الفصل الثالث

هل يوجد خير أو شر في الحقيقة؟ أم أن ما نظنه خيرًا لنا هو شر للغير والعكس بالعكس.

***

في اليوم التالي في الوقت المعين أقبل صاحبنا الشاب نجيب، وجلس على المقعد حسب المعتاد، ولم تمضِ برهة قصيرة حتى حضر شيخنا، وبعد تبادل التحية والسلام قال له نجيب: والله يا شيخي إني لم أذُق مرارة الانتظار مثل الليلة، فقد كانت كل دقيقة منها بيوم، وكل ساعة بشهر. فتبسَّم الشيخ وقال: وهذا ما كان عندي أيضًا، ولنعد الآن إلى الحديث.

من سياق كلامي لك أمس يتضح أنني تركت الدير وعمري اثنتان وعشرون سنة، وقد بلغت الآن السبعين، فثمان وأربعون سنة قضيتها كما تراني الآن متجولًا من بلد إلى بلد، فزرت معظم الأقطار، واختلطت بجميع الشعوب؛ من هنود وصينيين وعجم وعرب وزنوج. ورحلت أيضًا إلى أوروبا وشهدت ما يسمونه عظمة التمدن الحديث، ومن هناك قيَّض الله لي من استصحبني إلى أمريكا؛ حيث مكثت ثماني سنوات، فبحثت ونقَّبت وراقبت؛ فدُهشت، ولكن دهشتي لم تكُن لأمر جديد وقفت عليه، ولو أن أشياء كثيرة يمكن عدها جديدة لاختلاف مظاهرها عند الناظر إليها سطحيًّا، بل إن دهشتي هي لأني رأيت وتحققت بأن لا شيء جديد تحت الشمس، أو بالأعم لا شيء جديد في العالم أجمع. فالطبيعة واحدة، وسننها واحدة، تتمشى على أنظمة وخطط ثابتة واحدة، والويل لمن عارضها، فسبحان تلك القوة الخالقة المدبرة الفائقة، فلا شيء يخلق نفسه ولا شيء يفنى، بل إنه يخرج من الينبوع العظيم ويعود إليه. ولو اختلفت طرق العودة بالتحول من شيء إلى آخر حتى ظن بعضهم أن الفناء حاصل، مع أن الحقيقة لا فناء بل تحول، بل رجوع إلى الأصل كما سترى فيما بعد.

تتصارع الكائنات جميعها بعضها مع بعض سيان في ذلك الجماد والنبات والحيوان تحت تأثيرات شتى وعوامل مختلفة، فتتبدل أشكالها وتتغير من حال إلى حال مع توالي الزمن، ومرور الأيام ينظر المرء إلى هذا، فما كان منه موافقًا له ولمصلحته وصحته ولراحته عده خيرًا، وما كان مخالفًا عده شرًّا، مع أنه في الحقيقة لا يوجد خير أو شر؛ إذا نظرنا للمجموع الكلي وللنتيجة القصوى وللسنن الطبيعية.

سنة تنازع البقاء سنة طبيعية، ولكنها في الإنسان تدرجت معه حتى تولدت منها الأنانية، وعلى مصلحة الأنانية الفردية أو الشعبية أو العمومية الإنسانية تكيف الخير والشر، ومصائب قوم عند قوم فوائد. وإذا أردت يا بني أمثلة على هذا المبدأ أقول لك: إني أنا مَثل وأنت مَثل، وما حصل وما يحصل لك مَثل، وكل إنسان وكل حيوان مَثل، وكل ما في الطبيعة أمثال؛ لذلك إذا حصرتها انحصرت وإذا عممتها تعممت. تضيع أنت محفظة نقودك فهذا شر لك؛ لأنك فقدت شيئًا يمكنك به أن تزيد نعيمك ولذتك وراحتك، إن رأسًا أو بواسطة أو أدبيًّا أو ماديًّا روحيًّا أو جسميًّا فيجدها غيرك فيكون شرك خيرًا للغير. في حقلك بقرة تدر عليك لبنًا وتفيد أرضك وزرعك، وفي الجبل بالقرب منك أسد جائع؛ يأتي فيفترس البقرة فيأكلها ويشبع أشباله، فموت البقرة يُعد في العرف الحالي شر عليها وعليك، ولكن خير للأسد ولأشباله، ولكن هل خسرت الطبيعة شيء؟ كلا، فبمجموعها توازنها باقٍ. يحترق حي في مدينة فينقلب العمار الذي فيه إلى حي آخر. تخرب بقعة فيتحول ما كان يلزمها من الخيرات إلى بقعة أخرى فيزداد خير هذه ببلاء تلك. تقوم حرب بين أمة وأخرى فتخسر هذه وتفوز تلك؛ فشر الأولى خير للثانية. ولكن يطغى البحر على أرض غير مأهولة فيغمرها وتزلزل الأرض زلزالها، فتغور جزائر وتظهر أخرى، ولا تعد هذه الحوادث لا خيرًا ولا شرًّا. تنقض صاعقة فتميت شاة لامرأة عجوز فقيرة، فيعد هذا الأمر حادثًا جللًا وشرًّا مستطيرًا، ولكن تولد حيوانات شتى مفترسة وغير مفترسة، وتعيش في الغابات البعيدة وتموت وتنقرض ولا يفطن لها أحد، فلا يعد وجودها أو فناؤها لا خيرًا ولا شرًّا.

بالقرب من إحدى القرى يوجد ذئب كاسر يسطو على ماشية الناس فيتعاونون على قتله، ويعدون الفتك به خيرًا عظيمًا، ثم يجدون حيوانًا نافعًا مفيدًا فيحسب وجوده نعمة. تنفجر عيون ماء غزيرة تجري منها أنهار وتجف أو تتحول من مجاريها إلى مجاري أخرى، ولا أهمية لهذا إذا كانت في بقاع لأناس فيها، ولكن يرمي بعضهم حجرًا في بئر ماء يرتادها الناس فيعد عمله شرًّا يستوجب العقاب. تنبت الأشجار والمزروعات في أراضٍ غير مأهولة من الإنسان وتزهر وتثمر فيأكل الطير والحيوان ثمرها — إن كان هناك حيوان أو طير — أو تتساقط على الأرض بعد نضجها، وتتحول إلى تراب وأسمدة، ولا يعد هذا لا خيرًا ولا شرًّا، ولكن يكون في بستان يوسف شجرة تفاح يقطف منها زيد تفاحة فيعد عمله شرًّا وسرقة تستوجب القصاص. يربي الإنسان الماشية ليأكلها وينتفع بلحمها وجلدها وعظمها وبكل ما ينتج عنها. ويذهب الصياد إلى الصيد فيقتنص الحيوانات والطير ويستعملها لما يتراءى له فيعد عمله خيرًا عظيمًا، ولكن إذا لسعت عقرب ولدًا أو لدغت نحلة إنسانًا أو نقد طائر حبة حنطة من بعض حقول الناس عُد هذا العمل شرًّا، أفليس هذا من الغرابة بمكان. وهكذا مما لا نهاية له. فمن هنا ترى يا بني أن الخير والشر ما هو إلا زرع، ونبت الأنانية الإنسانية حسب وجهة نظر الإنسان فيما يتراءى له من الفائدة، إذ ما معنى تحول الماء من جهة إلى جهة للماء نفسه، أو ظهور أرض وغور أرض للأرض نفسها، أو سقوط ثمرة من الشجرة أو قطفها أو أكلها من إنسان أو حيوان للشجرة ذاتها، أو وجود حيوان مفترس أو داجن أو عدم وجودهما هنا أو هناك.

فأجابه نجيب، وقال: يستنتج من أقوالك وبيانك أنه لا خير ولا شر البتة، ولكن كيف توفق هذا مع تعاليم جميع الأديان، وقد اتفقت جميعها على وجود الخير والحث على عمله، ووجود الشر والنهي عن فعله؟ فقال الشيخ: اسمع يا بني: لمَّا ترقى الإنسان وأسس جمعيته الإنسانية، فعاش قبائل فشعوبًا فأممًا، ورأى أن عوامل كثيرة طبيعية تقاومه منها خارجية؛ مثل الحيوانات المفترسة والسامة، والقحل في الأرض، والصواعق والأمطار، والحر والبرد والثلوج، والعواصف وخلافها، ومنها داخلية مثل؛ البغض، والحسد، وحب الانتقام، والكسل، وحب الحصول على جنبي الغير، وهلم جرا مما نشاهده في أنفسنا ونعلمه من ذواتنا، أراد أن يحتاط للأمر ويعد العدة لمقاومة ذلك حفظًا لتلك الجمعية وتقوية وإنماء لها، فاقتبس من غريزته الطبيعية ومما شاهده في أجناس الحيوانات سننًا وطرقًا سار عليها، ولما ترقَّى في عقله وزاد في توهمه وضعف جسمه لترهفه في المعيشة، وكادت الغريزة الطبيعية فيه أن تضمحل، ولم تعد وحدها كافية لوقايته كما في بقية الحيوانات، استعاض عنها بروادع وزواجر خيالية تصورها للاستعانة بها على حفظه وحفظ روابطه؛ لذا تراه في كل نواهيه ومسموحاته لم يقصد سوى مصلحته الخاصة أو مصلحة الإنسانية العامة، إن رأسًا، أو بواسطة؛ غير ناظر إلى خلافها البتة، بل إنه إذا نظر لغيره من الكائنات الأخرى، فإن ذلك يكون لتصور فائدة تعود إليه منها، فعد نفسه السيد المطلق وكل الكائنات ملكًا له، لا بل عد نفسه الكل في الكل. حرَّم القتل نفسه وفي جنسه وأباحه في بقية الحيوانات. حرم السرقة في نفسه وفي جنسه وأباحها في بقية الحيوانات والأشياء. فلماذا إذن يقتل الحيوانات ليأكلها وينتفع بما ينتج عنها؟ ولماذا يحلب اللبن من الماشية فيسرقه من صغارها؟ ويأخذ العسل من النحل فيسلبها قوتها؟ حرَّم الظلم والاستعباد، ولكنه يظلم الحيوانات ويستعبدها؛ فيحملها نفسه وأمتعته ويستخدمها في قضاء حاجاته. حرَّم الزنا؛ لأنه بعد أن ضعفت أو تلاشت فيه تقريبًا الغريزة الرادعة التي تحتم على الحيوانات، لحفظ كيانها، عدم مجامعة أنثاها إلا في أوقات معينة وهو يطلب الجماع دائمًا، أضر به هذا الإفراط أم لا، لما أثاره فيه ترفهه وتفننه وتأنقه في مأكله ومشربه؛ وجب عليه ذلك التحريم لردعه عما يضر به وببني جنسه.

وحفظًا لما اختطه لجمعيته من العوائد والنظامات وما تولد عنها من الغيرة وحب الاستئثار وإرضاءً لما يدعيه من العدل؛ لئلا يتحمل زيد مثلًا تربية ولد هو من صلب عمرو. ومما يدلنا أيضًا على أن هذه السنن ليست طبيعية، وأن هذه التحريمات هي من وضع الإنسان؛ أننا نرى ذلك الإنسان ذاته في كثير من الأحيان يثور عليها رغم ما حصنها به من الوعد والوعيد، فيقتل بعضه بعضًا، ويسلب بعضه بعضًا ويسبي حريم بعضه البعض، ويخرب ويدمر بلاد بعضه البعض، كما يشاهد في كل حرب وفي كل حادثة من هذا القبيل. فمن هنا تستدل على أن الأنانية الفردية والأنانية القومية، والأنانية العنصرية، والأنانية الإنسانية هي التي تحرِّم وتحلِّل حسب ما يتراءى لها من المصلحة والمنفعة. يقولون: إن الخير والشر معرفتهما محصورة في الإنسان فقط مع أن ما يفعله الإنسان يفعله الحيوان، ويساويهما فيه النبات والجماد. فانظر إلى الأسماك في الماء، وإلى الحيوانات على الأرض، وإلى الطير في السماء، تراها تقاتل بعضها البعض، وتفتك بعضها ببعض، وتأكل بعضها البعض، وتتسابق على طعامها، وتتسارقه كما يفعل الإنسان، وتقاتل الإنسان وتفتك به كما يقاتلها، وتقاتل بعضها وتفتك به، وتفتك ببعضها وتسارقه متاعه، كما يسرقها، وتسرق بعضها. ألا ترى يا بني أن الأسد إذا رأى إنسانًا أو كبشًا في البرية انقض على ذلك الإنسان أو الكبش وقتله وأكله، كما يفعل ذلك الإنسان بالسبع إذا قوي عليه فيصطاده؟! وهذا هو الثعلب يسطو على الدجاج فيأخذ منها ما يطيب له، وهذه هي الدجاج أيضًا تنقض على الحشرات في الأرض والديدان فتأكلها، وتفعل بها كما يفعل الثعلب. ما الفرق يا بني بين سارق يهاجمك فيسرق مقتناك، وبينك أنت تجد خلية نحل فتشتار عسلها؟ وبين ذئب يهجم على طفلك أو شاتك فيأخذهما، وبينك أنت تجد عش طير فتلتقط صغارها؟ ما الفرق يا بني بين جار يسرق منك الفاكهة، وبين الطير والحيوان تفعل فعل ذلك الجار؟! ألا ترى أيضًا أن ما فعله هذا الجار تفعله أيضًا تلك الشجرة الغير المثمرة، أو الحشائش البرية التي تنبت بين تلك الفاكهة، فتظلل عليها وتأخذ من نمو أرضها؛ فتقلل من حملها ولربما أيبستها؟ ما الفرق يا بني بين شعوب تثير على بعضها حروبًا طاحنة؛ تميت الولد وتخرب الديار وتذهب بالزرع والضرع، وبين عاصفة تثور فتقتلع الأشجار، وتجرف الأمطار جميع ما فوق اليابسة؛ فتصبح البلاد قاعًا صفصفًا؟ أو زلزال يحدث فتغور الأرض بمن عليها من حي أو نبات أو جماد، ويصبح عاليها أسفلها، وتندثر جميع معالم ما كان كأنه لم يكن؟ وما الفرق أيضًا يا بني بين عصابة تدخل إحدى القرى فتقتل وتسبي وتسرح وتمرح، وبين وافدة من ميكروب قتَّال تدخل في الأجساد وتفعل فعل تلك العصابة؟ أفلا ترى أن جميع هذه الأفعال ولو اختلفت شكلًا وفاعلًا؛ هي في الحقيقة واحدة تساوت في عملها الممالك الثلاث: الحيوان والنبات والجماد. فهذه هي أيضًا الحيوانات وفيها الحقد والبغض والغيرة والغضب كما في الإنسان، وتؤثر فيها المادة كما تؤثر فيه، ففيها البري وفيها الداجن. يخاف الذئب من الأسد كما يخاف الإنسان، ويحقد الجَمل على من آذاه كما يحقد الإنسان. فمن هذا يتضح أن الخير والشر عامَّان يتساوى فيهما وأمام فعلهما جميع ما في الكون، فما هما إلا مظهر من مظاهر التصارع السلبي والإيجابي، ولم يكيفا بالخير والشر إلا حسب تعريف المصلحة الإنسانية.

في البدء ابتدأ التنازع بين الأحياء على القوت والسكنى؛ فانخذل الضعيف وفاز الأقوى، وبدأ الكفاح والعراك بينهما. ومن هذا الكفاح تولَّد الحقد والغيرة والحسد وحب الثأر والاغتصاب وما شاكل؛ لأن الفائز أحب أن يحتفظ بما فاز به ويستزيد منه، والمغلوب أراد للمدافعة وإرجاع ما أُخذ منه، والتمثل بما فعل الغالب، فتأصلت العداوة وأصبح القوي يحاذر من الضعيف والضعيف من القوي. فإن الدببة مثلًا وهي تطلب السكنى في أحسن المغائر كان الإنسان يطاردها ويزاحمها عليها، فيقاتلها وتقاتله إلى أن يجلوَ أحدهما الآخر عنها، فأصبحت تنفر منه وهو ينفر منها. وما يقال عن الدببة يقال عن بقية الحيوانات التي بينها وبين الإنسان عداوة، فإنه زاحمها في الأصل إما على قوتها أو سكناها، أو أنه ناصبها العداء طلبًا لراحته لمضايقتها له في أمر ما، أو أنه أراد الفتك بها ليقتات بها؛ حتى تأصلت العداوة في الفريقين، يتوارثها الأحفاد عن الأجداد، فهي والحال هذه، قد نبتت عن الأنانية؛ لأن الإنسان إذا كان قد عادى الذئب مثلًا، فإنه إنما عاداه ليس لأنه ذئب؛ بل لأن الذئب سابقه على قوته، أو أقلقه في راحته، أو سارقه متاعه، وهذه العداوة دائمة طالما الإنسان يشعر بمقدرة الذئب على أذيته، حتى إذا حل العجز وجاء دور المنفعة تحولت العداوة إلى الرأفة والمطاردة إلى التأمين، كما يرى ذلك في حدائق الحيوانات، حيث يحميها ويعولها ويسهر على راحتها. وهكذا تتجلى الأنانية الإنسانية في كل شيء، كما أنها تتجلى أيضًا بأوضح أشكالها ومقاصدها في جميع ديانات الإنسان ومعبوداته. فإنه لم يدِن لشيء ولم يعبد شيئًا إلا ما تصور منه القدرة على أذيته فعبده تملقًا ودفعًا لضرره، أو ما تصور منه النفع فدانَ له استدرارًا لنعمه.

فسأل نجيب الشيخ فقال: لقد أقنعتني يا شيخ بهذا البيان، ولكني أستوضحك عن هذا الأمر، أليس للإنسان وقد ترقى كثيرًا، وتدرجت معارف بعضهم إلى حد بعيد في كل العلوم والاختراعات والابتكار، والتصور أن يجد طريقة بها يمكنه أن يكيف حاله على قاعدة أخرى أعدل من هذه تفيده ولا تضر بغيره؛ أن من جنسه أو من الحيوانات الأخرى، وتوافق ما يدعيه من الرقي في العقل والعدل والمعرفة، فلا يناقض نفسه بنفسه وقوله بعمله، ويوجد له حياة أهدأ وأهنأ؛ حيث إنه بالحق ليست لهذه الحياة مهما طالت قيمة ما تستلزمه من المشاق والآلام إن نفسية أو جسدية؟ فأجابه الشيخ، وقال: إن وقت الذهاب قد حان، ويكفيك الآن ما قد سمعته، فتأمل به، فموعد الجواب على ما سألت غدًا، فالسلام عليك وإلى الملتقى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤