الفصل الثاني والعشرون

لم يمضِ وقت طويل حتى انقلب حال شرفة «مصطفى» الصغيرة وبدت عليها مظاهر حياة أخرى، فبعد أن كانت مغلقة ليل نهار مهملة، تتراكم على أرضها وحاجزها الأتربة لا يذكر وجودها هو لقلة مكثه بالدار، ولا يشملها خادمه بنظرة لانصرافه إلى شئون أخرى؛ غدت الآن محل الاهتمام الأول، مفتوحة ليل نهار، وقد اصطفَّت فيها أصص الأزهار والرياحين وأصبح «مصطفى» ينفق فيها من وقته ما كان ينفقه بالقهوة.

منذ هذا التغير و«مصطفى» سعيد برؤية «سنية»، قلما يمر يوم لا يشاهدها فيه ولا يحادثها، ولكن أي سحر تسلط عليه ولن ينساه أبدًا، يوم سمع صوتها لأول مرة ترد عليه تحيته، مبتسمة من نافذتها في جوف الليل، ثم تلك الأحاديث المقتضبة اللذيذة في الأيام التالية! إنه ما كان يعلم أن هذه الفتاة على هذه الدرجة من الذكاء … ما ألذ حديثها، وأحسن ردودها، وأظرف إيماءاتها! لقد أيقن «مصطفى» أنه استكشف فيها بعد محادثتها مواطن جمال أخرى، تضاف إلى جمال الهيئة والجسد: أجمال روح؟ … لا يدري! إنه فقط يعلم أنه بات يحبها ألف مرة، أشد من ذي قبل، ولا يطيق يومًا يمر دون أن يسمع صوتها؛ لذلك هو ينتظر الليل بفروغ صبر، يسترهما الظلام عن أنظار المارة.

ولكن، إذا كانت عيون المحبين ساهرة فإن عين «العذول» لا تنام؛ فما أسرع ما استكشفت «زنوبة» ما جدَّ في شرفة «مصطفى»! وهذا متيسر لها؛ فإن إحدى نوافذ حجرة الاستقبال تقع في أعلى شرفة «مصطفى»، تمامًا، وتطل عليها مباشرة، فما كان على «زنوبة» إلا أن تنظر منها إلى تحت فترى وتسمع كل ما يدور.

لذلك مضى عليها أيام وهي تغافل الجميع، وتدخل حجرة الاستقبال ليلًا وتظل ملازمة لها حتى تنتهي المحادثة تحتها؛ وكأنما لم تحتمل طويلًا كتمان ما ترى فما لبثت أن أسرَّت ذلك إلى «مبروك»، وأشركته معها في المشاهدة والمراقبة؛ لأنه الوحيد الذي لن يستطيع معارضتها، والذي يتقبل دعوتها وشركتها بغير مناقشة ولا شجار؛ لا سيما وقد بدت أخيرًا على الآخرين وفي مقدمتهم الصغير «محسن» أعراض هدوء غريبة ومخيفة. نعم، تخيفها، لا تدري؟ وتشعر معها بأنه مستحيل أن تفاتحهم في هذا الأمر.

وهكذا كلما جاء الموعد غمزت «مبروك» وذهبا إلى مركزيهما من النافذة، وأخذا يتتبعان … و«زنوبة» تهمس في أذن الخادم، بين فترة وأخرى، وهي تشير إلى ما يجري من حديث: سامع يا «مبروك»؟

فيهز لها رأسه وينظر كمُشاهد سينما، لا يريد أن يقاطعه أحد، ولكن في كل آونة تغمزه «زنوبة» وتلكمه في كتفه قائلة في غيظ: شايف المسخوطة؟

وأخيرًا اشتد هياج «زنوبة» وثارت عاطفة الشر عند المرأة الغيرى، فأبت إلا أن تعكر صفوهما بأي طريقة، وقالت «لمبروك» أن يذهب ويأتي «بالزعفة» والمكنسة وأن يتظاهر بتنظيف النافذة كي يتساقط على «مصطفى» التراب والغبار. فأجابها الخادم مستنكرًا: حد ينفض الشبابيك بالليل؟

فصاحت به: أهو احنا كده، حد شريكنا؟!

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل امتد إلى قذف الأقذار والأوراق وقشور الفاكهة والخضر من نافذة حجرة الاستقبال خصوصًا لتسقط على شرفة «مصطفى» … وتختار «زنوبة» وقت الليل أولًا، لأنه وقت الميعاد، وثانيًا كي تحتج إذا عارض أحد بأنها إنما تقذف هذه الأشياء إلى الطريق ليلًا وهو خالٍ، حتى يكسحها الكناس في الصباح.

لذلك ما كانت تنتهي من الطعام حتى تذكر «زنوبة» قائلة: خليك فاكر، اجمع قشر الخيار.

فيجيبها الخادم غامزًا بعينه: واخد بالي؛ علشان نرميه للبط؟

ولكن هذا كله ما كان طبعًا ليحول دون خروج «مصطفى» إلى الشرفة؛ غير أن ما كان يغيظه هو أنه لم يكن ليستطيع الاعتراض … لقد منعته «سنية» منعًا باتًّا أن ينبس بكلمة؛ فلقد فهمت «سنية» هذا التحرش، ورأت الأصوب الصمت والتظاهر بعدم الالتفات؛ فهي تعرف أن «زنوبة» لا تُغلب في مضمار الشجار، وأنها لا شك تود فتح بابه بأي ثمن، فلماذا التعرض لها وللسانها البذيء؟! … إذن … الاحتمال والسكوت المطلق عنها.

نعم أدركت «سنية» منذ البداية أن هذه أعمال «زنوبة» وحدها؛ فليس من إخوتها وأقاربها من يفكر في عمل كهذا، حتى «محسن» الذي قست عليه «سنية» وأساءت معاملته، وأخرجته شبه مطرود في ذلك اليوم لا يستطيع برغم هذا أن يفعل ذلك.

من الغريب أن هذا الخاطر ذكَّر «سنية» في لحظة «بمحسن» وبرزمته التي سلمها إياها قبيل رحيله، وألقت بها في غرفتها لا تدري أين؟ ودعاها ذلك إلى القيام للبحث عنها وقراءتها، وقد مضى عليها زمن وهي منسية مهملة.

فتحتها فتساقطت منها أوراق الشعر والنثر، فجعلت تطالع وتصادف اسمها مقرونًا بصفات الحب والعبادة، مرفوعًا في مخيلة هذا التلميذ الشاعر، وفي قلب هذا الصبي الصغير إلى مراتب الآلهة ثم قرأت قطعًا كالمذكرات يبثها فيها آلامه … استغربت «سنية» كيف استطاعت أن تجازيه على ذلك بهذه المعاملة الوحشية؟ وذكرت بكاءه أمامها وانصرافها عنه وقتئذٍ إلى التفكير في حبها هي، ثم كيف أنها دعته إلى الانصراف على نحو مذلٍّ؛ أهي تفعل كل هذا؟! هي التي على الأقل تعرف اللياقة؟! أهكذا المرأة إذا أحبت تنسى حتى اللياقة؟! … نعم إنها ظلمت هذا الفتى، هي لا تنكر ذلك، وتود لو تستطيع إصلاح ما حدث، لو تستطيع أن تخفف عنه؟ إن ضميرها يؤنبها، وتحس بوقر هذا الإجحاف، ولكن كيف؟ إنها امرأة تحب، وإنها لا تستطيع أن تتصرف في جزء صغير من قلبها، ولا من فكرها لشخص آخر غير …

هنا تزايل الظلم والمظلوم، ولم يبقَ «لمحسن» ولا لشعره ونثره أثر في نفسها، وقامت لساعتها إلى المرآة ثم نظرت إلى السماء، ثم إلى المنبه الصغير فوق منضدة السرير لترى ما بقي من الوقت على الليل.

•••

برز القمر مستديرًا في ليلة التمام، ودقت الساعة العاشرة، ونام أهل المنزل، وسكنت الحركة، فنهضت «سنية» من مقعدها الطويل، وارتدت في الظلام فوق قميصها الحرير «روب دي شامبر» من الموسلين الوردي، ورتبت بكفيها شعرها الجميل على عجل، ثم ذهبت إلى النافذة ففتحتها، فتدفق في وجهها نور القمر، فبغتت وتراجعت إلى قلب الحجرة مسرعة، ولكنها لم تلبث أن ابتسمت إذ رأت أنه نور الكوكب الفضي يضيء أرجاء الحجرة المظلمة … وعادت فتقدمت بغير خوف إلى النافذة فإذا «مصطفى» يضحك؛ كأنما رأى وفهم سر ذعرها اللذيذ … كان الشاب يرتدي «بيجاما» ياقوتية اللون، موشاة بشرائط ذهبية، تلمع في الضوء؛ كما كان يلمع شعره الكستني المتموج … كان كل ما فيه تلك الليلة الجميلة يدل على الثراء والجمال، وكانت هي صامتة ومبتسمة، تتأمل القمر في استدارته يطل عليهما من سماء «شارع سلامة» الهادئ تلك الساعة، فيعتريها فرح داخلي فتضحك ضحكة رقيقة يبدو من خلالها ماس أسنانها يبرق في شعاع القمر؛ وكأنما بهرها النور أخيرًا، فإذا هي ترفع يديها، وتفرك عينيها جذلة … و«مصطفى» يرنو إليها، مسندًا ذراعيه إلى حاجز الشرفة، وكأن قلبه فاض فجأة! فمد عينيه إليها، وقال بلهجة التأنيب تلطفها نبرة حب متهدجة: إنتي اتأخرتي الليلة نص ساعة.

فأجابت مبتسمة: صحيح!

– إيه بقا السبب؟

فنظرت إليه بخبث، ثم قالت ضاحكة: السبب؟ … عايزة اقطع عليك مناجاة القمر.

فقال لها على الفور: أي قمر؟

ثم أشار بأصبعه إلى نافذتها التي هي فيها، وقال: القمر الوحيد اللي اعرفه يطلع من الشباك ده.

فضحكت، وهي مطرقة في شبه حياء، وأرادت أن تقول شيئًا فأسرعت على نحو فجائي محسوس تقول: «مصطفى»، الليلة حر قوي!

فلم يجبها «مصطفى»؛ كأنما أمعضه هروبها بالحديث إلى ناحية أخرى لا معنى لها، غير أن هذه الجملة من «سنية» ككل جملها، لها كل القيمة عنده، وجعل «مصطفى» ينظر إلى الليل حوله … نعم كان الهواء ساكنًا، كأنه يكتم أنفاسه كي لا يعكر عليهما الهدوء … وذكر «مصطفى» أنهما الآن في أوائل «شهر مارس»، فقال وهو يستقبل بوجهه النور العائم الراقص في هذا الجو الراكد: ابتدا الربيع!

وهنا تنفس الهواء قليلًا، فهب نسيم رقيق داعب شعر «سنية» البديع، وبعثر خصلة منه على صدغها، وفوق جزء من إحدى عينيها، فرمقها «مصطفى» وهو يتقطع غرامًا، ويود لو يلثم تلك الخصلة على تلك العين، وباغتت «سنية» منه تلك النظرة الطويلة، فارتجفت، وخفضت بصرها في لذة داخلية، ثم عادت في شيء من الارتباك، فرفعت رأسها وأصلحت ترتيب شعرها الذي بعثره النسيم، ونظرت إلى السماء، وقالت ضاحكة في دلال ورقة: في الربيع — على رأي الروايات — تمطر السما بدل الميه والثلج ورد وأزهار.

ولم تكد «سنية» تتم جملتها حتى سقط على رأس «مصطفى» من السماء قشر كرنب وخيار.

فرفع رأسه إلى فوق وهو يصيح: أهي مطرت، وبدل الورد والأزهار، قشر كرنب وخيار!

ولم تتمالك «سنية» أن أدارت وجهها، وانفجرت ضاحكة … وأراد «مصطفى» أن يتوجه بالكلام إلى النافذة التي فوقه والتي سقط منها الكرنب، لكنه ذكر تنبيه «سنية» ومنعها إياه، فالتفت إليها، وأشار لها بيده سائلًا: أسكت كمان المرة دي؟

فأجابته «سنية» مشيرة بأصبعها وعلى فمها علامة الصمت.

فتمتم «مصطفى»، قائلًا: أمرك.

ولكن خطرت له فكرة فجائية، فأشار إلى «سنية» بالانتظار قليلًا في مكانها، ثم دخل وغاب لحظة، ثم عاد حاملًا مظلة في يده، فتحها ووضعها فوق رأسه يتقي بها …

فما رأت «سنية» ذلك حتى أغرقت في الضحك، وهي تحاول ألا يرتفع صوتها.

في هذه اللحظة أيضًا غمزت «زنوبة» «مبروك» المتعب المتثائب من الوقوف والسهر والمراقبة، ولفتت نظره إلى مظلة «مصطفى» هامسة: شوف يا «مبروك»، شوف المضروب طالع لنا بتقليعة جديدة.

فنظر «مبروك»، وحملق إلى المظلة، ثم قال: دي بلا قافية عاملة زي الشمسية.

– ما هي شمسية … جاتك خيبة، أمال هي إيه؟

فنظر «مبروك» إلى القمر الوهاج، ثم قال: لازم خايف تصيبه ضربة شمس.

فصاحت به «زنوبة» في همس: جاتك نيلة، دا القمر.

فقال «مبروك»: زي بعضه، دي حتى من غير مؤاخذة ضربة القمر أقوى.

فقالت «زنوبة» بقلب خافق، وهي ممسكة بقشرة قلقاس كبيرة، ستضرب بها رأس «مصطفى»: ضربة أنهي قمر يا «مبروك»؟

قالت ذلك بصوت متغير خافت، التفت له «مبروك» في الحال، ونظر إليها وإلى القشرة التي بيدها، وفهم ما تريد بجملتها هذه. فقال في نفسه: يا حفيظ!

فألحت عليه «زنوبة» وهي تهم بالضربة: ضربة أنهي قمر؟

فأجاب «مبروك» في الحال كالمتملق: القمر أبو قلقاس.

فضحكت «زنوبة» متكلفة الرقة، وقد أعجبها قول «مبروك» وصدقته، وقالت متلطفة ممازحة: آه يا كدَّاب.

وقذفت بقشرة القلقاس على مظلة «مصطفى»، وهي تقول: هو ده بيحس بضربة حد؟

ثم دست يدها في «صفيحة الزبالة» بجانبها، وغمزت «مبروك» وهمست: إياك يا «مبروك» تهمد والا تنام، الصفيحة لسه مليانة.

فأجابها الخادم: هدي خاطرك انتي وروقي بالك وروحي نامي … ألا بلا قافية ما تروحي انتي تنامي.

فنظرت إليه «زنوبة» نظرة شك وارتياب، وقالت: يعني اتكل على الله وعليك، واروح انا؟

فأجاب «مبروك» على الفور: قوي … قوي، حطي في بطنك «قشرة» بطيخة صيفي، أنا وشرفك ما اتحرك من هنا إلا بعد ما افرغ صفيحة الزبالة بحالها على راسهم.

فمشت «زنوبة» وقد أنهكها التعب والوقوف هي أيضًا، ولكنها التفتت إليه قبل أن تبرح الحجرة، وقالت منبهة: أظنك رايح تدلقها مرة واحدة وتمشي، قشرة قشرة زي ما علمتك، فاهم؟

– حاضر، على راسي، قشرة قشرة. روحي انتي بقا من غير مطرود!

وترددت «زنوبة» ووقفت غير مؤمنة «بمبروك»، وقالت في نفسها من يضمن لها تنفيذ المهمة على ما يرام. إنها تريد أن يقطع عليهما الحديث بهذا الرذاذ «الكرنبي» حتى ينتهيا دائمًا إلى لا شيء ولا يتم بينهما كلام أو اتفاق.

فعادت أدراجها إلى «مبروك» تكلمه في ذلك، فضاق الخادم بها ذرعًا، وصاح بها: ودي شغلة إيه دي؟ مش لك عليَّ من غير مؤاخذة أفركش لك شملهم الليلة؟ وحياتك عندي لاخليها عليهم آخر ليلة في دي البلكون. روحي نامي بس!

فاطمأنت «زنوبة» قليلًا للهجة «مبروك» القوية، ورددت مستبشرة: آخر ليلة لهم، طب أما اشوف شطارتك، والنبي دا يبقى لك عندي الحلاوة.

وسارت إلى الباب في بطء وتمهل، و«مبروك» ينظر إليها مستحثًّا ويقول: أيوه كده زقي عجلك.

وخرجت «زنوبة» أخيرًا من الحجرة، وتركت «مبروك» يتنفس الصُّعَداء، ويقول ناظرًا إلى حيث ذهبت: إن شا الله تنقرضي، يعني يا ربي مش حرام عليكي كل ده؟

ونظر من النافذة تحت — في احتراس وتأمل — هذين المتحابين الجميلين، وتحرك فيه إحساس الإنسان إذ يرى حمامتين أو عصفورين جميلين، ذكرًا وأنثى يتناجيان؛ ولعله الإحساس بالجمال، إحساس التناسق.

لا شك أن هذا الإحساس هو الذي جعل «مبروك» يقول، وهو ينظر إليهما، وضوء القمر الجميل يظلهما بجناحه: وحياة النبي حلوين، الله يهنيهم ببعض.

ثم ترك الحجرة حاملًا صفيحة الزبالة، ومشى على أطراف قدميه، حتى وصل إلى نافذة المرحاض التي تطل على حارة صغيرة خلف المنزل، فألقى ما بها من قشر، ثم ذهب إلى فراشه، فوق مائدة الطعام في هدوء، وهو يقول لنفسه: هو كان الجدع انعمى لما يبص بلا قافية، لوش الحصان «زنوبة»، اللي ما هي عاجباني انا يا فقير.

وهكذا انقطع المطر عن «مصطفى»، غير أن هذا لم يمنعه من القلق، ومن نشر المظلة فوق رأسه، وأنى له أن يدري أن لا محل للخوف منذ الآن؟

ورأت «سنية» قلقه، فقالت له في لهجة جد أزعجته وأغضبته: أحسن طريقة انك تعزل من البيت ده.

ولكنه اكتفى بأن رمقها بنظرة حزن وغضب وتقريع.

غير أنها تجاهلت، وقالت في خبث: إلا إذا كانت أجرته رخيصة.

فثار «مصطفى»، وقال منفعلًا: أجرته؟

فقالت في هدوء وابتسام ومكر: طيب ماتزعلش، بلاش أجرته … قريب لشغلك.

فلم يُجِب «مصطفى»، وأطرق قليلًا، ثم رفع رأسه وقال: بالعكس.

فقالت متظاهرة باستغراب: بعيد عن شغلك؟

فقال «مصطفى» على الفور: جدًّا، جدًّا، جدًّا!

فقالت «سنية» في الحال: وليه تسكن بعيد عن شغلك؟

فأجاب «مصطفى» فورًا، وفي شبه احتجاج: عايزاني أسكن في المحلة؟ … مستحيل.

– المحلة؟

– أيوه المحلة، المحلة الكبرى.

شغلك في المحلة الكبرى وساكن هنا؟ انت صنعتك إيه؟

– صنعتي؟ … صنعتي؟

– إذا كنت مكسوف تقول، بلاش.

– أبويا صاحب محل «مانيفاتورة راجي» بالمحلة الكبرى.

– وانت؟

– أنا؟

– «صاحب كيف» تقعد على «قهوة شحاتة»؟!

قالت ذلك متخابثة ومتقاسية، وهي تخفي فمها بكمها الحريري الواسع؛ حتى تخفي ابتسامتها. وصمت «مصطفى» قليلًا مبغوتًا، ونظر إليها … إلى عينيها السوداوين الظاهرتين فوق كمها … وحسب لأول وهلة أنها تهزأ به، فغلى دمه وانفجر يحدثها بكل تاريخه، وبكل شئونه في صدق وإخلاص، فأعلمها برغبته في تصفية المحل أو بيعه للخواجة «كازولي»، وعن ميله إلى الالتحاق بوظيفة في إحدى مصالح الحكومة حتى يظل في «القاهرة»، وأنه لم يقدم على خطبتها من أهلها حتى الآن لأنه لم ينفذ خطته بعد، وأنه متى حصل على الوظيفة، وأقام في مصر، فأول ما يفعل أن يبحث عن منزل آخر لائق في حي حديث، ويبعث امرأة خاله تاجر القطن، تخطب «سنية» إلى أمها؟

أصغت «سنية» إلى كلامه الطويل، ولم تكن تجهل أغلبه … إنها بذكائها قد أدركت من قبل، ولكنها أرادت أن تعلم من فمه حقيقة أمره، فاحتالت حتى استدرجته على هذا النحو.

وعندما أتم كلامه وصمت مطرقًا أخفت «سنية» رأسها بين ذراعيها وأفرغت كل ما في نفسها من ضحك وسرور، ثم رفعت رأسها متظاهرة بالتجهم والغضب، وقالت: كل اللي فهمته منك دلوقت، إنك وارث، زي الوارثين العاطلين، اللي بنقرا عنهم في الكتب.

فالتفت إليها مأخوذًا.

وابتعدت «سنية» قليلًا عن نافذتها، وقالت في لهجة غضب وازدراء: حضرتك طالب وظيفة، وكمان كنت عايز تخطبني؟

ارتعد «مصطفى» ونظر إلى وجهها المكفهر وشفتيها المرتسم عليهما الاحتقار، فخيل إليه أنه لا يفهم شيئًا، وأن «سنية» تغيرت في لحظة على نحو يرعب؛ وأراد أن يتكلم ويستوضح، أو يتوسل ويستعطف، ولكنها لم تمهله، بل أمسكت بعارضتَي نافذتها، وقالت: كنت فاكراك أحسن من كده!

ولم تزد، وأغلقت النافذة في وجهه.

فاسود كل شيء في عين «مصطفى».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤