الفصل الثالث والعشرون

جاءت الليلة التالية، وخرج «مصطفى» إلى شرفته ينتظر «سنية»، وهو في أشد حالات القلق؛ خائفًا أن تكون جادة فيما فعلت البارحة، وأنه لن يراها، وظلت الساعات تمر وهو مصوب عينيه إلى نافذتها المغلقة؛ في شبه تضرع، وكلما ذهب من الليل جزء اهتز يأسًا، وطلب إلى الله في حرارة أن يمن عليه برؤيتها الليلة ولو دقيقة واحدة … لأن غيبتها عنه أمر لا يطاق، ولأن غيابها الليلة بعد ما حدث بالأمس، له معنًى مخيف.

فلتبرز الليلة كي يطمئن، ولتغب مرة أخرى إذا شاءت … إنه ليشتري منها اللحظة من هذه الليلة بأي ثمن.

لم تفد شيئًا هذه التضرعات التي لم تخرج من حدود صدره الضائق، ولم يعرها أحد اهتمامًا، ولم يعلم بها حتى الليل الساكن حوله الذي مضى أكثره وهو ما زال ينتظر في أمل.

•••

مرت ثلاث ليال على هذا النحو خالها «مصطفى» ثلاثة أعوام. أي جحيم هو فيه الآن؟! لقد كان في «الفردوس» ولا يدري، وخرج منه لا إلى الأرض فقط، بل إلى الجحيم مباشرة.

وما الذي جناه؟! ما هي تلك الشجرة المحرمة التي عصاها فيها؛ حتى تخرجه وتطرده من الهناء الذي كان فيه، وتمنع عنه نورها الذي كان ينبثق من هذه النافذة؟

وجعل «مصطفى» يسترجع في ذهنه كل عباراتها الأخيرة، عسى أن يهتدي إلى سبب غضبها؛ إذ من ساعة غيبتها لم يكن يفكر إلا في شيء واحد: وحشته القاتلة بدونها.

أتراها ازدرته لأنه وارث عاطل، ولكنه قال لها إنه يبحث عن وظيفة؛ أم تراها ازدرته لأنه ترك محل تجارته وعمله وجاء يقطن القاهرة، وذكر قولها: «وانت «صاحب كيف»، تقعد على قهوة شحاتة؟!» إنه ليس يدري قصدها تمامًا، ولكن إحساسًا خفيًّا هتف به أنه حقيقةً وارث عاطل، وأنه يستحق في الواقع احتقارها، إن مثله أمامه عمل هائل بدأه أبوه، وكان ينبغي له أن يستمر فيه … لو أنه شيء آخر غير وارث عاطل كسلان واهن الهمة … ولأول مرة أحس احتقاره لنفسه، ودب فيه فجأة شيء من القوة والعزم، ولمعت عيناه؛ وكأن حجابًا من الغمام انقشع عن بصره، فرأى الحقائق واضحة، وإذا هو يقول في نفسه: أما انا مغفل صحيح، وظيفة بعشرة جنيه، مع إن المحل لو اعتني به يكسبني على الأقل ١٠٠ جنيه إيراد شهري؟

ثم ذكر قولها: «حضرتك طالب وظيفة؟ وكمان كنت عايز تخطبني!»

أتراها احتقرته لأنه يبحث عن وظيفة حقيرة، مع أن لديه عملًا أهم وأجدى … نعم لقد فهم الآن، أوليس لها كل الحق في احتقاره واتهامه بالغفلة، أو على الأقل بنقص في الرجولة والنشاط؟

– أنا كنت فاكرة إنك أحسن من كده!

هذا كان آخر ما قالت له.

وهنا نهض «مصطفى» كأن قوةً دفعته، وصاح بخادمه أن يهيئ حقيبة السفر، وازدحمت في رأسه الأفكار والمشاريع والأعمال، وأحس قوًى في نفسه قد انكشفت له.

وبرق في رأسه خاطر: أترى غضبتها عليه مدبرة؟ كي تستثير فيه وتستحث ذلك النشاط الخامد؟ من يدري؟! إنها في غاية الذكاء؛ وأحس رغبة هائلة في رؤيتها، على أي حال لن يستطيع مغادرة المكان بدون إخبارها بما اعتزم … إنه مستعد لفعل العجب والمحال من أجلها … كذلك لا بد له أن يعلم منها شيئًا عن أمر مستقبلهما؛ كما علمت هي عن ماضيه وحاضره، إنه لا يحجم عن سكنى «المحلة الكبرى»، بل أقاصي الصعيد ما دامت هي معه.

ولكن كيف يراها؟

وفجأة بدا ﻟ «مصطفى» أن نافذتها المغلقة لا يمكن أن تظل مغلقة طول الليل والنهار … إنها لا شك تفتحها في الصباح المبكر. عند نهوضها من الفراش؛ كي يدخل الهواء والنور حجرتها، فلماذا لا يتربص لها في الصباح المبكر؟

ثم عاد فخطر له خاطر آخر … إن الليل حار، ولا يمكن أن تظل في حجرتها محرومة الهواء طول الليل … إنها بلا ريب تغلق نافذتها خصوصًا في ساعات الموعد فقط، حتى إذا ما مر الهزيع الأول من الليل قامت وفتحتها … وانتهى «مصطفى» من كل ذلك إلى شيء: إنه سيسهر الليل بأكمله في الشرفة يرقب النافذة، إن لديه الآن من العزيمة ما يفعل به أكثر من ذلك.

وجاء الليل، ومضى الموعد، فأتى «مصطفى» بمعطف ثقيل تدثر به، و«كوفية» ولفها حول رقبته، وأتى بمظلته التي لا تفارقه من يوم قشر الكرنب والقلقاس؛ زيادة في الاحتياط، وأخرج إلى الشرفة كرسيًّا كبيرًا، وجلس فوقه القرفصاء، ناشرًا المظلة على رأسه وأخذ يتربص.

على أن «مصطفى» لو درى، لاطمأن من جهة «زنوبة» فإنها سرعان ما أدركت غيبة «سنية»، وأنها أول من فرح في مصيبة «مصطفى» بهذا الغياب، غير أن «زنوبة» كانت تعزو سر هذه الفرقة بين المتحابين إلى «مبروك» ومهارة «مبروك» الشخصية، وقد ارتفع قدره في عينيها من ذلك اليوم، أليس هو الذي قال لها: روحي نامي، وحياتك لتكون آخر ليلة لهم!

إنه وعدها بذلك، وها هو «مبروك» نفذ وعده، وكانت تلك حقيقة آخر ليلة لهما معًا، وأخذت «زنوبة» تستجوب «مبروك»، معجبة بما فعل حتى أحدث هذه النتيجة الباهرة: وحياة أبوك يا «مبروك» قل لي بس عملت إيه؟

ولكن «مبروك»، كان أكثر وأشد دهشة: عملت إيه؟ … مين؟ أنا؟!

غير أنه كان مضطرًّا إلى إخفاء دهشته، متسائلًا في حيرة وارتباك: أقول لها إيه؟ وأنا بلا قافية رميت الصفيحة من شباك «المرتفق».

وذكر عطفه على هذين المتحابين، فعجب لما صار إليه، وأخذ يتساءل عن سبب ما بينهما من جفاء في شبه كآبة؛ كأن الأمر يهمه.

وأخيرًا نظر إلى «زنوبة» بطرف عينيه، وقال في سره: كله من عين وش النحس … حسدتهم!

ولم تمهله «زنوبة» فأعادت الكرة: بس عملت إيه يا «مبروك» بعد ما سبتك؟ مش تقولي وتريح قلبي؟

فالتفت إليها «مبروك» وفكر لحظة ليخترع شيئًا، وفي النهاية قال: أقول لك الحق، والا ابن عمه؟

– لأ، الحق.

– الحق، بقيت امسك قشرة القلقاس والا الكرنب واقرا عليها بلا قافية عدية يس، وارميها بينهم!

فابتسمت، وقالت له في إعجاب وحماسه: إلهي ما تعدم عينك وحيلك يا «مبروك»! دا انت أتابيك ناصح وراسي، عيني عليك باردة.

•••

في تلك اللحظة كانت «سنية» بجانب والدتها، تحادثها، وتضاحكها، متظاهرة بعدم الاكتراث لشيء، ولكنها في الواقع كانت تريد استدراجها إلى موضوع يهمها.

تناولت «سنية» يد والدتها، وقالت لها: إنتي تحبيني يا نينة؟

فرفعت الأم رأسها إلى ابنتها، وقالت: حد يكره ضناه؟!

فقالت «سنية» في خبث: علشان كده يا نينة لما طلبوني الخطَّاب السنة اللي فاتت قلتي لهم: ماعندناش بنات تسافر وتتغرب؟

فقالت الأم: معلوم يا بنتي، وأنا حيلتي غيرك؟! أنا عايزة أفرح بك جانبي.

فقالت «سنية» بلهجة معنوية: صحيح يا نينة؟ إنتي دايمًا على فكرك القديم.

وسكتت برهة، ثم فجأة سألت في رفق: إنتي رحتي مع «بابا» «السودان»؟

فأجابت الأم: يا بنتي أبوكي راح قبل ما يتجوزني.

فقالت «سنية» مصرة: افرضي انه كان راح بعد ما اتجوزك، كنتي رحتي معاه السودان؟

فأجابت الأم على الفور: يا ندامة! الواحدة مش تبع جوزها مطرح ما يروح تروح.

فقالت «سنية» متخابثة: ووالدتك كانت ترضى تسيبك تروحي؟

فأجابت الأم: أمي؟ … أمي ماتت وأنا صغيرة.

– افرضي إنها كانت موجودة؟

فأجابت الأم: الله يرحمها كانت ست أميرة وعاقلة.

فقالت «سنية» على الفور: زيك مش كده؟

وصمتت الفتاة لحظة … ثم استأنفت الحديث في لباقة، وهي تتدرج به من طبقة إلى أخرى، حتى بلغت به حيث استطاعت أن تفهم والدتها عن طريق غير مباشر أنها مخطئة إذا كانت تظل تشترط إقامة ابنتها في مصر بجانبها أساسًا للزواج، وأنها إنما تشترط ذلك بدافع الاستئثار بابنتها مع المصلحة. وواجب الأم أن تكون أقل أثرة وأنانية في سبيل مستقبل ابنتها وهنائها، كما أن واجب الزوجة أن تتبع زوجها أينما حل — كما قالت أمها نفسها منذ لحظة — وأن ترافقه إلى البلد الذي تدعوه إليه مصالحه وأعماله.

لم تكن «سنية» فتاة من الطراز القديم … إنها تريد أن تهتم بعمل زوجها وأن تدفعه إلى الاهتمام به، إنها كانت تدرك على وجه التقريب أن لمثل «مصطفى» مصالح وأعمالًا في الأرياف، على الأقل مزارع وأطيان ورثها عن أبيه؛ لذلك لم تتردد في التفكير في الذهاب معه، والمعيشة وإياه في الأرياف إذا اقتضى الأمر.

فتحت «سنية» نافذتها في صباح اليوم التالي، فإذا هي أمام منظر غريب مضحك في شرفة «مصطفي»؛ منظر رجل قد التف كالكرنبة في معطف كبير، وتدثر فوقه بغطاء سميك «بطانية»، وجعل خلف رأسه الملفوف بالكوفية وسادة صغيرة مسندة إلى الحائط، وفوق كل ذلك وسادة مفتوحة قد انكبت على رأسه، فأخفت جزءًا من وجهه، وهو نائم يغط.

عرفته «سنية» فضحكت من قلبها، إنه «مصطفى»، وكل الدلائل تجمع على أنه أمضى ليلته في الشرفة هكذا … مسكين، إنه ولا شك كان ساهرًا في انتظارها، ولكن ساعة الصباح ونسيم الفجر لفح جفونه، فأرداه نائمًا يغط رغم أنفه.

ترددت «سنية» قليلًا، أتوقظه أم تتركه؟ ولكن تغلَّب عليها حب الدعابة، فتركت النافذة مفتوحة، واختبأت خلف الستائر؛ لترى ما يكون منه، وارتفع النهار، وتسلطت الشمس على وجه «مصطفى» ففتح عينيه، وفي الحال تذكر أنه جاء لانتظار ساعة فتح النافذة، فالتفت إليها بسرعة البرق فإذا هي مفتوحة ولا أحد بها، فضرب رأسه بيده يأسًا وشد شعره غيظًا، وهو يقول: جت، وفتحت، وراحت، وأنا نايم زي الجحش!

وسمعت «سنية» ذلك من مكمنها فضحكت في نفسها مسرورة، وهمت بالظهور له، لكنها رأته جمع أمتعته وأرديته ومظلته، وغادر الشرفة يائسًا، فرأت أن تسكت، وتنظر ماذا يصنع بعد ذلك، واعتزمت مراقبته عن كثب وهي مختفية عنه.

أدرك «مصطفى» أن النوم الملعون لا بد غالبه، إذا أراد السهر طول الليل، وأن أشد ما يهاجمه ذلك النوم ساعة الفجر، وقرب بزوغ الصبح، فماذا يفعل له؟ فكر قليلًا، وأخيرًا اهتدى.

فما جاءت الليلة القادمة حتى خرج «مصطفى» إلى الشرفة بمتاعه المعتاد، وأرديته ووسائده ومظلته، كما فعل الليلة السابقة التي ضاعت منه، إلا أنه أتى معه بمنبه ذي جرس هيأه على الساعة التي يريد الاستيقاظ فيها إذا ما غلبه النوم، وجلس القرفصاء على الكرسي الكبير بعد أن التف اللفة المعهودة ونشر المظلة المنكبة، ووضع المنبه على جدار الحاجز أمامه، مقسمًا ألا تفوته الفرصة بعد الآن.

ونظرت «سنية» إلى كل هذا من خلف نافذتها فأضحكها هذا المنبه الواقف على جدار الشرفة، وودت لو تستطيع صبرًا حتى الصباح، لترى كيف يدق هذا الجرس من الشرفة، وماذا عسى المارة في الطريق ساعة الصباح يقولون إذا سمعوا جرس المنبه، ورفعوا رءوسهم وأبصروا ذلك «الأفندي» النائم بمتاعه ومظلته ومنظره الغريب في الشرفة؟

ولكنها ذكرت نومة «مصطفى» ليلة الأمس، والبرد الذي يتعرض له في الفجر من أجلها، فكرهت أن تتركه يبيت في الشرفة الليلة أيضًا لتتمتع هي بالمنظر المسلي.

وقاربت الساعة منتصف الليل، ففتحت النافذة محدثة — عمدًا — بعض الصوت، فهب «مصطفى» ناهضًا على قدميه؛ كالخفير النائم إذا دهمه ضابط «نوبتجي». وما كاد «مصطفى» يتبينها ويدرك أنها هي «سنية» التي فتحت النافذة، وأنها هي لا طيفها، وأن يأسه من رؤيتها كابوس زال؛ حتى لمع وجهه ببريق أمل وفرح غريب، وأقبل نحوها باندفاع، حال دونه حاجز الشرفة؛ كأنما نسي أن بينهما فاصلًا من الفضاء.

ولكن «سنية» كتمت إحساسها، وتظاهرت بالجد، وقالت: إنت لسه ماسافرتش المحلة؟

فردد «مصطفى» في استغراب: المحلة؟

– أيوه المحلة.

فأجاب «مصطفى» بصوت مملوء عاطفة: اسأليني إذا كنت تحركت من البلكون ده من ليلتها.

فأخفت «سنية» ابتسامة، وقالت في لهجة الغضب والتهديد: يعني عايزني اقفل الشباك مرة تانية؟

فتقدم إليها في تضرع: لأن المرة الثانية رايح ابات في المستشفى.

فقالت ملطفة من لهجتها قليلًا: وإذا كنت تروح تبات في المحلة؛ مش يكون أحسن؟ مش تهتم بأشغالك يا «مصطفى»؟

فخفق قلب الشاب لهذه الجملة الأخيرة خفقة شديدة، ورفع رأسه بعد قليل، ونظر إليها نظرة طويلة، ثم قال بعد فترة بصوت عزم قاطع: «سنية!»

ثم سكت، ثم استطرد فجأة: أنا مسافر بكرة المحلة.

فقالت بفرح: مسافر؟

فأجاب على الفور: لكن بشرط.

ووقف، ثم قال بغتة: رايح ابعت امراة خالي بأول قطر.

فأطرقت «سنية»، واحمر وجهها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤