محمود أبو الوفا

حينما تهتم أمة بتنظيم حياتها وتوفير أسباب نهضتها، فإنها لا تهمل أيًّا من العوامل المؤثِّرة في تنشئتها، سواء أكانت هذه العوامل مباشرة أم غير مباشرة، خطيرة أم هينة.

ولا ريب أن الآداب والفنون ليست بأهونِ هذه العواملِ، كما لا ريب في أن حسن استغلالها يعاون معاونة قيمة في تربية الأمة وإعدادها لخير ما تتمنى، ولا قيمة لهذه الآداب والفنون إذا لم تكن حرة منسجمة مع المبادئ الإنسانية العالية، وإلا بقيت لهوًا وتسلية واستحقت نعتًا آخر، وكانت مهربًا فحسب من مواجهة حقائق الحياة.

ولا يطالَب أي فنان بأكثر مما يستطيع جهده، أي بأفضلَ مما تسمح به طاقته أو ميوله، ولكن إذا كان في وسعه — غير مُتصنِّع — أن يكيف نفسه، بحيث يستوعب المثل الإنسانية والمبادئ التقدمية في شعره مثلًا؛ كان بذلك مُسْدِيًا خدمة أجل للبشرية!

نسوق هذه المقدمة، ونحن جَذِلُون؛ إذ نهتم بالكتابة عن ملحمة «عنوان النشيد» للشاعر المصري المطبوع «محمود أبو الوفا» الذي يقول:

استمعْ لي: إنَّ مِنْ حَقِّ الحياهْ
لِلْفَتَى؛ إمَّا يَعِشْ عَيْشَ إِلهْ
أو يَمُتْ كالصَّوْتِ لم يُسْمَعْ صَدَاهْ!

ففي هذه الملحمة التي بلغ عد أبياتها واحدًا وخمسين وثلاثمائة، وقد أخرجتها مطبعة مصر بالقاهرة في ثوب أنيقٍ، زادت في رونقه الصور الخلفية الملونة التي رسمتها ريشة الفنان «لويس فلسطين»؛ نجد شاعرنا يطوع مواهبه للنداء الإنساني الذي ينطوي على الإصلاح التقدمي، فيغنم الأدب الإنساني؛ كما تغنم العربية من هذا المجهود الجديد الموفق، وليس هذا بغريب عن «محمود أبو الوفا» فإن البذور الأولى لتفكيره هذا ملموسة في ديوانيه السابقين «أنفاس محترقة» و«الأعشاب»، وهي بذور السخط على الفساد، وعلى الظلم الاجتماعي وغير الاجتماعي، وهي بذور الحرية و«حق تقرير المصير»، وهي بذور التسامي عن الدنايا؛ كيفما كانت بواعثها وألوانها!

«وأبو الوفا» أحد اثنين من شعراء القاهرة المترسِّلين، اللذيْنِ يكاد يكون شعرهما نثرًا، ولكنه نثر مصري الروح والسمات، وكلاهما شاعر مطبوع. أما الآخر فالأديب «محمد رضوان أحمد» عضو نقابة الصحفيين المصريين، ومؤلف الكتاب الروائي الشعري النفحات «في جنة الفردوس مع سبعةٍ من زعماء الشرق»، ولكن حينما يُعْنَى «أبو الوفا» بالديباجة المصرية البحتة صاعدًا بعاميتها إلى الفصحى، أو على الأقل إلى ما تقبله قواعدها، نجد «رضوان أحمد» يزاوج بين العربية الجزلة، والسلاسة المصرية المترسلة فيقول:

ومَتَى سُئِلْتَ عن البلا
دِ فَقُلْ: تَقَارَفَ كلُّ حُوبِ
تشكو من الظلمِ الغريـ
ـبِ وما الظَّلُومُ سِوَى القريبِ
عاثتْ بها الجرذانُ واجـ
ـترأتْ على الأسَدِ الرَّهيبِ
حُرَّاسُها سُرَّاقُها
وحُمَاتُها عَوْنُ الغريبِ
لا يُحْسِنوَن سِوَى الخنُو
ع وفي الخُنوعِ ردَى الشعوبِ
بُهْمٌ بِمِلْءِ بُطونِها
غَفَلَتْ عن الخَطَرِ القَريبِ
مِنْ نَبْأَةٍ تَذَرُ الدِّيا
رَ إلى المَخابئِ والدُّروبِ
لا يَحْفِلُونَ مِن الحيا
ةِ بغيرِ كأسٍ أو لَعُوبِ!

ولولا ديباجة «أبو الوفا» المصرية البحتة لخلنا هذه الأبيات الوطنية من نظمه. أليس «أبو الوفا» هو القائل عن روحه الهادي في «عُنوان النشيد»:

وبَدَا في الرُّوحِ روحُ الهَيمَانْ
فهو لا يَنزلُ في أيِّ مَكانْ
دونَ أن يَسْأَمَ مِنْ هذا المكان
ما لَهُ — يا ليتَ شِعري — لِمَ طارْ؟
هل تَراه إذْ رَأَى الظُّلْمَ استطارْ؟
وكأنَّ الدَّهرَ بالناسِ استدارْ
فأمورُ الخَلْقِ في أيْدِي الصِّغارْ
وكأنْ لم يَبْقَ في الدُّنيا كِبَارْ
قال: لا، لم يَبْقَ لي إلَّا الفِرارْ!

وهو الذي يُناجي ذلك الروحَ النازحَ الساخط على المجتمع بقوله:

أيُّهذا الروحَ هل لي مِنْ جَوَابْ؟
هل أَظلُّ العُمْرَ أدعو لا أُجابْ؟
أي غابٍ أنا فيه، أيَّ غابْ؟
فتني يا رُوحُ مِنْ غَيرِ صِحابْ
للنُّمورِ الحُرْدِ، للأُسْدِ الغِضَابْ!
لِلْأفاعي الزُّرْقِ، أو زُرْقِ النِّيابْ
والعجيبُ الآنَ في غابِ العُجابْ
أنَّ هذا الغابَ يُحْمَى بالكلابْ
الكِلابِ السُّودِ أشباهِ الذِّئابْ!

يدور هذا النشيد أو الملحمة حول تمجيد الفضيلة القوية، وهي وحدها القوة التي يحترمها الشاعر الذي يعتبر الضعف «فُضولًا» في هذه الأرض، ويرى أن «قانون البقاء»:

وهو ما في النَّاسِ يُدْعَى بالقَضاءْ
قد رأى في هؤلاء الضُّعفاءْ
أنَّهم في الناسِ جاءوا دُخَلاءْ
كالطُّفَيْليَّاتِ في الزرعِ سواءْ!

وهو بروحه الشعرية يعتبر أن «آدم» نزل إلى الأرض مختارًا، وأنه سأل الله أن يهبه «حق تقرير المصير»، فاستجاب الله إلى دعوته، وهو ينعي على الإنسان ضعفه وتردده، وجهله بتثمير اقتداره ومواهبه؛ كما أنه يمجد أمنا الأرض إلى آخر بيتٍ في ملحمته؛ إذ يناجي روحه الهادي أو روح السماء، الذي فر من الأرض سخطًا على ما فيها من آثامٍ ومظالمَ، وراح شاعرنا يبحث عنه قارعًا باب ذي العرش المجيد، في بحثه ونشدانه الحق، ولا يفوته غير مرة أن يسخر من محتكري النفوذ ومن بهلوانيتهم في التغرير بالجماهير، فيقول على لسان ذلك الروح السماوي الساخر:

وقُصارَى القَوْلِ، في أيِّ مَكَانْ!
كنتَ فيه كنتَ أنتَ البهلوانْ!
هو ذا يا صاح فنُّ الافتتانْ!
وهو في العِلْيَةِ فَنُّ اللمعانْ!
وهو ذا أعظمُ فَنٍّ في الزَّمانْ!

ومع أن في هذه الملحمة القيمة مقاطيعَ أو أبياتًا كان يمكن الاستغناء عنها؛ لأنها بمنزلة تكرار أو إشباع أو توكيد لا موجبَ له، ومع أن بعضها ضعيف النسج مثل مقطوعته عن تساؤل «آدم» ص١٠-١١ إلا أن فيها فرائدَ ممتازةً جديرةً بالتنويهِ بها، سواء أكانت مبتدعة أم مردَّدة؛ فمن هذه الأمثلة الجميلة قوله:

وتَغَنَّى الرُّوحُ لَحنًا فأجادَهْ
قالَ: إِنَّ الضَّعْفَ والقوَّةَ عادهْ
مَنْ يُوجِّهْ وُجْهَةَ الأمر اعتيادَهْ
يُصْبِح الأمرُ له رَهْنَ الإرادَهْ
إنَّ فِي الإنسانِ طاقاتِ اقْتدارْ
آهِ لو يَعْرِفُها كيف تدارْ!
آهِ لو يَقْوَى اعتدادًا وإرادَه!
لاستقلَّ الأرضَ أُفْقًا للسِّيادَه
أنتَ يا إنسانُ للأرضِ الملِكْ
كيف لا تحكمُ فيما تمتلكْ
بينما الدُّنيا جميعًا هي لَكْ؟!
(آدَمٌ) قبلكَ بالأرضِ افتتنْ
فاشتراها بائعًا فيها (عَدَنْ)
يا ضعيفَ الرأي إياكَ تَظُن
أنه أَسْرَفَ في هذا الثَّمن!
إنَّه عن قوةِ الطَّبْعِ نَزَعْ
وللاستقلالِ بالملكِ ابتدَعْ
لم يكنْ (آدمُ) مسلوبَ الجنانْ
يومَ لم يُذْعِنْ بسلطانِ الجِنانْ
ليسَ يرْضَى رجلٌ حُرُّ الفُؤادْ
عن حياةٍ ما لهُ فيها جِهادْ
خيرُ ما في النفس هذا الاعتدادْ

إنْ «آدم» في عرف المؤلف الشعري قد اشتاق حريَّته بأيِّ ثمنٍ، فابتهلَ إلى اللهِ قائلًا:

رَبِّ هَبْ لي حَقَّ تقريرِ المصِيرْ!
هذه أُولَى وأُخْرَى طِلْبَتي
أعْطِني حَقَّيَ في حُرِّيَّتي
ثمَّ خُذْ ما شِئْتَه من جَنَّتِي
ولتكنْ مهما تكنْ لي قِسْمَتِي!
هكذا «آدم» مِنْ فوق الجنان
هبط الأرض على رأس الزمان
وكذا الإِنسانُ قد أرضَى اعتدادَهْ
وعلى مُلْكِ الثَّرَى شادَ عَتَادَهْ!

ولكن شاعرنا لا يرضيه أن ينسى نسلُ «آدم» تقاليد جدهم الأول، الذي شُغِفَ بهذه الأرض، كما حسب الشاعر، ولذلك قال عن الإنسان:

ليتَه وجَّهَ للأرْضِ الدُّعاءْ!
مِثْلما وَجَّهَهُ نحوَ السَّماءْ!
غيرَ أنَّ النفسَ لمَّا استرخَصَتْ
طِينَها لم تُعْطِهِ حقَّ العِبادَهْ!
ولهذا فَقَدَتْ حقَّ السِّيادَهْ
دُونَ أن تَشْعُرَ، والأشياءُ عادَهْ
بينما الإنسانُ لو شاءَ استعادَهْ!

ومن أجمل مقطوعاته هذه التي يوحي فيها إلى الإنسان الثقة بذاته والعمل لمجده فقال:

آه لو آمَنَ إنسانٌ بِذَاتِهْ
لأتَى في الأرضِ كُبرى مُعجِزاتِهْ
ربَّما كان إلهًا في صِفاتِهْ
حَلَّ منه الرُّوحُ في كلِّ جهاتِهْ
ليس للإنسان إلَّا ما سَلَكْ
فهو إنْ شاءَ تَرَوَّى فَهَلكْ
وهو إنْ شاء إلهٌ أو مَلَكْ!

ومن خير شعره الاجتماعي في هذه الملحمة قوله:

أيُّها النَّاسُ! ألَا مَنْ يَختَرِعْ
اختراعًا واحدًا يَشْفِي الطَّمَعْ
ويُداوي الناسَ مِنْ داءِ الجَشَعْ؟!
اضْمَنُوا لي الآنَ هذا الاخْتراعْ
وأنا أضْمَنُ إشباعَ الجِياعْ!
ليتَ مَنْ نادَى بتحرير البِقاعْ
كانَ قد نادَى بتحرير الطباعْ!

ومع ذلك تمنى في ختام ملحمته لو أن لقاءه بروحه الهادي روح السماء كان على هذه الأرض، وإذا كان ثمة رجاء فليكن في الأرض تحقيق الرجاء:

لا تَقُلْ لي في غدٍ عندَ السَّماءْ
سوف تَلْقى الروحَ أو تَلْقَى الصَّفاءْ
ولماذا لم يكُن هذا اللقاءْ
ها هنا في الأرضِ إنْ كان لقاءْ؟!

وهكذا نجد «محمود أبو الوفا» في هذه الملحمة يسمو إلى منزلة الشاعر الوطني المصلح الرائد، بل الشاعر الإنساني الذي يحس فِطْرِيًّا بأنه وفَنَّه وفكرَه وَقْفٌ على خير البشرية، وأن الإنسان في ذاته أعظم ملحمة شعريةٍ على هذه الكرة الأرضية، وأن الحياة ليست مجرد أكل وشرب ولهو، بل هي تجارب شاملة منها وإليها، لا دربًا واحدًا ولا تجربة محدودة، وأن الشاعر ليس دون سواه من أقطاب الأمة في الرياد والإلهام نحو مثل أعلى، وعلى الأخص في البيئات التي أورثتها أزمنة الانحطاط السابقة روح التواكل والقدرية الخاطئة والتعلق بالأوهام وحب الاختباء في الكهوف، بدل الاندماج في موكب الحضارة والانتفاع بنور العلم، وهو في كل هذا لا يأتينا بحِكَمِ «زهَيْر بن أبي سُلمَى» ولا بإنسانيَّات «بوب»، وإنما يأتينا بما توحيه إليه بيئته المصرية وروح العصر الحاضر، ولذلك نَعُدُّ ملحمته هذه لبنة صالحة في بناء الشعر القومي الشريف الإنساني الصبغة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤