الفصل السابع عشر

لو أن «مصطفى» ساعة أن ابتسم «لسنية» رفع بصره إلى نافذة جيرانه القاطنين فوقه، لأحس أشعة عيون نارية تنفذ إليه من خلال العوارض الخشبية؛ تلك عيون «زنوبة» التي ما فترت عن مراقبته ومراقبة «سنية» منذ يوم الشجار، ولعلها أول من رأى وأدرك تحسن هندام «مصطفى» وسببه في ذلك اليوم، ولعلها كذلك الوحيدة التي باغتت على شفتَي «مصطفى» تلك الابتسامة الموجهة إلى «سنية».

وهذا يكفيها: «مصطفى» يبتسم «لسنية» وهي تبتسم له! الله … الله.

وانتظرت حتى اجتمع «الشعب» ما خلا «محسن» الغائب في «دمنهور»، وأخبرتهم بما رأت، مبالغةً في الخبر، مضيفة إليه كل ما تتصور أنه سيكون … وهل بعد الابتسامة إلا المقابلة والمراسلة؟ لقد نهض «مصطفى» أمامها بعد ذلك، فإلى أين إن لم يكن إلى حيث يلقي من ابتسم لها الساعة؟ وتصادف بعد قيام «مصطفى» بقليل أن شاهدت «زنوبة» جارية «سنية» تخرج في إزارها لقضاء حاجة، فتصورت «زنوبة» أن «سنية» شيعت جاريتها وراء «مصطفى»، فأضافت ذلك إلى مجموعة ما رأت بعينيها، قائلة «لعبده» و«سليم» الساهمين: إنتم نايمين؟ طيب دي المراسيل رايحة جاية أربعة وعشرين قيراط «بالمفتشر» كده في الضهر الاحمر.

وهكذا أنزلت الطامة على هذين الأخيرين؛ كما أثارت الدهشة عند «حنفي» و«مبروك» اللذين استغربا إمكان حدوث كل هذا بتلك السرعة، لا سيما و«مصطفى» شاب لم يسمع له صوت، ولم يحس وجوده طول مدة إقامته.

وبعد أن استوثقت «زنوبة» من قوة الأثر الذي تركته فيهم، اقترحت عليهم تحرير خطاب إلى والد «سنية» المسئول عن سيرها شرعًا؛ حتى يوقفها عند حدها … هذه هي الطريقة المثلى والوحيدة، وهذا هو الواجب عليهم معشر الجيران المخلصين … والنبي أوصى بسابع جار! ووافق «سليم» أولًا مدفوعًا بما طرأ عليه فجأة من غيظ، وقبل أن يكتب هو الخطاب … ولكن «عبده» هاج كامن غضبه العصي، وانفجر يصيح، وكأنه وجد منفذًا في هذا الصياح: مفيش جواب ينكتب … مفيش جوابات تروح! إن كنت صحيح راجل ويوزباشي انزل للراجل اللي تحت … قسمًا بالله العظيم ما ينكتب جواب … دا جبن … أنا لا أسمح بالجبن ده أبدًا … مفيش جواب. أنا أعرف شغلي.

فقال له «سليم»: تعرف شغلك ازاي؟ تعمل إيه؟ تضربه؟

وقالت «زنوبة»، وقد لمعت عيناها تشفيًا: إعمل اللي تشوفه، لكن برده الجواب ضروري.

فصرخ فيها «عبده»: اسكتي.

ثم التفت إلى «سليم» وقال: أنا بقول لك جبن … ندالة … دي أمور نسوان!

وأخيرًا اقتنع «سليم» بكلام «عبده»، وعبثًا حاولت «زنوبة» حملهم على كتابة ما تشتهي، وعند ذلك جاءتها الفكرة أن تستكتب، سرًّا، كاتبًا عموميًّا من أولئك المرابطين دائمًا، والناصبين خيامهم ومكاتبهم أمام محكمة السيدة … ولم تكذب، والتفَّت بإزارها الأسود، وخرجت عصر ذلك اليوم خُفيةً إلى ذلك الكاتب؛ وكيما تخفي عنه غرضها الأصلي جعلت كأن غايتها التي أتت من أجلها استكتاب خطاب عادي «لمحسن»، حتى إذا ما تم خطاب «محسن» تظاهرت بفكرة عارضة هي استكتاب الخطاب الغفل.

•••

فتحت «سنية» عينيها في صباح اليوم التالي، وابتسمت للنهار، وظلت في فراشها تفكر فيما كان من أمرها أمس، وفي السعادة التي تنتظرها اليوم، وهل يمكن أن ينتظرها شيء غير السعادة منذ اليوم؟ إنها كانت تجهل أن الحياة حلوة هكذا، إنها عاشت سبعة عشر ربيعًا لم ينكشف لها أثناءها عن جمال الدنيا إلا اليوم، كل شيء جميل في هذا الصباح، وكل شيء يبتسم.

أكل هذا لأن «مصطفى» ابتسم؟

إنها رأت كثيرين يبتسمون لها في الطريق، أو في الترام وهي مصطحبة جاريتها «بخيتة» في ذهابها وإيابها إلى عيادة طبيب الأسنان، الذي يباشر حشو أضراسها التي أثر فيها أكل «الملبس» والحلوى. بل إنها رأت بالأقل بسمات «سليم» و«محسن» … ولكنها لم تحس ما أحست عند ابتسامة «مصطفى»؛ كأن هذه الابتسامة قلبت كل حياتها، وغيرت الدنيا في نظرها، فبات كل شيء يبتسم أمامها وحولها!

ومع ذلك قد استقبلتها بغلق النافذة في وجهه.

ضحكت «سنية» عن نواجذها اللؤلؤية لدى هذه الصورة.

وأفعمها ارتياح وسرور ولذة داخلية؛ إذ عاملته هذه المعاملة الخشنة، وتساءلت في نفسها مبتهجة عما عساه يقول عنها الآن؟ ثم ختمت ضحكها بأن قالت في صوت يتهدج لذة: مسكين!

ومع ذلك فقد كان يقاسم قلبها عاطفة أخرى متناقضة، هي عاطفة ندم وإشفاق وقلق، إنها تخشى أن تكون أساءته أكثر مما ينبغي، وأن تكون صدمت إحساسه على نحو عنيف.

ونمت عندها هذه العاطفة، فجعلت تؤنب نفسها أو تتظاهر بتأنيب نفسها؛ إذ في الواقع كانت عاطفة السرور بجفائها، واللذة بقسوتها ما زالت تداعب أطراف قلبها غير أنها وجدت الحل أخيرًا، أمكنها التوفيق بين هاتين العاطفتين المتضاربتين ظاهرًا: سوف تعوضه عن الإساءة، نعم سوف تُظهر له شيئًا من حسن المعاملة، أو على الأقل سوف لا تصدم شعوره بعد اليوم … هذا الشاب المسكين اللطيف.

وابتسمت.

وبلغت أشعة الشمس وسادتها، ولمع في ضوئها شعرها الأبنوسي، وأحست الحرارة، فرفعت يدها الناصعة إلى رأسها تتقى بها حر الشمس، غير أنها ذكرت الوقت، وأدركت أنها تأخرت في فراشها اليوم على غير عادتها، فنهضت في الحال، وسارت بأقدامها البيضاء العارية على بساط الحجرة، ووقفت أمام المرآة في قميص نومها الحريري، وكان شعرها الذي لم يرتبه بعد مشط الصباح قد تدلى فاحمًا جميلًا، يغطي عينيها، فهزت رأسها هزة وضعته في مكانه، وانزاح عن بصرها ذلك الستار الكثيف، فرأت في المرآة صورة تأملتها طويلًا في عجب، وهي تقلبها ببطء على كل الأوضاع … كيف؟ أهذا الجيد المرمري لها؟ وهذان النهدان القائمان يبدو ظلهما واضحًا خلف قميص الحرير، وهذا الخصر الذي تحوطه بيدها من فوق القميص لتتبين دقته في المرآة، يا للعجب! ما كانت تعلم أنها بهذا الجمال كله؟!

وابتسمت أيضًا لظلها.

ثم تناولت المشط وأعملته في شعرها وهي تتأمل وجهها وشفتيها راضية عما ترى، ثم طفقت تترنم بأغنية من الأغاني القصيرة المرحة المسماة: «طقاطيق»، وهي تخلع ثوب النوم لترتدي ثوب البيت.

وانتهت «سنية» من أمر ملبسها وزينتها، واستغرق ذلك منها اليوم زمنًا أطول من المعتاد، ونظرت إلى خيالها في المرآة نظرة أخيرة، ثم مشت إلى باب حجرتها في خطًا لطيفة، كخطا طائر جميل؛ وكأن كل شيء فيها قد لطف اليوم ورقَّ أضعاف ما كان عليه من قبل؛ فهي الآن — نفسًا وجسدًا —كالفراشة البديعة لا تتحمل اللمس، ولعله الابتهاج المضيء والسعادة النورانية ما يشعرها بخفة وزنها، وبأنها اليوم نفسٌ طائرة أكثر منها جسمًا كثيفًا.

ولكنها ما كادت تفتح باب حجرتها، وتخرج إلى الردهة حتى وقفت واجمة وساورها خوف لا تدري سببه؛ فقد سمعت لغطًا بين والدها ووالدتها ينبئ بغضب هائل!

وكان باب حجرة والدها التي ينبعث منها الصوت مغلقًا، فلم تستطع تمييز الكلام، إلا أنها كانت تسمع بوضوح بين آنٍ وآخر اسمها يردد، ثم كلمة «بنتك» يلفظها والدها في عنف مخاطبًا والدتها، فجمدت «سنية» في مكانها باهتة، وقد أيقنت أن شرًّا ينتظرها!

ولم يكن لديها وقت للتفكير ولا لتملك نفسها؛ فإن صوت والدها ما لبث أن تفجر في رعد مخيف، ثم فتح الباب بقوة كاد ينخلع منها، وبرز والدها وبيده خطاب، فما رآها أمامه في الردهة حتى صاح: إنتي هنا؟

ثم لم يلتفت إلى وجه ابنته الأصفر، ولم يمهلها حتى تجيب، بل مد في الحال يده إليها بالخطاب صارخًا: خدي … خدي اقري … اقري وقولي لي الكلام المكتوب هنا معناه إيه؟

فلم تتحرك «سنية» ولم تتناول الخطاب لأنها كانت لا تقوى على شيء، ولكن والدها الغضبان الهائج تقدم إليها وقد اشتدت ثورته، وعندئذٍ ظهرت الأم وصاحت به، وحاولت أن تجذبه القهقرى فلم تفلح، فأرادت أن تتوسط بينه وبين ابنته لتحميها، فدفعها عنه بعنف، واقترب من «سنية» وجذب ذراعها، وتناول يدها بخشونة، وأقبضها على الخطاب وهو يصرخ: قلت لك اقري الكلام المكتوب هنا، اقري الكلام المكتوب، أنا راجل عشت طول عمري بالشرف، أنا سافرت «السودان» وحضرت مواقع حربية.

ولم تستطع «سنية» احتمال أكثر من ذلك؛ فإن قواها تخاذلت، وكادت تسقط على الأرض؛ لو لم تسرع إليها أمها، وتتلقاها بين ذراعيها، وهي تنظر إلى زوجها شزرًا قائلة: ما تسكت بقا يا راجل، هي يا كبدي تقدر تستحمل الكلام ده كله؟

ولكن الوالد لم يسكت، بل ازداد ثورة، وعاد إلى ذراع ابنته المتخاذل يهزه بشده، ويدعوها أن تقرأ الخطاب، فأبعدت الأم يده عن ابنتها، ثم أخذتها وهي بين ذراعيها إلى أقرب مقعد، وعندئذٍ دنا الوالد، ورفع الخطاب إلى عينيه، وقال صائحًا: مش راضية تقريه؟ أنا اقراه … اسمعي:

حضرة المحترم الأمجد الدكتور حلمي، دام

بعد السلام: نخبركم أن علاقات الهيام سائرة على ما يرام، بين «سنية هانم» كريمتكم، وبين رجل من زباين القهوة التي أمام منزلكم العامر، والإشارات والمراسلات لا تنقطع بين البلكون والقهوة، وقد أحطناكم علمًا لما لنا فيكم من العشم، ولغيرتنا على حسن سمعتكم، وحرصنا على شرف اسمكم، والسلام ختام؟

كاتبه
صديق مخلص

وما جاء الوالد على آخر المكتوب حتى صرخ في ابنته: ضيعتي اسمي، دنستي شرفي … شرفي العسكري، تضيعي لي اسمي بعد ما حضرت «موقعة» أم درمان؟

ولم يتم جملته؛ لأن «سنية» على ضعفها وهي مغمضة العينين، ورأسها على صدر أمها أخذت دموعها تسيل خطوطًا على خدها في صمت، ولمحت أمها تلك الدموع الصامتة فجأة، فتحرك فيها الحنو إلى حد هائل، فثارت في وجه زوجها، وصرخت: اسكت … اسكت بقا بلا «أم درمان» بلا «أم عمران». يا راجل انت رايح تموِّت البنية اللي حيلتي وابقا افرح بك؟ دي اسم الله ماتستحملش كده أبدًا، حرام عليك.

ثم رفعت بصرها إلى السماء، ثم ألقته على زوجها، وقالت: والنبي مظلومة، واللي ظلمها يقعد له ويقعد لعياله. يقعد لك ويقعد لعيالك وعينك وعافيتك ببركة دي الصباح ياللي كتبت دي الجواب.

فقال الوالد بحدة: يعني بنتك ماوقفتش في البلكون؟

فأجابت الأم على الفور: أبدًا، أبدًا … يا فتاح يا عليم … بلكون؟ قطع لسان اللي يقول كده.

وكأن إلهامًا برق في رأسها؛ فقد خطر لها في الحال أن هذا الخطاب الغفل لا بد أن يكون من طرف «زنوبة» … نعم لأن سبب الشجار بينها وبين «سنية» لم يكن غير ذلك؛ ولأن هذا الشجار لم يمضِ عليه وقت طويل، فيُنسى من القلوب. إذن هي «زنوبة» التي فعلت ذلك، مدفوعة بعامل السخط على «سنية»؛ وكأن الأم وجدت وجهًا للدفاع عن ابنتها وبرهانًا قاطعًا على براءتها فأبرقت أسرَّتها، وانتصبت في جلستها، تمهيدًا للكلام القاطع، غير أن زوجها تذكَّر في نفس الوقت الخطاب الآخر الذي وقع في يده، وكان ممضًى باسم «الیوزباشي سلیم»، ذلك الخطاب الذي لم يُطلع عليه ابنته، بل رده بالتالي إلى كاتبه … لم يبقَ عنده شك إذن في صحة الخطاب الأخير؛ فإن أحد الخطابين يؤكد الآخر.

فالتفت عند ذاك إلى زوجته، وقال لها بعنف: طيب … وجواب اليوزباشي، ناسیاه؟

فبغتت الأم، وكانت على وشك الانتصار، ونظرت إلى زوجها قائلة في شيء من الحيرة: جواب اليوزباشي دا إيه راخر؟

ثم ذكرت ذهابها إلى «زنوبة» تشكو إليها قريبها «سليم»، بعد أن أطلعها زوجها على أمر خطابه، إذن ليس لها وجه للإنكار.

وتفكرت قليلًا، وفجأة لمعت عيناها؛ فقد وجدت ما تقول: إن المصائب كلها جاءت من «زنوبة» وأقارب «زنوبة»، وما الخطاب الأول والخطاب الثاني إلا من ناحية «زنوبة» النحس … وهل جاءت كلمة واحدة أو رائحة خبر واحد من جهة أخرى، غير جهة «زنوبة»؟!

وما دام الأمر مقصورًا على «زنوبة»، وما دام قول «زنوبة» لا يعتد به؛ لأنها خصم، والعلاقة بها مقطوعة، فأي قيمة إذن لهذا الخطاب الغفل الذي هو منها بلا شك؟ … وغير «زنوبة» لا يجرؤ على فعل هذا.

هذا خلاصة ما انفجرت به الأم، وما قالته لزوجها، بعد أن أخبرته تفصيلًا بأصل العلاقة «بزنوبة» وبسر القطيعة بينهما، وبأنها هي التي كانت تنظر إلى القهوة من البلكون، كلما جاءت زائرة حتى عنفتها «سنية» على ذلك ذات يوم، فغضبت وسبَّت وشتمت وانقطعت … وها هي ذي أخيرًا تلجأ إلى إلصاق كل ما فيها «بسنية».

وختمت الأم قولها ودفاعها المفحم، بأن رفعت ذراعيها عاليًا نحو السماء، ودعت بحرارة: إلهي يوريكي يا «زنوبة»، إلهي يجازيكي على قد عملتك، ببركة دي الصباح الكريم.

هدأ ثائر الوالد، وبدا على وجهه الاقتناع، وجعل يقول عن «زنوبة» مرددًا: يا سلام، دي لازم واحدة شريرة.

فأردفت الأم على الفور: قوي، قوي … معلوم، هي دي ربنا رايح يغضب عليها أكثر ما هو غضبان؟ ربنا ما يحكم على حد، دي لا جمال ولا مال ولا حلاوة لسان، عمرها النهارده فوق الاربعين، ولسه بسلامتها بنت بنوت.

وطفق الوالدان يتحدثان عن «زنوبة» برهة.

ثم التفت الوالد إلى ابنته، فرآها مغمضة العينين، فتناول يدها في لطف يجس نبضها، ثم همس إلى والدتها أن تنقلها إلى فراشها تستريح قليلًا؛ فهي في صحة جيدة، لكن ينقصها شيء من راحة النفس والجسم، وأعقب قوله هذا بتمزيق الخطاب الغفل إربًا إربًا … وهو يستنزل اللعنة على تلك المرأة الشريرة «زنوبة» التي تسببت في كل هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤