الفصل الحادي والعشرون

سمعت «سنية» أذان العصر من مسجد السيدة، وهي في حجرتها منذ الظهر، لم تنم ولم تنقطع عن التفكير في أمر هذا الخطاب الذي تسلمته من جاريتها أمس في عيادة الطبيب، إنها من ساعة أن لمحته في يد «بخيتة» أحست ممن هو، ودقَّ قلبها في الحال، ولكنها تجلدت وتناولته ودسته في صدرها، إلى أن جاء الليل، ودخلت حجرتها، وأغلقت بابها، ففضته وأنفاسها معلقة، وقرأت وصدرها يرتفع وينخفض حتى انتهت، فإذا هي ترفع الخطاب إلى فمها بلا وعي تقبله، وقد نزلت دموعها حتى فمها، ونامت أو لم تنم في ليلتها، لا تدري. إلا أنها كانت في حالة لم تعرفها من قبل، وكان أول ما فعلت في الصباح أن طالعت الرسالة من جديد، وها هي الآن أيضًا منذ الغداء منفردة، وبابها مغلق عليها، والخطاب منشور بين يديها، وهي تتأمل سطوره القليلة التي استطاعت أن تعطيها في يوم وليلة أجمل سعادة عرفتها منذ ولدت.

كان الخطاب في هذا الأسلوب البسيط:

سيدتي …

اعذري جرأتي؛ إني فعلت ذلك مضطرًّا، منذ شهر تقريبًا خرجت مقاليد حياتي من يدي إلى يد أخرى، ولم أصبح وحدي الشخص المالك لزمام شئوني؛ فإذا تجرأت بالكتابة إليك؛ فلأني أريد طبعًا أن أعرف رأي ذلك الشخص الذي يتصرف الآن في أمر هنائي وشقائي، وربما مستقبلي! إني أعلق أهمية على رأيك؛ لأني لا أود أن أكون أنانيًّا، ولأني أحبك إلى درجة أنى أفضل الشقاء على رباط يأباه ميلك.

وتقبلي يا سيدتي احترامي.

المخلص
«مصطفى راجي»
شارع سلامة، رقم ٣٥: الدور الثاني

لا بد أن يكون هذا الرجل مخلصًا فيما يقول؛ لأنها هي أيضًا تحس نفس الإحساس: حياتها لم تعد ملكًا لها وحدها، شخص آخر عندها كذلك أصبح المسيطر على ما في تلك الحياة من ساعات هناء وساعات شقاء … العجيب أن عبارات هذا الخطاب إنما صنعت على قد إحساسها هي … وكأنها جاءت لتعبر عما يخالجها هي … أبعد ذلك دليل على صدق عاطفته؟ أوليس من القلب إلى القلب رسول كما يقولون؟

وجعلت تتمتم في سرور: صحيح، من القلب للقلب رسول.

شيء واحد فقط بعد ذلك ما كان يحيرها: ماذا تصنع؟ وكيف تصنع؟ أتتناول القلم وترد عليه؟ أم أنها برغم ثقتها ويقينها واقتناعها، وبرغم سعادتها وفرحها به؛ لا يصح لها ولا يليق بها كفتاة مخدرة شريفة أن تكاتب رجلًا هو غريب عنها على كل حال!

نظرت إلى الخطاب في يدها مرة أخرى، وراحت تفكر في هذه المسألة التي تشغلها منذ الصباح، ووقع نظرها على عبارة: «إني أعلق أهمية على رأيك»، ثم صعدت بصرها في السطر الذي قبله: إني أريد أن أعرف رأي ذلك الشخص الذي يتصرف الآن في أمر هنائي … إلخ … إلخ.

فأطرقت برهة، ثم تركت الخطاب على المقعد، ونهضت إلى المرآة وألقت عينيها على صورة وجهها المورد إلى حد الاحتقان، من تأثير الخوالج النفسية المطردة والتفكير المستمر، وابتسمت لنفسها ابتسامة المغتبط لأمره، ثم تساءلت بصوت خافت وكأنها تخاطب صورتها بلهجة المقتنع: «مصطفى ينتظر رأيي …! «مصطفى» له الحق يعرف، دا حق من حقوقه»، وانتصر منطق القلب مرة أخرى. ولكن خطر لها خاطر آخر: لو استطاعت أن تكلمه مباشرة؟ أو بالأقل أن تعجل له بابتسامة أو نظرة يكون فيها كل الرد؟ إنه قريب منها جدًّا، أليس يقول إنه يقطن الطابق الثاني من المنزل المجاور؟ إنها هي أيضًا في الطابق الثاني، نعم، ويا لحسن الحظ! إن شرفته المكشوفة الصغيرة تحاذي نافذة حجرتها ولم تفطن إلى ذلك، يا لها من مغفلة!

وتركت المرآة وهرعت إلى نافذتها وفتحتها لتتأكد من قرب شرفته منها … نعم، قريبة جدًّا، بينهما متران، لأن حجرتها تقع في آخر المنزل من الجهة الملاصقة للجار، يا للفرحة! إذن ليست في حاجة إلى الشرفة الخشبية المقفلة، ولا إلى الذهاب كل ساعة إلى قاعة «البيانو»، فتلفت إليها أنظار والديها … ما أعماها! كيف لم تعرف حسن موقع نافذتها من قبل؟ صحيح أن الشرفة الخشبية تطل مباشرة على القهوة، ولكن ما لها وللقهوة الآن؟! سوف تشير له من نافذتها كي يخرج إلى شرفته الصغيرة التي لم يبرز فيها مرة واحدة منذ قدومه، عند ذاك تستطيع أن تحادثه، وهي في حجرتها الخاصة في سكون الليل، ومتران بينهما ليسا بالمسافة الكبيرة.

وبينا هي في تلك الخواطر الجميلة إذ دق الباب، فأغلقت النافذة بسرعة، وذهبت ففتحت فإذا جاريتها «بخيتة» تخبرها أن «محسن» الصغير في قاعة «البيانو»، وقد سأل أولًا عن الست الكبيرة، ولكن الست الكبيرة في حجرتها تصلي العصر وملحقاته، فطلب رؤية الست الصغيرة!

دهشت «سنية» قليلًا، وقالت مدمدمة: «محسن»؟

ووقفت مترددة لحظة، ثم رفعت عينيها إلى «بخيتة» كأنما تسألها عن سبب مجيئه، وأخيرًا مشت بخطًا متثاقلة إلى حجرة «البيانو».

كان «محسن» في الحجرة جالسًا على كرسي منفرد، يحسب ألف حساب لظهور «سنية» ويصفر وجهه ويحمر لكل حركة تقترب، ويعلو قلبه ويهبط كلما خطر له أنه عما قليل يراها، وأنه سيحدثها بتلك الأحاديث الخطيرة التي جعل يهيئها في رأسه أيامًا قبل مجيئه اليوم.

وفجأة أحس حفيف ثوب بالباب، فانتفض ناهضًا، وقد شحب لونه، ووقف مرتبكًا، وألجم لسانه، ونظرت «سنية» إليه وهي بالعتبة نظرة استفهام جامدة، لكنها ما لبثت أن تقدمت نحوه؛ وكأنما أخذتها شفقة بمنظره، فمدت يدها له، وقالت متلطفة: ازيك يا «محسن».

فأجاب وهو يبلع ريقه مطرقًا: الله يسلمك.

ثم سكت، وسكتت هي أيضًا طبعًا، وكانت لا تزال مستغربة قدومه منتظرة معرفة السبب، وطال السكوت؛ وكأنها أدركت أخيرًا أن لا فائدة من انتظار بدئه بالكلام، فبدأت هي قائلة: بلغتك أعمال عمتك؟

وكان «محسن» توقع هذا السؤال من قبل وجهز له الإجابة، فما عليه الآن إلا أن يتكلم، ففتح فاه، ولفظ أولًا بضع عبارات مرتجفة مضطربة قائلًا إنه وجميع المنزل غاضب على عمته «زنوبة» لسلوكها هذا المسلك معها؛ غير أنه هو ما ذنبه؟! ولماذا تأخذه «سنية» بذنب عمته «زنوبة»؟ فأجابت «سنية» للفور: ومين قال لك يا «محسن» إني زعلانة منك؟!

جاء هذا الجواب مهدئًا لروع «محسن»، فاطمأن قليلًا، وذهب خجله وخوفه بعض الشيء، وكأنما فسر جوابها هذا تفسيرًا أوسع من حقيقته، وفهم منه ما جعله يفرح، ويقول في صوت مرتجف قليلًا: صحيح مش زعلانة مني؟ أنا دايمًا عندك زي زمان؟ زي يوم قبل السفر؟

فقالت «سنية» وقد بدا عليها شيء من القلق: طبعًا، وانت ذنبك إيه؟

ولكن «محسن» لم يلتفت إلى ردها، واندفع يخبرها في حرارة صبيانية عن سفره، وعن انتظاره خطابها، وعن عودته، وعن رغبته في رؤيتها، وعن ذلك الخوف الذي كان يمنعه، من زيارتها، عقب رجوعه مباشرة، وتلك الفكرة المشئومة التي كانت مستحوذة عليه من أنها قد نسيته كل النسيان، وأنها لا تود رؤيته قط، وعن تلك الأيام السوداء التي قضاها بعيدًا عنها … كل ذلك دون أن يجرؤ على ذكر «مصطفى» ودوره فيما حدث. وكانت «سنية» تستمع إليه شاردة الفكر، وكثيرًا ما كانت تطرق كلما تحدث «محسن» عن ألمه من البعد عنها. ثم حدثها عن منديلها الذي كان سلوته ورفيقه، ووضع يده على جيبه، وهنا أحس رزمة من الورق هي أشعار ورسائل نثرية، كان قد نظمها وكتبها طول تلك الأيام التي تلت يوم فكر هو وأعمامه في الذهاب إلى «سنية». منذ ذلك اليوم حتى هذه الزيارة، وهو هائم شارد في الحدائق والمتنزهات العمومية، وعلى ضفاف النيل، وقد امتزج يأسه بقليل من الأمل اللذيذ. و«محسن» بطبيعته الشاعرية قد سبق له نظم الأشعار والأزجال والمقطوعات الغنائية في ظروف مختلفة، فكيف بهذا الظرف الذي ملك كل كيانه؟ واليوم قبيل مجيئه خطر له أن يقدم لها كل ما كتبه فيها، حتى تعلم كل ما يحويه قلبه.

وانتهى الفتى من كلامه، وقد احمر وجهه، وجفَّ لعابه ونظر إليها منتظرًا ما تقول، ولكنها لم تستطع أو لم تجد شيئًا تقوله، وسكتت قليلًا حائرة، ثم نهضت في ضيق، وقالت: لا يا «محسن»، أنا مش زعلانة منك أبدًا.

كان هذا هو الجواب الوحيد الذي له عندها على كل ما قال.

بهت «محسن» قليلًا، ولكنه ظل ساكنًا منتظرًا في أمل أن تستمر في الكلام بعد ذلك.

ولكنها لم تتكلم، وعادت فجلست لحظة ثم تململت والتفتت إلى «محسن» المطرق المنتظر، ونهضت نصف نهوض كأنما تدعوه إلى الانصراف وقالت: أنا متشكرة على كل حال يا «محسن»، وتأكد إني مش زعلانة منك أبدًا.

هنا أحس «محسن» خيبة الأمل، وفُتحت عيناه أمام الحقيقة المخيفة، ولكنه ككل يائس أغمض عينيه على عجل، وتشبث بالمحال، وقال بصوت المتوسل: فاكرة دروس «البيانو؟».

فتحركت في مجلسها، وقالت في فتور: طبعًا فاكراها.

لكن أنا نسيت دروسي، ومحتاج لك تعيدي معايا كل اللي فات.

فأطرقت «سنية» ولم تحر جوابًا، ثم تمثل لها «مصطفى» ووقتها المشغول، وحياتها التي لا تستطيع أن تنفق منها دقيقة لغير «مصطفى» وذكره، فتحرك فيها الغضب، وقالت ببرود: أنا ماعنديش وقت.

فتجلد «محسن» أيضًا وقال في رجاء: مش عایزاني آجي؟

فلم تُجِب في الحال، ولكنها عادت، فقالت: أنا يا «محسن» عندي شغل كتير دلوقت.

فوهن جلد «محسن» وتصبب العرق من جسمه وأظلمت الدنيا في عينيه، ولكنه قال بصوت اليائس: یعني دي آخر مرة آجي فيها؟ دي آخر مرة اشوفك؟

ولم يملك ضبط نفسه، فتساقطت دموعه، وأجهش باكيًا، ولمحته «سنية»، وسمعت صوت نشيجه، فحولت رأسها عنه كالمتجاهلة، ولكنها رأت أن صوته قد أخذ يعلو، فنهضت واقفة، وترددت قليلًا، ثم التفتت إليه، وقالت في صوت متبرم جاف: جرى لك إيه يا «محسن»؟ انت صغير تعيط؟ انت مش صغير على العياط.

ولكن «محسن» لم يتمكن من كبح نفسه، وظل ينشج ويشهق ويتوسل بكلام متقطع، ويؤكد لها أنه إنما يطلب رؤيتها فقط. نعم، إنه أصبح لا يطمع إلا في القرب منها، لأنه يعيش على القرب، فلتحب «مصطفى» أو غيره؛ فإنه هو لا يحول ولن يحول بينها وبين سعادتها، بل إن سعادتها سعادته، فقط لا تحرمه رؤيتها … وهل هذا شيء كثير أن تسمح له بذلك، بتلك الرؤية التي لا تكلفها شيئًا، وهي له كل حياته.

وهكذا ظل فمه ينطلق في قنوط، وعن نصف وعي بذلك الكلام الممزوج بالدموع، ورأت «سنية» أن لا حيلة في إسكاته وإيقافه، فتركته يتكلم ويهذي، وذهبت هي إلى الشرفة الخشبية، وفتحت نافذتها وأخذت تنظر منها غير سامعة كلمة واحدة مما يقول.

وتعب «محسن» قليلًا فسكت، ورفع رأسه فألفى تلك التي كان يحسبها على الأقل تنصت له، ألفاها تتراجع من النافذة حمراء الوجه، وقد ابتسمت ابتسامة ساحرة يعلم لمن طبعًا؟

عندئذٍ أدرك «محسن» أن المرأة التي أمامه ليست «سنية»، وأغلقت «سنية» النافذة، وعادت وصدرها يضطرب ابتهاجًا، فما رأت «محسن» في وجهها مبتل العينين حتى تجهمت وقالت متبرمة: إنت لسه هنا بتعيط؟ كنت جاي علشان كده؟

فوقف «محسن» وأحس أن انصرافه ضروري، وأن قد انتهى الأمر.

وتقدمت نحوه، وقالت بلهجة هادئة: مروح بيتكم؟

فجمع كل قوة جلده؛ ليستطيع أن يهدئ أعصابه، ويقول: أيوه مروح.

ولكنه ظل واقفًا كالتمثال لا يتحرك.

وكأن «سنية» خافت أن يعود فيتكلم ويبكي بحجة الوداع، فابتعدت عنه فجأة، ومشت ببطء؛ كأنما تقوده إلى الباب، ولكنها كانت تقود شخصًا وهميًّا؛ لأنه لم يتحرك من مكانه.

وبلغت العتبة ووقفت كالمنتظرة، وصحا «محسن» لنفسه ولموقفه فرأى أنها تدعوه ضمنًا؛ بل وشبه صراحة إلى الرحيل، ورأى وقفتها المنتظرة في تبرم ظاهر، أو بالأقل هي وقفة استحثاث واستعجال؛ فماذا ينتظر هو إذن؟ وما الذي يبقيه ويوقفه عن الانصراف من وجهها في الحال كما تريد هي؟ إن الحقيقة التي كان يحسها ويكتمها ويغالط نفسه ويعمي بصره حتى لا يعرفها قد بدت له الآن — على نحو لا يستطيع كتمه ولا تخطئته — واضحة عارية، إنها ليست فقط لا تحبه، بل إنها ما أحبته قط يومًا، ولئن تلطفت معه في الماضي إلى حدٍّ غرَّه وخدعه فلأنها كانت خالية القلب ميالة بطبعها — ككل فتاة — إلى المداعبة والمضاحكة، أما وقد شغلها الحب، فما أسرع نسيانها عهد الخلو الماضي! والمرأة إذا أحبت حسبت حياتها ابتدأت من تاريخ الحب، ونسيت ما قبل هذا التاريخ.

ولكن «محسن» لم يكن في السن التي يعلم فيها كل هذا عن المرأة، هذه بالذات كانت أولى تجاريبه، ومع إحساسه التام في تلك اللحظة بأن كل شيء انتهى، وأن اسم «سنية» يجب أن يمحى من ذاكرته إلى الأبد، فإنه ظل واقفًا لا يدري ماذا ينتظر، كما ظلت هي بالباب وقد بدا عليها التعب من الوقوف، ولم تشأ أن تفتح فمها بالكلام لئلا ينفتح موضوع جديد. إنها محتاجة للانفراد في حجرتها تتأمل خطاب «مصطفى»، ولسوء حظ «محسن» أنه جاءها في يوم هو أسعد أيامها، يوم ليس في عقلها ولا في كيانها محلٌّ لشخص ولا لشيء آخر سوى «مصطفى». يوم كهذا عند المرأة؛ عند المرأة الرقيقة، بل عند النبيَّة والقديسة، يصيرها قاسية غليظة الكبد إذا رأت ما يمس تلك السعادة. المرأة السعيدة المحبة أنانية إلى حد الوحشية.

أخيرًا رآها «محسن» وقد أسندت يدها إلى الباب، وبدَّلت رجلها لتستريح، فعلم أنه يضايقها بوقوفه ووجوده، فمشى إلى الباب ثم مد يده إليها في سكون، ثم دس يده في جيبه وأخرج منديلها الحريري فأعطاه إياها ورده إليها في صمت، فأخذته بغير كلام هي الأخرى، ثم قالت له في هدوء: متشكرة على الزيارة، وبالنيابة عن «ماما» أقول لك إنها متشكرة كمان قوي.

وتردد «محسن» قليلًا قبل الانصراف، وأخيرًا لا يدري لماذا، ولأية مناسبة أخرج من جيبه رزمة الشعر والنثر وأعطاها «سنية»، فأخذتها في دهشة، وهو يذهب بسرعة وينزل السلم على عجل، ولا يعلم إلا الله وحده سر قلب هذا الفتى في تلك الساعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤