شعر التسامي١

لم يظفر شعر التسامي Poetry of Sublimation في القرن العشرين بأثر أفخم من ديوان «الشاعر القروي» لرشيد سليم خوري، الذي طلع على الأدب العربي يُمنًا وبركة في مستهل سنة ألف وتسعمائة وثلاث وخمسين، منتظمًا في الواقع سبعة دواوين متعددة الأغراض، ما بين حماسية واجتماعية ووجدانية وفلسفية وإنسانية، في ضروب من الشعر الوصفي والخيالي والرمزي وسواها، بريشة فنان مبدع تجري الموسيقى والشعر في دمه على سباقٍ.
يقول فيما يقول عن الحب:

ذلك حبي الأول. ذلك الحب العذري الذي أومن به؛ لأني خبرتُهُ. ولا أزال أحار في سره وأجده عجبًا عجابًا كيف كنت أرضى بتلك اللذة الروحية من أجمل الصبايا وأحبهن إلى قلبي! ولماذا كنت إذا لقيت غيرها من النساء يضطرم دمي ويضطرب في عروقي كلجة من نار! الحب الطاهر حقيقةٌ لا ريب فيها أيها الشباب.

ويقول عن شغفه بالطبيعة:

أراني في حياتي أشعَرَ مني في شعري، فما زرت بلدة إلا وشاقني قبل التعرف إلى باطنتها وناسها، أن أرود ما يحيط بها من الأرض الفضاء، مصعِّدًا في الروابي، هابطًا الأودية، سابرًا المغاور، جائسًا الكهوف، باحثًا عن الينابيع! وأشد ما يستهويني تلك الهضاب التي تتوسط الصخورُ تعاشيبَها، كأنها الأغنام رابضة في المراعي الخضر، فإذا ما انحجبتُ عن العيون، واطمأننتُ إلى المعزل البعيد، استخفني السرور، وأطَعْتُ سُنَّةَ الهواء والنور، فرحت أطرح عني ثيابي قطعة قطعة، وأنا أطفر بين التلال هازجًا أنفِّر السائمة.

وإذا طغى الجمال كما في «لبنان»؛ فجمع بين سمو الجبال، ونضرة السفوح، وترقرق الجداول، وزُرقة البحر والسماء؛ ردَّني إلى خنوع يُلصق جبيني بالتراب، ويسكب من عينيَّ وشفتيَّ تسبيحةً رطبةً حارةً! وقد يتجسم شعوري بصلة القربى بيني وبين هذه الأكوان، فأنعطف على الشجرة أعانقها، والصخرة أضمها، والزهرة أناغيها، والمَرْجَة أتقلَّب عليها، وأمد ذراعي إلى السماء أحييها، وأبعث إلى الشمس بقبلاتي على أطراف بناني، والشمس حبيبتي الأولى وفتنتي الكبرى، ليس أبعث لنشاطي الجسدي والذهني من الاستحمام بنورها، ولا ينافس إشراقتها في قلبي غير ابتسامة المرأة الحسناء، وأعتقد أن تشاؤم «المعري» كان بقدر حرمانه من كلتيهما، وقد تسكن نفسي المضطربة في المدينة إلى عشبة خضراء بجانب الطريق فأقف عندها، أو أمشي متمهلًا حذاءها شاكرًا لها إحسانًا غير مقصود، وكم هزني الشتاء العاصف كالربيع الضاحك فإذا اهدودرَ الشُّؤبوبُ صحتُ: لبيك! فنضوتُ عني وقفزتُ إليه وبيدي الليفة والصابونة حتى إذا أشبعت جامح رغبتي في الاغتسال بماء السماء عدت فتنشفت، وجلست إلى مكتبي أشد ما أكون استعدادًا لاقتبال الرؤى ونظمها!

ويقول عن شعوره الوطني:

أمتي أنا مكثَّرًا ووطني أنا مكبَّرًا. إذا اقتطع ذئاب الاستعمار منه قطعة فكأنما أكلوا جارحة من جوارحي، وإذا هدروا عربيًّا … فكأنما شربوا نغبة من دمي، وكأن كل بلد قوي من بلادي ساعدي مفتولًا، وكل شعب خامل فيها زندي مشلولًا، بل ما أعدُّ ذاتي إلا خلية في جسد أمتي، أنا واحد من سبعين مليونًا من العرب، كل واحد منهم أنا، فينبغي أن أحبهم سبعين مليون ضِعْف حُبِّي لنفسي … مَنِ افتداهم فكأنما أحياني سبعين مليون مرة، ومن خانهم فكأنما قتلني مثلها، ولذا تراني أصب جامات غضبي على الظالمين وصنائع الظالمين والصابرين على الظلم، بعنف من يدرأ الموت والعار، لا عن نفسه فحسب، بل عن سبعين مليون نفس كنفسه، محشودة فيه شاغلة عالم الأرض من لانهاية روحه، وقدر الشعور يكون الألم، ومن فقد الغيرة أنكر الغضب، وما استكثر اللعنة إلا من استقل الخيانة، وما ياسرَ السفاحين إلا من استهان بدماء قومه فحسبها ماء كدمه! …

ويقول عن كيفية نظمه الشعر:

في أي ساعة وأي مكان، في يقظات الليل، في الشارع، في الحافلة، على المائدة، أثناء الحديث، أدوِّن الخاطرة أو البيت. لم أنظم ليلًا من القصائد التي تعجبني غير «حصن الأم» و«تحية الأندلس» ولعلهما خير ما نظمت. أما سائرها فنهارًا في سفراتي، أو في الحدائق العامة، أو الضواحي الهادئة، مندمجًا في الطبيعة، مرسلًا نفسي على سجيتها.

ويقول عن رأيه في الشعر:

إنه أرفع الفنون، وقد يسمو حتى يداني مرتبة النبوة، وللشعر أربابه الموهوبون، فلا يُغني في نظمه أن تكون «سقراط» أو «ميشال أنجلو» أو «الفيروزابادي».

والشاعرية كاللانهاية، لا حُدودَ لها؛ فكلما تعددت جواء الشاعر كان أدل على انطلاق روحه واتساع مملكته. وكل ما يقع ولا يقع تحت الحس في هذا الوجود العظيم يستحق أن يكون موضوعًا للشعر، فالموضوعات قديمة كالزمان، ولا جديد إلا ما يخلقه خيال الشاعر، ويخلعه على موضوعه من فاتن الصور. ثم إن من الشعراء من يضرب المثل فيجمع عالمًا في بيت، ومن يبسِّط الفكرة فيشيِّد قصرًا ذهبيًّا من آجرَّةِ الطين، ومن ينفض مزادة نفسه فيشبع الملايين من جياع الروح.

ويقول عن سبب غلبة «الحماسة» على شعره:

ما كدت أنهض بقادمتيَّ حتى صكت مسمعي أناتُ أمتي ولفحتْ وجهي زفراتُها، فطويت جناحي عند سريرها مخضعًا خيالي لواقعها الأليم، مقدمًا واجب تمريضها على التغريد في الخمائل والتنقير بين الحقول، ولو أني أدركتُ أمتي صحيحة قوية لحلَّقْتُ مع الأسراب في ألف سماء بعد سمائها. لقد سلب اللصوص نصيب أمتي من خبز الحرية والعدالة والحق، وغادروها في وطاء الذل مدنفة تدمِّيها القيود، والحرية والعدالة والحق أسمى المعقولات التي ينشدها الإنسان الراقي، بل أغلى الجواهر الروحية المشعة من صدر الرحمن. لا يحيا قلب بشرى نبيل إلا بقطر نداها، ولا يمكن أن يُتَصَوَّرَ خيرٌ ولا جمال ولا سعادة في هذا الوجود إلا بانعكاس نورها، فما شعري الحماسي إلا ألم صارخ من أغوار نفس أُزعجت عن ذلك المحل الأرفع ومثله العليا، فهي دائمة الحنين إليها والتوجع لفراقها، والسجع بذكراها واستنزال بركاتها وتثبيت ظلالها الفاتنة، وتوضيحها في لوحة الحياة، وما الشاعر الوطني الحمِيُّ في أمة مستعبدة إلا الشاعر الإنساني قبل أي شاعر سواه؛ لأن هذه المبادئ التي يُسَبِّحُ لها ويصلي في محرابها، ويجاهد في سبيلها، ليست معبودة وطنه فحسب، بل هي معبودة الأوطان جميعًا، ولعمري أية قيمة وأي سرور وأي فأل يجد المتبجِّحون بإنسانيتهم المتخدِّرة، في عالم لا حرية ولا حق ولا عدالة فيه؟ ولئن زعموا أن الإنسانية أولى بالتقديم فليورِّثوها أموالهم من دون أبنائهم إن كانوا صادقين، وهَبْ أصاب من قال: «لقد كان في وسعي أن أصير شاعرًا عالميًّا، لولا حصري شاعريتي في أفق الوطنية المحدود»، فإني لست بآسف أني أحببت أمتي وبلادي أكثر من نفسي، وإني حاولت أن أفتدي مجدها بمجدي وخلودها بخلودي. وبعد، فلا يُفْقَهَنَّ من قولي هذا أن الشاعر الحماسي أشعر من سواه، فمن الشعر الوطني ما هو أتفه الشعر ومنه أنفَسُه، ومقياس الشاعرية إنما هو الإجادة أيًّا كان الموضوع. إن القرازيم لَمُسِفُّون ولو اتخذوا سدرة المنتهى أو سُدَّة العرش عنوانًا لما ينظمون. وما حق الخلود إلا للمجلِّين وإن كانوا كفارًا.

هذا بعض ما يقوله شاعرنا العبقري من ملاحظات سديدة في تصدير ديوانه الرائع الذي تتألق فيه الشاعرية أسمى التألق، فإذا ما انتقلنا إلى قصائد الديوان ومقطوعاته رأينا شعر التسامي — ولا غيره — يطل من جميع بيوتها، ورأينا الأصالة المشرقة تصافحنا وتهدينا.

استمع إلى هذه القصيدة الظريفة ينعي فيها حجب الوجه وكشف الساق، وهي من بواكير شعره:

لِحَدِّ الرُكْبَتَيْنِ تشمِّرينا
بِرَبِّكِ أيَّ نَهْرٍ تَعْبُرِينا؟
مَضَى الخلخالُ حين الساقُ أمْسَتُ
تُطَوِّقُها عيونُ النَّاظرينا
هَوَى عرشُ الجمالِ عن المُحَيَّا
إلى الأَقْدامِ فاستْهْوَى العُيُونا
كأنَّ الثوبَ ظِلٌّ في صَباحٍ
يَزيدُ تَقُلُّصًا حينًا فحِينا
تظنينَ الرجالَ بَلا شُعورٍ
لأنكِ ربما لا تَشْعُرِينا
وليس بعاصمٍ عقلٌ ودِينٌ
فكم سَلَبَ الهوى عَقْلًا ودِينا!
وماذا يَنفعُ التهذيبُ نفسًا
تحاربُ فيكِ إِبليسَ اللَّعينا؟
فيا ليتَ الحِجابَ هَوَى فأمْسى
يردُّ السَّاقَ عَنَّا، لا الجبينا
فإنَّ السَّاقَ أَجْدَرُ أن تُغطَّى
وإنَّ الوجهَ أَوْلَى أن يبينا

أرأيت الشاعرية الطليقة والرشاقة في التناول والأداء؟ إنها بعينها المتجلية في جميع شعره، حتى شعره الثائر.

استمع على سبيل المثال إلى مقطوعته في «فساد الأخلاق»:

زمنٌ يَسُودُ به الحَسُودُ فمن سَعَى
فنجاحُه سببٌ لهدمِ نجاحهِ
ساءتْ به الحسناتُ حتى كاد أن
يَخْشَى الضليلُ بهِ طُلُوعَ صَباحِهِ
فإذا أردتَ بأن تحقِّر صالحًا
يكفيكَ بين الناسِ ذكر صَلَاحِهِ
وإذا مدحتَ فتًى فعَظِّم شَرَّهُ
فلقد غدا فَخْرُ الفَتَى بطلاحهِ!

واستمع إلى قصيدته «عند الرحيل»:

نصحتك يا نفسُ لا تطمعي
وقلتُ: حَذَارِ! فلم تَسْمَعي!
فإن كنت تستسهلينِ الوداعَ
كما تدَّعينَ، إذَنْ وَدِّعي!
رَزَمْتُ الثيابَ فَلِمْ تحجمين؟
ولِمْ ذا ارتعاشُكِ فِي أَضْلَعِي!
ألا تَسْمعينَ صياحَ الرِّفاقِ
وتجديفَ حوذيِّنا؟ أَسْرِعِي!

•••

رأيتُ السَّعادةَ أُخْتَ القَنُوعِ
وخِلْتِ السَّعادةَ في المَطْمَعِ
ولَمَّا بَدَا لكِ عَزْمِي قَنِعْتِ
وهيهات يُجديك أن تقنعي!

•••

خرجتُ أجرُّكِ جَرَّ الكَسيحِ
تَئنينَ في صدريَ المُوجَعِ
ولَمَّا غدونا بنصفِ الطريقِ
رَجَعْتِ، وليتك لم تَرْجعي!
لَئِنْ كنتِ يا نفسُ مع مَنْ أُحِبُّ
فَلِمْ ذا اشتياقي ولِمْ أَدْمُعِي؟
أظنك تائهة في البحارِ
فلا أنتِ معهم ولسْتِ مَعِي!

•••

كفاك اضطرابًا كصدر المحيط
قِفي حيث أنتِ ولا تَجْزَعي
سأقْضِي بنفسي حقوقَ العُلَى
وأَرجعُ فانتظري مَرْجِعِي!

واستمع إلى مقطوعته «وكتمت حبك»:

ضاقتْ حنايا الأرضِ عن سِرَّ الهَوى
فَتَنَفَّسَتْ عن أَنْجُم ولآلِ
وكتمتُ حُبك فاكتستْ من وَشْيهِ
حُلَلُ البيانِ نفائسًا وغوالي
لولا الصَّبابة يا «لُمَيةُ» لم أَضَعْ
عَرش القَيَاصِرِ تحتَ عَرْشِ خَيَالي
أطلَعْتِ في فَلَكِ الجَمالِ كواكبًا
إِشْعَاعهُنَّ خواطرٌ وأمالي!

واستمع إلى هذه الأبيات من قصيدته «لمياء هاتي العود»:

«لمياء» هاتي العُودَ نبك صِبَانَا
راحَ الخريفُ بوردنا ونَدَانا
لا، لا، أنا وحْدِي الذي ثَكلَ الصبَا
حاشا لُحِسْنِك أن أقولَ كِلانا
لَكَم التمستُ البُرْءَ من داء الهَوَى
بالبُعْدِ عنكِ فَزِدْتُهُ إزمانا
أتكلفُ السلوانَ منكِ تكلفًا
يُدْني العذابَ ويُبْعِدُ السُّلوانا

وأخيرًا استمع إلى هذه «الموجات القصيرة»:

تَكبَّرْتَ لما زادكَ اللهُ ثروةً
وأَيْسَرُ خَطْبًا من تكبُّرك العُدْمُ
قد اتخذَ العلمُ التواضُعَ صاحبًا
فصاحبْ رفيقَ العِلْمِ إِنْ فاتكَ العِلْم

•••

يا مَنْ يَعُدُّ عليَّ كلَّ صغيرةٍ
إنْ لم تكنْ متساهلًا كُنْ عادلا
إنْ كُنْتَ مِثْلِي ناقصًا فاعذِرْ، وإنْ
تَك كاملًا فاعذِرْ لِتَبْقَى كاملا

•••

لَعَمْرَك لو لم يَنْضُب الماء ما خَلَتْ
رُبوعٌ ولم يَعْمُرْ سحيقُ المواردِ
ولو كان عند الناسِ للناسِ رحمةٌ
لما التمسوها رُكَّعًا في المَعابِدِ!

•••

إنَ الصديقَ لَيْشبِه السيفَ المجرَّدَ في يَدَيَّا
ألقَى به نُوبَ الزمانَ إذ عَدَتْ يومًا عَلَيَّا
والخيرُ إن أُغْنَى عن استعمالهِ ما دمتُ حيَّا

•••

حسبتُك خيرَ إخواني، لهذا
قصرتُ عليك في الحُبِّ احتجاجي
فإنَّ الزيفَ في (الألماس) يُخْشَى
ولكنْ ليس يُخشَى في الزُّجاج!

وبعد، فقَلِّب الديوان كيف شئت لترى عزة النفس وعزة الفن في أرفع الصور، وأنفس الحُلَى والأناقة الفطرية، وأجمل هذه الحُلَى: النزاهةُ، والإخلاص، والتواضع المقترن بالحرص على الكرامة، والشعور بالواجب، والإحساس بالمسئولية دون تبجُّح؛ كزعيم أدبي جليل الخطر، ويقيننا أن هذا الديوان سيخلد في عالم العروبة نبراسًا وهَّاجًا لأجيال وأجيال، وشعارًا نابضًا بحب الحق والحرية!

١  Poetry of Sublimation.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤