الفصل الرابع

كان عصر ذلك اليوم يشبه تمام الشبه أيام الربيع، سماء صافية زرقاء، ليس فيها نقطة سحاب، وشمس مصر في نشاطها الملتهب الخالد كأنها إله شاب، ترسل على القاهرة قيظًا لافحًا يلطف من حدته قليلًا نسيم النيل المسكر.

في تلك الساعة كانت «زنوبة» و«محسن» على السطح جالسَين فوق حصيرة صغيرة، فرشاها تحت حائط الجيران كي يستظلا به، وهو الحائط الذي يفصل سطحهم عن سطح منزل «الدكتور حلمي»، وكانت «زنوبة» مشتغلة بتطريز فستان لها، وعلى وجهها دلائل الفكر … أما «محسن» فكان لابسًا بذلته الجديدة وفي يده كتاب يقلب صفحاته، دون أن يبدو عليه الميل كثيرًا إلى القراءة، وكان السكوت قد طال بينهما؛ وكأن كلًّا منهما مستقل بنفسه وبأفكاره عن الآخر، وأن أحدهما قد نسي وجود الآخر، وأخيرًا فطنت «زنوبة» ورأت أن تقطع هذا الصمت، فتكلمت قائلة «لمحسن» في غير اهتمام، وبدون أن تقف عن عملها: كتاب إيه اللي معاك؟

فأجاب «محسن» باقتضاب، وإهمال وفتور، دون أن ينظر إليها: ديوان شعراء.

فدفعت «زنوبة» الإبرة بالكستبان الذي بأصبعها، ثم قالت: ديوان إيه؟

فلم يُجِب «محسن».

وصمتت «زنوبة» لحظة ثم تنهدت وقالت، وهي تقص قطعة قماش: يا عيني على بختي، إذا كنت بس اعرف اقرا واكتب، مش ناقصني يا خسارة بس إلا الكتابة والقراية.

فرفع «محسن» رأسه باسمًا، ونظر إليها بعين ساخرة، وهمس في خبث مرددًا: بس؟!

لم تلاحظ «زنوبة» سخريته، وثبتت نظرها على جزء من الثوب قد انتهت من حياكته، ورفعته في يدها، وتراجعت برأسها إلى الوراء تتمعنه وتفحصه، ثم قالت «لمحسن» في تباهٍ وإعجاب: بص يا «محسن»، بكرة تتفرج عليه لما يكمل.

نظر «محسن» بغير اكتراث بادئ الأمر، لكنه فجأة تذكر ما جعله يحمر قليلًا، فقال بإعجاب بالغ حد التحمس: الله! … في غاية الجمال.

ثم أضاف بعد قليل في تردد وخجل: التفصيل ده على رسم فستان.

فأسرعت «زنوبة» وأجابت في تفاخر: «سنية»! … تمام … على كسم بدلة «سنية حلمي» الجديدة تمام … انت شفتها؟

فاضطرب «محسن» متلعثمًا: شفت مين؟

فقالت «زنوبة»: بدلتها … بدلة «سنية» الجديدة … ماشفتهاش؟ دي حاجة تجنن … آخر موضة … دي الوقت تشوفها بعينك يا «محسن» كمان شوية تطلع «سنية» فوق سطحهم، وتناولها لي من فوق الحيط.

فخفق قلب «محسن» ونظر إلى عمته كمن لا يصدق، وكأنما يطلب التأكيد. ولكن «زنوبة» استطردت تقول وهي ترفع رأسها وتنظر إلى أعلى الحائط: أنا قلت لها من الصبح على كده، يا ترى اتأخرت ليه؟

فارتجف «محسن»، وقال: جاية هنا دي الوقت؟ قصدي بدلتها، يعني البدلة.

وارتبك في كلامه؛ فسكت في الحال، ثم … كأنما كان قلبه ممتلئًا بفرح مكتوم، ففاض فجأة وانفجر يتكلم في حماسة غريبة: أيوه يا عمتي أيوه، عايز اشوف رسم فستانك الجديد، لازم اشوفه واتفرج عليه، لو كنت تعرفي يا عمتي … والله العظيم. أنا أحب دايمًا انك تلبسي كويس؛ لأن الواحدة الجميلة لازم انها تلبس كويس.

فأجابت «زنوبة» وهي تنظر إلى ثوبها الجديد: معلوم.

فاستطرد «محسن» في حماسته: دا صحيح، تعرفي يا عمتي، بكرة الناس تتجنن عليكي … والله العظيم، بكرة تبقي كويسة … والناس تقول يا سلام.

فخفضت «زنوبة» بصرها في حياء؛ كأنها فتاة، وقالت بصوت بطيء خافت، فيه رنة التظاهر بالتواضع: بلاش كدب.

وفجأة مرت بخاطرها فكرة اضطربت لها قليلًا، وعادت متشاغلة بعملها في غير اكتراث، ولكن عقلها جعل يفكر ويبحث.

واستمر «محسن» في ثرثرته الحماسية، وهي تحرص على الإصغاء إلى إطرائه في زهو داخلي، ولو أنها لبثت مشغولة الفكر بشيء.

وأخيرًا بدا عليها أنها اهتدت إلى ما تروم، فالتفتت إلى «محسن» وقالت بحنو وعطف غير طبيعيين: إنت كمان يا «محسن» حلو والنبي بسترتك وبنطلونك الجديد ده.

فقال في لهجة فرح صبيانية ساذجة: صحيح!

فقالت «زنوبة» وهي تنظر إلى شعره: والست الطاهرة بس يا خسارة.

فسألها «محسن» في قلق: إيه؟

فقالت «زنوبة» في تردد: إنت بتحلق شعرك عند مين؟

فرفع «محسن» يده بسرعة إلى رأسه، وأخذ يرتب شعره، وقد ألقى بطرف عينه نظرة خفيفة سريعة إلى أعلى الحائط، ثم قال: ليه؟ شعري ما له؟

فقالت «زنوبة» متلطفة: لا، مفيش حاجة … بس يعني المزين بتاعك مش شاطر قوي.

فقال «محسن»: الأوسطى «دسوقي»؟

فقالت «زنوبة»: أنا عارفة! هو مفيش غيره في الخط؟

فقال «محسن»: ما له؟ … دا المزين بتاعنا كلنا، أنا واعمامي و… وكلنا.

فأضافت «زنوبة» بلهجة ذات مغزى: و«مبروك» الخدام؟

فرد «محسن» في الحال: وما له، حلاقته وحشة في إيه؟

فارتبكت «زنوبة» وسكتت، ثم عادت بعد لحظة: لأ … بس يعني، كان بدي أقول إن اللي يلبس بدلة زي بدلتك يحق له يحلق عند حلاق الناس المعتبرين.

فرفع «محسن» عينيه وصوبهما إليها؛ كأنما يستفهم عن مرادها. وقد خالجه قلق خفيف لمعنى عبارتها: أهو لوم خفي توجهه إليه وإلى ثوبه الجديد وتأنقه الحديث العهد؟ أتراها أرادت التلميح إلى أنه أصبح الآن بلباسه وتأنقه مميزًا عن أعمامه ورفاقه، ولكن لهجتها وملامحها ما كانت تدل على أي لوم، واستطردت «زنوبة» تقول: آه! لو كنت منك … ما كنت أحلق إلا عند حلاق الأغنيا المعتبرين … أنا عارفة انت عامل في نفسك كده ليه؟ أبوك غني، والا يمكن انت مش عارف الحلاق الكويس فين … آه … شوف البخت الحلو … آهو جارنا الغني الملتزم اللي ساكن تحتنا، لا بد عنده حلاق مفيش بعده.

فقال «محسن» مسرعًا وهو يتنفس الراحة، ويبتسم ابتسامةَ مَن فهم المراد: «مصطفى بك»؟

فقالت «زنوبة» سائلة في اهتمام يبدو من عينيها، ولكن في تردد وقد احمر وجهها قليلًا: تعرف يا شاطر بيحلق عند مين؟

فنظر إليها «محسن» بطرف عينه، وأجاب وعلى شفتيه ابتسامة: أيوه امال، أعرف، أنا شفته مرة قاعد عند الحلاق الكبير اللي قدام الجامع، اللي مكتوب عليه «صالون الكمال».

فأرادت «زنوبة» زيادة الاستيضاح، فسألت: قدام جامع الست؟ … يعني في الميدان جنب محل.

ولم تتم عبارتها، فإن صوتًا موسيقيًّا حلوًا في السطح الآخر المجاور ناداها قائلًا: أبلتي «زنوبة»، إنتي فين؟

ثم بدا بأعلى الحائط رأس جميل ذو شعر أسود لامع، فرفعت «زنوبة» عينيها، أما «محسن» فقد اصفر وجهه بغتة، ثم احمر وجمد في مكانه خافضًا بصره، مسددًا إياه إلى كتابه الذي بيده فقالت «زنوبة» منادية: تعالي يا «سنية».

ولكن «سنية» لمحت «محسن»، فقالت برقة ولطف: آه … لا … معلهش بقا، وقت تاني.

وفي الحال اختفى رأسها الجميل وراء الحائط.

فصاحت بها «زنوبة» وهي تنهض لتلحق وتمسك بها: تعالي، تعالي يا «سوسو» مفيش حد غريب، داه «محسن»، رایحة تتغطي وتستخبي على عيل صغير؟ حاتتكسفي منه، وانتي اسم الله متعلمة في المدارس؟ … تعالي.

فعادت «سنية» إلى الحائط وعلى شفتيها ابتسامة مؤدبة ساحرة وقالت: ماخدتش بالي.

التفتت إلى «محسن» في تحفظ وحذر، وقالت بلهجة خلابة: بونسوار يا «محسن بك».

فارتبك «محسن» واضطرب، ونهض واقفًا على قدميه بسرعة، وأجاب متلعثمًا، وهو ينظر إلى الأرض: بونسوار.

ومدت «زنوبة» يدها من فوق الحائط وهو لا يزيد في ارتفاعه عن متر وبعض متر، وتناولت بقجة صغيرة، كانت في يد «سنية» وهي تقول: جبتي الفستان؟ هاتي ياختي وتعالي عدِّي من فوق الحيط، ونطي هنا عندنا زي العادة.

فأجابت «سنية» معتذرة في حلاوة: ماقدرش اقعد يا أبلا، ماما منتظرة تحت، عشان اضرب لها «بيانو».

فقالت «زنوبة»، متسائلة: دلوقت! … دلوقت؟

فردَّت «سنية»، مبتسمة: أيوه دلوقت، دلوقت.

فقالت «زنوبة»، في إلحاح: اقعدي خمس دقایق بس، يعني حاجة خمس دقایق؟ … طيب اقعدي وأنا انزل معاك.

فقالت «سنية»، بفرح: صحيح يا أبلا؟

– آي والست الطاهرة، بس اقعدي الأول علشان تشوفي فصلت فستاني ازاي، وبعدين ننزل سوا.

فأجابت «سنية»: قبلت علشان خاطرك … هاتي إيدك يا أبلا من فضلك.

وأسندت يدها الناعمة على كتف «زنوبة» العريض، وقفزت إلى الحصيرة، وهي تقول مبتسمة: آدیني بقيت على سطحكم.

وجلست المرأتان إحداهما بجانب الأخرى، بينما أخذ «محسن» يتنحى عنهما قليلًا قليلًا، حتى صار في طرف الحصير، حيث لا مفر بعد ذلك … وأسرعت «زنوبة» فأخذت البقجة وفتحتها، وهي تثرثر، وتقول، وقد اتخذ صوتها لهجة الجد مع بعض الدهشة: ومن إمتى ياختي نينتك تحب تسمع البيانو؟

فأجابت «سنية»: دايمًا يا أبلا، ماما تحب البيانو، خصوصًا يوم ما تكون زهقانة … النهارده هي قاعدة لوحدها في البيت، مفيش وراها زيارات، ولا مشاوير، ولا حاجة، و«بابا» خرج من بدري زي عادته يقعد عند «أجزخانة الجوالي» … آه، شوفي يا أبلتي والنبي «ماما» كانت عايزة تعمل لك زيارة النهارده وانا اللي منعتها.

فقالت «زنوبة» في احتجاج: ليه يا «سنية»؟ … يا ندامة!

فأجابت «سنية» في صوت لعوب مرح، وهي تشير إلى فستان «زنوبة»: علشان كنت عارفة انك مشغولة بفستانك، وخفت الزيارة تعطلك … مش عملت طيب يا أبلا؟

فقالت «زنوبة» وهي تربت على كتف «سنية» الجميلة: يا سلام على ذوقك ولطفك يا «سنية»، لكن والنبي مالكيش حق، هي نينتك كانت حاتعطلني في إيه، نهايته، ياللا نشوف التفصيل بالعجل وننزل، ألا مايصحش نسيب نينتك لوحدها.

وتناولت فستانها بسرعة، وعرضته على «سنية» قائلة: آدی ياختي بسلامته فستاني الجديد، شوفي القماش، كريب دي شين من العال. لكن مايجيش زي قماشك، أعمل إيه، غلبت أسأل عند اللي اسمه «بلاتشي» و«المواردي» و«الجمال» … لفيت ياختي لما دابت ركبي … لكن أرجع واقول: أهو برده يقضي … ماتفتكريش إنه رخيص؟ التمن واحد ياختي وحياتك، روحي اسألي.

ثم التفتت إلى «محسن»: أهو فستاني راح يبقى زي ده؟

فصار وجه الفتى كالنار احمرارًا وحرارة، وأجاب متحمسًا في صوت مرتجف: دا بديع جدًّا؟

فتحولت «زنوبة» نحو «سنية» وضربت بلطف على ذراعها البضة وقالت: شايفة ازاي يا «سوسو» فستانك عجبه؟!

فرفعت الشابة الجميلة رأسها، وألقت نظرة مؤدبة على «محسن» فخفض بصره، وردد مؤكدًا في تلعثم: جدًّا.

ثم بحركة طائشة مد يده، يبحث عن كتابه، وهو يتجنب النظر إلى «سنية».

ولاحظت الفتاة حيرته، فأخفت ابتسامة خفيفة، ثم التفتت بعينيها السوداوين كعيني الغزال ذواتي الأهداب السود الطوال، ونظرت إلى الكتاب الذي في يد «محسن» وسألته في شيء من التحفظ يخالطه دلال وسحر: دي رواية؟

فأجاب «محسن» بدون أن ينظر إليها، وهو يشير بأصبع مرتجفة إلى عنوان الكتاب: لأ، دا ديوان شعر «مهيار الديلمي».

فقالت «سنية» بصوتها الرقيق: حضرتك تحب الشعر؟

فتردد «محسن» لحظة، ثم رفع رأسه فجأة، كمن صمم أن يتشجع قليلًا، وقال لها وهو يحمر، ولكن في ابتسام: أيوه، وحضرتك؟

فأجابت: أنا … في الحقيقة، أفضِّل الروايات، ومع ذلك أحب بعض قصائد وأزجال أغنيها على «البيانو».

وما سمعت «زنوبة» كلمة الغناء، حتى وضعت فستانها في حجرها.

والتفتت بقوة إلى «سنية»، وقالت في تحمُّس: و«محسن» كمان يختي، ماتعرفيش إنه بيغني؟ … دا عليه صوت يا «سنية هانم»، أنا ما حكيتلكيش إنه وهو صغير كان اسم الله عليه بيغني مع «الأوسطى شخلع» العالمة في التخت؟

فدهشت «سنية» وقالت: بتهزري والا صحيح؟

ثم نظرت إلى «محسن» بعين الاستفهام …

ولكن «محسن» تحاشى نظرتها، وطفق يقلب صفحات كتابه، ثم قال بصوت خافت وهو يتلعثم: دا كان زمان.

فسألته «سنية» مبتسمة وفي سرور لذيذ: صحيح كنت في «التخت»؟

فأجاب وهو يحاول هذه المرة أن ينظر إليها، لكنه ما لبث أن غض بصره أمام عينيها السوداوين الخلابتين: كنت غاوي.

وأسرعت «زنوبة» فقالت راجية: «محسن» غني لنا: «قدك أمير الأغصان!»

فصاحت «سنية» الجميلة في إعجاب: غنوة «عبده الحامولي» المشهورة؟ ولكن دي مين يقدر يغنيها؟ دي قديمة وصعبة خالص.

فأجابت «زنوبة» على الفور وهي تشير إلى «محسن» بثقة وتباهٍ: عارفها اسم النبي حارسه … قول يا «محسن».

فاحمر وجه الفتى الصغير، وارتبك ثم قال في لعثمة: أنا ماعرفهاش دلوقت … نسيتها.

فابتسمت «سنية» بفتنة ومكر، وقالت: ربما «محسن بك» مايعرفش يغنيها من غير آلات.

فتنفس «محسن» الصُّعَداء، وقال وهو يومئ برأسه بقوة، علامة المصادقة: أيوه … صحيح … تمام.

ولكن «زنوبة» نظرت إليه بطرف عينها، وقالت: آه يا كداب، دا انت لسه امبارح مغنيها لي تحت في الفسحة … أصلك انت بس مكسوف دلوقت.

فرفع «محسن» رأسه متشجعًا، وقال: لأ … أبدًا … امبارح غنيت، لأنك مسكتي لي قصعة الشوربة بصفة رق.

فانطلقت «سنية» تضحك بملء فيها، وقد بدت أسنانها المنتظمة، كأنها حجارة كريمة مرصعة، ولم يفهم «محسن» أول الأمر سبب ضحكها؛ فقد نطق عبارته الأخيرة ببساطة وبشكل عادي، فالتفت إليها في احتراس وتحفظ وأدب. وما إن أدرك أنه نجح في حملها على الضحك، حتى احمر وجهه في الحال. ثم أحس بعدئذٍ شيئًا من الزهو، كأن قلبه تداعبه أنامل سعادة دقيقة خفيَّة جديدة عليه حتى الساعة؛ إذ لا عهد له بمثلها قط من قبل، ونهضت «سنية» وهي تبتسم وتقول عارضة عليه في جد: طيب وإذا كان بدل الرق «بيانو»؟

فصاحت «زنوبة»: والنبي عليكي نور، لكن يا ترى نينتك ماتقولش حاجة؟

فقالت «سنية» وهي تلفظ الكلمات في دلال: بالعكس … «ماما» تحب قوى غناوي المرحوم «عبده الحامولي» علشان وهي صغيرة سمعته كتير في حياته.

فالتفتت «زنوبة» إلى «محسن» وقالت له وهي تنهض هي الأخرى: تعال معانا بقا يا «محسن».

ومع أن الفتى أحس في أعماق قلبه سعادة لا توصف لهذه الدعوة؛ فقد تردد في خجل: لكن … بس.

فقالت «سنية» بصوتها الحلو، وهي تقترب من الحائط: تعال يا «محسن بك»، مالكش حق تتردد، أنا وعدت اني رايحة اسندك بالبيانو … «بارول» «دونير».

فدق قلب «محسن» دقًّا قويًّا كأنما هو خائف، ولكنه نهض أخيرًا واتجه نحو الحائط كما فعلت المرأتان.

فلم تمضِ لحظة حتى كان الثلاثة قد عبروا ذلك الحائط الفاصل، وأصبحوا في سطح الجيران. أي سطح منزل «الدكتور حلمي»، وهناك ساروا إلى باب السطح المؤدي إلى السلم، حيث نزلوا إلى داخل البيت.

وعند ذاك وجدوا أنفسهم في ردهة واسعة جميلة الرياش، مملوءة بالسجاجيد والأرائك الموشاة بالقصب، ومعلق على جدرانها رءوس غزلان سودانية محنطة وأسنان أفيال، وكذا على باب المدخل قد علق أيضًا تمساح هائل محنط من تماسيح السودان.

وتساءل «محسن» في نفسه عن سر وجود تلك الآثار السودانية بالمنزل، وسرعان ما تذكر أن والد «سنية» «الدكتور أحمد حلمي» كان طبيبًا بالجيش المصري، ولا بد أنه قضى زمنًا في السودان كأغلب رجال الجيش.

تركت «سنية» ضيفها في «الصالة»، وأسرعت تبحث عن والدتها، فوجدتها في حجرة نومها وقد مدت سجادة صلاة صغيرة وهي تختم صلاة العصر فانتظرتها «سنية» حتى انتهت من الصلاة، واقتربت منها وقالت: ماما … أنا جبت معايا ضيوف: أبلتي «زنوبة» و.

ثم وقفت مترددة.

وأخذت والدتها تصلح وضع طرحة الصلاة الحريرية البيضاء فوق رأسها وقد طوت السجادة الصغيرة، ثم نهضت وهي تقول فرِحةً: والله بركة، أهلًا وسهلًا بها.

فأضافت «سنية» على عجل متظاهرة بعدم الاكتراث: هي وابن اخوها «محسن».

فنظرت إليها والدتها وقالت: ابن اخوها؟!

فقالت «سنية» في شيء من القوة: أيوه، ابن اخوها «محسن».

فتجهَّم وجه والدتها قليلًا، وقالت: أهو ده اللي ناقص، جايبة راجل هنا.

فتضاحكت «سنية» في تهكم: راجل؟ … ودا اسمه راجل؟ … ولد صغير زي ده!

ثم اتخذ صوتها لهجة الجد: ماسمعتيش يا ماما؟! بيقولوا إن صوته جميل قوي، دلوقت يغني لك غناوي «عبده الحامولي».

فكبُر الأمر على الأم، فقالت مستنكرة: إيه اللي انتي بتقوليه ده؟! … ما شاء الله! يغني لي أنا؟ … راجل؟!

فقالت «سنية» في شيء من الجفاء: برضه بتقولي راجل؟! قلت لك يا ستي مش راجل، دا زي ابنك أو ابن ابنك.

ولكن الأم لم تشأ الإصغاء، وقالت وهي تدير ظهرها لابنتها: مابقاش إلا كده هي دي رخره موضة؟ عايزاني أنا رخره أقل عقلي على آخر الزمن؟

فلم تُجِب «سنية» ولبثت لحظة ساكنة تنظر إلى والدتها في غيظ، واستطردت الأم تقول: طيب انتي يا بنتي زي بتوع اليوم … ماشيين على السخامة الموضة … ما حد يقدر يقول لكم تلت الثلاثة كام؟ وأمك رخره عايزة منها إيه؟ لأ … اعملي معروف سيبيني في حالي واعتقيني كرامة للنبي، ربنا يهديكي.

فضاق صدر «سنية» وتناولت يد والدتها تريد أن تقودها، وهي تقول ببعض الحدة: ماتضحكيش علينا الناس، قلت لك دا طفل، طفل تعالي شوفيه بعينك، تعالي.

فقالت الأم مترددة في ضعف وخوف: لكن يا بنتي.

فقالت «سنية» في الحال بقوة: مفيش لكن … انتي بتزوديها وبتبالغي خالص، تعالي شوفيه الأول وبعدين اتكلمي.

– بس يا بنتي، ماتسحبينيش كده، اعملي فيَّ معروف، إنتي اللي دايمًا ساحباني وراكي حاتضحكي عليَّ الناس، المرة دي وحياتك ما اسمع كلامك أبدًا.

وحاولت أن تتخلص من يد ابنتها.

ولكن «سنية» لم تتركها، وقالت محتفظة بمظهرها الجدِّي الآمر، ولكن في شيء من اللطف والرفق: لا يا ماما … لازم تسمعي كلامي؛ علشان أنا عارفة أكثر منك … تعالي.

فقالت الأم يائسة: روحي انتي … روحي انتي لوحدك، ليه بس أنا رخره؟ آه يا وعدي يانا، دا كان مستخبي لي فين!

فقالت «سنية» بصوت الغضب، وهي تجذب والدتها: لازم تیجي معايا يا «ماما»، ومايصحش أبدًا. أنا وعدت … ماقدرش ارجع في كلامي، يقولوا إيه؟ … ياللا بنا بقا … قوام، إلا دول منتظرين في الصالة من زمان.

فقالت الأم وهي تنظر إليها بخوف: طيب استني، ما دمتي مشددة … أما البس بقا البرقع.

ففقدت الفتاة صبرها، وصاحت: برقع، يا دي المصيبة، برقع علشان ولد صغير؟! انتي رايحة تضحكي علينا الناس بالتأكيد … اسمعي يا ماما، أرجوك مفيش لزوم، صدقيني لو كان دا شيء مايصحش، كانت أبلتي «زنوبة» أول من لاحظ … كمان ماتصدقيش «زنوبة»؟ … واحدة زيك ومن عصرك؟ … ومع ذلك هي اللي جايبة ابن اخوها علشان يشوفك. ولو كانت شافت إن دا عيب ماكنتش عملت كده.

ويظهر أن هذه الحجة الأخيرة أقنعت الأم؛ لكن على الرغم من ذلك، فقد نظرت لحظة إلى ابنتها كأنما تبحث في عينيها لآخر مرة عما تقتنع به وتطمئن ثم لفت رأسها الذي وخطه الشيب لفًّا محكمًا بالطرحة البيضاء، محاولة أن تخفي معظم وجهها، وقالت: وهمَّ فين؟

فتنفست «سنية» كمن أغاثها الله أخيرًا، ومشت تقود أمها في صمت حتى وصلت بها إلى «الصالة» الكبيرة، وعندها تركت «سنية» أمها. وتقدمت بسرعة نحو «محسن» و«زنوبة» الجالسين على إحدى الأرائك وقالت لهما معتذرة عن التأخير والإبطاء.

– ماتآخذوناش، ماما كانت في الصلاة.

واقتربت عندئذٍ «أم سنية»، ومدت رأسها لتقبِّل وجنات «زنوبة» وهي تقول: أهلًا «بزنوبة هانم»، يا ميت ألف مرحبا.

ثم التفتت إلى «محسن» ومدت له يدها اليمنى بالسلام، بينما هي باليسرى تحبك وضع الطرحة، لتخفي ما ظهر من وجهها: شرفت يا «محسن أفندي».

ثم بلهجة يخالها السامع الخالي الذهن ترحيبًا أو مجاملة أضافت: دا اسم الله أهو راجل.

ولفظَ «محسن» كلمتين أو ثلاثًا، مضغها مضغًا، ثم استمر في إطراقه ونظره إلى الأرض.

وكأنما أرادت والدة «سنية» أن تظهر ترحيبها «بمحسن»، فاستطردت تقول موجهة إليه الكلام، في صوتٍ جدِّيٍّ رزين: نينتك يا محسن أفندي ست أميرة طيبة.

فرفع «محسن» رأسه في خجل وحياء، وقال: تعرفي والدتي يا تيزه؟

فتدخلت «زنوبة» مسرعة في الحال: يا ندامة، أمال! … ماكنتش عارف يا «محسن»؟ بس ده شيء بقى له زمان.

فأضافت «أم سنية»: زمان قوي، في عين العدو، دلوقت هلبت تكون نسيتني … فين من أيام ما كنا بنات صغار، أصلنا كنا جيران أولاد حارة، وكنا نلعب كلنا بنات الحارة مع بعض قدام بيتهم، نينتك كانت بنت أتراك، من عيلة تركية، وكانت أصغرنا، لكن كانت شيختنا. وكلنا كنا نخاف منها، ونحسب حسابها، بنت الجندي التركي أبو شنب أصفر. ومفيش لعبة إلا ونعملها هي الريسة، وكنا مسميينها الملكة بنت السلطان، كانت تحب تميز نفسها عنا؛ إن لبسنا في العيد أحمر تلبس هي أخضر، وإن لبسنا أخضر، تلبس أحمر، ويا ويلنا نهار ما تزعل منا، كانت تقول: أنا بكرة ابقى غنية خالص. واشتريكم عندي جواري وعبيد … آه، أيام فاتت … يا ماحلاها …!

وأمسكت عن الكلام، ورفعت رأسها إلى السماء؛ كأنها تحن إلى طفولتها اللذيذة.

وكانت لحظة صمت وسكون، قطعتها أخيرًا «سنية» قائلة في لهجة مرحة مبتهجة: ياللا كلنا على البيانو … على الصالون … من هنا.

وسارت تقود خلفها الجميع، حتى دخلت بهم «صالون الاستقبال» ذا الشرفة الخشبية، التي تطل على «شارع سلامة»، و«قهوة شحاتة» وهو حجرة متوسطة الاتساع، مؤثثة برياش على الطراز الأوروبي، من مقاعد «فوتيل»، ووسائد ومصابيح كهربية، ومن «بيانو» أسود في زاوية المكان … يقابله باب الشرفة مفتوحًا على اتساعه.

قفزت «سنية» في خفة الغزال على «البيانو» وبدون أن تنتظر حتى يأخذ كل مجلسه، كانت أصابعها المتمرنة قد مرت على مفاتيح «البيانو» العاجية، وأخرجت صوتًا سريعًا كتغريد العصافير، ثم وقفت فجأة والتفتت إلى ضيوفها، وقالت مخاطبة الفتى الذي اتخذ له مقعدًا في طرف الحجرة: ليه قعدت بعيد كده يا «محسن بك»؟

وأشارت إلى كرسي بقربها، وقالت: تفضل هنا.

فنهض «محسن» بسرعة؛ كأنما وُخز بإبرة، وأسرع إلى الكرسي المشار إليه؛ كما يذعن الوسيط النائم لأمر منومه.

وعندئذٍ قالت «سنية» مبتسمة: أيوه كده، دلوقت تقدر تغني معايا، وريني بقا ازاي تبتدي الغنوة القديمة دي؟

وضربت بيد واحدة نغمة، جعلت تدندنها بصوت خافت، ثم التفتت بقوة إلى والدتها و«زنوبة» اللتين ما فتئتا تثرثران من ساعة دخولهما، وصاحت بهما: اسمعوا بقا من فضلكم، رايحين نبتدي.

فردَّت «زنوبة»: أيوه ابتدوا، ربنا يقويكم، أدحنا سامعين جاهزين.

ثم التفتت إلى والدة «سنية» التي بجوارها، وقالت لها في تفاخر وتعاجب: دلوقت تسمعي «عبده الحامولي».

فدهشت الوالدة، وقالت مأخوذة: والنبي صحيح؟ … يعرف اسم الله يغني غنا «عبده» على صغره؟ … محفض.

فأشارت «سنية» بالسكوت، ثم نظرت إلى «محسن» وقالت: ياللا يا «محسن بك»، فارتجف الفتى، لكنه لم يرَ بدًّا من الامتثال، فنهض واقترب من «البيانو» وهو لا يدري ما يفعل، ونظرت إليه «سنية»، وأناملها فوق المفاتيح، وقالت له بابتسامة ونظرة تُسكران: أما اقول لك الحقيقة يا «محسن بك»، إياك تعتمد عليَّ بصحيح.

وكان صوتها كالموسيقى، فأحس الفتى بالدم يصعد في رأسه، وشعر بنشوة حارة، وأحس في نفسه شجاعة الثمل، فقال في لهجة عتاب خفيفة: دا وعدك يا «سنية هائم»؟ يعني في آخر لحظة ضحكتي على دقني!

فضحكت «سنية»، وبدا فمها وأسنانها كالكأس السحرية، تقلب الرءوس على البعد بغير شراب، وأجابت: أؤكد لك، ماضحكتش على دقنك، بس أصل الغنوة صعب ولسه ماعرفهاش، ابتدي انت الأول يا «محسن بك»، أرجوك.

ثم اعتدلت في جلستها إيذانًا بالابتداء.

فتردد «محسن» لحظة وارتبك، ثم فتح فاه وأقفله ولم يلفظ بعدُ حرفًا ولم يخرج صوتًا، فنظرت إليه «سنية» تدعوه إلى الغناء بنظرة لا تعصى، ثم … ولكي تشجعه جعلت تضرب على «البيانو» ما تظنه النغمة الأصلية لهذه الأغنية.

وعند ذاك سمع الحاضرون صوتًا يخرج ويرتفع رويدًا رويدًا، مرتجفًا قليلًا بادئ الأمر، ولكنه أخذ يثبت ويستقيم، ويتضوع في فضاء المكان حلوًا حارًّا، في نغم متنوع دقيق، ولم تكن «زنوبة» تصغي وتستمع، بقدر ما كانت تنظر إلى وجه والدة «سنية» لتتعرف فيه مبلغ وقْع الغناء، حتى إذا ما تأكدت من دهشتها وعجبها واستحسانها، أخذت تهز لها رأسها في تباهٍ وفخر، وتشير لها إلى «محسن» إشارات الثقة بمقدرته ونبوغه.

وأُخِذت والدة «سنية» حقيقةً بصناعة «محسن» ومهارته، فجعلت تنصت بانتباه غريب، وكانت «سنية» تصغي أيضًا إلى «محسن» بسرور ولذة، وتنظر إلى سقف الحجرة مبتسمة طروبًا، وتردد بعض النغم في نفسها معه، ولكنها ما فطنت قط إلى أن المغني إنما يعنيها هي، ويفكر فيها هي، وهو يغني أغنية «عبده»:

قدك أمير الأغصان
من غير مكابر
وورد خدك سلطان
على الأزاهر
الحب كله أشجان
يا قلب حاذر
الصد ويا الهجران
جزا المخاطر

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤