الفصل السابع

لم يبقَ من الأسبوع غير يومين، ولم يصل خطاب «سنية» بعد، فكاد «محسن» يجن يأسًا، وهو الذي ما ارتضى البعد عنها تلك المدة إلا طمعًا في رسالة مكتوبة بخطها، وعاوده الشك، وتسلطت عليه الأوهام مصورة له شر الصور، غير أن الأمل ما لبث أن جاء لنجدته، فأخذ يلتمس لها المعاذير، ويضع الذنب كله على عاتق عمته «زنوبة» التي قد تكون أهملت، ولم تفِ بوعدها، ولم تطلب إلى «سنية» تحرير الخطاب المنتظر، وارتاح إلى هذه الفكرة فسكن قلقه قليلًا، غير أن هذا لم يمنعه من أن ييئس من وصول الخطاب، فترك التفكير فيه مرغمًا، وسار كاسف البال إلى الحقل يتلهى بمناظره، وجاء ميعاد البريد فلم يهتم له اهتمامه المعتاد كل يوم.

وإذا به يسمع صوتًا يناديه، فالتفت خلفه فرأى «عبد المقصود» يدعوه إلى المنزل حالًا؛ لأن الست تطلبه، فعاد «محسن» مسرعًا، وقلبه يدق حتى بلغ البيت، ودخل، فقابلته والدته بخطاب في يدها، وقالت له إن هذا له باسمه، ولم تتم عبارتها لأن يد «محسن» امتدت إلى الخطاب في حركة آلية عصبية فاختطفه، وما صار في كفه حتى تمتم، وهو ينظر إلى مظروفه: آه! … صحيح، … لي … لي.

ثم حمله في يده، دون أن يفضه، وذهب به نحو الباب، واختفى بأسرع من البرق، تاركًا والدته تنظر إلى ذلك حائرة دهشة!

وما صار «محسن» خارج البيت حتى وضع الخطاب في جيبه، وسار هنا وهناك كالمجنون، وكأنما الدنيا تضيق به فرحًا، ثم أخذ يلتفت حوله باحثًا عن مكان منفرد بعيد يطالع فيه الخطاب … وخطر له أن يذهب إلى آخر الحقل عند مجرى الماء، حيث الخضرة والماء وخطاب «سنية»، وفي الحال جرى وهو واضع يده على جيبه؛ كأنه يحمل كنزًا يخشى سقوطه، حتى وصل إلى المكان الذي انتقاه، فجلس هنيهة على حافة الجدول، ثم نهض؛ كأن البقعة لم تعجبه، وجلس في بقعة أخرى، ثم نظر إلى ما يحيط به من منظر، متعمدًا التريث والهدوء والتأني؛ غير أن قلبه كان يدق وكأن شيئًا يدفعه دائمًا إلى وضع يده في جيبه وإخراج الخطاب.

وأخيرًا فعل، ولكنه لم يفتحه؛ بل ظل يقلبه في كفه، وينظر تارة إلى ختم البوستة، وتارة إلى العنوان، متمعنًا الخط، كل ذلك ويده ترتجف فرحًا وهو بين عاملين: الرغبة في فض «الغلاف في الحال» والرغبة في التريث والاستمهال؛ كأنما يريد أن يطيل فرحته باستلامه؛ أو كأنما يخشى إن هو قرأه الآن أن تذهب لذته وشيكًا بمجرد الفراغ من تلاوته … وهكذا لبث تتنازعه الرغبتان وقتًا، حتى تغلبت في النهاية رغبة حب الاستطلاع، فجعل يفض الغلاف في تأنٍّ وحذر؛ خشية أن يمزق من ورقه أكثر مما ينبغي؛ وكأنما يضن بنطفة من ورق هذا الخطاب الثمين يرميها للريح، وأخيرًا أخرج المكتوب ونشره بين يديه وقرأ:

حضرة المحترم الأمجد «محسن بك» … دام

من بعد مزيد السلام، والسؤال عنكم وعن صحتكم وصحة سلامتكم التي هي عين المراد من رب العباد، وصلنا عزيز خطابكم، وعلمنا ما فيه من سؤالكم عنا وعن صحة سلامتنا، فأكثر الله خيركم ولا أحرمنا منكم أبدًا، وإننا والله متشوقون عليكم جدًّا، فإذا كنت تحب عمتك يا محسن فلا تتأخر أكثر من ذلك عن الحضور إلى مصر قريبًا إن شاء الله، فإن مصر بدونك مظلمة. وفي الختام أعمامك وكل من بطرفنا يهدونك أنت والبك الكبير والست الوالدة أزكى التحيات … ودمتم بخير.

عمتك «زنوبة» …

بهت «محسن» قليلًا، ووَجَم، وأحس شيئًا من خيبة الأمل. وكان أكثر ما أدهشه وأبهته إغفال ذكر «سنية» في الخطاب لكنه عاد فالتمس لها العذر قائلًا في نفسه: إنها هي التي كتبت الخطاب، وهي تعلم أن «محسن» يعلم ذلك فلا محل لذكر اسمها، أو لعله الحياء منعها، أو لعلها رغبتها في أن تظل خلف ستار عمته «زنوبة».

وعاد «محسن» إلى تلاوة الخطاب من جديد، على أن كاتبته «سنية»، وعلى أنها إنما تخاطبه من وراء ستار، ولكن أي ستار؟ ولماذا هذه اللغة المبتذلة التي جرت مجرى العرف والاصطلاح في رسائل السوقة، والتي لا يجري بها إلا قلم كاتب عمومي أو «عرضحالجي»؟ أفتُراها قصدت المداعبة؟ إن «سنية» مداعبة لعوب حقيقة، ولكنها أيضًا مهذبة متعلمة تقرأ القصص وتطالع الكتب، فلا يُعقل أن يكون هذا أسلوبها، إنها إنما تداعبه. نعم هي دعابة منها لطيفة! … وسرعان ما ابتسم «محسن» ورجع يتلو الخطاب من أوله، ويقف عند كل كلمة ضاحكًا مسرورًا معجبًا بظرف معبودته، ولمع في رأسه خاطر جعله يضاعف إعجابه بها؛ فقد وقعت عينه على الإمضاء، فقال في نفسه: نعم إنه حسن ذوق، فما دام الخطاب من «زنوبة» فإنها اختارت أسلوبًا يتناسق مع الإمضاء ومع جاهلة «كزنوبة» … لا شك أن «سنية» جمعت ما بين الدعابة لتسره وتُضحكه، وبين السخرية لتهزأ خُفيةً ﺑ «زنوبة». ما أذكى فؤادها! لا ريب أنه لم ير ذكاء باهرًا كذكاء «سنية».

غير أن «محسن» برغم كل هذا الذي استخرجه من الخطاب ظل قلق القلب … كان يود أن تبثه بعض عواطفها نحوه. إنها نسيت أنه إنما يحيا هنا بذكراها، وذكرى تلك القبلة المطبوعة على خده، ونسيت أنها مهما فعلت من أجله فلن تزيل عنه القلق، ولن تمنحه الراحة التامة والاطمئنان. إنه في حاجة إلى عبارة تؤكد له بعض التأكيد، وتريحه بعض الراحة، وتطمئنه بعض الاطمئنان.

فعاد يتلوه تلاوة أخرى؛ ليستشف منه شيئًا آخر، غير تلك الدعابة التي ليس في حاجة إليها كبيرة، إلى أن بلغ عبارة «فإذا كنت تحب عمتك يا محسن» … إلخ … إلخ.

فوقفت عيناه عليها، واحمر وجهه؛ إذ بدا له أن هذه العبارة إنما تعبر عن عاطفة «سنية» التي كتبتها خلف ستار «زنوبة» … نعم، هو ذاك، وإنها لولا الحياء لقالت: فإذا كنت تحب «سنية» يا «محسن» … إلخ … إلخ.

دق قلب «محسن» سريعًا لهذا التخيل، فتوقف قليلًا وأرسل نظراته الحالمة إلى ماء القناة الجاري تحت قدميه وقد أحس لذة وسعادة، ثم عاد إلى الخطاب بعد لحظة، وأخذ يتمعن تلك الجملة الساحرة، ويستنبط منها معاني جديدة، وينزل في أغوارها يستعصرها عواطف مستترة، «فإذا كنت تحب … يا «محسن»، فلا تتأخر أكثر من ذلك فإن مصر بدونك مظلمة!»

– صحيح؟! … مصر بدوني مظلمة في نظر «سنية»؟

هذا ما جعل محسن يهمس به لنفسه، وهو كالمجنون فرحًا واختلاجًا … وطوى الخطاب باعتناء تام، بعد أن أدناه من شفتيه وقبله قبلات حارة، ودسه في جيبه بحرص، ثم نهض وقفل راجعًا إلى البيت، وهو يشعر كأنه لا يسير على الأرض؛ بل يمشي في الهواء.

•••

دخل «محسن» البيت فقابلته والدته سائلة عن الخطاب الذي أخذه الساعة وانصرف به. فقال لها إنه من عمته، وأدخل يده في جيبه مترددًا. ولاحظته والدته، فمدت يدها إليه تريد الخطاب، ولعل ما ظهر لها من أمر «محسن» رابها قليلًا، ولم يطل تردد الفتى، فإنه أبرز الخطاب مضطرًّا إلى والدته، وابتسم، واحمر وجهه وقال في بعض تلعثم: عمتي بتسأل عن صحتك وصحة بابا … وبس.

ثم فض الخطاب باحتراس وناوله لوالدته، وهي تلاحظ تغير وجهه، فلما أخذت الخطاب وطالعته استغربت إذ لم تجد في الخطاب شيئًا، وأعادته إلى الفتى وقد انفرج فمها عن ابتسامة؛ كأنما أدركت أن ما بدا من «محسن» ما كان سوى اهتمام صبياني بخطاب أتاه باسمه … مهما كان الخطاب فارغًا وسخيفًا.

ولاحظت كذلك عناية «محسن» بإعادة الخطاب داخل الغلاف، ثم عنايته وتؤدته وحرصه وهو يضعه في جيبه ثانية، كأنما يضع شيئًا ثمينًا … فابتسمت ابتسامة أخرى.

ولبث «محسن» هنيهة معها ساكتًا؛ وكأنما لا يجد ما يقول لها. أخيرًا تحرك يريد الانطلاق من جديد إلى الفضاء؛ ليخلو إلى نفسه، ولكنها استوقفته قائلة في عتب: إنت يا «محسن» دايمًا في الغيط؟ … مش تقعد معايا شوية؟

فرجع وجلس، وهو يخفي تبرمه بابتسامة.

واقتربت منه والدته، وكانت تحس دائمًا أن ما يربطها بابنها إنما هي صلة تكاد تكون رسمية شرعية لا أكثر.

وطالما رأت ذلك منه ومن نفسها، ولا تعلم إن كان السبب افتراقه عنها منذ سنين، للالتحاق بمدارس «مصر»، تحت إشراف عمه «حنفي» المدرس، أو أن السبب اختلاف طبائعهما منذ بدأ الغلام يعقل، وأنها ما كانت ترى منه اتفاقًا معها في الميول … وطالما رأته يؤثر الوحدة أو اللعب مع رفاقه الصغار على الجلوس إليها … أو أن العيب عيبها هي، وعيب طبيعتها المنصرفة عن الأمومة وشئونها، إلى رغبات أخرى ومطامع! إنها لا تدري، وكل ما حملها على التفكير في هذا الآن إحساس بسيط غريب، لعله شيء من الغيرة أو الأثرة، وهي تلاحظ اهتمام الفتى بخطاب «زنوبة»؛ ذلك أنها قالت له بعد أن نظرت إليه طويلًا: أظن يا «محسن» انت تحب عمتك أكتر مني؟

فلم يُجِب الفتى؛ إذ كان ما يملأ فكره شيء آخر: أن ينطلق إلى الغيط، ويجلس هذه المرة في ظل الساقية الدائرة، ويقرأ الخطاب من جديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤