الفصل الثاني

جاءت ساعة العشاء، واجتمع «الشعب» في فسحة الشقة، حول مائدة من الخشب الأبيض الرخيص، عليها غطاء مشمع، قد أكل عليه الدهر وشرب؛ كما أكلوا هم عليه وشربوا، وربما نام الدهر عليه أيضًا، كما نام «مبروك» الخادم؛ فهذه المائدة هي التي تنقلب بالليل سريرًا ﻟ «مبروك»، يضع عليها مرتبته ولحافه وبراغيثه، وفي الصباح تعود مائدة، يوضع عليها طبق الفول المدمس الكبير، وأرغفة الخبز الخاص للإفطار، وقصعة الفريك أو الفول النابت للغداء أو للعشاء.

في تلك الساعة كانت القصعة المعهودة موجودة، يتصاعد منها الدخان، إلا أن الجميع في سكون وجمود عجيبَين، وما كانوا قد بدءوا الأكل بعد؛ كأنما هم ينتظرون أحدهم، وحقيقةً كان موضع «حنفي» خاليًا، ولكن هل انتظار الغائب ينبغي له منهم كل هذا الصمت والوجوم؟ … فهذه «زنوبة» واضعة كفها على خدها كالغارقة في أحلام بعيدة … وهذا «مبروك» في مجلسه بطرف المائدة يستنشق بخياشيمه رائحة الدخان المتصاعد من القصعة بينهم، ويلقي على مكان «حنفي أفندي» الخالي بقربه نظرة من نفد صبره، ولكنه لا يجرؤ مع ذلك على قطع هذا الصمت المخيم، وبين آنٍ وآنٍ يرمق ثوب «محسن» الجديد أمامه، بعين منكسرة ذليلة. «مبروك» ليس خادمًا عاديًّا؛ فهو رفيق الصبا لأفراد الأسرة، وهو الذي لاعَب في الصغر «حنفي» و«عبده» و«سليم»، ونشأ معهم في بلدة «الدلنجات»؛ لذلك هو في الأسرة شبه «خادم شرف» كما أن «حنفي» «رئيس شرف»، وكان «محسن» في مقعده من المائدة مشغولًا هو الآخر باختلاس النظر إلى «عبده» و«سليم»؛ كأنما يريد استطلاع سر صمتهما الغريب، ولا شك أن «عبده» و«سليم» هما أصل عبوس تلك الليلة، وإنه ليبدو من أمرهما أن شيئًا غير عادي يعكر مزاجهما، ويجعل هذا العشاء خلوًا من السرور والجلبة والانشراح المعتاد بين «الشعب» كلما اجتمع حول مائدة، فسليم أفندي — «المهياص» المرح — واجم على غير عادته، مطرق يفتل شاربيه الكبيرين في سكون وتفكير، أما «عبده» فجامد مكفهر، وقد انتفخ منخاره الكبير واحمر أكثر من المعتاد، دلالة على غضبه الشديد، وهياجه العصبي الهائل ذلك المساء.

استمر الصمت والإطراق على ذلك النحو زمنًا، وأخيرًا رفع عبده رأسه فجأة، وضرب المائدة بقبضته ضربة عصبية قوية، أفاق لها الجميع، وصاح: ملعون أبو اللي ينتظر.

وبغت «مبروك» الخادم من الصيحة، فوثب على قدميه في الحال، واتجه شطر قاعة النوم، وألقى نظرة على سرير «حنفي أفندي»، ثم عاد يقول: سي «حنفي» ممدد في سريره، وبياكل — من غير مؤاخذة — رز بلبن مع الملايكة.

وعندئذٍ سمع الحاضرون صوتًا من قاعة النوم، يقول: رز بلبن مع الملايكة؟ يسمع منك ربنا يا «مبروك أفندي»، أنا بقى لي زمان ما أكلتش رز بلبن، من نهار ما استخدمت وسلمت زنوبة مصروف البيت.

فرفعت «زنوبة» رأسها وقالت غاضبة: من نهار إيه؟ … فشر! … إنت كمان بسلامتك، يا سم! … النبي تقوم تهز طولك بلا وحم … الأكل برد من الصبح.

فقال «حنفي» من قاعة النوم: إنتم فاهمين إني نايم؟ … أما إنكم صحيح متأخرين … أنا عندي شغل اكوام، اكوام.

وهنا تململ «عبده» وصاح: انتظار مفيش، مفيش انتظار.

فأجاب «رئيس الشرف» من قاعة النوم بصوت يترنم بنغمة كنغم المواويل: «شعب» اصبر! دا الصبر طيب، وإن كان مر مايضرش … باقي على التصحيح دفتر وكراسة، يا سيدي دفتر وكراسة، يا سيدي دفتر وكراسة، يا سيدي كراسة، وإن كانوا كراستين إيه يعني مايضرش.

فكظم «عبده» غيظه، وظل «حنفي» في قاعة النوم ذات الأربعة الأسرَّة يشتغل في سريره بتصحيح كراريس تلاميذه، وهو يترنم ويغني: يا سيدي دفتر وكراسة، يا سيدي دفتر، يا سيدي كراسة … آه، يا سيدي كراسة.

ولم يتحرك للغناء أحد من الحاضرين سوى «مبروك» فإنه وقف في منتصف الفسحة، ووجهه إلى قاعة النوم حيث سرير الرئيس، وأخذ يصفق براحتيه كما يفعل «المطيباتية»، ويقول: الله … الله، كمان «يا سيدي كراسة».

وأخيرًا لم يطق «عبده» صبرًا؛ فصرخ: أقسم بالله العلى العظيم مانا ساكت … خلاص.

ثم مد يده في حركة عصبية إلى ملعقته، فرفعها بقوة وعنف، ودسها في قصعة الفت، وحساء الفول النابت، وأخذ يأكل غير حافل بأحد، وعندئذٍ تبادل الآخرون النظرات، كأنما أدهشهم عمل «عبده» أو كأنما هم لم يرتاحوا له، ومع ذلك لم يجرؤ أحد منهم على التفوه بلفظ.

غير أن زنوبة ما لبثت أن تكلمت بصوت يبدو منه رنة المحاول تبرير عمل «عبده» فقالت: أيوه … أمال، الحق على بسلامته الكبير الريس، اللي دايمًا ممدد زي تنابلة السلطان، وحياة ربنا العزيز البيت باظ من تحت راسه.

والتفتت إلى «عبده» في ملق وزلفى تريد تهدئة خاطره؛ وكأنما رأت أن تغير مجرى الحديث وتوجه الأفكار إلى موضوع آخر فقالت: ماتعكرش دمك يا «سي عبده» … قطع الأكل والشرب وسيرته.

ثم فجأة غيرت لهجتها، وقالت: يا ترى حد منكم لقي منديل «سنية» الضايع؟

كان «عبده» قد بدأ تهدأ ثائرته من تلقاء نفسه، وبدأ يندم في ضميره على إسرافه في الحدة والغضب، أو على الأقل لإظهاره هذا الغضب!

لكنه ما كاد يسمع عبارة «زنوبة» الأخيرة، وما كادت تلفظ أمامه كلمتَي «منديل سنية» حتى انقلبت سحنته ثانية، وعاد شرًّا مما كان، وكأنما «زنوبة» قد أرادت تهدئته بهذه العبارة؛ كمن يهدئ النار بالزيت.

أطرق عبده لحظة وقد انتفخت أوداجه، واحمر منخاره، ثم لم يعد في استطاعته الجلد والكظم فانفجر صائحًا: يعني مش عارفة المنديل عند مين؟ كلنا عارفين المنديل عند مين.

فارتعد «محسن» ونظر إلى الأرض، لكن «عبده» التفت إلى جهة ابن عمه «سليم» وأومأ برأسه إيماءة فيها معنى الشر والهجوم، واستطرد يقول: لو كنا مغفلين كان ينطلي علينا، ولكن احنا الحمد الله مش مغفلين … حضرته يقول لك فين المنديل.

وأشار إلى «سليم» بأصبعه إشارة صريحة، ففتل هذا شاربه بتؤدة.

وأجاب ببرود: حضرتك بتقول إيه؟

فقال «عبده» في لهجة جافة قاطعة: مفيش لزوم للكلام … كلنا عارفين.

فقال «سليم» بنفس البرود: عارفين إيه؟

فلم يُجِب «عبده»، وأشاح بوجهه عنه، فهز «سليم» رأسه متعجبًا، وقال: عفارم عليك، تبقى حضرتك عاملها وتتهم فيها غيرك؟ … لكن هي دي شطارة شبان اليوم.

فاستدار «عبده» في قوة وعنف وصاح به: لو كنت أنا من أرباب السوابق في المسائل دي، كان يبقى صحيح.

فتخاذل «سليم» قليلًا ودمدم: سوابق؟

فاستطرد «عبده» ملمِّحًا: لو كنت أنا «يوزباشي» وأوقفوني عن وظيفتي علشان مسألة واحدة شامية!

فتجلَّد «سليم» ورفع رأسه، وقال بقوة وتبجح: وإيه يعني؟

ولكنه مع ذلك أحس إفلاسه أمام السامعين؛ فإن هذه الحادثة التي طالما كانوا يستشهدون بها اتهمته مقدمًا من دون حاجة إلى دليل. الجميع يعلمون أنه ضابط بوليس، موقوف عن العمل منذ ستة شهور بسبب سوء استعما له سلطة وظيفته؛ فقد اتُّهِم في بورسعيد بمغازلة سيدة سورية تقطن منزلًا أمام نقطة البوليس، ولو أن الأمر اقتصر على مجرد المغازلة والمناورة، وإرسال الإشارات والتحيات والابتسامات وفتل الشوارب وتلعيب الحواجب لتلك المليحة كلما بدت من نافذتها، لما كان في الأمر ما يدعو إلى جزاء الإيقاف … ولكن «سليم أفندي»، ذهب إلى أبعد من ذلك، وطلب الوصل والقرب من ذات الحسن، وبحث طويلًا عن الطريقة، وأخيرًا هداه الشيطان، وكان ذلك في يوم صيف ووقت عصر اشتد قيظه، والتهبت فيه العواصف والأجساد التهابًا، فقام على الفور «سليم أفندي» معاون البوليس، في لباسه الرسمي العسكري، تلمع أزراره النحاسية في وهج الشمس؛ كما تلمع النجوم الثلاثة فوق كل من كتفيه، ومضى إلى منزل الجميلة، وصعد إلى مسكنها، وطرق بابها، وقال: افتحي يا ست، ماتخافيش، أنا المأمور.

– ليه؟ لازم حاجة؟

– اسمحي لي بس أدخل شوية.

– علشان إيه؟

– علشان إيه؟ سبحان الله في طبعك، علشان، أفتش، لازم أفتش، مش تسمحي أني أفتش؟

وهكذا قرر زورًا وباطلًا أنه يريد تفتيش مسكنها، وكُشفت الحيلة، وانتشر الخبر، وكانت فضيحة، وكان الإيقاف لمدة سنة.

مر كل هذا كالبرق برأس «سليم»، فسكت ولم يحر جوابًا، ورأى «عبده» منه ذلك، فقال بصوت المهاجم المغتاظ المتشفي: أيوه، اسكت أحسن لك، المسألة واضحة كالشمس.

فرفع «سليم» رأسه وقال ببرود: قصدك إيه؟

فرد «عبده» متكلفًا الهدوء: مفيش لزوم، عرفنا كل شيء.

فاعتدل «سليم» وقال في حدة وجد: بقا اسمع … كفاية أمور التهويش بتاعتك دي مش علينا، حضرتك فاهم إنها شطارة، لكن … لأ، عيب، إن كنت صحيح شاطر تقول ولا تنكرش، ومع ذلك دا شيء ظاهر، بس أنا مش راضي أتكلم، إن كنت مش مصدق أنا مستعد أثبت كلامي وأشهد الحاضرين.

فقاطعه «عبده»: تثبت كلامك؟!

فقال «سليم» على الفور: معلوم تحب أثبت لك؟ … قوم رجلي على رجلك خليني افتش عفشك وهدومك.

وعندئذٍ لفظ عبده ضحكة سخرية كبيرة، وقال: بتقول إيه؟! تفتش؟! ما شاء الله، لسه حضرتك ماحرمتش التفتيش؟

تتبع الحاضرون تلك المناقشة في سكون تام، وكان أشد الحاضرين انتباهًا لما يدور، الصغير «محسن»؛ فقد كان ينصت والخوف والقلق يتناوبان هز قلبه، وما كان أحراه أن يهدأ ويطمئن، فمن ذا يتهم أو يسيء الظن بغلام في الخامسة عشرة من عمره.

وبينما هم كذلك؛ إذ ظهر «حنفي» فجأة بباب قاعة النوم المؤدية إلى الفسحة، وأخذ يتأملهم لحظة بنظره القصير، ثم قال: خبر ايه؟ ما لكم كده الليلة ظايطين زي اللي معجونين بمية عفاريت؟ طيب أديني حضرت، أديني حضرت أهه.

فلم يجبه أحد … «زنوبة» فقط تنازلت، ورفعت عينها، ونظرت إليه في عدم اكتراث، ثم حولت بصرها عنه، وعادت إلى ما كانت فيه، فتقدم رئيس شرف الأسرة نحو المائدة، ثم قال: يعني مش شايف أكل ولا شرب، هو فين أمال العشا اللي بتقولوا عليه؟ سمعنا إن فيه عشا، يظهر إنها إشاعة.

فرفعت «زنوبة» رأسها وأشارت إلى القصعة قائلة بفتور: مش شايف؟

فأحكم «حنفي» وضع منظاره على منخاره، وسدد عينيه إلى القصعة وما بها، ثم قال: فول نابت؟! شي لله يا ام هاشم.

فلم تنظر إليه «زنوبة»، غير أنها نهضت من مكانها في الحال وسارت في الفسحة متجهة شطر المطبخ وهي تقول: فيه كمان يا ادلعدي صنف.

وذهبت.

ما كادت تخرج «زنوبة» حتى عاد السكون والصمت من جديد.

وجلس «حنفي» في مكانه الخالي بقرب «مبروك» الخادم.

وظل لحظة ينتظر كلامًا … وأخيرًا تنحنح، وثبت منظاره على منخاره وطفق يحدق في وجوه رفاقه واحدًا واحدًا؛ كأنما أدهشه حالهم، وأراد أن يستوضح سر سلوكهم الغريب ذلك المساء.

– خبر ايه؟ «الشعب» ما له؟!

ولكن أحدًا من الحاضرين لم يتحرك ولم يُعْنَ بالرد عليه، إلا أن «مبروك» الخادم التفت إليه في النهاية، وقال بصوت خافت خطير: «الشعب» بلا قافية متخاصم.

فتساءل «حنفي» عجبًا: متخاصم؟! من فيهم اللي متخاصم؟

فأجاب «مبروك» باقتضاب: جميعًا.

فسأل «حنفي»، مستوضحًا: جميعًا؟! … ليه؟ حصل ايه لا سمح الله؟

فقال «مبروك»: بلا قافية جميعًا، يا محلى الخصام جماعة!

فاشتدت رغبة «حنفي» في المعرفة، فقال: لكن يعني إيه بس سبب الخصام؟

فسكت «مبروك» ولم يجب، وألقى نظرة سريعة على الآخرين فألفاهم صامتين، فلزم الصمت مثلهم، وكأنما يخالجه شيء من الارتياح واللذة أن يكون هو أيضًا ضمن الصامتين. وعلى الرغم من إلحاح «حنفي» وغمزه له، ووخزه له بكوعه كي يخرجه من الصمت؛ فقد ظل «مبروك» ساكتًا لا يريد أن يتكلم، ولا يحرك إلا عينين كبيرتين ينقلهما بين الطبق والقصعة.

ويئس منه «حنفي» فانصرف بوجهه عنه، وتمتم قائلًا: شيء عجيب يا ناس!

عبثًا حاول الرئيس أن يحملهم على الكلام حتى سئم وتعب، فتوجَّه بكلِّيَّته إلى الأكل، وصار يزدرد في سكون مثلهم.

ومضى زمن قليل، ثم عادت «زنوبة» تحمل في يدها طبقًا، ونظرة واحدة إليه من عين «مبروك» الحادة استطاعت أن تعرف ما يحتويه. فصاح معلنًا: ورك الوزة شرَّف.

فانتفض الرئيس «حنفي» انتفاضةً مسرحية مصطنعة، وقال: مش ممكن.

ثم قام على قدميه في الحال، وثبت منظاره على منخاره ونظر ثم قال: يا خبر باين! دا صحيح يا أولاد.

ثم فجأة اعتدل في وقفته، وغير لهجته، وصاح معلنًا: صاحب العزة، ورك الوزة شرَّف.

رفع الجميع رءوسهم، وبعد أن تعرَّفوا الطبق أخذوا يتبادلون النظرات، ثم ألقوا أبصارهم في النهاية على «عبده»، كأنما هم يسألونه رأيه وما هو فاعل، لا سيما هذا المساء، وهو على تلك الحالة من الغضب وتعكر المزاج.

ولكن «عبده» لم يأتِ بحركة ولم ينبس بكلمة؛ بل ترك «زنوبة» تضع الطبق باطمئنان في وسط المائدة، وعندئذٍ رفع عينيه ونظر طويلًا إلى ورك الإوزة الهادئ في طبقه، ثم فجأة … وفي سرعة كسرعة الحدأة انقضَّ على ذلك الورك، فحمله بأصبعيه وذهب به إلى النافذة، فألقى به في الشارع، ثم عاد إلى مكانه، دون أن يلفظ حرفًا واحدًا.

وجم الحاضرون لحظة إزاء هذا المنظر الصامت، ثم انقلبوا في الحال محبذين مسرورين ضاحكين، ما عدا «زنوبة» … وكان أكثرهم بالطبع ضحكًا وصخبًا وتشويشًا «حنفي» و«مبروك»؛ فقد كان الرئيس «شرف» والخادم «شرف» يضحكان من قلبٍ صافٍ بسيط. ويودان لو يستمر الضحك والصخب، وقد وجدا له في النهاية سببًا على الأقل … وجعل «حنفي» يطيل ضحكاته، ويصل بين أطرافها، وينظر إلى «مبروك» الضاحك الوحيد الباقي مثله، ويقول: آه … آه منه ورك الوزة.

وكأنما قد تذكَّر شيئًا، فالتفت بغتة إلى «عبده» وقال: ولكن يا سيد عبده، إنت نسيت إن قهوة المعلم شحاتة تحت، قدامنا في الشارع، وأنا أراهن إن ما كان الورك نزل فوق راس زبون.

فرد «مبروك» الخادم في الحال: إنا لله وإنا إليه راجعون.

فقال «حنفي» موافقًا في لهجة جدٍّ مصطنعة: الدنيا حكم ومواعظ.

فتنهد ومبروك، ثم قال: يا سلام سلم! … زبون قاعد، بلا قافية، كافي خيره شره، وطالب له فنجان قهوة سادة، ولا واحد شيشة، يقوم في غفلته ينزل عليه.

فقاطعه «حنفي»، مكملًا: ينزل عليه … اللهم احفظنا واكفنا السوء.

فتميزت «زنوبة» من الغيظ، وهي بلا شك الوحيدة التي أغضبها عمل «عبده»، غير أنها كظمت وسكتت.

واستطرد «مبروك» يقول وهو يهز رأسه: الدنيا من غير مؤاخذة حكم تمام ومواعظ.

فانفجرت «زنوبة» وصاحت به: اخرس بقى انت كمان يا خدام يا لواص يا لحاس الاصحن.

فصمت «مبروك» قليلًا، ثم عاد فقال: وانا قلت حاجة؟ دي بلا قافية مواعظ كبيرة قوي، واحد زبون طالب غايته واحد قهوة بقرش تعريفة، والا شيشة بنيكلة، يقوم من غير مؤاخذة في غفلته ينزل عليه من السما ورك وزة فلاحي، يساوي جنيه؟

فقالت «زنوبة»، بحدة: قلت لك اخرس.

ثم التفتت إلى «عبده» وقد أطمعها فيه سكوته، وقالت: وانت وحياة ربنا العزيز بكرة تشوف، ابقَ تف في وشي إن كنت تكسب.

فاحتقن وجه «عبده» غضبًا وصاح: بتقولي إيه؟!

ولكن «زنوبة» تجلدت واستمرت تقول: بكرة تشوف إن كان ربنا يسامحك والا يبري لك ذمه، ابقَ قابلني إن كنت تورد على جنة، أو يتشفع لك نبي.

فأتى «عبده» بحركة عصبية من يده ملأتها رعبًا، فسكتت في الحال؛ وكأنها رأت أن الأولى بها أن تتلطف معه، فقالت: وأنا كنت جايباه لك؟ والنبي الغالي دا ما كان لك، الطير ده أنا كنت جايباه ﻟ «مبروك» … مش كده يا «مبروك»؟

فنظر إليها «مبروك» ثم نظر إلى الحاضرين حائرًا مترددًا متورطًا، لا يدري ما يقول، وأخيرًا وافقها في لهجة سخرية خفيفة: آه! … الطير!

واستطردت «زنوبة» دون أن تلتفت إلى جواب «مبروك»: أصل ادلعدي «مبروك» يحب الطير البارد.

فهز «مبروك» رأسه علامة الموافقة الاضطرارية وقال: أيوه … زي، بلا قافية، الانجليز.

فنظر إليه «حنفي»، وقال له: وانت كمان إيش كان عرَّفك بأكل الانجليز؟

فأجاب «مبروك»: أمال إيه! مش ابن عمي أخدوه في السلطة أيام الحرب مع الجمال والحمير والأنفار اللي خدوها!

فقال «حنفي»: صحيح! وكان بقا ياكل راخر طير بارد؟ والله عال! يظهر إن ست «زنوبة» عايزة تعملنا انجليز على آخر الزمن.

وفهمت «زنوبة» أن «حنفي» يسخر منها، فالتفتت إليه، وصاحت به في حدة: النبي تنسد انت كمان، وتحط على خيبتك برش … دي نوايب إيه ياختي دي، أنا عارفة جرى لكم إيه، إنتم بقيتم والنبي ماتنطاقوش أبدًا.

ما كادت «زنوبة»، تتم جملتها، حتى رفع «عبده»، رأسه، وصرخ بصوته الهائل قائلًا: هس … اخرسي … ولا كلمة.

ثم تبع ذلك بقوله متوعدًا: أقسم بالله العلي العظيم مانا ساكت لك، إنتي فاهمة إننا كلاب توكلينا الأكل ده؟! احنا مش كلاب أبدًا.

فنظرت إليه «زنوبة» في خوف، ثم قالت في دعة ورفق: مش قلت لك أنا كنت جايباه ﻟ «مبروك»؟

فأجاب «عبده» على الفور: و«مبروك» مش بني آدم؟! … و«مبروك» مش واحد منا؟ ومن إمتى «مبروك» له معاملة غير معاملتنا؟ من إمتى ظهر التمييز ده في البيت؟

ما إن قال «عبده» هذا حتى وجد من «الشعب» تصديقًا واستحسانًا مملوءين قوة وحماسة عجيبتين … فخفض «مبروك» الخادم بصره خجلًا، وجعلت أصابعه تلعب بأزرار قفطانه القذر الممزق، وأحس في أعماق قلبه أشياء لا يفهمها، وشعر بدافع خفي يدفعه إلى اختلاس النظر لثياب «محسن» الجديدة الثمينة، غير أن شيئًا آخر جعله يغض من بصره، ثم إذا الدافع يدفعه ثانية إلى النظر سرًّا إلى ثياب «محسن» الجديدة الثمينة.

وكانت تلك النظرات بريئة ساذجة لا تؤدي أي معنى، ولكن فيها بعض الخضوع والانكسار والكآبة، ولعل ذلك على غير علم منه، ولعله كان يحس في تلك اللحظة بشيء من الفرق، يجب أن يظل موجودًا بينه وبين أولئك الذين يعايشهم منذ أمدٍ عيشةَ الأهل. إلا أنه لم يفطن لشيء من هذا، ولم يدرك قط شيئًا، وإنما هو مجرد إحساس سريع مر كالبرق.

واستطرد «عبده» قائلًا ﻟ «زنوبة» في خشونة وجفاء: سلمناك المصروف لاجل تصرفي علينا، مش لاجل تصرفي على السحر والتنجيم.

وأسرع «حنفي» الرئيس مصادقًا: عليك نور يا «ابو عبده»، الميزانية كلها ضايعة وشرفك، في البخور والشبشبة وتبييت الأثر.

فصاحت «زنوبة» محتجة، ولكن «عبده» أسكتها صارخًا: هس ولا كلمة، حضرتك فاهمة إننا مغفلين، والا لسه عيال قاعدين نمص صوابعنا؟ كلنا عارفين، إنتي قاعدة توفري وتدبري من المصروف، وتضيعي اللي توفريه على المنجمين والدجالين يا جاهلة، فاهمة إن العمل ده رايح يجيب لك عريس؟

وأردف «الرئيس شرف» قائلًا: بدل ما تحرمينا، وتصرفي الميزانية على — بسم الله الرحمن الرحيم — العفاريت اصرفيها علينا، إحنا أولى، إحنا يعني أقل من العفاريت؟

فلم تجسر «زنوبة» على الكلام وتشاغلت بالأكل، وجعلت تأكل صامتة، وجهها متجهم قاتم، وجبينها مكفهر معقود، وسرعان ما خيم الصمت والسكون على المكان من جديد؛ فقد انصرف الكل كذلك إلى الأكل، دون أن يفتح أحد موضوعًا للحديث، وما مرت لحظة حتى كانت أصوات الملاعق والمضغ والرشف هي وحدها المسموعة في الفسحة؛ وكأن «الشعب» نزل أخيرًا على إرادة البطون، فانصرف عن كل شيء آخر.

ومع ذلك فمن نظر إلى «محسن» أيقن أن شيئًا خفيًّا يشغل باله، منذ لحظة؛ فهو يأكل ساهمًا وكأن في نفسه شيئًا؛ فقد باغت منذ قليل تلك النظرة البريئة الخجلة الخاضعة التي يرسلها «مبروك» خلسة إلى ثوبه الجديد، ولعل نظرة بسيطة ساذجة كتلك النظرة لا تحوي في ذاتها أي معنى، ما كان لأحد أن يعبأ بها، غير أن نفسًا كنفس «محسن» لَخليقةٌ أن تحس بمعناها، وأن تتأثر بها؛ فقد أثارت في نفسه ذكرى قديمة من أيام طفولته الأولى، يوم كان له من العمر ثماني سنوات، وكان تلميذًا «بمدرسة دمنهور الابتدائية»، وكان له رفاق صغار فقراء، وكان هو أغناهم وأفضلهم أسرة. فهو «محسن العطيفي» ابن «حامد بك العطيفي» كبير الأعيان في البلد وأثراهم. وقد نشأ «حامد بك» غنيًّا من أمه لا من أبيه، وهي غير «أم حنفي» و«زنوبة» إخوته غير الأشقاء؛ لذا كان هؤلاء فقراء، أما هو «حامد بك» فغني. ولقد أراد أن ينشئ ابنه «محسن» على الترف والنعمة واليسر، فأحاطه بألوانها.

ولكن «محسن» كانت له نفس من تلك النفوس التي تمج النعمة والترف، ولعل من النفوس من عذبتها الثروة … لقد كان «محسن» يخجل سرًّا ويتألم لأنه غني، وكم من مرة ناضل وبكى وصرخ، حتى لا يُلبسه أهله ثيابًا فاخرة! وكم من تضرعات وتوسلات ودموع كي لا يرسلوا له العربة تنتظر خروجه بباب المدرسة! ما كان «محسن» الصغير يتمنى غير شيء واحد: أن يكون مثل رفاقه الصغار الفقراء … لا شيء كان يذيبه خجلًا إلا أن يبدو ممتازًا على أقرانه بثوب أو نقود أو مظهر ثراء، واشتد به الأمر إلى حد أن كان يخفي اسم أسرته عن رفاقه.

وهكذا لبث فيهم طويلًا وهم يحسبونه مثلهم تلميذًا عاديًّا بسيطًا من والدين فقيرين أو متوسطي الحال … إلى أن كان يوم نحس أغبر عند «محسن»؛ فقد أصيب مرة بانحراف في صحته، وخشيت والدته عليه، ولم تستطع الإصغاء إلى توسلاته، فأرسلت له العربة تنتظره على غير علم منه، وخرج التلميذ الصغير «محسن» كعادته في رهط من زملائه الصغار، يضحكون ضحكاتهم الصافية الساذجة السعيدة، وإذا هو يرى نفسه أمام عربة والديه الفخمة، وكانت دقيقة من الخجل لا ينساها، ولكنه تجلَّد في الحال وتجاهل العربة وحوذيها، وأراد المضي في سبيله؛ كأن ليس له بها شأن، ولكن الأوسطى أحمد الحوذي، لمح سيده الصغير فناداه، فارتجف «محسن» وتصامم وانحشر في زمرة رفاقه حشرًا؛ كأنما يريد الاختفاء بينهم والهرب معهم، وكأنما النداء ليس له، ورأى «الحوذي» منه ذلك فناداه مرة أخرى باسمه قائلًا: «سي محسن بك» … «سي محسن بك»، تفضل هنا، وجرى إليه ليأتي به إلى العربة.

وكانت هي اللحظة التي فهم فيها رفاق «محسن» من هو صديقهم … وعندئذٍ جعلوا يرسلون أبصارهم إليه طورًا، وطورًا إلى العربة الفاخرة بجوادَيها المطهَّمين، نظرات بريئة ساذجة فيها شبه ذلة وخضوع.

أي أثر لا يمحى تركته في نفس «محسن» تلك النظرات؟ إنهم في الواقع ما كانوا يقصدون بها أي معنى، أولئك الصغار البسطاء، ولا يمكن لهذا العمر الطاهر البريء أن يعني شيئًا، ومع ذلك فقد أطرق «محسن» يائسًا، واتجه نحو العربة كمحكوم عليه؛ وكأنما يسمع في أعماقه صدى حكم لا يقبل نقضًا يهتف: «محسن، خرج من زمرتنا، إلى الأبد …»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤