يده خطاب من «سليم أفندي» إلى «سنية» فاستاء وتكدر، غير أنه لم يشأ أن يفضح الأمر استبقاءً لصلة الجوار، فأعاد إليه خطاب «سنية» بالتالي، ولم يخبر ابنته بالخطاب ولا بما فعل، ولم يقل إلا لزوجته وحدها كي تنبه في رفقٍ «زنوبة» بأن هذا أمر ما كان يصح مطلقًا.

فأطرق «محسن» مفكرًا بعد سماع هذا، وتعكَّر هناؤه قليلًا إذ خطرت له فكرة لم يرتح لها، إن «سنية» لم تعلم بأمر خطاب «سليم»، وليست هي إذن التي ردته إليه على الشكل الذي رآه «هو» و«عبده»، ومن يدري؟ لعلها ما كانت ترد الخطاب لو أنه وقع في يدها هي؛ بل ربما أجابت عليه أحسن جواب.

انقبض الفتى لهذه الفكرة، لكنه عاد فذكر ما حدث بينه وبينها منذ لحظة، فاستبعد الفكرة، أوليست تقول له الآن وهي تبكي إنها منذ رأته فوق السطح، ثم تلك القبلة، كلا، هذه الفكرة الغبراء، لا ينبغي أن تمر بخاطره، بل إنه ليس له الحق أن يرتاب في «سنية» معبودته بعد الآن، وعادت «زنوبة» إلى الكلام هامسة في شيء من السخرية الصفراء: والنبي أنا كنت حاسبة الحساب ده من زمان، هو «سليم» رايح يجيبها البر.

•••

وقت أن ورد خطاب «سليم» كان «الدكتور حلمي» جالسًا كعادته في كل عصر، أمام «أجزاخانة الجوالي» يشرب فنجانًا من القهوة، أحضر له من قهوة قريبة، ويتحدث بصوت الراوي في بضعة أشخاص جالسين حوله، يظهر من سنهم وهيئتهم أنهم مثله موظفون بالمعاش.

وكانوا مصغين إلى حديثه بلذة ودهشة وانتباه، وهو يصف لهم حياته في السودان وقت أن كان طبيبًا بالجيش، وكان ذلك الحديث ولا شك تتمة لسلسلة أحاديث سابقة، ألقاها عليهم في جلسات الأمس وما قبله، وكان «الدكتور» قد سكت قليلًا ريثما يتناول رشفة من فنجانه، ويستجمع ذاكرته، ناظرًا بأعين لاهية إلى ميدان «السيدة زينب» أمامه وما فيه من حركة وضجيج، ولم ينبس أحد من الجالسين بكلمة، بل لبثوا ناظرين إليه منتظرين عودته إلى الكلام، ولم يأتِ كذلك أحدٌ بحركة، إلا واحدًا انتهز فرصة تلك الهدنة، وأخرج علبة «نشوق» من جيب سترته السوداء القديمة الطراز، وبعد أن عزم بها في صمت على من بجواره، تناول منها قليلًا و«درصه» في أنفه، ثم عطس عطسًا شديدًا وهو يقول: الله … الله … الله.

وعندئذٍ التفت إليه الصيدلي القانوني، الجالس على مقربة منه وقال له: إنت حاتقعد تعطس لنا يا «شعبان أفندي»؟! إحنا غرضنا نسمع كلام «الدكتور».

فأخرج «شعبان أفندي» — باشكاتب الدفترخانة الشرعية سابقًا — منديله الكبير من جيبه، ومسح به أنفه، وهو يقول: خلاص يا سیدي، قول بقا يا دكتور.

فوضع الطبيب فنجانه على الصينية الصغيرة الموضوعة فوق كرسي أمامه وألقى نظرة على من معه، كأنما يسألهم أين انتهى به الحديث، فأسرع أحدهم — وهو مفتش صحة «مركز أشمون» سابقًا ومن ذوي الأملاك — حالًا فقال وهو يسبح بسبحة كهرمانية، يحملها على سبيل الوجاهة، أو «ورع آخر الزمان»: كنت بتقول لنا على «مديرية بحر الغزال».

فرد «الدكتور حلمي»؛ وكأنما يخاطب نفسه: أيوه … «بحر الغزال».

ثم صمت ونظر إلى الميدان بعيون اللاهي المستذكر الماضي فقال «شعبان أفندي»، بعد أن كتم عطسة دهمته: صحيح يا دكتور، مديرية بحر الغزال، وحدها تطلع قد القطر المصري كله؟

فلم يُجِب «الدكتور» على سؤاله، والتفت إلى الحاضرين جميعًا، كأنما سيبدأ الحديث … وعندئذٍ سكت الكل، ونظروا إليه مصغين. فرفع يده بمنشة ذات مقبض من العاج، طرد بها الذباب عن صينية القهوة، ثم قال: أنا أقول لكم عن بحر الغزال … آه … بحر الغزال … السودان!

ولفظ كلمة «السودان» الأخيرة في شبه تنهد عميق، أو شبه أسف صادر من كل نفسه، أو شبه حنين يهز كل شخصه، حتى ليخيل للسامع أن «السودان» كل شيء عند هذا الرجل، هو كل حياة هذا الطبيب العسكري الكهل، الذي عاش ردحًا من الزمن فيه.

وأخد يسرد للحاضرين بصوتٍ حارٍّ رصين، كيف رافق الحملة المصرية في ارتياد مجاهل «بحر الغزال»… قال: إنهم كانوا معسكرين قرب «غابة شامبي»، واستيقظوا في صباح ذات يوم مبكرين، واصطف الجنود، كلٌّ يحمل كوبًا في يده، وسار هو بينهم بزجاجة «الكينا»، يصب في كل كوب جرعة أو جرعتين، كالمتبع في تلك البقاع كل صباحٍ؛ للاحتياط والمناعة ضد «الحمى»، ثم حملوا متاعهم وخيامهم وقِرب مائهم، وساروا مخترقين الغابات الكثيفة الشاسعة والأدغال، يتقدمهم دليل زنجي من أهل البلاد. فقد كانوا كلما قطعوا مرحلة ودخل عليهم الليل، وقفوا وأوقدوا النيران حتى لا تقربهم وحوش الغابة، ومع ذلك فقد كانوا يرون على ضوء اللهب المشتعل في الدغل اليابس، عيون النمور والأسود التي ترود حولهم عن بعد، وكان يشع منها لمعان وبريق ذو ألوان غريبة جميلة، وكانت تلك الليالي حارة وأحيانًا مقمرة بديعة في سكون عميق، لا يقطعه سوى زئير الأسد الذي يرود طالبًا نصيبًا من لحم التيتل والجاموس الوحشي الذي كانوا يشوونه على النار. وكان «الدكتور حلمي» مع الجنود جالسين القرفصاء، ينظرون بعيون حريصة، وبعضهم يحمل البنادق استعدادًا للطوارئ. ومع ما في تلك اللحظات من قلق مخيف، كان الدكتور يشعر بلذة تلك المغامرة، ويود لو تتاح الفرصة ويرى أسدًا هاجمًا عليهم فيصطادونه بالبنادق! … وأفضى بهذه الرغبة لجندي سوداني ملحق بخدمته، فقال له الجندي: سترى أغرب من ذلك عندما نصل إلى «تونج»! … سنرى بعض الوطنيين يصطادون الأسد بالرماح القصيرة.

وفي الصباح استأنفت الحملة السير.

وكانوا أثناء سيرهم يصطادون طعامهم. والصيد هناك كثير: من تيتل مدهن، إلى جاموس دسم؛ وطالما كان «الدكتور» ينحرف عن الحملة وراء صيد جميل، وكان شأن كل عسكري حديث سلمت إليه بندقية أن يضرب بغير حساب كل حيوان يصادفه مفترسًا كان أو غير مفترس.

ولاحظ منه ذلك الجندي السوداني المرافق له، فقال له يومًا محذرًا: اضرب في تلك الغابات أي حيوان تشاء مهما كان ضاريًا، إلا حيوانًا واحدًا، حذار أن تمسه بسوء. وإلا نال الحملة بأجمعها كل السوء: القرد! … إياك أن تتعرض لقرد الغابة.

واستمرت الحملة تسير أيامًا، حتى نهكها التعب، وفرغ منها الماء!

وقال الدليل: إنه لا رجاء في ماء إلا بعد ثلاث مراحل؛ حيث توجد بئر واحدة. والغابة كالصحراء أحيانًا قد يوجد بها كل شيء، إلا الماء الصالح للشرب.

وأخيرًا اقترب الجنود من مكان البئر حيث يستريحون ويطفئون ظمأهم بعد سيرٍ مضنٍ في حرارة شديدة وطعام دسم، ولكن قبل أن يبلغوا البئر ببضع مئات من الأمتار، تراءى «للدكتور» أن يغافل الحملة، ويسرع بمفرده من طريق مختصر بين الأدغال، ويصل إلى البئر قبلهم … ونفذ الفكرة في الحال دون أن يخبر حتى جنديه السوداني، وما إن بلغ البئر حتى وقف في مكانه دهشًا مبغوتًا، ذلك أنه شاهد على البئر قردًا هائلًا واقفًا بلا حراك.

فتردد قليلًا ثم لوَّح له بيده، فلم يتحرك القرد، فالتقط حصاة من الأرض رماه بها، فلم يتحرك كذلك، فصوب إليه بندقيته فنظر إليه القرد نظرة ثاقبة، ولكنه لم يترك موقفه، فحار «الدكتور» في أمره، ولم ير بدًّا من إطلاق النار على ذلك القرد الغريب.

وفعل … فسقط القرد مضرجًا بدمه في البئر دون أن يلفظ صرخةً، وتقدم «الدكتور» في الحال نحو البئر، وانحنى ينظر إلى القرد فيها، ويرى مقدار ما بها من ماء، لكنه وجد بها ما أدهشه … وجد ما ينيف عن مائة قرد ساقطة كذلك في الأعماق. فتساءل عما أتى بكل تلك القردة إلى البئر؟ وما تصنع فيها؟

وفكر … ثم فكر. فاتضح له شيء عجيب: أن هذه القردة أتت في الحقيقة؛ كي تشرب من البئر، وكانت وسيلتها للوصول إلى مائها الغائر أن وقف ذلك القرد الكبير وأمسك بيده قردًا ثانيًا قد تدلى وهذا القرد الثاني أمسك بثالث قد تدلى كذلك تحته، والثالث برابع. وهكذا جعلت بعض القردة من أجسادها سلمًا تدلَّى في البئر كي ينزل عليه ويصعد البعض الآخر.

أدرك «الدكتور» ذلك من هيئة القردة، ومن أيدي بعضها التي ما زالت ممسكة بأيدي البعض.

فعجب قائلًا في نفسه: أيُّ تضامن هذا الذي يرى من تلك القردة، وأي تضحية قام بها القرد الكبير في سبيل الجماعة، هذا القرد الذي لم يشأ أن يتحرك وقد رماه بالحصى وصوب إليه النار … إنه كان ممسكًا برفاقه المتدلين في البئر … واستقبل الموت بعيون ثابتة وجسد جامد دون أن يترك مهمته … لقد كان في استطاعته ترك رفاقه والهرب بنفسه راكضًا قافزًا إلى الغاب بمجرد رؤية «الدكتور».

ندم الطبيب قليلًا على قتله ذلك القرد، غير أن ما كان يشغل باله في تلك اللحظة أمر أهم من ذلك بكثير … الحملة عما قليل تصل منهوكة القوى، وسترتمي على البئر طالبة الماء، وها هي ذي البئر قد تلوثت بالدم والقردة فيها، ودون الوصول إلى بئر أخرى مراحل يجب قطعها في أيام وليال، وهل تستطيع الحملة الاستمرار في السير أيامًا أخرى بلا ماء؟ … ثم من المتسبب في كل هذا؟ … ومن المسئول عما حدث وعما يحدث من تعريض الجنود لخطر كهذا؟ … إن إتلاف بئر أو تسميم بئر لهو في قانون الجيش جريمة، فكيف والمتسبب هو طبيب الجيش؟ … أي الموظف المكلف بمراعاة صحة الجنود، والذي لا عمل له إلا صحة الجنود. ما كاد «الدكتور» يخطر له ذلك حتى ارتعد، ولبث قليلًا كالمذهول، ولكنه صحا لنفسه فجأة وركض إلى الأدغال في الحال، وقد رأى أفضل طريق للخلاص من هذه الورطة أن يتجاهل كل شيء ويعود إلى الحملة، ويسير خلفها دون أن يشعر به أحد، كأنما هو لم يفارق الحملة قط، ولم يسبقها إلى البئر ولا يدري ما بها.

ولم تلبث الحملة أن بلغت البئر، وهرع الجنود إليها فرحين مهللين بعد أن أنزلوا أحما لهم وأثقال دوابهم؛ وأعدوا قرب مائهم الفارغة.

وما كادوا ينظرون ويرون ما بالبئر حتى صاحوا ساخطين لاعنين، ودب فيهم اليأس؛ وانقلب تهليلهم أناتٍ غيظًا وحزنًا واجفًا قلقًا؛ غير أن أحدًا لم يلاحظ ما في نفسه.

وأخذت الحملة تتشاور فيما يجب عمله؛ و«الدكتور» حائر يتوارى ويتجلد، وإذا هو فجأة يشعر بشخص خلفه، فالتفت إليه فإذا هو يرى الجندي السوداني ينظر إليه نظرة فهم منها في الحال أن ذلك الجندي قد أدرك الحقيقة.

ولم ينبس الجندي بكلمةٍ بعدئذٍ، بل تناول حبلًا متينًا من بين الأمتعة، وذهب إلى البئر صامتًا، وربط طرفه إلى حجر ثقيل، وأدلى بطرفه الآخر في البئر، ثم صاح بالجميع أن ابتعدوا واختبئوا بين الأدغال القريبة، ولم يمضِ قليل حتى كانت الحملة مختفية خلف الأدغال، تنظر إلى البئر عن كثب … وفي الحال أبصر الجميع من مخبئهم قردًا يبرز من البئر متسلقًا الحبل وقد تبعته باقي القردة، ثم إذا هم يرون في عجب قردين كبيرين في الحملة، يحملان القرد القتيل المضرج بدمه، ويركضان به مع باقي القردة التي اختفت قافزة بين الأشجار.

وهكذا خلت البئر والمكان، وأرادت الحملة أن تظهر من مكمنها وتجري إلى البئر تنظف ما تلوث من مائها، ثم تأخذ حاجتها منها، لكن الجندي السوداني أشار بالتريث والسكون؛ قائلًا «للدكتور» الذي كان بجانبه في همس: إن القردة لا تترك ثأرها، ولن تدع دم القتيل يذهب هدرًا.

حقًّا … لم يكد يتم كلامه حتى ظهرت القردة ثانية من كل فج من أرجاء الغابة؛ كأنما ذهبت تلك الجماعة لتخبر كل قرود المكان وتعبئ منها الجيوش … واقتربت طائفة من البئر، وجعلت تبحث بعيونها الضيقة الثاقبة، وإذا هي تعثر على جندي من الحملة كان لسوء حظه متخلفًا عن زملائه، مشتغلًا بإعداد الخيام دون أن يشعر أو يأبه باختباء الباقين … انقضت القردة على ذلك الرجل، فألقت به على الأرض، وشدوه شدًّا من قدميه وجذبوه جذبًا على الأرض، وساروا به إلى داخل الغابة، وقبل أن يختفوا به قفز باقي القردة إلى الأشجار القريبة، فاقتطعوا منها أغصانًا رفيعة كالسياط. ونزلوا بسرعة البرق إلى هذا الرجل وانهالوا عليه ضربًا.

ولم تستطع الحملة إنقاذ ذلك الجندي المسكين من أيدي تلك الطائفة إلا بثمن غال: هو الإسراع باستئناف السير، وترك تلك البقعة بعد أن أخذ ما تيسر من الماء، وعلى الرغم من تعب الجنود المضني، وحاجتهم القصوى إلى الراحة.

وهكذا خرجت الحملة من تلك المنطقة سريعًا، ودخلت في غابة أخرى كالمحيط اتساعًا، وكل أشجارها من نوع «الماهوجني» الذي يصنع منه الأثاث الثمين.

استراحت الحملة في هذا المكان وقتًا ما، وكان «الدكتور» قد نسي فعلته، وأخذ يفكر في موضوعات أخرى وتأملات أثارها ما حوله من منظر تلك الأشجار … فكر في تلك الثروة الهائلة التي يجنيها من يستطيع استثمار أشجار غابة كهذه الغابة الثمينة، إن العقبة الوحيدة دون تلك الثروة هي صعوبة المواصلات، فلو أن خطًّا حديديًّا يصل تلك المنطقة بمصر أو بالبحر لكانت الثروة مضمونة.

في المستقبل سيحدث ذلك … لهذا تريد إنجلترا السودان لا لليوم؛ بل للغد.

ولم يسترسل كثيرًا في هذه الأفكار … فإن الحملة سرعان ما غادرت المنطقة واستأنفت سيرها إلى منطقة أخرى، ثم إلى غيرها حتى بلغت «تونج»، وهناك حطت رحلها قليلًا، واستطاع «الدكتور» أن يجوس خلال المكان ويرى غرائبه. وإن أروع ما يذكره عنه أنه أبصر أسدًا رابضًا يأكل غزالًا بين مخالبه، وكان أحد الوطنيين السود يرقب الأسد عن كثب؛ وكأنما يتحين الفرص ليسلب الملك غذاءه.

وكان مع «الدكتور» جنديه السوداني، فقال له الجندي السوداني: انظر ما سيفعله هذا الزنجي الآن … إن الغزال في هذه المنطقة قليل، وهذا الزنجي يريد استخلاص الغزال من بين مخالب الأسد. ولم يتم قوله حتى أبصر «الدكتور» ذلك الزنجي يقترب من الأسد، ويرشقه بحصاة متحرشًا، ولكن الأسد لم يأبه له كأنما هي بعوضة لمسته لا أكثر، فأعاد الزنجي الكَرة بقطعة من الحجر أصابت الأسد في رأسه. فالتفت الأسد إليه، ثم انصرف برأسه عنه، شأن المزدري، وعاد فاشتغل بفريسته، فتناول الزنجي حجرًا أكبر من الحجر الأول وصوبه إلى أنفه وألقاه في عنف، فلم يطق الأسد صبرًا ونهض متثاقلًا، ثم تمطى ومشى ببطء نحو الزنجي. فقال «الدكتور» في نفسه: لقد ضاع الزنجي وهلك إن لم يول الأدبار في الحال. غير أن الزنجي لم يتحرك من موقفه حتى أقبل الأسد ولم يبقَ بينه وبينه إلا ثلاث خطوات أو أربع، فتناول الزنجي رمحًا قصيرًا كان قربه على الأرض ثم واجه الأسد، والأسد إذا هاجم وثب، فلما همَّ بالوثوب على الزنجي، انحنى الزنجي بسرعة البرق مقابلًا بالرمح أسفل عنق الأسد، وإذا بملك الغابة قد خرَّ صريعًا على الأرض، و«الدكتور» من دهشه وذهوله لا يدري كيف وقع كل ذلك في بضع ثوان! إلا أن تكون براعة ومقدرة وخفة حركة وُهبها ذلك الزنجي بطول المرانة منذ الصغر! … وتقدم ذلك الرجل بعدئذٍ إلى الغزال، فحمله ومضى به تحت أنظار الإعجاب بهذا الذي انتزع الفريسة قسرًا من براثن الأسد. غير أن الجندي السوداني لم يستغرب ذلك كثيرًا، وقال «للدكتور»: إن المهم في قتال الأسد اجتناب لطمته؛ لأن القوة كلها في لطمته؛ فقد شاهد هو يومًا على شاطئ بحر الزراف أسدًا ينزل الماء ليشرب، فاعترضه تمساح هائل قبض بفكيه على إحدى ساقيه، وكان عراك هائل بين الوحشين بترت فيه ساق الأسد، ولكن الأسد لطم ظهر التمساح بمخلبه فكسره.

مضت أيام أخرى، واستأنفت الحملة السير مخترقة هذه المرة مناطق تشبه السهول، ذات طبيعة صحراوية، قد نمت فيها أعشاب طويلة، يقطنها قوم يشبهون الأعراب، صناعتهم تربية قطعان الإبل والنوق، ويعيشون على ظهور الإبل في مسكن كالهودج، ينتقل بهم ويتحرك تبعًا لانتقال القطعان وحركة الإبل التي ترعى العشب، وهكذا يظل أولئك القوم ساكنين متنقلين، إلى غير غاية؛ كركب سفينة تائهة وسط المحيط؛ أو كقبطان «ذهبية» متنقلة في النيل، والمعاملة فيما بينهم بالإبل والنوق، وفيما بينهم وبين الأجانب بالإبل والنوق كذلك، أو بألبانها وفرائها وصوفها. وقد رأى «الدكتور» هذا فخطرت له أيضًا تلك الأفكار وقال في نفسه: حبذا تنظيم هذه المراعي الطبيعية الواسعة، واستثمار صوف حيوانها وألبانها.

وما إن وصل «الدكتور» في حديثه ذلك العصر إلى هذا القدر، حتى جاء «الصيدلي» طالب يريد تركيب دواء، فنهض مستأذنًا، واضطر الدكتور إلى قطع الحديث، وهنا أخرج «شعبان أفندي» علبة نشوقه وهو يقول معجبًا بما سمع: شيء عظيم خالص يا دكتور.

وأطرق مفتش الصحة قليلًا مفكرًا، ثم قال مستعلمًا: وأرض الجزيرة دي إيه أمال؟

فقال «الدكتور حلمي»: أرض الجزيرة دي خليها على جنب … دي يا افندي منطقة تنفع لكل شيء: للقطن وللمطاط «الكوتشوك»، وأسهل شيء زرعها كلها غابات كوتشوك … كنز من كنوز المستقبل اللي في السودان.

فهز مفتش الصحة رأسه هزة معنوية، وأطرق صامتًا، ثم فجأة رفع رأسه وقال: بلغني يا «دكتور» إنك رجعت بقرشين طيبين من السودان.

فأجاب «الدكتور حلمي»: قصدك القرشين تمن الأفيال؟

فسأل الباشكاتب متعجبًا، بعد أن عطس عطسة قوية: أفيال؟

فقال مفتش الصحة: الدكتور، كان قد اصطاد في السودان ستة أفيال، وباع العاج اللي فيها بأربعة آلاف جنيه تقريبًا أيام الغلا.

فقال «شعبان أفندي» دهشًا مستكثرًا: يا سلام، أربعة آلاف جنيه أفيال؟ أفيال إيه دول يا خويا؟

فأجاب «الدكتور» باسمًا: أمال انت فاكر إيه؟ … الفيل الواحد فيه عاج بمتوسط ٦٠ قنطار، والقنطار الواحد تمنه النهارده ١٠ جنيه، يعني الفيل تقريبًا يساوي ٦٠٠ جنيه؛ ولذلك كل واحد يحب يصطاد أفيال لازم يتحصل على رخصة من الحكومة، والرخصة رسومها باهظة.

فقال «شعبان أفندي»: يا سلام! … دي السودان فيها خيرات عظيمة على كده؟

ثم تنهد، وقال: يا بختك يا «دكتور»! … إنت شوقتنا … لو كنت في شبابي كنت غامرت ورحت بلاد الله لخلق الله … هو يا شيخ طول ما احنا قاعدين نايمين هنا نفلح!

ثم عطس عطسة، ومسح أنفه بمنديله، وقال: وكانت معاك العائلة يا «دكتور» في السودان؟

فأجاب الدكتور ومفتش الصحة معًا: ماكانش فيه عائلة لسه.

فقال «شعبان أفندي»: بقى حضرتك كنت أعزب ايامها؟

فأجاب «الدكتور حلمي»: بالطبع، أنا تزوجت وخلفت بعد رجوعي من السودان، فين دلوقت … بقى لي عشرين سنة.

فقال «شعبان أفندي»: عشرين سنة! … بقا حضرت واقعة أم درمان؟

فقال «الدكتور حلمي» مفاخرًا وقد صعَّر خده وأنفه في خيلاء: أم درمان وغيرها … معلوم … أنا حضرت مواقع حربية، أنا مش بس طبيب، أنا رجل عسكري.

ومرَّ في تلك اللحظة ساعي البريد، ونظر إلى «الدكتور حلمي»، فقطع هذا الأخير كلامه، وسأل الساعي كعادته عما إذا كانت له خطابات. وقد اعتاد الساعي أن يمر بالأجزاخانة ويسلم الدكتور ما له من بريد بدل أن يذهب إلى المنزل، غير أنه في ذلك اليوم تردد قليلًا، قبل أن يجيب «الدكتور»، ثم دمدم بصوت خافت، وهو يدس يده في محفظة الخطابات التي يحملها.

– لأ … بس ده جواب … علشان …

وكأنما رأى الساعي أخيرًا أن ليس من اختصاصه التصرف على نحو معين بالذات، وأن «الدكتور» هو والد المرسل إليها على أي حال … لا سيما والخطاب معنون «سنية هانم» كريمة «الدكتور أحمد حلمي»، فلم ير بدًّا من تسليم الخطاب إليه … وتناول الدكتور الخطاب وفضه دون أن ينظر إلى المكتوب على الغلاف وقرأ … فلم يفهم شيئًا بادئ الأمر، فأعاد القراءة فلم يفهم، فنظر إلى الغلاف ففهم … ونهض في الحال مستأذنًا وقد تغير وجهه، وخُيل إليه أن شرفه العسكري قد أهين، وقصد توًّا منزله؛ كي يسأل ابنته الحساب.

ودخل البيت فاستقبلته زوجته؛ فصرخ فيها وأراها الخطاب وأفهمها مضمونه؛ فأخذت تهدئ من حدته وتقنعه بوجوب إخفاء ذلك عن ابنته؛ حتى لا يثير فضيحة، وحتى لا يسيء إلى جارتها «زنوبة»، وتعهدت أن تذهب هي إلى «زنوبة»، وتشكو إليها ما حصل، وتجتهد في إصلاح كل شيء بالهدوء والحسنى … ثم أفهمته أن ابنته «سنية» قد تكون مظلومة، ولا تدري شيئًا عن خطاب بعثه جار سيئ السلوك والأدب؛ فلماذا يُغضب ابنته ويكدرها من أجل شيء ليست بمسئولة عنه؛ وليس الذنب فيه ذنبها؟

وهكذا ظلت به حتى سكت، ومرت الحادثة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤