الفصل التاسع

كان «محسن» في السادسة من عمره، وقتما كانت «الأوسطى لبيبة شخلع» تختلف إلى بيت أهله، وحكاية تلك العالمة ومعرفتها الوثيقة بالأسرة لم تكن مجرد مصادفة؛ فإن جدة «محسن» أصيبت في ذلك الوقت بمرض عصبي لم يُجْد فيه طب ولا دواء، وقد عالجها كثير من الأطباء فلم ينتهوا إلى شيء. وأخيرًا قال واحد منهم بعد أن أعيته الحيل: إن أصوب ما يشار به في مثل حالتها، سكون الفكرة وهدوء البال وانشراح القلب: «ألهوها بقدر المستطاع، كثير من الفرح والسرور يمكن أن يصلح حالها».

– نلهيها ونفرحها ازاي يا دكتور؟

– یعني غنوا لها وابسطوها، الغنا والطرب أحسن دوا لها.

وجاءت بعد ذلك المصادفة؛ فقد رأت والدة «محسن» في ليلة عرس قريب لها «الأوسطى لبيبة شخلع» ولم تلبث أن أعجبها من تلك العالمة المشهورة حسن خلقها وأدبها، وتواضعها وذوقها فاستظرفتها … كذلك رأت «شخلع» والدة «محسن» بين جموع السيدات، فاستلفتت أنظارها بما كانت عليه من أبهة الشخصية، فتعارفتا، وذكرت والدة «محسن» عندئذٍ تلك المريضة التي دواؤها الطرب، فانتهزت الفرصة ودعت «شخلع» إلى الزيارة.

ومنذ ذلك الحين، و«الأوسطى لبيبة شخلع» تزور أسرة «محسن» كل صيف في «دمنهور» مستصحبة تختها وآلاتها، فتلبث عندهم طول الصيف أو بعضه ضيفة مكرمة، تُروِّح النفس بمناظر الأرياف وهوائها، وتسلِّي الست الكبيرة المريضة، وتملأ البيت حياة وفرحًا وانشراحًا.

وكانت تلك الأيام التي تمضيها «شخلع» وتختها في بيت «حامد بك العطيفي»، تعد خير أيامها كما كانت تقول، ولا يعكر صفوها إلا «الحاج أحمد المطيب»، الذي كان يطلبها مع التخت من وقت لآخر من أجل سهرة مستعجلة أو صفقة طيبة.

لكن تلك الأيام عند الصغير «محسن» على الأخص، كانت أهنأ أيام حياته بلا جدال؛ فقد كان يحسب حسابها طول العام، ويعد بالأشهر على أصابعه انتظارًا لها والفرح يثب من صدره كلما مر شهر.

ما ألذها أحلامًا ساذجة، وما أعذبه سرابًا صبيانيًّا عظيمًا، ما كان يجول بنفس هذا الصغير المبهمة حتى في تلك السن.

كان ما يملأ «محسن» فرحًا وزهوًا أن يعتبر عضوًا في هيئة التخت. فما كان يرضى إلا أن يغني ويأكل ويجلس وينحشر بين «العوالم» ويا ويل من كان لا يدعوه أو يناديه فردًا من الجوق … كم من مرة بكى وثار لأن أحدًا نسي أن يعتبره «سنيدًا»؛ «كحفيظة» و«نجية» و«سلم» العمياء … وكم من مرة غضب وهاج كي يعلمنه «السيم» المصطلح بينهن معشر العوالم.

وذهب في الاندماج في سلك التخت وتقليد أفراده، حتى فيما هو عندهن مثل أعلى، وما يشعرن به من إخلاص واحترام، نحو مولاتهن: «الأوسطى الست لبيبة شخلع».

نعم، إنه لا ينسى فرحه؛ إذ كان يجلس على الأرض مع الجوق، وهو محيط بالأوسطى، وهي مرتفعة في الوسط على كرسي كبير، حاملة العود بين ذراعيها؛ فقد كان عندئذٍ يرفع عينيه وينظر إليها؛ كمن ينظر إلى إلهة فوق قاعدة من الرخام، ثم يلتفت يمينًا وشمالًا برأسه الصغير إلى زميلاته «السنِّيدة»، في شيء من الارتياح الداخلي لا يوصف، ولا يمكن أن يكون له تفسير.

وأحيانًا كان يشعر بإحساس غريب، وهو ينظر إلى تلك المرأة اللطيفة التي ناهزت الثلاثين، لا سيما ليلة سهرة الاستقبال، أو أي احتفال، حيث كانت تظهر مزينة بالحلي البراقة أمام المدعوات والزائرات اللاتي كن يأتين خصوصًا لسماعها عند آل «محسن».

وقد كان يحس أحيانًا أنه فهم في إبهام ما كانت عليه «شخلع» من ظرف، والواقع أن «لبيبة» كانت فوق غنائها الساحر، تمتاز بطبيعة مرحة، غاية في الظرف وخفة الروح، تملأ المصغي إليها انشراحًا وسرورًا.

وكم كان «محسن» يحب الجلوس إليها متملقًا متزلفًا، وقد جمع لها وقطف من الغيط طول الصباح ذلك الخلال الذي كانت تغليه وتشربه، ليسلك صوتها، وهو يرجوها في مقابل ذلك أن تحكي له بعض نوادرها التي طالما حكتها له وللجميع، دون أن يُفقد التكرار ما فيها من ظرف.

احكي لي حكاية الطباخة … يقول لها ذلك «محسن» الصغير بصوت الرجاء، فتضحك ثم تتجهم تجهمًا مصطنعًا، وتقول له ولمن حواليها: طباخة؟ يا دي الفضيحة يا ولاد … بقا كل ما انسى تفكروني؟

•••

أصل الحكاية أن الطباخة الحقيقية مرضت ذات يوم، فاقترحت «الأوسطى لبيبة»، في جد وإلحاح أن تحل محلها. وقالت وأكدت أن الطعام الذي يخرج من يدها لم يذق أحد أشهى منه، وأوصت الجميع بالحذر حتى لا يأكلوا أصابعهم معه من فرط لذته، وزعمت أنها في طهي السمك أوسطى من الطبقة الأولى، ومن يأكل من سمكها الإسكندراني أحرى به ألا يقول إنه أكل سمكًا في حياته.

فرضوا بتركها تفعل، وقادوها إلى المطبخ، وأحضروا لها الخضر والسمك وكافة اللوازم … وبدأت العمل … لكن أي عمل؟!

وما إن مضى عليها خمس دقائق بالمطبخ حتى انقلب ذلك المطبخ إلى شبه سوق العصر … أنزلت جميع النحاس الموجود من حلل وصوانٍ وقصاع وأوانٍ إلى الأرض، وبعثرته في أنحاء المكان، فلم يبقَ ركن ولا موضع لا يجد فيه الإنسان صحنًا أو طبقًا أو حلة … لم كل هذا؟

لعلها لم تسأل نفسها هذا السؤال، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب من المطبخ؛ لأنها رفضت بتاتًا المساعدة من أيٍّ كان، حتى يعترف لها وحدها بالفضل.

وكانت منذ مدة قد تركت فوق النار حللًا فارغة، وأخذت تجري هنا وهناك في المطبخ، وبيدها سمكة وهي تدندن: «يا منعنشة يا بتاعة اللوز» بينما أقدامها تتعثر فيما يقابلها من صوانٍ وأوانٍ ملقاة على البلاط في غير ترتيب.

وكان السمك أيضًا قد تبعثر في أنحاء المكان، ولا يتصور أحد كيف حدث ذلك بهذه السرعة، فعلى الأرض سمك، وفوق الرف سمك، وفي القصاع سمك، وفي الحوض تحت «الحنفية» سمك، وكأنما انقلب المطبخ حلقة سمك!

ولكن «الأوسطى لبيبة شخلع» لم تنتبه ولا شك إلى الحالة التي سار إليها المطبخ؛ فقد كانت منهمكة حقيقة في العمل، وقد أخذتها حماسته، فهي تصيح بين آنٍ وآنٍ قائلة وهي تضحك: الله الله يادي الحبايب، فين السميعة دلوقت يتفرجوا على «الأوسطى شخلع» بجلالة قدرها؟

•••

وأخيرًا «لكلكت لها كم طبق»، وخرجت من المطبخ يتصبب منها العرق، وفوطتها البيضاء يتصبب منها الهباب، وصاحت في ردهة المنزل: خلاص يا دي الحبايب، البذنجان سبكته، والبامية قمعتها … والسمك، آه يا روحي، قليته قلي يجنن ويسبي العقول.

وسكتت فجأة صفراء الوجه، ذلك أنه ظهر أمامها بغتة في ذات الوقت بباب الردهة، «الدكتور فريد» الذي استدعي لفحص الطباخة المريضة، وكان «الدكتور فريد» هذا من زبائن «الأوسطى شخلع» المتحمسين ومن سميعتها المعجبين، الذين رأوها كثيرًا، وسمعوها في الأفراح والليالي، فما رآها الآخر أمامه بفوطة المطبخ التي تقطر هبابًا حتى صاح في دهشة: الله … إنتي عاملة طباخة هنا والا إيه؟

ولكن «شخلع» ما كادت تفيق من بغتتها حتى أدارت ظهرها، وولت مدبرة وهي تغطي وجهها بكفيها تارة، وتلطم على صدغيها تارة أخرى، وهي تقول بصوت مخنوق خافت: يا كسوفي … يا كسوفي!

•••

ولم يكن هذا كل ما جره عليها تطوعها للطبخ في هذا اليوم، ولا كل ما أتاها به السمك الإسكندراني.

ورطة أخرى كادت تكون خطيرة؛ فالسمك كان منتنًا وهي لا تعلم … وقد أكلت منه أكلًا كثيرًا، وجميع أفراد التخت؛ لأنه من عمل يديها، ولسوء الحظ أنها والتخت كانت متعاقدة في تلك الليلة بالذات لإحياء سهرة بمنزل أحد الأعيان.

فذهبت وغنت حتى صار الفرح في قمة الجلبة والسرور، وقد اجتمع المدعوون واشتد الهرج والمرج، وإذا «الأوسطى لبيبة» تحس فجأة بالمغص يجري بالطول والعرض في معدتها، وكتمت ذلك بادئ الأمر خشية الفضيحة، لكنها ما كادت تتخاذل وتهم بالقيام حتى رأت هيئة التخت جميعًا يدب فيها أيضًا المغص، وإذا كل «سنيدة» منهن تستند على زميلتها، وهي تتلوى، ويدها على بطنها، فأدركت الواقعة، وكان منظرًا — كما حكت «شخلع» فيما بعد بخفة روحها — يبكي ويضحك في نفس الوقت، فإن المعازيم ما لبثوا أن رأوا على حين فجأة هيئة التخت بأكملها تتمايل وتتماوج، ثم تنهض في وقت واحد بسرعة، وكل يده على بطنه، وجميع العوالم قد اندفعن يفسحن لأنفسهن طريقًا في الزحام، طالبات الوصول إلى الحمام أو بيت الراحة!

غير أن المنظر المؤثر حقيقة كان منظر «سلم العمياء»؛ إذ تركتها زميلاتها في ذلك المأزق، فوقفت وسط المكان تتخبط في حيرة، يد على بطنها والأخرى تضرب بها الهواء متلمسة الطريق وهي تصيح: يا دهوتي! … الحقونا بطشت والا قصرية، ياللي تحبوا النبي … إلهي ما يوريكم يوم.

فضحك منها السيدات المدعوات أولًا، ثم سارعن لإسعافها.

لم يكن الصغير «محسن» مع التخت تلك الليلة، فإنه برغم دموعه وإلحاحه لم تسمح له والدته بمرافقة العوالم؛ لذلك اكتفى بسماع القصة كما سمعها الجميع من فم «الأوسطى شخلع»، التي كانت ترويها وتذكرها غالبًا في معرض كلامها بشكل مسلٍّ، فيضحك «محسن» منها في صفاء صبياني، ويتعزى بسماع تلك الأخبار، وينسى رغبته في الذهاب معهن، وما تكاد «شخلع»، تفرغ من كلامها، حتى يسارع «محسن» راجيًا دون أن يمهلها ريثما تدخن سيجارة: احكي لي كمان حكاية فرح اليهود.

•••

دعيت «الأوسطى لبيبة» وتختها لإحياء ليلة عرس عند أسرة يهودية موسرة، وكان ذلك في شهر «طوبة» أشد أيام الشتاء بردًا، وجلست الأوسطى، وسط تختها، تنتظر خروج العروس من حمامها وزينتها، ومن طقوس العرس عند اليهود — كما قالت «شخلع» — أن تستحم العروس بالماء البارد ممزوجًا بماء مقدس يرشه «الحاخام» وبعد هذا الحمام تلبس العروس وتتزين، ويحرم على غير اليهودي — مسلمًا كان أو نصرانيًّا – أن يلمسها، فإن حدث ذلك وجب أن يعاد استحمامها من جديد بالماء البارد.

لبثت «لبيبة شخلع» حتى ظهرت العروس تتبختر في ملابسها وزينتها، وجلست في مكانها المعد لها، وبدأ الفرح، ثم حمي وطيسه، ثم قارب الانتهاء، وكانت الريح تعصف والمطر يتساقط بردًا وثلجًا في تلك الليلة بما لا عهد لمدينة القاهرة به من قبل، فقامت «لبيبة» على غفلة منها واقتربت من العروس تعجب بملابسها الفاخرة، وأرادت التمعن والتحقق من نوع قماش ثوب العرس، فمدت يدها ولمست العروس، وما كادت تفعل ذلك حتى دوى في المكان صياح هائل دهاها! … وارتفعت أصوات الغضب من كل مكان، فكمشت يدها مبغوتة، ووقفت جامدة في موضعها بلا حراك ونظرت فإذا الجميع: العروس وأهلها وحاشيتها قد خرجوا يرغون ويزبدون مع الرعد القاصف في الخارج، وهم يقودون العروس إلى الحمام ثانية في ذلك البرد القارس.

وعادت بعد برهة العروس المسكينة من الحمام البارد وهي تشهق وتصطك أسنانها، وسمع الضجيج أقاربها الرجال، فصعدوا يستطلعون الخبر فبادرتهم السيدات من أهل العروس والمدعوات قائلات صاخبات: يقطعها «لبيبة»، يحرقها «لبيبة» … لمستها لبيبة.

وكانت «لبيبة» تسمع ذلك، وهي منزوية منكمشة بين أفراد تختها، وجسدها يرتجف خوفًا وفرقًا، وقد جعلت ترتل في سرها آية الكرسي، وبين آنٍ وآن تنظر حولها خلسة؛ كي ترى: هل سكنت ثورة أهل البيت؟ … ثم تلتصق بمن في جوارها من السنيدة وهي تهمس: قربى على شوية يا «نجية» … خبيني اعملي معروف … امسكیني يا «سلم» … في عرضك، اشتروني يا اولاد! يا سيدي «أبو السعود» كراماتك … نص دستة شمع … بس نخرج من هنا سالمين.

فتهدئها «سلم» وهي أشد منها خوفًا، وتهمس لمولاتها في صوت المزمجر: قطيعة، يعني رايحين يعملوا فينا إيه؟

فأجابت «نجية» هامسة: أقل ما فيها يغطسونا احنا كمان في السخام الحمام.

فاصطكت أسنان «سلم» وقالت: يا ساتر يا رب! … واحنا كان ما لنا ومال كده.

وكان الصخب قد سكن في تلك الأثناء؛ وكأنما قد رأى أصحاب العرس أن تعود المياه إلى مجاريها، حتى لا تختم الليلة ختامًا سيئًا، فسكنوا في الحال، وأشاروا إلى «الأوسطى لبيبة» باستئناف الغناء والطرب، ورأت «شخلع» أن تلبي الأمر في الحال؛ كي لا تسبب إشكالًا جديدًا، وكي تلهيهم عما سلف منها، فاعتدلت في مجلسها وأمرت التخت بمسك الآلات، وقالت «لنجيه» على عجل: صلحي العود حجاز كار.

ثم رفعت عقيرتها وغنت: «كيد العذول …».

لكنها ما كادت تتم المطلع حتى سمعت همسًا ولغطًا بين أفراد التخت وتنبهت إلى صوت «سلم» يصيح عاليًا ويغطى صوتها: الله … الله يا «أوسطى شخلع» يا مصرية … يا سمع الملوك.

وأعقب ذلك في الحال صوت «سلم» الخافت، وقد انحنت عليها هامسة: الله … الله، يا نشاز كار.

فالتفتت إليها «شخلع» في حدة: جرى لك إيه يا بنت؟

ولكن سرعان ما أدركت «شخلع» أن غناءها كان نشازًا، وأن دافعه الخوف والفرَق. فهدأت روعها وابتسمت: أعمل لهم إيه؟ طلعوا على جتتي البلا، غنوا يا اولاد غنوة زي ما يكون، بس نخلص الليلة بجلدنا، أهم ياخدوا «كيد العذول» في جتتهم، وتننا مروحين.

•••

ولكن بين كل تلك الذكريات ليلة واحدة لا ينساها «محسن» أبدًا: ليلة رأى فيها صغيرًا — ما نقش على ذاكرته، وفي أعماق نفسه — صورًا ومشاعر لا تمحى.

في ذات عصر طلب «الحاج أحمد المطيب» «الأوسطى شخلع» لإحياء ليلة عرس عظيم، وأشاد لها بفخامته وأهميته، وأوصاها بالاستعداد التام، فسرى الخبر في الجو وصار له أثر مدوٍّ، وجعل الكل يتأهب: البعض يجري عمل «البروفات» والبعض يصلح الآلات، والبعض يعد الملابس البراقة والحلي، وشئون الزينة من مساحيق وعطور ومكاحل لطلاء الأهداب، وأدوات لتزجيج الحواجب. وامتلأت — في لمح البصر — هيئة التخت جميعها حركةً وفرحًا ونشاطًا.

شخص واحد فقط وقف بين تلك الحركة والضجيج، ينظر في كآبة وقد أحس بخيبة الأمل، هو الصغير «محسن».

وقف حزينًا بجوار الحائط، وقد بدا له في تلك اللحظة أنه كان يجري وراء سراب، إنه ليس فردًا من التخت، ولم يكن قط كذلك يومًا من الأيام؛ إذ ها هو التخت جميعه يتهيأ للذهاب بدونه، وها هو التخت قد استغنى عنه وعن خدماته، ويستطيع أن يذهب للأعراس والأفراح بدونه، وها هن زميلاته «حفيظة» و«نجية» و«سلم» كل تهتم بنفسها ولا تفكر فيه، بل لم تفطن إحداهن في تلك اللحظة إلى وجوده.

ثم جعل ينظر إلى «الأوسطى شخلع» وهي تتزين أمام المرآة وعيونه راجية متوسلة، ولكنها هي أيضًا كانت في ذلك الوقت لاهية عنه منصرفة بكلِّيتها إلى شأنها. حتى هي أيضًا يظهر عليها أنها نسيت كذلك أنه عضو مهم في هيئة التخت.

وآلمته كثيرًا تلك الفكرة، فانفجر باكيًا. ثم أخذ يضرب الأرض بقدميه الصغيرتين ويصيح: خدوني معاكم، أروح معاكم.

غير أن والدته رفضت.

فثار «محسن» وازداد عويله وهياجه. وحاولت «الأوسطى» والعوالم تهدئته. فكان ذلك محالًا، واشتد غضبه إلى حد كبير، وقد صمم في رأسه على مرافقة التخت، مهما كلفه الأمر: أنا ما لي … هه؟ … لازم اروح … لازم اروح … عايز اشوف الفرح، عمري ما شفت فرح.

ضحكت «شخلع» منه قليلًا وأخذتها شفقة به، فاقتربت منه وهمست في أذنه بلطف تعِده بالسعي لدى والدته حتى تأذن له في الذهاب.

فسكت الطفل في الحال ونظر إلى «الأوسطى» نظرة فيها كل معاني الامتنان والأمل، وهو يعلم أن والدته تثق ثقة كبيرة «بالأوسطى شخلع» التي أصبحت بعد طول العشرة من أهل البيت الموثوق بهم!

والواقع أن «شخلع» توصلت إلى إقناع الوالدة التي ترددت قليلًا بادئ الأمر، وانتهت إلى الإذن والموافقة إزاء تأكيد الأوسطى وقولها: ماتخافيش عليه ما دام معايا، أنا أحطه بين عينيَّ الاتنين، خليه يتفرج ليلة من نفسه.

وكان «محسن» يتسمَّع خلف الباب بقلب يهتز خوفًا ورجاء، فما بلغ سمعه الإذن حتى لفظ صيحة فرح، وجرى حالًا في المنزل، يبحث عن ملابسه الجديدة وهو يقول للجميع … لكل من يقابله من خدم وعوالم، إنه ذاهب هو أيضًا مع التخت.

وفي أعماق قلبه الصغير حفظ «لشخلع» إحساسًا أقوى من مجرد الشكر والامتنان، إحساسًا عميقًا يجهله حتى تلك الساعة.

كان الوقت مساءً عندما وقفت العربة «الحنطور» التي تقلُّ العوالم أمام بيت الفرح، وقد نُصب بالواجهة سرادق فخم كبير مزين بأنواع التعاليق والنجف، والرايات الصغيرة المربعة والمثلثة على مختلف الألوان: من أحمر وأصفر وأخضر، واصطفَّت عُمُد مصابيح الغاز على جانبَي الطريق الموصل إلى المنزل؛ كأنه طريق الكباش الموصل إلى «معبد الكرنك»!

وامتلأ السرادق بمئات الكراسي والمقاعد والدكك الخشبية، يحتلها عدد من المدعوين لا يعلمه إلا الله وحده، لا يشاركه في العلم حتى أصحاب الفرح … صحيح أن من المدعوين من هم مدعوون حقًّا. غير أن مع تلك الفئة أيضًا عددًا عديدًا دعَوا أنفسهم، وهم لا يعرفون إن كانت العروس تدعى «زينب» أو «شلبية»!

وكان الساقون والفراشون بسُتُرهم السوداء الرسمية، يمرون حاملين الصواني العريضة الكبيرة عليها أكواب الشربات الحمراء، فتمتد الأيدي ويتزاحم ذلك الجمع الغفير يطلب كلٌّ نصيبه.

وفي ركن من السرادق كانت تقوم «الموسيقى الميري»، أو شبه الميري، بطبلها وزمرها وأبواقها النحاسية، تزيد الضجيج وصمم الآذان اللازمين لفرح في تلك الأهمية وعلو الشأن.

ما كادت العوالم يصلن حتى حدثت حركة غير عادية بين الجموع. وهرع فراشان يستقبلان «الحنطور»، ويساعدان الأوسطى «الصييتة» على النزول.

نزلت «شخلع» أولًا في جلال وعظمة وهي تبهر الأبصار بحُليِّها وصيغتها من غوايشها الذهب لخلاخلها الرنانة، لثوبها الحريري المطرز بالقصب والترتر، والبادي تحت ملايتها السوداء، كل هذا يلمع تحت ضوء المصابيح الباهت؛ فكأنها كلها قطعة جواهر تضيء وتتحرك … وتتحرك.

ولمت «الأوسطى شخلع» أطراف إزارها والتفَّت به جيدًا، ثم نظرت خلفها إلى «السنيدة» أفراد التخت، وأمرتهن أن يحملن الآلات بعناية وانتباه. كلٌّ تحمل ما يخصها. ومشت «الأوسطى»، تتهادى، وفي ذيلها الصغير «محسن» لابسًا بذلة العيد الكبير.

ورأى «محسن» في الحال أن زميلاته «نجية» حاملة العود و«حفيظة» الطبلة «الضربكة» و«سلم» الرق، فزمجر ودمدم وهدد بالبكاء … وهو أيضًا يجب أن يحمل آلة من الآلات … أليس عضوًا في التخت؟ وعبثًا حاولت «شخلع» بتوسلاتها وتحايلها أن تسكته، وأخيرًا أمرت «شخلع» أن يُعطى «محسن» الصاجات، وقالت له مبتسمة في لطف: شيل انت الصاجات، أهي حاجة صغيرة على قدك.

وتناولت يده تريد أن يمشي بجانبها، ولكن «محسن» رفض في عناد. إنه يريد أن يتبعها كفرد من التخت، لا أكثر ولا أقل، وسارت أخيرًا «شخلع» تتبعها حاشيتها، يقودهن جميعًا الخدم والفراشون إلى جهة باب الحريم، وتشيعهن نظرات الرجال وبسمات المدعوين، وكلمات الإطراء والمغازلة والتنكيت التي كانت تعلو من بين الجموع: يا سيدي، يا سيدي … كده، كده … وسع يا جدع انت وهو … نظرة يا ام العواجز … حاسب الملف يا … هاهاي … إلخ … إلخ.

وهكذا حتى اختفت العوالم عن أنظارهم خلف الحريم. دخلت «الأوسطى شخلع» فوجدت نفسها في صالة رحيبة، مملوءة بسيدات يتلألأن في أثوابهن وجواهرهن الفاخرة؛ كأنهن النجوم.

وما كادت تظهر بالعتبة حتى أقبلت عليها صاحبات الفرح، وبينهن أم العروس، فاستقبلنها في ترحيب لائق بمقام العالمة المشهورة، ثم قدنها إلى المكان المخصص للتخت، وهو ركن فسيح مفروش بالوسائد الحريرية والشلت الناعمة، على شكل دائرة يقوم وسطها كرسي فوتيل خصوصي للأوسطى «الصييتة».

ولم يلبث أفراد التخت أن دخلن ودخل معهن «محسن» فاستلفت أنظار أهل الفرح، وسألت أم العروس «شخلع» قائلة: اسم الله عليه ابنك؟

ولكن «محسن» لم يدع لشخلع وقتًا للإجابة؛ فقد قال على الفور بصوته الصغير، وهو يشير إلى الصاجات التي يحملها: لأ … أنا من التخت.

فضحك أهل العروس وسُرُّوا من لهجته الجدية المملوءة عزمًا وإرادة على رغم سنه، وأرادت أم العروس أن تقبِّله، غير أنه فرَّ لاحقًا بزميلاته وانحشر بينهن، وقد أخذن مجالسهن وانهمكن في وضع الآلات وإعدادها.

وعندئذٍ استأذنت «شخلع» وتبعت «محسن» في الحال.

جلست العوالم كل على شلتة أو وسادة، محيطات «بالأوسطى» المرتفعة على الكرسي بينهن، وقد أخذن يثرثرن فيما بينهن بلغة السيم المصطلح عليها عند الطائفة.

وبدأن كالعادة، ينقدن كل ما تقع عليه أنظارهن، وسألت «سلم» الضريرة عما إذا كان البيت والفرح وأهله حقيقة كما قيل، بيت عز وأكل أوز وخير وخمير؟ … فجالت زميلاتها بأبصارهن النافذة الثاقبة في أنحاء المكان، وتأملن لحظة «الكوشة» التي في الصدر وهي مكسوة كلها بالحرير الأبيض، وفيها مقعد العريس والعروس، غاية في الفخامة، ثم نظرن إلى قبة «الكوشة» وقد بُطِّنت كذلك بالحرير الأبيض، فصارت كأنها سماء من الشمع، يتدلى منها على كل الجوانب ستائر من الفل والزهر والورد الأبيض.

لم تكن العروس أو العريس قد حضرا بعد؛ لذلك حولت العوالم نقدهن وحكمهن إلى المدعوات.

ومع ذلك فقد كانت كل الشواهد تدل على أنه عرس فخم حقيقة.

وأخيرًا قالت «نجية» العوادة: آي … بالحق ناس مليانين، بس … كان واجب يشوفوا خاطرنا بالسجاير المعتبرة، والدخان اللي يشرح القلب.

فانتهرتها «الأوسطى» هامسة: هس يا مزغودة؟ … أم العروسة جاية علينا.

وحقيقة اقتربت «أم العروس» من «الأوسطى شخلع»، وسألتها في لطف إن كان يمكنها التكرم، ولو بأغنية واحدة، قبل افتتاح البوفيه؛ إذ إن المعازيم يتوقون إلى ذلك؟

فأجابت «شخلع» في أدب: من عيني، محسوبتك يا ست هانم … بس التخت عايز سجاير، وأنا عايزة فنجان قهوة سادة، واسم الله عليه، وأشارت إلى «محسن».

وأرادت أن تتم عبارتها، فقاطعها الصغير قائلًا: أنا زي التخت، فقالت «شخلع» مستنكرة: سجاير؟ كله إلا كده … لأ يا «محسن» عيب.

والتفتت بسرعة إلى «أم العروس» وهمست في أذنها: هو اسم الله كباية شربات.

فأجابت «أم العروس»: بس كده؟ غالي والطلب رخيص، حاضر ياختي، على راسي … اسمعي يا «أوسطى شخلع»، والنبي ماتعملوش تكليف، البيت بيتكم ومطرحكم، اللي عايزينه اطلبوه، الليلة دي عايزينها تكون ليلة العمر اللي نفتكرك بيها يا «ست شخلع»، نوري وانجلي كده وجلجلي، وخليها مفيش بعدها.

وذهبت مسرعة، كي تقضي طلبات التخت.

ورفعت «شخلع» عينيها وألقت نظرة شاملة على المدعوات فرأتهن ينظرن إليها في إعجاب وانتظار، فابتسمت لهن.

وفي الحال ارتفع صوت جريء من بين المدعوات يصيح بها: يا «أوسطى شخلع»، من فضلك غنوة «حبيبي غاب، وقلبي داب …»

فأتت «شخلع» بحركة طاعة مؤدبة، بينما كانت السيدات وهن يضحكن بين ماجنات ومشجعات، ومستنكرات ومستغربات، يبحثن بعيونهن عن تلك السيدة التي تجاسرت أن تقول عاليًا: «حبيبي غاب، وقلبي داب، بقى له زمان مابعتش جواب»!

•••

مضت ساعة ولم تفعل العوالم شيئًا غير إصلاح الآلات وتدخين السجاير وشرب القهوة وتجرع الشربات والثرثرة والانتقاد، ولعل أهم ما فعلنه إضجار السميعة وفراغ صبرهم، وهذا في الواقع جزء من الفن عند أهل تلك المهنة، بل لعله الفن الوحيد الذي تتقنه عوالم مصر، فن الإضجار أو فن حمل السميعة على الانتظار لكن أحدًا لم ينفد صبره مثلما نفد صبر الصغير «محسن»!

هذا المبتدئ في الفن لم يدرك بعد لماذا يتعمد التخت ذلك التباطؤ والتمهل الممل، ودفعته حمى الحماسة وأراد التخت على الغناء في الحال، وسأل «الأوسطى»، في سذاجة وقوة: ليه ساكتين … إمتى حانغني بقا؟ … الناس عايزانا نغني من زمان.

فنظرت إليه «شخلع» نظرة رثاء وشفقة، كمن ينظر إلى طفل صغير أو إلى جاهل غر بسيط، ثم انحنت عليه وهمست في لهجة من يفضي بسره: أهو ده كارنا يا عبيط، آدي سر الكار كله، كل ما تتقل على السميعة كل ما يقعوا في دباديبك، فهمت يا بني؟

وأردفت «حفيظة» الطبالة، وهي تدلك جلد الطبلة بكفها لتشده: صدق من قال: التقل صنعة!

فوافقت «شخلع»: أهو كده.

ثم مدت إلى «حفيظة» فمها بالسيجارة كي تشعلها لها.

•••

عندما آنست «شخلع» أن قد حانت اللحظة التي يجب فيها الغناء حسبما يقضي به الفن، وعندما أعطت الأمر بحمل الآلات. كان الأوان قد فات ودخل أهل الفرح يعلنون افتتاح البوفيه، فأشارت «الأوسطى» بترك الآلات، وهي تقول للتخت، مبتسمة: بركة يا جامع … جت منك ما جت مني.

وجاءت أم العروس تدعو «شخلع» وحدها إلى البوفيه، وتعتذر لضيقه عن أن يسع بقية أفراد التخت، واقترحت أن يأكل أفراد التخت في أماكنهن وقالت: إن صينية كبيرة عليها مختلف الألوان — كما في البوفيه وأحسن — ستقدم لهن وهن جالسات في ركنهن هادئات، بعيدات عن الجلبة وعن كل ما قد يخجلهن في الأكل. ووافقتها «الأوسطى» على تلك الفكرة، لكنها سألتها إذا كان ممكنًا اصطحاب الصغير «محسن» معها إلى البوفيه، فأجابت أم العروس على الفور وهي تحاول تقبيل «محسن»: غير أن «محسن» رفض أيضًا هذه المرة أن يترك زميلاته، وصاح أمام إلحاح «شخلع» قائلًا: لأ … مش عايز، وأنا ما لي … هه.

وذكرت «شخلع» ما قالت لوالدة «محسن» ووعْدها بأن تحافظ عليه وتضعه بين عينيها، فألحت في مرافقته لها، وقالت له في شيء من الجد والغضب: تعالى معايا بقول لك.

ثم همست في أذنه برقة: البوفيه أحسن؛ حاتاكل هناك حاجات حلوة.

فأجاب «محسن» في عناد وهو يتشبث بذراع الكرسي كي لا يغادر المكان: مش عايز آكل حاجات أحسن … عايز آكل هنا … مع التخت.

وظهرت في تلك اللحظة خادمتان تحملان صينية كبيرة وضعتاها على الأرض بين العوالم، وكان يُرى عليها طبق كبير ملآن بالكسكسي وديك رومي محمر، وألوان من الخضر مختلفة، ومن اللحم والكباب والكفتة، وأصناف الحلوى، والفطائر، والفاكهة.

ولم ينتظر «محسن»؛ بل انحشر في الحال وسط زميلاته غير حافل بأحد، وترددت «شخلع» قليلًا فيما ينبغي لها أن تصنع.

لكنها ما لبثت هي أيضًا أن انتهت إلى عزم، والتفتت إلى أم العروس واعتذرت لها عن البوفيه، ثم جلست على الأرض بجانب «محسن» تأكل مثله مع التخت.

وشمَّت «سلم» العمياء رائحة الديك المحمر، فسألت زميلاتها أن يطمئنَّها؛ إذا كان ما شمت هو ديك حقيقة؟

وبدأت العوالم بالكسكسي، وعندئذٍ تبين أن الخادمتين قد نسيتا الملاعق، ومدت «سلم» الضريرة يدها في الهواء، وهي تقول: فين المعلقة يا اخواتي؟

فأجاب الصغير «محسن» وهو يأكل بشهية ولذة: مفيش غير شوك، تاخدي شوكة؟

فقالت العمياء في تشكك: شوكة؟ وانت بتاكل الكسكسي بإيه يا ادلعدي؟

فقال «محسن» على الفور مبتسمًا: بالشوكة؟ كلنا بناكل كده … كلي انتي كمان زينا!

فقالت «سلم» في حدة: الكسكسي بالشوكة؟ … يا حلاوة، بلاش هزار والنبي يا «محسن»، هات المعلقة بلاش عطلة، ينوبك ثواب … إخص عليك، دا مش وقت هزار، ناولني المعلقة بالعجل اعمل معروف.

فتدخلت «شخلع» وقالت ببعض جفاء مصطنع: مفيش معالق، بيقول لك خدي شوكة وتسممي وانتي ساكتة.

فمدت «سلم» يدها فاستلمت شوكة، وزمجرت: برده شوكة؟ … هي يا اخواتي البتاعة دي تنفع في الكسكسي.

وغرست الشوكة غرسًا عموديًّا في طبق الكسكسي كما لو غرست في قطعة من اللحم، فلم يعْلَق بها طبعًا حبة واحدة، ورفعتها إلى فمها فلم تجد ذرَّة كسكسي وصلت إليه.

فقهقهت زميلاتها ضاحكات، وضحك الصغير «محسن» بالأخص ضحكًا صبيانيًّا صافيًا وقال: شوفوا … مش عارفة تأكل الكسكسي بالشوكة!

ثم أراد أن يعلِّمها كيف تضع الشوكة، مستقيمة لا عمودية، وتجرف بها وتغرف بدل أن تغرس وتغرز، ولكن زميلاته الأخريات أشرن إليه خُفية أن يمتنع، وقالت «نجية» بصوت عالٍ وهي تغمزه بطرف عينها: سيبها … ما هي بتاكل كويس هي ناقصة؟!

ثم همست في أذنه: إن فضلت على كده والله ما هي واكلة عشر حبات في ليلها. سيبها والنبي يا «محسن» أما نشوف حاتعمل إيه؟ … أهو تسالي، أما نضحك عليها شوية.

فوافقها «محسن» بادئ الأمر وهو يكتم ضحكه الصبياني بيده، غير أنه عاد فتأمل قليلًا، ثم قال في بساطة وسذاجة: یعني بقى مش رایحة تاكل؟ مش رايحة تاكل معانا «سلم»؟ حرام، لازم تاكل معانا … شوفي يا «سلم».

ثم أخذ يعلمها أكل الكسكسي بالشوكة، حتى استطاعت أن تاكل مثل الجميع.

وكانت «شخلع» تلاحظ كل ذلك في صمت وانتباه، فقالت في تأثر كأنما تخاطب نفسها: ياما انت قلبك طيب يا «محسن».

•••

عند منتصف الليل كان الفرح قد بلغ غايته من السرور والضجيج. وكان التخت قد غنى بضعة أدوار وطقاطيق، يفصل أحدها عن الآخر فترات استراحة طويلة.

وكانت السميعة من المدعوات المتحمسات، يحطن بالتخت؛ كما يحيط الهلال بالنجمة فوق العلم المصري، وكن يسمعن كما لو أنهن جميعًا فرد واحد يسمع، لا لأنهن مطرقات في صمت وسكون، على العكس، صراخ إعجابهن واستحسانهن وحماسهن، كان يعلو على الغناء، بل لأن على وجوههن يرى الرائي معنى واحدًا، معنى ذلك الفرح المعربد … معنى واحدًا من أثر الموسيقى فيهن … لم تكن بين المدعوات واحدة فقط انعزلت ناحية؛ لتستخلص من الموسيقى معنًى آخر، أو عاطفة أخرى، غير تلك التي كانت تملأ الباقيات، أصبحن كلهن شخصًا واحدًا أمام الموسيقى؛ وكأن الموسيقى كذلك معبود يستطيع أن يرجع الخلق إلى رجل واحد!

•••

ما جاوزت الساعة منتصف الليل بقليل، حتى جاء بعضهم يهمس في أذن الأوسطى «شخلع» بضع كلمات نقلتها هي الأخرى في الحال إلى أفراد التخت بصوت خافت، وعندئذٍ اعتدلن في جلستهن، واتخذت وجوههن هيئة الجد والخطورة، ورفعن في أيديهن الآلات في نشاط وتحمس، كما يرفع الجنود أسلحتهم، وقد تلقوا الأمر بالهجوم، وفجأة ارتفعت في أنحاء البيت الزغاريد حادة مستطيلة؛ كأنها صفير ذهبية في النيل. وظهرت العروس وقد خرجت من تحت يد «الماشطة» في ثوبها الأبيض الحريري، وعلى رأسها «الدواق» يتبعها أهلها وأقاربها ونساء المنزل، والماشطة على يسارها ترش الملح في كل جهة وتصيح: العاشق للنبي يصلي عليه!

وسارت العروس تتهادى حتى وصلت إلى مقعدها في «الكوشة» وجلست، وقعدت الماشطة على مقربة منها، وبسطت يدها بمنديلها تستقبل النقطة من المعازيم، بينما كان التخت يغني في جلبة تملأ المكان.

وما كادت العروس تستقر حتى ظهر من يعلن قدوم العريس، وبدا العريس بالباب يتقدم في خجل بعد أن ابتسم لمشيعيه من الرجال الواقفين بباب الحريم، يتطلعون هم كذلك لرؤية العروس، دون أن يشغلهم ذلك عن النظر إلى الجميلات من المدعوات والابتسام لهن … وشق العريس طريقه بين السيدات اللاتي كدن يفترسنه بأعينهن، ويتهامسن عن رأيهن فيه، حتى وصل إلى «الكوشة» فوقف مترددًا، ثم تجلَّد ورفع بيمينه القناع الأبيض الحريري المتصل بالدواق، والذي يخفي وجه العروس.

وهنا اشرأبت الأعناق، ووقف الحاضرون على قدم وساق، ينظرون في صمت رهيب، ويكادون يحبسون الأنفاس؛ كأنما هم ينتظرون حكمًا لا يقبل النقض والإبرام، حتى التخت وهو يغني ويضرب على الآلات في حماسة وقوة، لم يفت أفراده أن يسددوا عيونهن في انتباه شديد إلى وجه العريس.

وانتابت العريس بغتة ودهشة خفيفة عندما كشف القناع لكنه عاد فابتسم وانحنى على يد العروس، ورفعها إلى فمه ولثمها، ثم صعد إلى «الكوشة» وجلس بجانبها.

عند ذاك ارتفعت أصوات الفرح والتهليل من كل جانب، وعلت الزغاريد تصم الآذان، وغناء العوالم اشتد فزاد الجلبة والضجيج.

وفجأة سُمع صوت الصاجات يرن في المكان، وبدت «شخلع» نصف عارية في ثوب الرقص الذهبي المضيء، وتقدمت حتى بلغت منتصف الصالة، وهي ترقص بجسدها اللين الرشيق، ووسطها يلعب؛ كأنه قُدَّ من الملبن، والصاجات تدوي بين أصابعها المطلية بالحناء.

وسكنت الصالة، وخفَت ضجيج المدعوات وحملق الجميع بعيون مسحورة معجبة، يتبعون بأنظارهم حركات ذلك الجسم البديع، وغمزات ذلك البطن الرقيق، والنهدين كأنهما الثمر الناضج. كل هذا يهتز في روي جميل، متفق مع نغم الطبلة والرق.

غير أن بين تلك العيون المنبهرة، كانت عينا «محسن» أشدها انبهارًا وعجبًا في سذاجة غريبة؛ لا لأنه يراها ترقص لأول مرة؛ فقد رآها ترقص مرارًا، لكنها في تلك الليلة — وهي مرمى كل تلك الأنظار التي تأكلها إعجابًا — أحس «محسن» أولًا شيئًا من الزهو والفخر، إذ يعرفها ويعيش بجانبها، إنه من التخت، من تختها، ثم شعر بعدئذٍ بإحساسات أخرى مبهمة، وقبل أن تنتهي «شخلع» من رقصتها؛ أخذ أهل الفرح، ثم الأقارب فالمدعوات يقتربن منها ويلصقن على جبينها — كل بدورها — عملة من النقود الذهبية: جنيه أو بنتو، كما تلصق طوابع البوسطة على وجه المظروف!

وما تكاد تنوء جبهتها بالذهب، حتى تمسحها بمنديلها كما تقول، كي تلصق ثانية وثالثة.

هذا عدا النقطة الأخرى بنقود من غير الذهب يمنحها من لا ذهب له … وعدا «البدرة» التي كان أهل العريس يرشونها رشًّا فيتهافت عليها العوالم يجمعنها من الأرض، وكذا الخدم والحاشية والأتباع.

•••

عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل بعد شيء كثير من الغناء والرقص، أبدى العروسان رغبتهما في مغادرة المكان إلى غرفة الدخلة، ونهضا ونزلا درجات «الكوشة» ببطء، وذراع أحدهما تحت إبط الآخر، يتبعهما الأهل والأقارب والحاشية، ونهضت «الأوسطى شخلع» ومعها العوالم جميعًا، رافعات الآلات في أيديهن يتبعهن المدعوات، وسارت «الزفة» وسط التهليل والزغاريد حتى بلغ العروسان باب حجرتهما، ودخلا وأغلق عليهما الباب، فارتفعت في المنزل آخر زغرودة. ثم انفك عقد الحضور، وحل الهرج والمرج والفوضى، وذهب الجميع في غير ترتيب إلى أهل الفرح، يباركون ويقولون: «عقبى للبكاري».

وهكذا انتهى العرس … وقد انهال أصحابه والمدعوات على «الأوسطى شخلع» يرزحنها تحت ألفاظ المديح وعبارات الإعجاب والإطراء، لما نالته من فوز واستحسان في تلك الليلة الباهرة.

وثملت «شخلع» بذلك الظفر، وأخذت تفرق المدعوات في لطف، وتشق طريقها بين الزحام وهي تدندن مسرورة، حتى وصلت إلى مكان التخت، وأرادت أن تستعد للانصراف، غير أنها تذكرت «محسن» فدقت على صدرها في قلق وخوف.

– يا ندامتي، يا حوستي، فين «محسن» يا اولاد؟

والواقع أن الجميع نسوا المسكين «محسن» الصغير، وشغلوا عنه بزفة العروس والعريس، ولم ينتبه أحد إلى أن الساعة قد جاوزت الثانية صباحًا، وأن الطفل لا يستطيع الاستمرار على مقاومة النوم إلى ما شاء الله.

وبحثت «شخلع» بعيون قلقة والهة، حتى وجدته أخيرًا ملقًى على الأرض، ونصفه مختفٍ تحت الكرسي وهو يغط في نومه، فأخذته في الحال بسرعة وقوة بين ذراعيها، وغطت وجهه بقبلاتها، ففتح عينيه.

وما إن رآها وتبيَّنها حتى ذهب عنه النوم فجأة، وارتجفت أهدابه واحمرت وجنتاه، واضطرب قليلًا، لا يدري لماذا؟ ثم تخلص بسرعة من أحضانها وجرى.

•••

إن مر السنوات لن يمحو أبدًا من ذاكرته تلك اللحظة الحلوة السعيدة التي فتح فيها عينيه ليرى نفسه بين ذراعيها يتلقى قبلاتها.

ولما شاءت الظروف بعدئذٍ أن تتزوج «شخلع» من «الحاج أحمد المطيب»، أحس «محسن» كآبة وخيبة آمال، وشبه سراب يزول، وشيئًا كالقنوط يحل في أعماق نفسه دون أن يدرك لذلك أسبابًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤