الفصل الثامن

وقفت «سنية» و«زنوبة» خلف إحدى نوافذ الشرفة الخشبية بحجرة «البيانو»، تنظران إلى «شارع سلامة» وترقبان مجيء «محسن»، وكان الوقت عصرًا، ولكن «محسن» لم يكن قد عاد بعد من مدرسته. غير أنه سيأتي توًّا إلى منزل «الدكتور حلمي»؛ كي يعطي «سنية» درس الغناء ابتداء من ذلك اليوم، هكذا كان الاتفاق بينهما بالأمس، ولهذا حضرت «زنوبة» تنتظره عند «سنية» حيث الموعد والمقابلة.

أخذت المرأتان تنظران في احتشام وتشغلان الوقت بالمشاهدة، وكان من الطبيعي أن تلفت أنظارهما «قهوة شحاتة» التي أمام المنزل، وهي تموج عادة في تلك الساعة بزبائنها المعتادين داخلها وخارجها.

وما كادت «سنية» تلقي نظرها على الكرسي والموائد المصطفة على الرصيف، حتى غمزت «زنوبة» بذراعها، وهمست في أذنها: واخدة بالك يا أبلتي من «الأفندي» أبو شيشة ده، خبر ايه؟ دايمًا عنيه في البلكون بتاعنا … بصي … كل شوية يبرم في اشنابه بشكل يموت من الضحك.

فنظرت «زنوبة» إلى ذلك «الأفندي»، ثم التفتت بسرعة إلى «سنية»، قائلة على الفور: يوه … قطيعة، مش عارفاه؟! ما هو ده بسلامته ابن عمي.

فبغتت «سنية» وخجلت قليلًا لما بدر منها، وقالت معتذرة: إخص عليكي يا أبلا، ليه ماقلتيش من الأول؟

وسكتت قليلًا، ثم قالت: هو ده بقا المهندس؟

فأجابت «زنوبة»: لأ ياختي، المهندس اخويا «عبده»، أما ده ادلعدي الظابط اللي كان قال لك «محسن» امبارح على مزيكته أم منفاخ.

– الهارمونيكا؟

– أيوه ياختي، البتاعة دي، عليكي نور.

فأعادت «سنية» النظر إلى ابن عم «زنوبة»، وقالت محاولة الإطراء؛ كي تصحح ما بدر منها: حقَّا يا أبلا، باين عليه العظمة والهيبة والجلال في كل حركة من حركاته.

فنظرت «زنوبة» إلى «سليم» على القهوة، ثم ضحكت ضحكة تهكم خافتة: ياختي ما له عامل في نفسه كده؟ يا سم على دي نفخة كدابة.

وفي تلك اللحظة لفظت «سنية» فجأة صيحة عجب صغيرة، وجذبت «زنوبة» من ذراعها، ووجهتها في حماسة خفيفة إلى ناحية من القهوة: شوفي يا أبلا، شوفي «الأفندي» ده أبو شعر اصفر وشنب صغير مقصوص اللي جه دلوقت بس شوفي الصدفة، قعد ورا ابن عمك تمام.

فنظرت «زنوبة»، وبغتة دق قلبها دقات متتالية، وتغير لون وجهها، ولكنها أخفت ما بها.

واستطردت «سنية» تقول وهي ترمق ذلك القادم على القهوة: شايفة ازاي ابتسم بالضحك لما لمح ابن عمك، هو يعرفه؟ لكن دا ماسلمش عليه.

فأجابت «زنوبة» بصوت به بعض التغير: لسه مايعرفوش بعض!

فدهشت «سنية» قليلًا لهذه العبارة، وقالت مرددة: لسه مايعرفوش بعض؟

فقالت «زنوبة» في تنهد مكتوم: أيوه، قصدي جايز يوم يعرفوا بعض.

وسكتت لحظة … ثم كأنما خشيت أن يكون في عبارتها ما ينم على شيء، فاستدركت قائلة: ما هو ده يبقى جارنا.

فقالت «سنية» على الفور وفي اندفاع، وهي تنظر إلى ذلك الرجل: الجدع ده؟ جاركم صحيح يا أبلا والا بتهزري؟ ساكن لوحده؟ صنعته إيه؟

فأجابت «زنوبة» وهي نصف غائبة الذهن، وعيناها مسددتان إلى القهوة: أيوه، صنعته غني … ملتزم.

وفطنت «زنوبة» إلى نفسها وإلى «سنية» التي تنظر كذلك، فمدت يدها في حركة سريعة جافة، وأبعدت في الحال «سنية» عن الشرفة وهي تقول في خشونة: ارجعي، ماتطليش قوي كده يا «سنية».

فتقهقرت «سنية» إلى الصالون وهي تقول في ابتهاج: ماليش عادة أبص من البلكون ده، لكن الحق انه فرجة لطيفة، يا ترى كل يوم فيه ناس على القهوة كده؟

فلم تُجِبها «زنوبة».

فعادت «سنية» أدراجها إلى الشرفة؛ لتنظر أيضًا، لكنها ما لبثت أن قالت في صيحة فاتنة: آدي «محسن» جه.

وسكتت قليلًا كي تتبعه بنظرها، ثم استطردت: راح الأول القهوة يسلم على ابن عمك، وكان ساب عنده كتبه … عمل طيب، علشان ييجي هنا على طول … من باب الشارع.

ولم تكن «زنوبة» تصغي إلى كلمة واحدة مما قالت «سنية»، بل كانت تنظر إلى القهوة في صمت، وفكرها سابح في أحلام، غير أنها بعدئذٍ استقامت بسرعة وتحركت نحو الصالون، ذلك أنها رأت شيئًا جعلها تعزم على الخروج في الحال؛ فقد رأت «سليم» ينهض من مكانه بالقهوة، متجهًا إلى منزلهم حاملًا كتب «محسن»، بينما كان الفتى الصغير قد طرق باب «الدكتور حلمي».

والذي كان يهم «زنوبة» من كل هذا أنها رأت «مصطفى بك» جالسًا في مكانه الآن بمفرده، فألقت عليه نظرة أخيرة، ثم تركت نافذة الشرفة، وذهبت تبحث عن «ملايتها اللف» على أريكة بالصالة، ورأت «سنية» ما تريد فسألتها: رايحة فين يا أبلا؟

فأجابت «زنوبة» في سرعة وحيرة متظاهرة بعدم الاكتراث: رايحة عند الخياطة وراجعة، مسافة المشوار، فقالت «سنية» في لهجة عتاب لطيفة: إزاي بقا تسيبيني وحدي؟ إنتي عارفة إن ماما مش هنا؟

فقالت «زنوبة» وهي تلتف بالملايا: وحياتك راجعة بعد عشر دقايق.

فقالت «سنية» في شبه استياء: ويعني ضروري الخياطة دلوقت؟

فأجابت «زنوبة»، وهي منهمكة في اللبس: أيوه ياختي، افتكرت حاجة مهمة قوي عندها، ماتخافيش، إن تأخرت عن خمس دقايق يبقى لك الكلام.

ثم أخذت أمام المرآة ترتب هندامها في عناية، وتحسن وضع قصبة البرقع «قشر السمكة» على أنفها، وتحرص أن يظهر على جانبَي رأسها مقاصيص شعرها المصبوغ. وكانت تقوم بإجراء تلك الزينة وذلك التجمل في رشاقة ابنة العشرين، مما جعل «سنية» تبتسم على الرغم منها.

في تلك اللحظة دخلت جارية سوداء «لسنية» تعلن قدوم «محسن»، ولم يمضِ قليل حتى ظهر الفتى على عتبة باب الصالون، ووقف مترددًا خجلًا لحظة، ثم تقدم إلى «سنية»، وسلم عليها في أدب وحياء عميق.

وانتهزت «زنوبة» فرصة اشتغال «سنية» بتحية «محسن» وانسلت إلى الشرفة، وأطلت من نافذتها خارجة بجسمها منها على نحو يكاد يظهرها واضحة لمن يكون بالقهوة، ثم بعد أن فرغت من ذلك عادت أدراجها مسرعة نحو «سنية» و«محسن»، وأكدت لهما قرب أوبتها وقصر مدة غيبتها، ثم سلمت وخرجت على عجل، لبث «محسن» و«سنية» وحدهما وجهًا لوجه.

وعندئذٍ أحس الفتى الصغير أن حياءه وخجله يشتدان إلى حد الخوف والرهبة، وشعر بأن تلك الشجاعة التي ظل يتمرن عليها طول يومه، والتي عني بادخارها لمثل تلك اللحظة، قد ذهبت عنه كلها في لمح البصر، فوقف ساكتًا ينظر إلى الأرض؛ كأنه طفل مذنب أمام مؤدبه.

ولم تكن «سنية» في هذه الحال، من الخجل والحياء والرهبة؛ فمع أنها فتاة في السابعة عشرة من عمرها، أي تكبر «محسن» بنحو عامين فقط؛ فقد كانت أربط جأشًا، وكانت كالمرأة في كل ترعرعها الجسمي والمعنوي، وإن هي أحيانًا خفضت أهدابها الطويلة الجميلة وهي تكلم «محسن»، وضحكت ضحكات نسائية رقيقة غاية في الأنوثة، ومنعت عينيها من إطلاق النظر إلا في أدب وخفر وتحفظ، فما كان ذلك كله عن طبيعة فيها؛ بل هو حياء مصطنع، لعله أرق سحر تمتاز به المصرية، والحقيقة أن المصرية أمهر امرأة تدرك بالغريزة ما في النظرة الواحدة من وقع وتأثير؛ لذا هي لا تنظر إلى محادثها كثيرًا ولا تبخس نظراتها ولا تقلبها جزافًا كما تفعل الفرنجية الجريئة النزقة، بل إنها تحتفظ بنظراتها وتحفظها بين أهدابها المرخاة، كما يحفظ السيف في الغمد، إلى أن تحين الساعة المطلوبة فترفع رأسها وترشق نظرة واحدة تكون هي كل شيء.

قطعت «سنية» الصمت أخيرًا قائلة في مجاملة وترحيب: تفضل يا «محسن بك».

وأشارت له إلى كرسي كبير بجوار «البيانو»، ثم ابتسمت وأردفت: رايح تعلمني إيه النهارده يا أستاذي؟

فأجاب «محسن» مبالغًا في الأدب والتحفظ والتكلف إلى حد ممل: زي ما تطلبي حضرتك.

فقالت «سنية» مبتسمة: مش عارفة ليه أنا أحب طقاطيق اليوم … ومع ذلك غنوة امبارح، ولو انها دور قديم قوي، لكن ماقدرش أقول لك قد إيه عجبتني، أول مرة في حياتي حبيت دور قديم، لكن الفضل لك يا «محسن»، الحق انت غنيتها بشكل، والطريقة بتاعتك حاجة جميلة قوي صحيح.

احمر وجه «محسن» وخفق قلبه فرحًا وتأثرًا بهذا الإطراء الساحر؛ وكأنه استمد منه بعض الجرأة والشجاعة، فقال وهو يحاول رفع رأسه المطرق دائمًا: متشكر يا «سنية هانم» … دا من لطفك.

فقالت «سنية»: أؤكد لك يا «محسن بك» … إنت لك مواهب عجيبة، وعندك صنعة في الغنا، أهي الصنعة دي اللي عايزاك تعلمها لي، مش كده؟

وابتسمت في ظرف واتجهت إلى «البيانو» وفتحته وأخذت مقعدها أمامه.

فُتن «محسن» تمامًا. وكأنما أراد أن يغير حالته الخجول، وأن يتبسط معها في الكلام قليلًا، فنهض وتقدم نحو «البيانو» ثم قال متظرفًا ومقلدًا لهجتها الأخيرة عن تعمد.

– واهو «البيانو» ده اللي عايزك تعلميه لي … مش كده؟

لكنه ما كاد يلفظ هذه العبارة حتى صعد الدم في وجهه، فنظرت «سنية» إليه نظرة تستطيع أن تقلب قلب مارد من العمالقة، وقالت: من غير شك … وأضمن لك تقدم سريع؛ لأنك قلت لي انك تعرف تضرب على «الهارمونيكا».

وعادت فالتفتت إلى «البيانو» تمر بأناملها على مفاتيحه، ووقف «محسن» خلفها، وقد هدأ اضطرابه قليلًا واطمأن؛ إذ هي الآن لا تستطيع رؤيته في موقفه هذا، وعندئذٍ جعل يختلس النظر إليها اختلاسًا، ولأول مرة فطن إلى أن شعرها مقصوص على أحدث طراز، وذهبت عيناه تتأمل نحرًا عاجيًّا غاية في البياض، يعلوه رأس جميل مستدير الشعر غاية في السواد يلمع لمعانًا أخاذًا؛ كأنه قمر من الأبنوس، وخطرت «لمحسن» صورة يراها دائمًا في الكتاب المقرر هذا العام للتاريخ المصري القديم، صورة يحبها كثيرًا، وطالما قضى شطرًا من حصص التاريخ يطيل إليها النظر وهو سابح في عالم الأحلام، لا ينزله منه إلى الأرض إلا صوت المدرس وقد بدأ في شرح الدرس، تلك صورة امرأة، شعرها مقصوص أيضًا، وأسود لامع كذلك، ومستدير كالقمر الأبنوس: «إيزيس».

رفعت «سنية» رأسها فجأة، والتفتت إلى «محسن» مبتسمة، وهي تقول، شأن من تذكر أمرًا بغتة: شوف … كنت ناسية حاجة مهمة خالص.

فبُغت الفتى، ونظر إليها، كمن صحا من حلم، وارتجف قليلًا؛ إذ خشي أن تكون قد فاجأته وهو يختلس النظر إلى مؤخر رأسها الجميل، لكنه تجلد وأجاب في تلعثم: إيه؟

فاستطردت «سنية»: كنت عايزة اسألك عن حكاية «الأوسطى شخلع» العالمة اللي علمتك صنعتها؟

فصمت «محسن» قليلًا، حتى هدأ جأشه، ثم قال: آه … لكن دي حكاية قديمة قوي.

فقالت «سنية» في رجاء لطيف وفي شيء من الدلال: عايزة اعرفها … مشتاقه قوي إني اعرفها.

فقال «محسن» في شبه عجب، ولكن في فرح داخلي: صحيح مشتاقة انك تعرفيها؟

– أيوه … عايزة تحكي لي عرفت «شخلع» ازاي؟

فوقف «محسن» لحظة؛ كمن يستذكر أشياء انقضت، وقال مرددًا وهو لاهٍ ساهم: شخلع! أنا نسيت … وقتها كنت صغير قوي، ومع ذلك فاكر، كانت أيام لذيذة، وكنت سعيد، ولو اني مش فاهم علشان إيه؟ … أيوه افتكرت … تذكرت.

وعندئذٍ أخذ وجه «محسن» تكسوه فجأة ملامح غريبة.

لم يعد بعدُ وجهَ الطفل الساذج الخجول، بل غدا في لحظة وجه رجل، ترتسم عليه مشاعر عميقة: أيوه … مستحيل أنسى.

قال ذلك هامسًا، كأنما يخاطب نفسه.

وعجبت «سنية» وأخذت تنظر إليه مشدوهة، متأملة وجه ذلك الفتى الصغير وما فيه من معانٍ، وتلك العينين الخاليتين فيه كأنهما تخترقان سجف الماضي الأثيرية!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤