الفصل الأول

الفاتحة

على ضفاف النيل، تحت ظل النخيل، على مقعد من خشب في مقدمة الجزيرة، هناك كان يجلس شاب في مقتبل العمر حاسر الرأس يلاعب شعره النسيم، يحول عينيه تارة إلى الماء وطورًا إلى السماء مبتسمًا مرة وعابسًا مرة أخرى. كان هذا الشاب يرتاد هذا المكان لجمال موقعه وطلبًا للراحة بعد عناء الأعمال، ولما كان يوحي إليه هذا الموقع من الأفكار التي كان يلذ له التفكير فيها، لم يكن يرتاح إلى الأخذ بالظواهر فقط رغم حسنها أو قبحها، بل كان يحب التعمق في كل شيء؛ ليصل إلى معرفة أصول ما يشاهد أو يسمع، فإنه كان يطلب الحكمة في أرجاء هذا الكون.

إنما الحكمة بنت الاختبار
تقتنيها النفس بعد الاعتبار

أو بالأحرى كان يبحث عن الحقيقة بنفسه؛ لأنه في أوائل سني تلمذته كان قد سمع هذا البيت؛ فتنبهت له حواسه وأخذ من ذلك الحين في التفكير رغم ما كان يبدو عليه مرارًا من دلائل الخفة وعدم الاكتراث؛ لذا تربت في نفسه ملكة البحث رويدًا رويدًا، إلى أن تملكت منه فأصبحت فيه طبعًا لا يهنأ له عيش إلا بالتفكير للوصول إلى الحقيقة أو البحث عنها. لم يكن يقرأ كثيرًا؛ لأنه كان كثير الخيلاء، لا يريد أن يتأثر بأفكار الغير، بل كان يريد أن يربي نفسه بنفسه؛ ليكون له رأي خاص عن اقتناع شخصي، إلا أنه كان إذا أثبت له بعد ذلك فساد رأيه ينقاد إلى الصحيح بسرور عظيم وشكر. كان يحب المباحثة والإكثار منها مع كل الناس من مختلف الطبقات والأجناس، الكبير والصغير، العظيم والحقير، نساء ورجالًا فتية وفتيات؛ لاعتقاده بأن الروح العظيمة ليست لها طبقة أو أمة مخصوصة بل توجد في عموم الطبقات والأجناس، وكم كان اغتباطه عظيمًا عندما كان يتغلب رأيه على رأي محدثه، فينقاد هذا مقتنعًا إليه خصوصًا إذا كان المقتنع من ممتازي الناس ومعروفيهم إن علمًا أو مركزًا أو جاهًا.

كانت عيشة صاحبنا هذا مزدوجة: حياة الحاضر، وحياة الماضي التي كانت دائمًا ماثلة بتذكاراتها أمام عينيه؛ لأنه كان يقول: إن الإنسان الحقيقي الذي يمكن أن يدعَى بحق إنسانًا هو ذاك الذي يعيش بنفسه وبقلبه وبتذكاراته أكثر مما يعيش بجسمه.

ففي عشية ذات اليوم بينما كان شابنا جالسًا على مقعده كالمعتاد، إذ شعر بانزعاج خفي أخذ عليه أفكاره، فأخذ يبحث عن السبب في نفسه وحواليه، وفيما هو حائر لا يعرف لهذا من داعٍ، إذ أبصر على بُعد خطوات منه شبحًا يتحرك من وراء الأشجار قادمًا إليه، ولما دنا وتبينه إذا به أحد الدراويش رث الثياب، عاري الرأس، ضئيل الجسم، يناهز السبعين من العمر، ذو لحية بيضاء، براق العينين، متأبطًا جرابه، متوكئًا على عصا طويلة يمشي بتثاقل شديد كمن أعياه السير، ولم يكَد يقترب من صاحبنا حتى خفض نظره، وحيا بكل احترام وطلب صدقة؛ فناوله صاحبنا قطعة بقرشين، فأخذها فرحًا وأراد أن يقبِّل يده شكرًا وامتنانًا. أما صاحبنا فقد سحب يده وتباعد قليلًا، فقال له الدرويش: بارك الله فيك يا سيدي، لقد أغنيت عوزي الليلة، وقد أردت أن أقبِّل يدك علامة الشكر العظيم فلم تشأ؛ لذا فليكافئك الله عني ويجزيك خيرًا، وينيلك مرامك. وهَمَّ بالسير إلا أن صاحبنا لم يكَد هذا الدعاء يصل إلى سمعه حتى شعر بارتياح شديد، وبميل إلى الإكثار من محادثة هذا الشيخ الغريب، فاستوقفه قائلًا: يا هذا، أراك تعبًا، والمسافة بيننا وبين المدينة قريبة لا تتطلب جد السير، فاجلس هنا قليلًا لنتحادث؛ فالمكان جميل والهواء عليل، وخذ هذه قطعة بقرشين أخرى، وهذه سيجارة فدخنها. فأخذ الشيخ القرشين والسيجارة وشكر وجلس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤