الفصل الثالث

– يا «معلم شحاتة».

هكذا صاح «سليم أفندي» مناديًا في عظمة، ثم وضع بحركة متئدة متكلفة الوقار «ليَّ الشيشة» فوق الطاولة، وجعل يفتل شاربه العسكري المدهون بمعجون «الكوزماتيك»، متوخيًا في حركاته وسكناته الظهور بمظهر الشخص المهم، ذي «الحيثية» والاعتبار، وهو بين آنٍ وآخر يرسل نظرات خفيَّة إلى شرفة منزل «الدكتور حلمي»، وهي شرفة خشبية من النوع القديم مقفلة ذات نوافذ كنوافذ المشربيات التي تُرى ببيوت الوقف في شارع الخليج.

وفطن «سليم أفندي» إلى أنه نادى الحاج شحاتة، فلم يلبِّ النداء فأدار في الحال رأسه العاري المعطر بأنواع الأطياب، ونظر إلى داخل القهوة.

كان الوقت ضحى، والشمس قد اشتد وهجها؛ غير أن «سليم» الجالس على الرصيف خارج القهوة في مكانه اليومي المعتاد، لم يكن ليعبأ بحرارة الشمس، يدل على ذلك طربوشه المخلوع الموضوع على كرسي بجواره … ولو أنه في كل لحظة كان يخرج منديله الحريري «الرخيص» من كُمِّ سترته ليجفف جبينه في أناقة متصنعة وفي حيطة واحتراس. حتى لا يهدم المنديل ترتيب شعره، وحتى لا يمس أطراف شاربه المدببة.

صاح «اليوزباشي سليم أفندي» مرة أخرى مناديًا: يا معلم «شحاتة».

ولكن «المعلم شحاتة» لم يسمع شيئًا على ما يظهر؛ فقد كانت الغوغاء والجلبة داخل القهوة تصم الآذان، وكان كل نداء يضيع بين قهقهة الزبائن وسعالهم وبصقهم ونفِّهم، وزبائن «المعلم شحاتة» ليسوا من طراز «سليم أفندي» لا من حيث المركز والمقام فقط؛ بل من حيث المزاج والعواطف ومن حيث الظروف أيضًا.

فإذا كان «سليم أفندي» يجلس منفردًا منعزلًا خارج القهوة مشتغلًا بالعواطف والأحلام الجميلة، فإن باقي الزبائن داخل القهوة مشتغلون بالصخب والضجيج، ويكادون يهدمون عليهم المكان؛ ذلك شأنهم في كل يوم، زبائن «الحاج شحاتة» هؤلاء، كلهم متعارفون، وكلهم يختلفون إلى هذه القهوة الصغيرة في عين الميعاد؛ كي يؤدوا فريضة لا بد لهم منها؛ فريضة الضحك؛ وكأن هؤلاء الناس لا صناعة لهم غير الضحك؛ وأنهم لم يخلقوا لغيره. فهم يقضون حياتهم كلها — على ما يبدو — في القهقهة بين أنفاس التعميرة والقهوة السادة، وهم دائمًا في مجلسهم المعتاد ملتفون حول واحد منهم، يظهر عليه الامتياز عليهم، والتفوق والنبوغ في مضمار النكت والمزاح، فهم دائبو النظر إليه، حتى إذا ما فاه بكلمة، هذا المهرج الأعظم، انقلبوا جميعًا ضاحكين مختنقين من الصخب والضحك، سواء أكان لما فاه به معنى أم لم يكن، كأنما هم يجدون في مجرد الضحك والصخب لذة حسية، ويمر «المعلم شحاتة» وصبيانه هنا وهناك بينهم حاملين الطلبات، وهم يضحكون ولا يدرون أحيانًا لماذا يضحكون؛ كأنما قد سرت إليهم العدوى أو أنهم يقصدون زيادة التشويش والتهييص وإحماء الوطيس، فما تمر دقيقة حتى يصفق «المعلم شحاتة» براحتيه، ويصيح في الجميع صيحة لا مبرر لها، كأنما يود أن يبلغ الضجيج والانشراح أقصى قمته: وحِّدوه، اللي يصلي على النبي يكسب.

ولا يغطي صوته إلا نداء زبون: واحد زبيب يا جدع.

أو صدى وقع النرد على الطاولة بقوة وعنف، في أحد أركان المكان: درجي … شيش … جهار.

ولكن الصوت الأعلى دائما للمهرج الأعظم وزمرته المحدقة به كأنه معبود وسط عباد مؤمنين، وهو يقول فيهم ويأمر وينهى: اسمع يا واد انت وهو.

فتعلو الأصوات: سمع … هس.

فيتكلم مازجًا الهزل بالغناء، خالطًا الكلام العادي بالمواويل؛ فبينا هو يحدِّث مَن حواليه من المقربين همسًا عن ملاحظة عنَّت له أو عن شيء خاص، إذا هو «فجأة» يرفع عقيرته بغير سابق إنذار: سبع سواقي بتملا لم طفوا لي نار.

فيجيب الجميع: الله!

– سبع سواقي بتملا لم …

وهنا مر «المعلم شحاتة» حاملًا طلبًا، فقطع المغني مواله، والتفت إلى أعوانه، وقال بصوت مسموع: سبع سواقي بتملا لم غسلت وش «المعلم شحاتة».

فضحك الجميع على نغم الموال: ها … ها … هاي.

وظلوا يضحكون حتى جفت حلوقهم، وحتى أسكتهم صاحب الكلام، ولم يستأ «المعلم شحاتة» بل ضحك معهم، ثم نظر إلى المهرج الأعظم نظرة عتاب و«عشم» وقال وهو يستأنف سيره بالطلب: طيب … طیب يا «حاج حسن».

وسمع «المعلم شحاتة» صوتًا يناديه خارج القهوة، فصاح: حاضر، حاضر.

ثم مشى مسرعًا، فاصطدم بكرسي، وسقط الطلب على رأس زبون.

فانحنى يجمع بقايا الكوب من الأرض وهو يقول: صلي على النبي تكسب.

وكان غير عابئ بالزبون الذي سال على وجهه وقفطانه ما كان بالكوب.

وجعل الزبون يجفف وجهه بطرف قفطانه، ويقول متذمرًا: أكسب إيه؟ مش تحاسب شوية.

فرفع «المعلم شحاتة» رأسه إليه، قائلًا: صلي على «أبو فاطمة» يا جدع انت، واللي خلقك دا زبيب … مين يطول يدهن وشه بزبيب؟ دا أحسن من مية القسيس يا جدع انت.

فضحك الجميع، وطفقوا يضحكون معًا ذلك الضحك الطويل الذي لا ينتهي، كأنما هم مجاذيب.

وفي الحقيقة من يدري إن كانوا هم كذلك، أو أنهم فقط قوم وجدوا النعيم في الضحك جماعة.

نفد صبر «سليم» أو الأصح أنه تصنَّع نفاد الصبر، فأتى بحركة غضب ناظرًا بطرف عينه إلى شرفة «الدكتور حلمي» وصفق بيديه الكبيرتين تصفيقًا كالرعد، وصاح: يا «معلم شحاتة»، خبر ايه يا «معلم شحاتة»؟

ومرت بضع ثوان، ثم ظهر صاحب القهوة خارجًا منها يقول: حاضر.

وما كاد يتبين «المعلم شحاتة» «سليم أفندي»، حتى هرع إليه: سعادة البك … محسوبك.

قال ذلك، ووقف باحترام أمام زبونه النظيف المستديم؛ وكأن «سليم» أعجبته هذه الوقفة الخاضعة، فلم يأمره في الحال بما يريد، بل تركه يقف، وأخذ يتمتع بهذا الاحترام وهو يفتل شاربيه، غير غافل عن أن يرسل نظراته الخفية إلى الشرفة المعهودة.

وأخيرًا قال في لهجة متئدة وقور ذات جلال، وهو يومئ إلى الشيشة في تثاقل الشخص ذي المقام: ولعة … بسرعة.

واختلس نظرة إلى الشرفة، ثم قال للقهوجي آمرًا: إنت لسه واقف؟ قلت لك بسرعة.

فوضع «المعلم شحاتة» يده على رأسه المعممة باللاسة وقال: يا سلام يا بيه، أوامر سعادتك على راسي دي.

وأراد أن يذهب كي يأتي بالطلب، ولكن «سليم أفندي» استوقفه قائلًا، وعينه للشرفة: إنت مش عارف أنا مين يا «معلم شحاتة»؟ مايغركش اني لابس ملكي.

قال ذلك بصوت مملوء عظمة، فأسرع «المعلم شحاتة» قائلًا: عارف … عارف، أهل الحسب والنسب والكرامة، اللهم زيد وبارك.

ثم مشى نحو باب القهوة، وهو ينادي صائحًا: ولعة للشيشة بره!

ودخل القهوجي، وعاد «سليم» إلى الشيشة، فأخذها ووضع طرفها في فمه، ثم رفع رأسه وأرسل الدخان في الفضاء ونظر بملء عينيه هذه المرة إلى شرفة منزل «الدكتور حلمي»، وثبت نظراته، ولكنه ما لبث أن خفض بصره يائسًا … إنه لم يلمح ظل إنسان فيها: لا رجل ولا امرأة.

سئم «سليم» أخيرًا، وأخذ يتمتم بألفاظ الضيق والاستياء، وأخذه نوع من التعب فجعل يتثاءب، وله في ذلك حق؛ فقد مضى عليه نحو ثلاث ساعات، وهو مرهون في مكانه بالقهوة؛ يتحرك بجسمه الضخم؛ كأنه قنطار من القطن، فكم من مرة نظر إلى الشرفة عبثًا، وكم من مرة صفق بيديه كالرعد للمعلم شحاتة وصبيانه، صائحًا بهم في لهجة يحرص دائمًا أن تكون آمرة ناهية كلهجة المأمور. ولم يختص صاحب القهوة وغلمانه فقط بهذا الأمر والنهي، بل إنه لم يترك مساح أحذية يمر بالشارع منذ ثلاث ساعات، دون أن يناديه في سلطة صائحًا: يا ولد، تعال نفض الجزمة.

ويمد له قدمه قائلًا: نفض كويس … إنت مش عارف أنا مين؟ ولم يدع بائع جرائد يقع عليه نظره، دون أن يقول: إسمع يا ولد … معاك بصير؟ والا هات أهرام، علشان اقرأ أخبار الترقيات والتنقلات.

ولا يرى بائعًا متجولًا حتى يستوقفه: تعال يا جدع انت وريني حمالات شغل ألمانيا، لكن لا … لا … لا، دا شغل نصب، أنا لا ألبس إلا من عند «سمعان» … روح يا جدع.

والغرض أن يتكلم ويرفع صوته مدوِّيًا، وينظر بين الفترة والفترة إلى الشرفة.

لكن مع الأسف، كل هذه الأساليب ما كانت لتسترعي انتباه أحد؛ اللهم سوى زبون كان جالسًا خلف «سليم أفندي» تمامًا، ولعله جاء دون أن يشعر به.

ويظهر أن هذا الزبون ما كانت تفوته حركة من حركات «سليم» بل إنه على ما يبدو من اهتمامه وابتسامه المكتوم — كان يسرُّ ويلتذ ويضحك في نفسه لما يرى؛ كأنما هو يشاهد قصة مسلِّية، لم يكن هذا الزبون المشاهد سوى «مصطفى بك»، الجار القاطن بالدور الأسفل لدور «سليم» وشركائه … ومع ذلك لو أن «سليم» أخطأ النظر مرة واحدة، وسدد عينيه إلى المنزل الآخر الملاصق لمنزل الدكتور إلى المنزل رقم ٣٥: أي منزل «الشعب» للمح في إحدى نوافذه شبح امرأة، تلقي نظراتها القانطة هي الأخرى نحو القهوة منذ عشرين دقيقة، ولاستطاع كذلك أن يسمع صوت الجلبة والضوضاء التي ما فتئت تحدِثها تلك المرأة في نافذتها؛ بحجة وضع القلل الفخار، ذات الأغطية النحاسية.

لم ير «سليم» شيئًا من هذا، ولعل «مصطفى بك» لم يلمح هو الآخر شيئًا، فإن اشتغاله بمشاهدة «سليم» وحركاته وأحواله، وحرصه على تلك المشاهدة والملاحظة، منعه من النظر إلى النافذة المذكورة وما يجري فيها.

اشتد الحر ووهج الشمس؛ مما اضطر «سليم» إلى لبس طربوشه، وألقى نظرة أخيرة على الشرفة، ثم أخرج ساعته وطالعها، فإذا هي لم تتجاوز الحادية عشرة، وأفراد «الشعب» لا يعودون لتناول الغداء عادة قبل الواحدة بعد الظهر، فماذا يفعل بالوقت؟ أيظل جالسًا أم ينصرف؟ وإذا انصرف فإلى أين؟ تردد وتحير.

ومر بخاطره كالبرق خيال «قهوة الجندي» يوم أن كانت محله المختار، وتذكر تلك الفاتنات الإفرنجيات، اللاتي كن يترددن على الطابق الأعلى، وكيف أنه كان — على حد زعمه وتصوره — محبوبًا بين هاته الظباء النافرة، يتهافتن عليه وينظرن بإعجاب إلى شواربه المفتولة «الزنهار»، ولكن، وا أسفاه، لعن الله القلب المصاب الذي حمله على المجيء إلى «قهوة شحاتة» الحقيرة، يمكث فيها طول النهار، ينظر بعيون مرتفعة إلى السماء، كأنه عابد وثني لشرفة لا روح فيها.

تثاءب مرة أخرى، ثم مد يده في حركة متراخية، وتناول جريدة على الطاولة، وحاول القراءة؛ غير أن إحدى عينيه كانت دائمًا خارج الصحيفة. تنظر في كل جهة، وتدور في محجرها قلقة؛ كبلية في فنجان، وتستقر أخيرًا على الشرفة المعهودة.

مرت لحظة وهو على تلك الحال، وفجأة حدث أمر جعل «سليم» يترك جريدته تسقط على الطاولة، وأخذ ينظر أمامه في انتباه، ذلك أنه رأى «مبروك» الخادم يخرج من المنزل، حاملًا تحت إبطه «بقجة» صغيرة، ولكن ما استرعى انتباهه واهتمامه أن «مبروك» يلبس قفطان الطلعة، ثوبه النظيف الوحيد الذي يدخره لأيام الأعياد والمواسم والموالد، ثم شيء آخر أغرب وأهم: أن «مبروك» يتوجه بكل هذا إلى منزل «الدكتور حلمي»!

والواقع أن «مبروك» بعد أن ظهر بالباب، وألقى على الشارع نظرة شاملة، أدار وجهه وخطا بضع خطوات نحو المنزل المجاور المحبوب، وهو يتمتم مغنيًا: وانا ما لي … ما هي اللي قالت لي.

عندئذٍ نهض «سليم» نصف نهوض، وصاح: يا «مبروك».

فالتفت إليه الخادم وابتسم، ولكنه لم يقف ولم يلفظ كلمة، بل استمر يغني: روح اسكر، وتعال ع البهلي.

فقام «سليم» على قدميه، وجعل يصيح، ويشير إشارات قوية: هس … اسمع أما أقولك يا «مبروك»، اسمع أما أقول لك … كلمة واحدة وروح.

فلم يرد عليه «مبروك» بل وقف ونظر إليه وهو يغني، ثم أدار له ظهره ومضى، وصار يمشي كأنه يرقص، حتى بلغ باب منزل «الدكتور» فوقف على عتبته والتفت إلى «سليم» وغمز له بطرف عينه ولعَّب حاجبه، ثم دخل توًّا.

فزمجر «سليم»، ودمدم بين أسنانه: أما حيوان صحيح.

ولم يفت «مصطفى بك» الجالس خلف «سليم» شيء من كل ذلك، فابتسم، ومضت عشر دقائق، وإذا امرأة ملتفة في إزار أسود، قد ظهرت على عتبة المنزل رقم ٣٥: أي منزل «سليم»، ووقفت هذه المرأة لحظة ساكنة جامدة، تنظر إلى القهوة نظرات مسددة طويلة، من عينين تبرقان على جانبَي قصبة البرقع النحاسية، ثم في حركة فجائية تدل على السأم والغضب، أدارت ظهرها للقهوة، ومشت في شارع «سلامة» متجهة إلى ميدان «السيدة زينب».

ما كاد يراها «سليم» حتى نهض ناسيًا جرائده وعصاه فوق الطاولة والكراسي، وأسرع في أثرها فلحق بها بعد ثلاث خطوات من خطاه الواسعة، وهي تسير أمامه بجسمها المهتز المترنح، في تؤدة وتمهل؛ كأنها المحمل.

فتل «سليم» شاربيه بسرعة، وتقدم مقتربًا منها حتى حاذاها فتنحنح وقال هامسًا: يا سلام على كده! يا قشطة بلدي، خدامك يا هانم … عربية ولا أوتومبيل؟

فعرفت صوته في الحال، فوقفت والتفتت إليه، وقالت في شيء من الحزن وخيبة الأمل: هو انت بسلامتك؟

فبهت «سليم» وخجل قليلًا وتمتم دهشًا: «زنوبة»؟!

فابتسمت تحت البرقع في كآبة، وبغير أن تعبأ بانتظار جوابه أخذت تختلس نظرات قلقة، إلى قهوة شحاتة خلفها؛ كأنها تبحث عن شيء أو عن شخص.

وأحس «سليم» الحيرة لهذا الموقف، فقال مرتبكًا وهو يحاول إخفاء ذلك بالضحك: ها … ها، الله يجازيك … أنا كنت فاكر … نهايته بقا. إنتي رايحة فين؟

فقالت «زنوبة» وهي شاردة الفكر، غائبة الذهن: أنا؟!

وكأنما تذكر «سليم» عندئذٍ سؤالًا هامًّا، فأسرع يقول: على فكرة، الولد «مبروك» دخل دلوقت بيت «الدكتور».

وانتظر منها إجابة أو تفسيرًا، ولكنها ظلت صامتة، ثم قالت أخيرًا وهي ساهمة، وعيناها تفتشان بين مقاعد القهوة في آخر الشارع: مين؟

فنظر إليها مليًّا: مين ازاي؟ … بقول لك «مبروك».

فعادت إلى نفسها، والتفتت إليه وقالت: مبروك؟! … ما له، ما هو راح في مشوار.

– مشوار؟!

– آه … راح يرجع فستان «سنية حلمي»، اللي كنت قاعدة أفصل عليه.

فاقتنع «سليم» وسكت قليلًا، ثم عاد يقول بصوت غريب: ومشوار زي ده خطوتين اتنين، يلبس الحيوان ده قفطان التشريفة بتاعه؟

فأجابت «زنوبة» بعدم اكتراث: هو دايمًا كده نهار ما يروح هناك.

فحملق فيها «سليم»: عجيبة، بقا هو دايمًا كده نهار ما يروح هناك؟

فقالت «زنوبة» وهي لاهية: له حق مايحبش يروح للناس وسخ.

فدمدم سليم، في غير تصديق: صحيح … في محله … نهايته. إنتي رايحة فين؟

فترددت «زنوبة» ونظرت إليه، وارتبكت قليلًا، ثم قالت: أنا؟ … أنا عايزة أروح عند «زهرة» الخياطة.

فسألها «سليم»: هنا في البغالة؟!

فأجابت بسرعة: آه.

فأتى «سليم» بحركة لينصرف، وقال وهو يبتعد عنها: طيب بقا … أما أرجع أنا، وابقي سلِّمي لي على «زهرة».

– إن كانت حلوة وتفصيلها حلو.

ثم استدار، ومشى عائدًا إلى مكانه بالقهوة.

لبثت «زنوبة» لحظة جامدة؛ وكأنها مترددة، وكأن نفسها فريسة لشيء خفي، وجعلت تفكر كما يتاح لمثلها ولمن له عقليتها أن يفكر. ولم تدر ماذا تصنع. فألقت نظرة أخرى على القهوة، ثم أرجعت بصرها خائبة الأمل! وسارت ببطء متجهة إلى ميدان السيدة زينب، وما إن وصلت إلى الجامع، حتى وقفت وأرسلت عينيها من خلال قضبان نافذة الضريح، وحدقت في مقام بنت رسول الله ذي النقوش الفخمة، ثم طفقت ترتل في سرها وفي حزن، سورة الفاتحة للسيدة الطاهرة … وميدان «السيدة زينب» محطة رئيسية لمركبات «أمنيبوس سوارس» والمار به لا يلبث أن يخترق أذنيه من حين لآخر صوت العامل أو السائق يصيح: ياللا «الموسكي» … «السيدة نفيسة» … «الموسكي» … «موسكي» … «موسكي».

وكانت «زنوبة» أول من نبهه هذا الصوت، ووجهت كلمة «الموسكي» فكرها إلى شيء في رأسها، فترددت لحظة، ثم فجأة استقر عزمها، فمشت بقوة إلى مركز «الأومنيبوس»، وصعدت مسرعة إلى أول عربة متهيئة للسير.

•••

مرت نصف ساعة و«سوارس» تخرج وتدخل في شوارع وحارات عتيقة، مخترقة الأحياء القديمة لمدينة القاهرة، حتى وصلت أخيرًا إلى الموسكي، فنزل من الركاب من نزل واشرأبت رقاب الباقين في العربة إلى الخارج، ينظرون على جانبَي الطريق إلى المتاجر والدكاكين التي لا عدد لها، وقد عرضت بضائعها التي تبهر الأنظار من أقمشة من الحرير والقطيفة مزركشة بالقصب اللامع و«الترتر» البراق، ومن مصوغات ذهبية حقيقية وقشر سمكة ومن أحذية وشباشب «بكعب» و«زحافي» على آخر طراز. ومن خردوات ودنتلات وبياضات لزوم البيت، وأوانٍ نحاسية وأخرى من الصيني، وملاعق ومغارف خشبية ومعدنية، وبالاختصار كل شيء موجود في هذه السوق المشهورة.

وكان الزحام شديدًا كالمعتاد، و«سوارس» تلقى صعوبة في شق طريقها بين أمواج الناس المجتمعين كالنمل، في شارع «الموسكي» الضيق، يعلو صياحهم، وتشتد حركتهم وضجيجهم، كلهم تجار وباعة ومشترون ومتفرجون؛ فالتجار والباعة يصيحون منادين على بضاعتهم متنازعين الزبائن، بخالب أقوالهم، ورخص أثمانهم، وحلفهم وقسمهم بالشرف والإيمان على جودة الصنف وعلى أنها فرصة حقيقية و«أوكازيون» على ذمة «الخواجة».

والمشترون — نساء ورجالًا — يشاهدون ويجادلون ويمارسون، متناولين الأقمشة بين أيديهم يفركونها ويفحصون متانتها في عنف، ثم يساومون ويناقشون، فتعلو الأصوات، ويكثر القسم، ويشتد الشد والجذب، ويسيل العرق على الجباه والوجوه، ويضاف على هذا الهرج والمرج صوت صناجات بائع العرقسوس يزاحم الناس بقِدرته الحمراء على بطنه، وإبريقه النحاسي في يده، ولوح الثلج المركب فوق القدرة لا يبرد شيئًا ولا يصل إلى الشراب وإنما وظيفته مجرد الإعلان: «حاسب على اسنانك … أنا بياع الشربات … ماليش دعوى باسنانك»، ثم يدق دقة بصناجته أو يملأ كوبًا لزبون، ثم يصيح في لهجة أخرى: «الصبر جميل … فقر بلا دين هو الغنى الكامل … سنانك حاسب.»

ظل ركاب «سوارس» يشاهدون هذا كله من نوافذ المركبة، إلا «زنوبة» فإنها وحدها لبثت جامدة ساكنة، لا تعبأ في هذا اليوم بالموسكي وما فيه؛ ولم تتحرك ولم تصحُ من تفكيرها وما يشغل بالها إلا عندما حان محل نزولها، وكان عند سيدنا الحسين، حيث وقفت «الأمنيبوس»، فنزلت «زنوبة» وكأنما كانت على علم تام بالجهة التي تقصدها؛ فإنها ما كادت تطأ الأرض حتى جعلت تسير في هذا الحي من شارع إلى آخر، ومن حارة إلى حارة، لا تلوي على شيء، ولا تضيع ثانية واحدة.

في قلب هذا الحي … عطفة سد صغيرة مظلمة، ولا يمكن لغريب عن الناحية أن يهتدي إليها بمجرد المصادفة، إلى هذه العطفة كانت زنوبة تسير، وبلغتها بعد مسيرة ربع ساعة، ووقفت بباب منزل هو الأخير من الجهة المسدودة.

ترددت «زنوبة» قليلًا ثم طرقت الباب برفق، ومرت لحظة ثم فتح الباب، وظهرت خلفه امرأة عجوز، جعلت تنظر إلى زنوبة في تقطيب نظرة المتسائل؛ فقالت لها «زنوبة» في شيء من الخجل: جاية للشيخ «سمحان».

فأفسحت لها العجوز طريقًا، وأجابتها في خشونة: ادخلي من هنا.

دخلت «زنوبة» وأغلقت العجوز الباب وراءها، ثم قادتها إلى حجرة واسعة قليلة الأثاث، وأشارت إلى شلتة على الأرض خالية بجوار امرأة ترضع طفلها، ثم قالت لزنوبة: اقعدي استريحي لما ييجي دورك.

وانصرفت من باب في صدر المكان.

جلست «زنوبة» على الشلتة وأخذت تجيل النظر فيما حولها، فرأت نسوة جالسات على الأرض مثلها ينتظرن أيضًا نوبتهن. وكن كلهن مجتمعات، ووجوههن إلى باب الصدر، وقد لبثن صامتات يحدقن بعيونهن في ذلك الباب، كما لو أنه باب الله. وكان يرتسم على ملامح هاته النسوة معنى واحد، حتى يخيل للرائي أن فكرة واحدة تجول في رءوسهن كلهن، وتوحدهن جميعًا كأنهن في صلاة الجمعة حيث تنفصل النفوس في لحظة من أجسامها المختلفة، وتنسى كل روح حياتها الخاصة. لتجتمع كلها وتذوب جميعها وتنصب في شيء واحد: «المحراب» … ونسيت «زنوبة» نفسها لحظة تحت تأثير ذلك الشعور الذي كان يخضع له باقي النساء، ولبثت جامدة صامتة وقتًا، تنظر مثلهن إلى باب الصدر.

وأخيرًا التفتت في هدوء ولطف إلى جارتها، المرأة ذات الطفل، وهمست في أذنها سائلة: إنتي جاية للشيخ يا ادلعدي.

فنظرت إليها المرأة وأجابت: أيوه ياختي.

ثم قدمت لطفلها ثديًا كضرع البقرة، وأضافت وهي تشير إليه برأسها: علشان الولد بعيد عنك.

فاقتربت «زنوبة» بشلتتها من المرأة، ثم مالت نحو الطفل في رفق، وقالت: اسم الله عليه … ما له؟

فرفعت المرأة غطاء أزرق، كان يغطي وجه ابنها الصغير؛ ثم أجابت: عينيه، ربنا ما يوريكي … شوفي.

ألقت «زنوبة» نظرة على عين الطفل التي كاد يأكلها الرمد، وقالت: مش رحتي به للحكيم؟

فرفعت المرأة رأسها، والتفتت إلى «زنوبة» التفاتة المحتج، وقالت بصوت المعرفة والثقة: حكيم؟ هم ياختي الحكما بيعرفوا حاجة؟ دا أنا ما خليت شيء إلا جربته، ياما وصفوا لنا ياختي، ربنا هو العالم، فيه بقا أكثر ولا أقوى من العسل الاسود، وكحل البنت، والششم المغربي، والدود العلق … لحد — اسم الله على مقامك — لبخة سبلة الحمار السخنة، وكل ده لا نفع ولا شفع، تقولي إيه؟

فسكتت «زنوبة» لحظة، ثم سألتها في بساطة: والشيخ «سمحان» يعرف في العنِين؟

فمصمصت المرأة بفمها أسفًا لجهل «زنوبة» وقالت وهي تهز رأسها المغطى بالملاءة السوداء: يعرف؟ … بتسألي يعرف والا مايعرفش؟ دانتي باين عليكي ياختي ماسمعتيش به … يا ندامة، بقا اللي دلك على الشيخ «سمحان الأسيوطي» ماقالكيش على كراماته؟

فقالت: «زنوبة» في أدب: قالوا لي كتير، لكن انا لسه ماجربتش.

فقاطعتها المرأة، واندفعت تقول: لا ياختي دا مجرب، فيه أكتر مني أنا، قبل ما احبل في الولد ده، كنت بعيد عنك ماباحبلش، وياما عملت علشان الحبل، يا دهوتي على اللي جرى لي، الراجل جوزي نفسه في الخلف، ويصبح ويبات يقول لي: يا ولية يا تحبلي يا اروح اتجوز عليكي، وأجيب لك ضرة، قولي لي بقا ياختي أعمل إيه؟ الرب هو العالم، لا خليت طب ولا دوا، ولا سحر ولا عمل، كله وحياتك ما فاد ولا عاد … ويوم من الأيام جارتي «أم حسين» إلهي يمسيها بالخير، قالت لي قومي ياختي روحي لواحد اسمه الشيخ سمحان، ورا «سيدنا الحسين»، الناس بتحكي لي عنه وتقول … والله وحياتك ما كدبت خبر، تعرفي مسافة ما كتب لي الحجاب ولبسته وفات شهر والشهر اللي هل، حسيت ببطني رقعت بالزغروط.

فسألتها «زنوبة»، تطلب التأكيد بلهجة استغراب ساذجة: جالك الحبل؟

فأجابت المرأة على الفور: أمال ياختي، الحبل عقبال أملتك، بعد الحجاب بشهر! عايزة إيه بقا أكثر من ده.

وهنا فتح فجأة باب الصدر، وظهرت بالعتبة المرأة العجوز، وأشارت إلى المرأة ذات الطفل قائلة بصوتها الجاف: ياللا قومي، دورك انتي وابنك.

فانحنت المرأة على طفلها ونظرت إليه، ثم التفتت إلى «زنوبة»، وقالت: ياختي الولد نعسان. طول ليلة امبارح يا كبدي ما داق النوم، إن كنت مستعجلة ياختي قومي انتي بدالي.

فنهضت «زنوبة» بسرعة، وشكرت المرأة ودعت لها الله والنبي و«سيدنا الحسين»؛ كي يأخذوا بناصرها ويمنوا بالشفاء على ولدها، ثم أسرعت إلى الباب، وتبعت العجوز.

ما اجتازت «زنوبة» عتبة باب الصدر، حتى وجدت نفسها في حجرة الشيخ، وهي حجرة مربعة الشكل، ضئيلة النور، ليس بها من نوافذ إلا طاقة مشبكة بالحديد قرب السقف، ولا من أثاث إلا بضع «شلت» على الأرض، حول خوان صغير، فوق سجادة عجمية عتيقة.

وفي وسط تلك الحجرة يقوم ضريح «الشيخ سمحان»، ولم يكن ضريحًا بالمعنى المعروف، وإنما شيء كالقفص محجوب عن الأنظار بغطاء أسود كثيف، وعلى سطحه صف من شمعدان نحاسي قديم، وله باب صغير كالكوة ذو قضبان في لون الذهب.

عند ذلك الباب الذهبي للضريح أو القفص، كانت تجلس امرأة في متوسط العمر، سمينة، ولكن في وجهها بعض ملاحة، هذه كما يقولون امرأة الشيخ فهي وحدها التي تتصل به بواسطة هذا الباب الذهبي الصغير، وهي التي تنقل كلامه الخفي إلى الزوار السائلين، ولكن الشيخ نفسه، لم يره أحد قط، كيف ولماذا هو محبوس في هذا القفص أو الضريح؟ لا أحد يعلم، ولعل أحدًا ما تساءل عن ذلك، كل ما يعرفه الناس أن الشيخ «سمحان الأسيوطي» ذو قوة خفيَّة وأسرار حقيقية، وأنه على اتصال دائم مع «بسم الله الرحمن الرحيم» أهل تحت.

وقفت «زنوبة» جامدة تنظر إلى الضريح إلى أن أشارت لها امرأة الشيخ إشارة صامتة، تدعوها إلى الاقتراب والجلوس على إحدى الشلت المجاورة لها، فجلست «زنوبة» حيث أشير لها، وعندئذٍ نظرت المرأة إليها في تحديق، ثم سألتها بصوت متزن خافت: شاورتي نفسك؟

فسكتت «زنوبة» لحظة، ثم أجابت في تردد: أيوه … لكن بس.

فقطبت المرأة جبينها الذي تكاد تخفيه «قمطة» المنديل الكحلي ثم قالت: لكن بس إيه؟

فأجابت «زنوبة» في خجل: جنيه! … غالي.

فرسمت المرأة على شفتيها ابتسامة احتقار، وقالت: غالي؟ … جنيه واحد غالي! علشان اللي في بالك تنوليه؟ أمال لو كنت قلت لك خمسة جنيه زي الست اللي لسه خارجه قبلك.

فقالت «زنوبة» بصوت خافت: والنبي لو كنت غنية ما كنت اتأخر.

فقالت امرأة الشيخ في رفق: صلي على النبي ياختي، إنتي فاكرة الفلوس دي أنا طالباها لنفسي؟ فاكرة دي حاجة رايحة تدخل جيوبنا، أبدًا وحياة راسك، إحنا مش محتاجين … بعد الشر … يا سلام … الجنيه بتاعك ياختي رايحين نشتري لك به اسم الله عليكي، خروف أبيض من غير إشارة، وندبحه على اسمك هنا على الباب ده، وندهن العتبة بدمه … على الله ببركة الأسياد اللي سامعينا ينفتح لك باب السعد والهنا.

فدق قلب «زنوبة» فجأة للكلمتين الأخيرتين، وخفضت نظرها لحظة في حياء، ثم عاد إليها الهدوء والسكينة، فأخرجت منديلها من صدرها، وفكت عقدة في طرفه وتناولت جنيهًا من بين نقود أخرى بالمنديل، ووضعته على الخوان الصغير بيدٍ مرتجفة وهي تقول: بس خروف؟ مفيش حجاب ولا حاجة؟

فأجابت امرأة الشيخ وهي ترمق الجنيه على الخوان بطرف عينها: أمال ياختي امال، حجاب وبخور وتبييت أتر، أنا عارفة بخورك ماتخافيش: فسوخ وشبة وجنزارة وعنزروت وفرفارة ورمش عين الجان، لازم لك حجاب تلبسيه دايمًا ولا تقلعيه أبدًا حاكم انتي اسم الله سلطاني دقتك خفيفة، اصبري كمان لما اسأل لك الشيخ.

وقربت فمها من الكوة أو الباب الذهبي، ونادت: يا «شيخ سمحان».

وعندئذٍ سُمع صوت ضعيف، كأنه جثة مقبورة في يوم الحشر، ينبعث خافتًا من أعماق الضريح المظلمة، فالتفتت المرأة إلى «زنوبة» بسرعة وسألتها: قولي لي قوام اسمك واسم أبوكي وجدك؟

فردَّت «زنوبة» على عجل: اسمي «زنوبة بنت رجب بن حمودة».

فعادت المرأة إلى باب الضريح، وصاحت: يا «شيخ سمحان»، اسمها «زنوبة بنت رجب بن حمودة».

وساد سكون هائل عميق دام لحظة، ثم فجأة عاد ذلك الصوت الضعيف البعيد غير الجلي، وألصقت المرأة أذنها على الباب الذهبي، وجعلت تنصت بانتباه، وأخذت «زنوبة» في اهتمام تتبعها بعيون تنم عن صبر نافد وقد مدت عنقها ووجهت أذنيها هي الأخرى علَّها تسترق بضع كلمات.

ولم تلبث المرأة أن فرغت وتركت باب الضريح، وأقبلت على «زنوبة» تُفضي إليها بالنتيجة.

– اسمعي … الشيخ بيقول عايز أتر من شعره … بس على شرط أن يكون من صحن الراس عند مفرق الشعر.

فدمدمت «زنوبة» بصوت خافت في خجل واضطراب: شعر مين؟

فنظرت إليها المرأة في خبث وقالت: شعر مين؟ شعر اللي في بالك.

فدمدمت «زنوبة» مرددة وكأنما تقول لنفسها: أتر من شعره؟

فأضافت امرأة الشيخ مؤكدة: من صحن الراس عند مفرق الشعر … إياكي تنسي … إن كنت شاطرة، قولي للمزين اللي بيحلق له واغمزيه يجب لك طلبك. اسمعي كمان ياختي، الشيخ بيقول يلزم لك كمان «قلب هدهد» يتيم!

فسألت زنوبة مستفسرة بصوت ساذج: قلب هدهد؟

فقالت المرأة مؤكدة: يتيم، قلب هدهد يتيم، إوعي تنسي!

فسألتها «زنوبة»: وبس خلاص؟

فأجابتها امرأة الشيخ: هاتي دول الأول، الحجاب المعمول من دول عمره ما يخيب. الشيخ قال من تحت … وهو أعلم بالسر والكرامة، كل من كان راجل والا حرمة لبس دا الحجاب، يصبح يلقى اللي في باله تحت رجليه.

فاقتنعت «زنوبة»، وتورد وجهها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤