الفصل الرابع والعشرون

لقد صدق نظر الأثري الفرنسي.

«أمة أتت في فجر الإنسانية بمعجزة «الأهرام» لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخرى أو معجزات … أمة يزعمون أنها ميتة منذ قرون، ولا يرون قلبها العظيم بارزًا نحو السماء بين رمال الجيزة … لقد صنعت مصر قلبها بيدها ليعيش الأبد!»

لعل هذا الأثري الذي يحيا في الماضي كان يرى مستقبل مصر أكثر من أي إنسان.

«في شهر مارس» … مبدأ الربيع … فصل الخلق والبعث والحياة. اخضرت الأشجار بورق جديد وحبلت وحملت أغصانها الأثمار.

وكذلك مصر أيضًا، قد حبلت وحملت في بطنها مولودًا هائلًا، وها هي مصر التي نامت قرونًا تنهض على أقدامها في يوم واحد، إنها كانت تنتظر — كما قال الفرنسي — تنتظر ابنها المعبود رمز آلامها وآمالها المدفونة يبعث من جديد … وبعث هذا المعبود من صلب الفلاح.

•••

كان «محسن» في صباح اليوم المشهود في فصله، وإذا أحد التلاميذ قد أقبل وهو يلهث، وكلما صادف في طريقه فئة لفظ بضع كلمات سريعة بلهجة خطيرة، فتتغير وجوه السامعين … حتى بلغ الخبر مسامع «محسن»، وما كاد يفكر فيه وفي معناه حتى ألفى المدرسة بأجمعها حوله تتهامس وتتناقش وتتساءل، ودق جرس الدخول فلم يأبه له أحد، أمر عجيب إذ ذاك في تاريخ المدارس: أن يحتشد الطلبة هكذا، وفي ملامحهم معنًى واحد هائل، ويُدعون إلى الدرس فلا يجيبون؛ كأنما هو يوم القيامة!

كان الجميع يتحدثون عن رجل لم يسمع به «محسن» من قبل، ولكنه أحس في لحظة أن حياته يجب أن تعطى لهذا الرجل، وإذا الحماسة تبلغ إلى حد الهتاف في رفاقه التلاميذ أن اتركوا المدرسة واخرجوا لملاقاة زملائكم طلبة المدارس الأخرى؛ فإن الأمر أجلُّ من أن نشتغل بغيره الساعة، ولعل هذا كان نفس إحساس رفاقه، فإذا الجميع يهرعون إلى باب المدرسة، ولم تمضِ دقائق معدودة حتى كانت المدرسة بأجمعها سائرة في الطريق، وخطر ﻟ «محسن» أن يذهبوا لملاقاة مدرسة الهندسة؛ حتى يجتمع ﺑ «عبده»؛ ولأن هذه المدرسة قريبة منهم، إنهم ما كادوا يسيرون قليلًا حتى لمحوا حشدًا من الطلبة مقبلًا عليهم، فتبينوه فإذا هم طلبة الهندسة خرجوا أيضًا، وإذا «محسن» — لدهشته — يرى على رأسهم عمه «عبده» يلوح بذراعيه، ويهتف صائحًا وقد احمر وجهه، وقطب حاجبيه، وفي رنين صوته ما يدل على هياج عصبي عظيم … وانضمت المدرستان إحداهما إلى الأخرى، وسار الكل لملاقاة المدارس الأخرى، واقترب «محسن» من «عبده»، ووضع ذراعه تحت إبطه، وسارا معًا يهتفان. وبين الضجيج والأصوات الراعدة كان «عبده» يسأل «محسن»: خرجتم ازاي؟

فيجيبه «محسن» بكل بساطة: زي ما خرجتم انتم.

ولعل هذا السؤال وذاك الجواب تبودلا مرارًا عدة بين جميع الطلبة وجميع المدارس، وبين كل طبقات الشعب، إن كل فئة وطائفة كانت تحسب نفسها البادئة بالقيام، الشاعرة بالعاطفة الملهمة الجديدة. ولم يفهم أحد إذ ذاك أن هذه العاطفة انفجرت في قلوبهم جميعًا في لحظة واحدة؛ لأنهم كلهم أبناء مصر، لهم قلب واحد.

•••

ما غابت شمس ذلك النهار حتى أمست مصر كتلة من نار، وإذا أربعة عشر مليونًا من الأنفس لا تفكر إلا في شيء واحد: الرجل الذي يعبر عن إحساسها، والذي نهض يطالب بحقها في الحرية والحياة؛ قد أُخذ، وسُجن، ونُفي في جزيرة وسط البحار!

•••

كذلك «أوزوريس» الذي نزل يصلح أرض مصر ويعطيها الحياة والنور، أُخذ وسُجن في صندوق، ونُفي مقطعًا إربًا في أعماق البحار.

وانقلبت القاهرة رأسًا على عقب، فأُغلقت الحوانيت والمقاهي والبيوت وقُطعت المواصلات، وعمَّت المظاهرات، وقام نفس الهياج في جميع أرجاء الأقاليم والأرياف … وإن الفلاحين لأشد من أهل المدن في إظهار احتجاجهم وغضبهم؛ فلقد قطعوا الخطوط الحديدية ليمنعوا وصول القطارات المسلحة، وأحرقوا دور الشرطة (البوليس).

•••

وعاد «محسن» إلى المنزل، فألفى «الرئيس حنفي» يحدث «زنوبة» بما وقع؛ ويشرح لها الأسباب والعلل؛ وهو يفرك ركبتيه تعبًا وجهدًا؛ فلقد مشى هو أيضًا في مظاهرات عدة طول النهار، ولم يلبث «سليم» أن عاد كذلك، وقد اندمج في جموع أخرى، وجعل كلٌّ يتحدث بما رأى وسمع، ويتنبأ بما سيحدث ويروي ما تتناقله الإشاعات التي تكثر في هذه الظروف، وجاء «مبروك» فقال أيضًا إنه اشترك في مظاهرة كبيرة بميدان السيدة؛ وإنه كان برفقة الجزار وصبيه والخباز وبائع البرتقال … فكسروا وحطموا مصابيح الغاز وحواجز الأشجار، وتسلحوا بالحجارة والعصي الغليظة والهراوات والسكاكين، وحكى أن الخنادق قد حُفرت هناك، وأنه حفر معهم خندقًا عمقه متران وعرضه ثلاثة.

وأصبح هذا حديث البيت، ولعله الحديث العام في كل البيوت. وحضر «عبده» وطلب العشاء على عجل؛ لأنه خارج ليلًا إلى حي الأزهر حيث يعقد اجتماع كبير في المسجد، وسيخطب الخطباء في الحالة الحاضرة.

وإذا الجميع ما عدا الرئيس «حنفي» — التعب الطالب النوم — يوافقون «عبده» ويبدون الرغبة في مرافقته.

وما جاء موعد الاجتماع حتى كان الأمر قد تفاقم … فإذا «الأزهر» محاصر، وإذا المتظاهرون قد أقاموا المتاريس يتحصنون خلفها، وإذا هذا الحي، والحي المسمى «طولون» قد أصبحا ميدانًا لمواقع دموية، وقيل إن كثيرًا من المصريين كشفوا عن صدورهم للمدافع الرشاشة في بسالة مدهشة، وقيل إن مصريًّا سودانيًّا تقدم في جرأة إلى مدفع رشاش مصوب جهته، فانتزعه بيده، وجعل يضرب به أعداءه ضرب العصا.

ولم يحجم «عبده» ورفاقه، بل احتالوا حتى اجتازوا مناطق الحصار من حارات ضيقة مجهولة، وحضروا الاجتماع.

•••

كان الناظر إلى القاهرة وشوارعها أثناء ذلك الوقت يرى منظرًا عجيبًا … في وسط المظاهرات والهتافات، كانت ترفرف الأعلام المصرية وقد رُسم فيها الهلال يحتضن الصليب؛ ذلك أن مصر أدركت في لحظة أن الهلال والصليب ذراعان في جسد واحد له قلب واحد (مصر).

•••

اشتدت الحالة حرجًا … غير أن المدهش أن «عبده» و«محسن» و«سليم» اندفعوا وانغمسوا في الثورة على نحو يقلق، ولعل «زنوبة» هي الوحيدة التي لاحظت ذلك … وقد خيل إليها أنها فهمت قليلًا سر ذلك: إن هؤلاء الثلاثة الذين كانوا منذ قليل ساكتين كأصحاب «بنك» أفلس، تخنقهم الكآبة والضيق كأنهم في سجن من نفوسهم لا يستطيعون منه خلاصًا … هؤلاء الثلاثة ما كادت الثورة تنفجر حتى انفجروا معًا، وإذا هم يروحون ويغدون منهمكين فيها وفي حوادثها المتجددة المثيرة للحواس، وإذا هم قد ذهب انقباضهم ووحشتهم، وحل محله الاهتمام والكفاح والتحمس، ولعل الصغير «محسن» كان أظهرهم تأثرًا بذلك الحادث التاريخي؛ فقد استحال كل ما كان في قلبه من حب خاب فيه بقسوة، إلى عواطف وطنية حارة … وكل عواطف التضحية التي كان مستعدًّا لبذلها في سبيل معبود قلبه، إلى عواطف تضحية جريئة من أجل معبود وطنه. هذا ما حدث أيضًا ﻟ «عبده» و«سليم»، بمقدار أقل.

عجبًا! أترى كان لا بد من تلك الثورة لتصريف عواطف هؤلاء المنكوبين في عواطفهم؟

ثم شيء آخر، أتراها هي الأعجوبة التي كان لا بد منها كي لا يسقط «محسن» في امتحان هذا العام؟! في الواقع لم يكن ثمة أمل في «محسن» بإجماع أساتذته، وهو نفسه ما كان يفكر في موضوع الامتحان، ولا في شهادة الكفاءة هذه السنة، ولكن ها هي الثورة أغلقت المدارس، وألغت الامتحانات، وها هو قد نجا من وصمة الفشل بأعجوبة. غير أن «محسن» لم يعلق أهمية كبيرة على هذه المسألة، ولم ينظر إلى الثورة بهذه العين الخاصة … هي عواطفه القوية التي تحولت إلى وطنية، ما كانت تملك كل كيانه، وتصرفه عن كل شيء آخر حتى عن سلامته في تلك الظروف الخطرة.

لم يكد «مصطفى» يسافر إلى «المحلة الكبرى» ويبلغها حتى برَّ بوعده، وبعث امرأة خاله بصحبة خادمه إلى مصر، على أن تمضي نهارًا واحدًا، تذهب فيه إلى منزل «الدكتور حلمي»، وتخطب «سنية» إلى أمها.

وقد تم الاتفاق مبدئيًّا، وعادت امرأة الخال إلى «المحلة» تزف للخطيب البشرى، وتخبره بما فعلت، وبما ينبغي له أن يفعل … ولقد أعجبتها «سنية»، فجعلت تصف ﻟ «مصطفى» محاسنها، و«مصطفى» يصغي إليها، في فرح وابتهاج، وأخبرته كذلك أن «سنية» هي التي كانت تسهل الأمور، ولولاها لما تم شيء بهذه السرعة … والواقع، ما كادت امرأة الخال تنصرف، حتى تنفست «سنية» مسرورة سعيدة، تعد الأيام على أصابعها، وتتوقع حضور «مصطفى» من يوم لآخر لإنهاء الأمر … ولكن وا أسفاه، كان اليوم التالي لسفر الخالة الخاطبة هو اليوم المشهود … وما انتهى النهار حتى قُطعت السكة الحديدية ما بين مصر وطنطا والمحلة الكبرى، وتعذَّر على «مصطفى» السفر إلى «القاهرة»، بل تعذر عليه حتى الكتابة إلى «سنية» يهدئ من روعها … ولا أحد يستطيع وصف قلق «مصطفى» وضيقه … أفي هذا الوقت الذي يستطيع أن يراها فيه علانية، ويكاتبها كما يشاء علنًا، ينقطع الاتصال بينهما؟! ولكن أسف «سنية» كان أشد وقلقها وحزنها أروع، وخطر لها فجأة شبح «محسن»، وهتف في أعماق نفسها هاتف: أليست هذه العقبة جزاء لها على إذلالها «محسن» المسكين على ذلك النحو؟

•••

ليس يدري أحد على التحقيق أكان الثلاثة — «عبده» و«محسن» و«سليم» — قد اندمجوا في سلك جمعية سرية أم ماذا؟ لقد أصبحت حجرة السطح مستودعًا لرزم هائلة مكدسة من المنشورات الثورية، وكانت تقف في كل مساء بالباب «رقم ٣٥ شارع سلامة» عربة نقل يجرها حمار، عليها صندوق خشبي كبير، يصعده السائق بمساعدة «مبروك»، تحت إشراف «عبده» إلى حجرة السطح، وبعد أن يفرغ ما فيه من رزم يعاد إلى العربة، ولا يدري أحد بالضبط من أين تأتي هذه العربة، ولا إلى أين تذهب الرزم؟ هذا سر كان الثلاثة يفضلون الموت على إفشائه.

•••

وفي ذات يوم سرت في البلد إشاعة: التفتيش جارٍ وأن كل مارٍّ في الشارع والطرقات، وكل مختلِف إلى مقهى أو مشرب معرض للتفتيش في أي وقت، ومن يُعثر في جيبه على سلاح أو ورقة مشتبه فيها يساق إلى السجن في الحال … ولكن، للأسف، جاءت … جاءت الإشاعة بعد فوات الأوان؛ ففي تلك الساعة كان «محسن» و«عبده» في قهوة «الشيشة الكبرى»، وجيوبهما محشوة بالمنشورات يوزعانها يمينًا وشمالًا؛ فلم يشعرا إلا وضابطان إنجليزيان اقتحما المكان شاهرين المسدسات، وخلفهما جنود مسلحون، وفُتش «عبده» و«محسن»، وأُخرجت من جيوبهما المنشورات، وفُتش بعد ذلك منزلهما، وعُثر على حجرة السطح ورزمها المكدسة … هذا يكفي بالطبع للقبض على البيت بأكمله، وذلك أقل ما يُعمل في ظرف كهذا … قُبض حتى على «الرئيس حنفي» والخادم «مبروك»، وأُخذ «حنفي» من سريره وهو يفرك عينيه، ويقسم أنه لا يعرف شيئًا، والواقع كان «حنفي» مظلومًا لأنه لا يدري بما في حجرة السطح، ولكنه دائمًا مظلوم، وكونه مظلومًا دائمًا لا يخليه قط من تحمُّل نصيبه من المسئولية.

لم يستثنَ غير «زنوبة» … كل الدلائل تبرئها من التهمة، إنها لا تعرف القراءة ولا الكتابة، ولا علم لها بشيء، فتركوها وحدها في البيت … وحدها فقط، وساقوا الباقين جميعًا إلى سجن القلعة … وقد ظل «مبروك» يغمز «اليوزباشي سليم» بيده طول الطريق، ويهمس له في سخط: كله منك يا «سي سليم»، قعدت تفتش لحد بلا قافية ما فتشونا، وعلى رأي المثل …

ولم يُتم … لأن الجنود المرافقين لهم منعوه من الاسترسال في الثرثرة، ولوحوا له بالبنادق، فوضع يده على فمه، وقال مرتجفًا: يا جناب العسكر، مفيش لزوم للبنادق … قطعت لساني خلاص … العمر مش بعزقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤