الشعر المسرحي

حيثما قال الشاعر:

لا عَرَفْتُ الحياةَ إنْ كان فَنِّي
ما بَدَا لي ولستُ أخْلُقُ فَنِّي
أنا بَعْضٌ من الوجودِ، ولكنْ
كُلُّ ما في الوجودِ مِنْ بَعْضِ كَوْني

إنما كان يعبر عن إحساس يستبد بكل فنان أصيل، هو الحنين إلى الخلق، والإيمان بالإبداع، والتجاوب الشامل مع الوجود، ليس هذا الإحساس لونًا من الغرور — كما قد يراه الناظر السطحي — وإنما هو تصوف عميق واندماج متناهٍ في الطبيعة، وإن تلون بالإحساس الذاتي والشعور بالطاقة الفنية.

كلما قرأنا أثرًا من الآثار التي توصف بأنها «فنية» مَر بخاطرنا المعنى الشعري السالف الذكر وساءلنا أنفسنا: هل من إبداع بهذا الأثر؟ ما قيمته كفن مجرد؟ هل له أية رسالة قد يعتز ويرقى بها الفن وتسعد الإنسانية؟ وإذا لم يكن هذا ولا ذاك تساءلنا: أثمة خسارة إذن لو أننا فقدنا هذا الأثر فقدًا تامًّا، أو على الأصح لو أنه لم يوجد؛ إذ إن بعض ما يوجد لا يُحَسُّ به؟

كم من كتاب أو رسالة أو قصيدة تعد في حكم الميتة يوم ولادتها لتجرُّدِها من عناصر البقاء، وأولها الجدة الفنية، وغيرها يعيش على هامش الآثار الفنية؛ لأنه بمنزلة شروح لها أو تكرار أو تبسيط! وإنما يخلد ما اتسم بالإبداع الفني، وما احتفظ بقيم أزلية من الحق والجمال.

وهكذا كان موقفنا أخيرًا حينما تلقينا المسرحية الشعرية «هيروديَّا» من تأليف الشاعر يوسف الخال محرر جريدة «الهدى» اليومية في نيويورك.

تقع هذه المسرحية في سبعة وثلاثمائة من الأبيات متعددة القوافي ولكنها من بحر واحد هو الخفيف، وتنتظمها ثلاثة فصول، رُوعيتْ فيها وَحدة الزمان والمكان، أما مصدرها فقصة «الإنجيل» الشريف عن قتل «هيرودوس» ملك الجليل «ليوحنا المعمدان»؛ تلبية لطلب «سالومة» ابنة «هيروديَّا» زوجته الثانية، وكان تزوج من ابنة «الحارث» ملك دمشق ثم أعادها إليه بعد أن وقع في غرام «هيروديا» امرأة أخيه «فيليبس»، فتحدى بذلك شرف السوريين وشريعة موسى، التي تحرم الزواج من ابنة الأخ، وجاء «يوحنا المعمدان» يعلن سخطه على هذه الزِّيجة، فيلقي به «هيرودوس» في السجن، وما يَحول دون قتله إيَّاه إلا خوفُ «هيرودوس» من ثورة الشعب، ولكن «هيروديا» لا تقنع بذلك، ولا يرضيها إلا قطع رأس «المعمدان»، فتغري ابنتها «سالومة» بفتنة «هيرودوس» واستهوائه في ساعة ضعفه وعبثه؛ ليعطيها رأس «المعمدان» على طبق يصحبها في رقصها الخليع، وتنجح حيلتها مع ابنتها، كما تنجح حيلة ابنتها مع «هيرودوس»، فيلبي بعد تردد طلبها في غمرة شرابه، ويعقب ذلك ثورة الشعب وقيام السوريين ضده واضطرار الرومان إلى خلعه ونفيه؛ تهدئة للجماهير.

قرأنا هذه التمثيلية مرتين قبل التفكير في الكتابة عنها، وعُنينا عنايةً خاصة بالتأمل في مستواها الشعري إلى جانب مستواها الدرامي، وفي ذهننا الطريقة التي تناول بها الموضوعَ ذاتَه أدباء غربيون من قبل، كذلك عنينا بمقدمة المؤلف؛ لنتبين منها فلسفته الأدبية وموحيات عمله، فخرجنا من كل هذا بالنتائج الآتية:
  • (١)

    رواية «هيروديا» غنم للأدب المسرحي وللشعر العربي المعاصر؛ لأنها تجربة إضافية تزيد من ثروته، كما أنها عرض لإيديالية أصبحت مقدسة لدى العرب جميعًا.

  • (٢)

    بعد اطلاعنا على هذه المسرحية لا نرتضي فقدها، وبعبارة أخرى إنها ذات قيمة أدبية أصيلة؛ ففي زوالها خسارة؛ لأنها تسدُّ فراغًا.

  • (٣)

    إذا كان يوسف الخال من الشعراء المُقلِّين فليس هذا بضائره، وإذا كان من الشعراء البطيئين فليس هذا بمنتقصه، فالعبرة بقيمة العمل لا بعدد المصنفات، ولا بالوقت الذي يَسْتغرقُه وَضْعَها، وقد يشتهر الشاعر بل يخلد بقصيدة واحدة، في حين يلازم الخمول شاعر آخر مكثار، ومن النادر أن يجمع الشاعر بين الكثرة والإجادة، وها هو ذا يوسف الخال قد نظم هذه المسرحية على فترات ما بين سنة ١٩٤٧ في بيروت، وسنة ١٩٥١ في طرابلس الغرب، وسنة ١٩٥٣ في نيويورك.

  • (٤)

    موضوع الرواية درامي عنيف، وهو في رأينا يستأهل تَبَسُّطًا، أي معالجة أفسح، وعلى الأخص؛ لأن للمؤلف مثالية قومية، بل إنسانية تمخضت عنها هذه المسرحية. صحيح أن من حقه أن يقول إنه مكتف بهذا القدر من المجال والتناول، ولكن من حيث إنه يريد أن يعرف وقع تأليفه في نفوس النقاد الغيورين النزيهين فهذا رأينا، دون أن نعني بذلك أن الرواية غير كافية للتمثيل، ولكنها في رأينا — بصورتها الحاضرة — أصلح للأوبرا التي لا تتطلب التعمق في تحليل الشخصيات والمواقف، أو للإذاعة المحدودة الوقت عادة، أو للقراءة فحسب.

  • (٥)

    تتم ديباجة الشعر ومناحيه على تشيع يوسف الخال لمدرسة سعيد عقل الوصفية الحسية، وهذا ملحوظ منذ بداية الرواية بخطاب «هيروديا» الموجه إلى وصيفتها «تامار»:

    ضَمِّخِيني «تامارُ»! في جسدي عرس وفي أضلعي هزيج مراح
    وهنا في جدائلي سمر الليل، وهام الصباح خلف وشاحي
    وافرشي فوق مضجعي خصل الورد وصبي الخمور في أقداحي!
    ليلة هذه، تفوق لياليَّ ارتماءً على الشَّهِيِّ المتاح
    من عناقي ومن ترنح أعطافي ومن دفء نشوتي والتياحي
    فانهياري سَكْرَى على قدم الشهوة في ذلة وخفض جناح!
    ضمخيني «تامار» للطِّيبِ وَقْعٌ، دونه وقع نزوتي وجماحي
    واتركيني للحب نهب فراشات تهاوت على خدود الأقاحي
    ونوالًا تعرت النفس فيه واستحمت كنشوة في الراح
    فإذا مخدعي «لهيرود» ظل في مساء وكوكب في صباح
    وزوال الوجود في رعشةٍ حَرَّى على وهْج قبلة ملحاح!

    إلى آخر هذا النشيد الجميل المتناوب ما بين «هيروديا» و«تامار»، دع عنك وصف «هيرودوس» لما في خزائنه من نفائس، ودع عنك النشيد الغنائي الفاتن، في مطلع الفصل الثالث الذي تستهله «هيروديا» بقولها:

    أومأ الفجر يا حبيب وهذا مضجعي طال شوقه لاحتضانك
    فترفق به، وراودْ على الدفء وخذني بغامرٍ من حنانك!
  • (٦)

    على الرغم من الإيجاز وُفِّق الشاعر بخطوطه القليلة إلى التصوير المؤثر كما نرى في المشهد الثالث للفصل الأخير؛ إذ لم يتجاوز عدد أبياته سبعة وعشرين بيتًا، حينما هو خير مشاهد الرواية على الراجح.

  • (٧)

    تحتاج مقدمة الرواية إلى تحقيق أدقَّ، فشعراء العربية الذين عنوا بالتمثيليات سواء في أوطان العروبة أو في المهاجر أصبحوا جمهرة، وليسوا ثلاثة كما ذكر المؤلف الفاضل، ونحن الآن في عصر «الراديو» و«التلفجن» ومن ثَمَّةَ كانت الكلمة المخطوطة المُذاعة معادلة على الأقل للكلمة المطبوعة، وفي مجال التحقيق العلمي لا بد من تقدير المخطوطات أيضًا، فما بالك بآثار موطدة منذ نصف قرن بل أكثر كآثار الشيخ نجيب الحداد رائد الأدب الدرامي، وهو لبناني الأصل وخليق باعتزاز اللبنانيين به، وفي المهجر الأمريكي وحده مسرحيات شعرية متعددة لا يُستهان بها وفي مصر أرخ الدكتور مختار الوكيل في كتابه «رواد الشعر الحديث في مصر» لِمَا فات أديبَنا الألمعيَّ يوسف الخال، وكذلك فعل الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي في جملة من كتبه، وفعل النقادة الشهير الأستاذ السحرتي.

  • (٨)

    إن الموطدين للتمثيليات الشعرية استعانوا بالسماحة في الأسلوب وبالتحرر النظمي فتوسلوا بالشعر الكلاسيكي وبالشعر المرسل وبالشعر المختلط وبالشعر الحر حسب المواقف والمناسبات، في حين قيد شاعرنا يوسف الخال نفسه تقييدًا شديدًا بدل إرسالها على سجيتها، وكذلك كان يفعل معظم القدامى فأساءوا إلى شعرهم وإلى أنفسهم بمجافاتهم التحرر، ومع ذلك يقول الأستاذ يوسف «الخال»: «… قد تكون «هيروديا» آخر ما سأنتجه من أدب في هذا الأسلوب الشعري العتيق؛ فإنه من العبث الاستمرار في استعمال أساليب شعرية لم تعد تصلح للتعبير الكامل الطليق عن خوالج النفس، ولا أعني القوافي والأوزان فحسب؛ بل اللغة نفسها أيضًا.

فأزمة الحياة العربية إجمالًا هي أزمة لغة كما هي أزمة عقل، ومهما طال الوقوف في وجه الحياة فلا بد عاجلًا أو آجلًا من الانصياع إلى نواميسها، وإلى أن يتم ذلك يظل الأدب العربي الحديث أدبًا مصطنعًا محدودًا لا يتجاوب مع نفس القارئ ولا يعكس حياته.» وعندنا أنه لا غبار على أي أسلوب يطابق مقتضى الحال، وإنما العيب هو الافتعال والتصنع والنحت المُغالى فيه.

ولا يسعنا في ختام هذه الكلمة إلا أن نقول لشاعرنا الفاضل: «أحسنت»، وإلا أن نطالبه بأخرى من آثاره الشهية، صحيح أن أعلامًا من أدبائنا كالدكتور «فيليب حِتِّي» والدكتور فؤاد العقل اشتهروا بآثار معدودة، ولكن كلًّا منها بمقام ألفٍ، وليس بوسعنا أن نكون قنوعين بالقليل من آثار القديرين مهما يجيدوا، فإلى اللقاء يا أستاذ «يوسف» مع كتابك التالي، وإليك تحياتنا وتحيات لغتنا الشريفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤