الفصل الخامس

(١) أصدقائي وأعدائي

لي بحمد الله أصدقاء …

ولي كذلك أعداء بحمد الله …

وأحمد الله على الأصدقاء حمد الغبطة والرضا والمسرة …

وأحمد الله على الأعداء حمد الإنعام بالبلوى، و…

قد يُنعِم اللهُ بالبلوى وإن عظمت
ويبتلي اللهُ بعضَ القومِ بالنعمِ

كما قال أبو تمام …

ومن الأعداء من تود لو تشتريه بمالك وسعيك، إذا أنت افتقدته فلم تجد من حولك …

ومن حقك أن تشتري بالمال والسعي عدوًّا يزينك بمخالفته إياك، فإنه لا يزينك بهذه المخالفة إلا إذا كان على خلق يعيبه، ولا يشرف من يوافقه عليه …

ومن حقك أن تشتري العدو الذي لا يعاديك إلا حسدًا على النعمة، فليس أسوأ حالًا من إنسان على حالة لا يُحسَد عليها، وليس من الخير اتقاء حسده بخسارة نعمتك …

ومن حقك أن تحرص على الأعداء الذين يقولون بعداوتهم لك إنك تضر وتنفع، فمن لا يضر ولا ينفع موجود لا يُحَس له وجود، ولا ضير عليك أن يخال بعض الناس أنك تضره أكبر الضرر أو أصغره، فإن من الناس لمن يكون ضرره عقوبة على الشر، وإن منهم لمن يجهل ضرره ونفعه، وإن منهم لمن يبتليه الله بالضرر لصلاح أمره، ومن يكون ضرره في نفسه كضرر عداوته لغيره.

فعلى عداوة هؤلاء جميعًا نحمد الله الذي لا يُحمَد على مكروه سواه، ولكنه مكروه يُستزَاد.

وعلى صداقة من يبقى لنا بعد عداوتهم فلنحمد الله، حمدًا لله، ثم حمدًا لله …

وحمدًا لله مرة بعد مرة؛ لأنني لا أصادق أحدًا، ولا أعاديه في مأرب من مآرب النفس، ولا في صغيرة من صغائر الضعف الذي يُبتلَى به كل إنسان، فما عرفت صديقًا، فعرفت لصداقتي له سببًا غير فكرة نشترك فيها أو مطلب من مطالب الأدب نتفق عليه، أو غاية من الغايات العامة نسلك السبيل إليها، أو طرفة من طرف الراحة الروحية تعم كل من يستريح إليها، ولا تخصني أو تخصه بداعٍ من دواعي الأثرة والمحاباة.

وكذلك أعدائي الكثير منهم والقليل …

أعاديهم، وأصح من ذلك أنهم هم يعادونني؛ لأننا نتعادى على عقيدة أو خطة أو برنامج أو مصلحة من مصالح الناس، ونحن من أولئك الناس.

وفي ذلك ألقى العجاب من عداوة النقيضين، وضغينة العدوين المتعارضين.

لقد حاربت الطغيان وحاربت الفوضى …

لقد حاربت رءوس الأموال وحاربت مذاهب الهدم والبغضاء …

لقد حاربت التبشير وحاربت التقليد الأعمى والدجل المريب باسم الدين …

لقد حاربت الجمود والرجعية وحاربت الإنكار والجحود …

لقد حاربت الأحزاب وحاربت الملوك …

لقد حاربت هتلر، ونابليون، وحاربت المستعمرين في صفوف الديمقراطيين …

لقد حاربت أعداء الأدب المسمى بالقديم، وحاربت أصدقاء الأدب المسمى بالجديد …

لقد حاربت الصهيونية، وحاربت النازية أكبر أعداء الصهيونية …

لقد حاربت جميع هؤلاء، فالتقى على محاربتي أناس من جميع هؤلاء …

صهيوني إلى جانب نازي، إلى جانب فوضوي إلى جانب رجعي، إلى جانب ملحد إلى جانب حامل اللحية والعذبة باسم الدين، إلى جانب الماركسي من اليسار والمبشر من اليمين.

وفي معسكر الأعداء — كما يُقَال في لغة المعسكرات — يلتقي «المليونير» والمتشرد، ويلتقي المعجب بالخنساء والمعجب بساجان، ويلتقي الصوفي والخليع، ومن ورائهم معسكر الشاردات من الجنس اللطيف، ومعسكر الشاردين من الجنس المخشوشن الكثيف.

جيش جرار بحمد الله …

نعم؛ بحمد الله — حقًّا وصدقًا — حمدين متواترين …

حمدًا لله «أولًا»؛ لأنه أرسل عليَّ هذه السيوف المشرعة من كل جانب، ولكنه أسبغ علي الدروع التي تتكسر عليها تلك السيوف، فقال رب الجنود: أنت «قدهم وقدود» …

وحمدًا لله «أولًا وأخيرًا»؛ لأنه خصني من بين هذا العموم بصداقة «الإنسان» حيث كان، وفي جميع هذه الأشكال والألوان …

فحيثما اختلفت هذه الجماعة وتلك الجماعة، وحيثما افترقت الأسماء والأزياء، فالإنسان الذي يكمن في كل مكان وراء العناوين والجدران، يبسط يديه إلي، ويلتقي بصاحبه لدي، ويتقلب على حزبه ولو كان مستخفيًا في سرية، فهم شيع وأحزاب من بعيد، وهم معي في محراب «الإنسانية» الوحيد، صديق رشيد إلى جانب صديق رشيد …

ولا ننسى من هذه الأشكال والألوان، عباد الأصنام والأوثان …

والأوثان هنا هي أوثان المظاهر والألقاب لا أوثان المذاهب والأرباب …

وقد نكب هذا البلد المسكين بداء الاستبداد القديم، فوقر في أخلاد بنيه على توالي العصور أن قيم الناس مرهونة بتقدير الحاكم المطلق المتصرف في الأقدار والمقامات، فلا قدر لإنسان بغير مظهر، ولا مقام لأحد بغير لقب، ولا جاه ولا حسب ولا علم ولا يقين بغير صيغة مرسومة في سجلات الدواوين …

وبلغ من عبادة الأوثان أن «الصوفية» خُلِقت في هذا البلد منذ قرون، فما لبثت أن عاشت على المظاهر والألقاب، وعلى الشيع والأحزاب، بين عريف ووكيل ورئيس، وبين منتسب إلى هذا الضريح، ومنتسب إلى ذلك الهيكل، أو تلك الزاوية أو ذلك الكنيس …! ومعهم كلهم ألوان من الشارات وأشتات من الرايات والفوانيس … وإنهم لكذلك وهم يتصوفون ويتقشفون، أو هكذا يقولون لينبذوا مظاهر الدنيا، وألقاب التعظيم والتقديس …

وقبل أن تتحطم هذه الأوثان، يظهر في هذا البلد مخلوق وأي مخلوق، وقل إن شئت إنسان وأي إنسان …

أديب مشهور، وليس بليسانس ولا دكتور.

وعضو في مجلس الأعيان، وليس في حوزته نصف فدان …

وليس ببيك ولا باشا، ولكنه يقول للبيك والباشا: كلا وحاشا!

وصاحب أعوان وأنصار، وما هو بزعيم حزب ولا بصاحب عصبية، ولا مصطبة ولا دوار …

وفقير جد فقير، ولكن ليس بهين ولا حقير …

وصاحب قلم مسموع الصرير مرهوب النفير، ولكن ليس بصاحب صحيفة ولا بمدير، ولا برئيس تحرير، ولا سكرتير تحرير …

يا حفيظ …

شيء يجنن …

ويزيد المغيظين من هذا «المقتحم المتهجم» أن يهاجم «الأصلاء» فلا يبالي هجومًا عليه أو يباليه، ولكنه بأصبع واحدة من إحدى يديه يرده على عقبيه …

يا حفيظ … شيء يجنن شيء يغيظ!

ولقد أراحنا الله من هذه الأوثان في عالم الرتب والنياشين، وبقي الطقم الأخير من أوثان الألقاب، والمظاهر في عالم «العلم» المحجوز على ذمة المعاهد والدواوين …

وكان خليقًا بهذا الوثن المتخلف أن يتحطم أو يتهشم أو يقبع في عقر داره بعيدًا عن الأنظار والأسماع، ولكنه — وهو الوثن «الحيلة» والبقية الباقية من القبيلة — قد ضُوعِفت حوله القناديل والقرابين، وأوشك وحده أن يخلف أوثان الدنيا والدين.

وأغيظ ما يكون عابد الوثن إذا كان للوثن صلاته وصيامه، وكان حول الوثن طوافه وقيامه، وكان كل حقه في سمعة العلم مرهونًا بلقبه، وكل توهين لشأن هذا اللقب موهنًا لحجته في دعواه، وما من حجة له سواه …

إن من أهل العلم من هو على موثق من فضله، ومن هو في غنى عن قشور المظهر بلبابه، فلا موضع لصغائر الدعوى في سبيل هذه النافلة عنده، ولي صديق في كل إنسان، وكل ذي أمانة من هؤلاء، ولهم حق على الناس أراه على سنة الإنصاف والوفاء، ولكنني أدعو الله ألا يحرمني من عداوة مدَّعٍ دخيل على حرم المعرفة وحرمتها، نكرانه للفضل على قدر شعوره بعرفان غيره، وكفرانه بالحق على قدر صواب المحق لا على قدر خطئه، فإن الذي لا صواب له يكفي الحاقدين مئونة النقمة عليه واللجاجة في مذمة عمله وبخس جهده واجتهاده.

والحمد لله على عداوة هؤلاء، ووقانا الله شر الرضا من هؤلاء، وشر الصداقة والأصدقاء «الألداء» من هؤلاء وأشباه هؤلاء …

ولست أحدث القارئ بجديد في أمر العداوة على المظهر والعنوان، ولا في أمر الغيرة على الأصنام والأوثان، وأقبحها أوثان المظاهر والعناوين في أمة شقيت طويلًا بأرباب الطغيان، قبل أرباب الأديان …

ولكنني أود لو يعلمون كم يبلغ العابدون في محراب هذه الوثنية من أهلها ومن غير أهلها، فإنهم لكثيرون بل جد كثيرون …!

فإن بين المحرومين من كل مظهر لمن هو أخلص عبادة لهذا الوثن من أقرب المقربين إليه، وأوفرهم حظًّا من نعمته؛ لأنه ينقم عليك أن تساويه في مظهره ولا تساويه في هوانه، وأن تعلو حيث يهبط وترتفع حيث ينحدر، وتسلم لك الشهادة حيث تبطل عندك المكابرة واللجاجة، فلا يقاربك بواقعه ولا بدعواه!

وخذ مثلًا من هؤلاء العباد «المتطوعين»، مخلوقًا عرفته لا له في العلم ولا في دعواه، ولا يخطر له يومًا أن يُحسَب في زمرة العلماء من حملة الألقاب، ولا في زمرة العلماء العاطلين، ولا العلماء المغمورين والمجهولين المنسيين، بل لعله — وهو طرزي بلدي — لم يطمع إلى مزيد من الشهرة فوق مكانته بين أهل الصناعة، ناجحين أو كاسدين …

ولكنه كان أغيظ ما يغيظه أن ينهض الناس تحية لفاضل من فضلاء عصره لم يكن من ذوي الألقاب والأحساب، ولكنه كان موفور القدر في أعين ذويها، وفي أعين الناس ممن يعبر بهم في طريق الطرزي، من ميدان التوفيقية حيث يسكن، إلى قهوة «الإسبلندد» حيث يلتقي بالإخوان والصحاب، وأكثرهم من ذوي المراتب والمظاهر، وكلهم يلقاه بذلك التوقير وذلك الترحاب …!

وينفجر الطرزي غيظًا وقد عبر الرجل الفاضل أمام دكانه، وقد وقفت أتحدث إلى صديق لقيته في ذلك الدكان فكدت أحسبها ترة من ترات الدم بين ذلك الطرزي وذلك الفاضل الموقر بغير لقب ولا حسب، ولا جاه ولا مال … قلت له: أتعرفه؟

قال: لا والله، ولكنني عرفت حاله، وهو «غلبان» في بيته وفي مأكله ومشربه وكسائه، فعجبت: ما هذه النفخة في غير شيء؟! وما هذا التوقير من هؤلاء المغفلين لإنسان لا يُحسَب من «الأفندية» ولا البكوات … إلا بتقليد اللسان: «حتى مش بيه إلا بالكدب.»

ولقد عرفت الرجل فلا والله ما عرفت عليه سمة من سمات «النفخة» التي ادعاها عليه، ولكنه كان لا يقبع في حاله — كما قال — وهو يعلم أنه ليس من «الباشوات»، ولا من أصحاب المناصب والأموال …

وحول «الأوثان» ألوف من هؤلاء العباد «المتطوعين» ذهبت بهم دولة الرتب والنياشين، ولكنهم حول الوثن الأخير لا يزالون راكعين ساجدين، وفاء لعهد المذلة والعادة، وإن فاتهم كل وفاء لكل علم ولكل دين.

(٢) أصدقائي الأطفال

أزاهير الرياض بشائر الخير والجمال، وترجمان الربيع بالألوان والعطور، والناس يحبونها ولا يعجبون من حبها، بل لعلهم يعجبون إذا قيل لهم: إن هذا أو ذاك لا يحب الأزاهير …

ولكنهم قد يحسبون أن حب الأطفال «خبر» يروونه عن هذا أو ذاك ويفسرونه كما يفسرون غرائب الأخبار …

أتراهم يظنون أن نضرة الزهرة أجمل من نضرة الطفل الصغير؟ …

لا نخالهم يظنون ذلك، ولكنها «الأنانية» تدخل هنا في الحساب، فتضلهم عن حسن التقدير …

لأنهم تعودوا كلما ذكروا الأطفال أن يتصوروهم أبناء لآباء وأمهات … فإذا سمعوا أن الأب يحب وليده، وأن الأم تحب صغيرها فلا عجب ولا حاجة إلى خبر …

ولكن ما بال من ليس بأب يحب أبناء آبائهم وهم عنه غرباء؟! …

هذا هو وسواس الأنانية الذي يدخل في الحساب، فيضل الخيال عن التقدير الصحيح …

أما الواقع — بمعزل عن هذه الأنانية — فهو أن الأطفال محبوبون؛ لأنهم أزاهير الإنسانية وترجمان ربيعها، محبوبون لأنهم بشائر الشباب والحياة …

بل هم محبوبون، وينبغي أن يُحَبُّوا؛ لأننا نتعلم منهم، ولأننا نستمتع في صحبتهم برياضة من رياضات النفس تجدد لنا كل شيء، ولأنهم عزاء — وأي عزاء — حتى حين يبكون بكاء الطفولة الساذج المضحك المأمون …

إنهم معلمون من الطراز الأول؛ لأن أخلاق الإنسانية مكتوبة في نفوسهم بالخط البارز الذي تقرؤه لأول نظرة، وهي في نفوس الكبار ضامرة أو مصحفة أو ملتبسة بوشي الرياء وزركشة العرف، وزخارف التكلف والتمويه …

إن معلمينا الصغار لا يكتمون شيئًا، وكل ما كتموه أبرزوه، وضاعفوا إبرازه، فمن لم يتعلم حقائق الضمير الإنساني من الطفل فما هو بمستفيد شيئًا من علوم الكبار، ولو كانوا من كبار العلماء …

وصحبة الطفل الصغير رياضة، وما أجملها من رياضة …

إن الأوروبيين يعبرون عن الرياضة بالخلق الجديد recreation كأنهم يقولون إن الترويح عن النفس يخلقها خلقًا جديدًا، ويعيدها نشأة أخرى كما كانت أو خيرًا مما كانت عليه …

والطفل يريك هذا الكون قشيبًا عجيبًا كأنك تراه خارجًا من يد الله في يوم الخليقة الأول …

إن الصغير الذي يرفع العصا ليدرك بها القمر يعود بك كما كنت يوم ملأت عينيك من القمر أول مرة، فزعم لك خيالك الطريف أنه على مد الذراع القصيرة، وأنه إذا احتاج منك إلى جهد فغاية هذا الجهد أن تصعد إلى سقف، وترفع العصا إليه، فتنزل به إليك!

إن التليفون لا يدهشك إذا نظرته أو استمعت إليه، ولكنه يملؤك بالدهشة كلما حدثت طفلًا من وراء المسافات البعيدة فسمعته يهلل ويصيح على من حوله أن ينظروا إليك مختبئًا في جوف السماعة المسحورة … وأكبر عجبه أن تحتويك تلك السماعة وهي تضيق عن كفيه الصغيرتين.

إن كل محادثة مع الطفل عن هذه المنظورات المملة المطروقة إنما هي احتفال برفع الستار للمرة الأولى عن تلك المنظورات العتيقة … كأنها أعجوبة لم تقع عليها من قبل عينان.

وهؤلاء الصغار عزاء عن مثله عزاء الحكماء …

ألا يبكون من مصائبهم التي تُضحِك الثكلى؟! ألا نعلم من هذا البكاء المضحك أننا سنضحك غدًا مما يبكينا في هذه الساعة؟! ألا نعود إلى ما كان يبكينا في طفولتنا، فنعلم أن كثيرًا من البكاء هزل، وأن كثيرًا من العزاء جد ويقين؟!

ولهم محرجات تخنق في حينها، ولكنها حتى حين «تخنقنا» من الحرج تكاد تخنقنا من الضحك المكتوم.

وكلكم عرفتم هذه المحرجات وتعرفونها وستعرفونها، فأنتم في غنى عن الإفاضة في سرد الأمثال والنوادر، وقد تذكركم نادرة واحدة بمئات من هذه الأمثال …

حضرنا مجلسًا كان فيه رجل وقور أعور بيِّن العور، وفي الدار طفل في الثالثة من عمره، سليط اللسان، يكاد لا يدخل لسانه في فمه من فرط الثرثرة والفضول.

ووقف هذا الثرثار على باب الحجرة، ثم رأيناه يطيل النظر إلى الرجل الوقور الأعور، ثم اقترب منه وهو يضع إصبعه في فمه، ويرفع نظره إلى العين العوراء …

قلنا: يا ساتر استر، إنه لن يسكت ولن يطول الانتظار حتى نسمعه قائلًا شيئًا، فما عسى أن يقول؟

وقبل أن نفرغ من هذا الخاطر رأيناه يصعد على ركبتي الرجل، ويمد يده إلى عينه العوراء، ويسأله كأنه يسأل عن ساعة أو سلسلة أو خاتم، أو حلية مما يثير الفضول: «لماذا أقفلت عينك هكذا؟»

تشاغلنا كأننا لا نسمع لعله يكتفي بسؤال واحد، فلا نلجئ الرجل ولا نلجئ أنفسنا إلى حرج.

ولكنه كأنما قد أقسم ليعرفن السر في تلك الحيلة المستغربة: حيلة هذا المشعوذ الذي يستطيع أن يقفل عينه، وكل من رآهم حوله لا يستطيعون.

فعاد يلحُّ ويسأل: ألا تقول لي لماذا أقفلت هذه العين؟

فبطلت الحيلة، وأخذته أمه جذبًا بإحدى ذراعيه، وخرجت وهي تختنق كما نختنق نحن من الحرج المضحك أو من الضحك المحرج، وهو مع هذا يمد ذراعه الأخرى غاية امتدادها مشيرًا إلى العين المقفلة، ويكرر على أمه هذا السؤال: ولكن لماذا يقفلها يا ماما؟ … ولم تسترح «ماما» منه إلا حين قذفت به إلى داخل الحجرة المجاورة، وهي تقول ولا تملك نفسها من الغضب والضحك المكتوم: أنت مالك ومالعينه؟!

هؤلاء المحرجون «مصائب» في أوقات الحرج.

إلا أنها المصائب التي نذكرها بعدُ ضاحكين، ولا ندري هل نتمناها أو نتمنى انقطاعها … فإنها المصائب التي يسوءنا أن تنقطع من الحياة …

وأي مخلوق أحب إلى القلب من المخلوق الذي يسليك وهو يحرجك، ويعزيك وهو يبكي أمامك، ويجددك أنت، وهو ينظر إلى كل قديم من حولك، ويعلمك وأنت تحسب أنك لا تفرغ من تعليمه، وأن دروسه التي يمليها عليك لأنفع من دروسك التي تمليها عليه.

لكن … ويا لها من لكن!

لكنها — كما نعلم جميعًا — متعة غالية الثمن. غالية جدًّا لا نملك ثمنها؛ لأنه قاصم للظهور في كثير من الأحوال.

فنظرة إلى طفل مريض تنسيك متاع الدنيا بأسرها، وصيحة ألم من ذلك الصغير تزلزل عزائم الأبطال.

أما إذا كان الخطب أجسم من ذلك فلا حول ولا قوة فيه إلا من حول الله وقوته … وكلاهما ليس في اليدين …

وجاهل بهذا الخطب من يحسب أن الحزن على الصغير أهون من الحزن على الكبير؛ إذ الواقع أن الحزن على الكبار قد يهون عند الحزن على هؤلاء الصغار؛ لأنك تحزن عليهم بمقدار تعويلهم عليك ومقدار الرجاء في غدهم، وغدهم طويل مفتوح لآمال الخيال، ونظرتهم إليك وهم مرضى على يديك تطالبك بالمعجزات، وتعجزك بعد ذلك عن الصبر على ذلك الأمل الذي ضاع فيك وضاع فيهم، فلا عزاء.

متعة نفيسة، وثمن غالٍ، ومما زهدني في اقتناء المتعة النفيسة علمي بغلو الثمن … ولا أخالني مع هذا نجوت مما ابتليت به في طائفة من هؤلاء الأصدقاء الأعزاء …

(٣) أنا في السجن

فُتِحت الكوة الصغيرة، ثم فُتِح باب الرتاج الكبير، ثم احتوانا البناء المحفور الذي يُعرَف في مصلحة السجون باسم «سجن مصر العمومي»، ويُعرَف على ألسنة الناس باسم «قره ميدان»، أي الميدان الأسود باللغة التركية! …

وخطر لي — وأنا أخطو الخطوة الأولى في أرض السجن — قول الفيلسوف ابن سينا وهو يخطو مثل هذه الخطوة:

دخولي باليقينِ بلا امتراءٍ
وكلُّ الشكِّ في أمرِ الخروجِ

فهو تقرير فلسفي صحيح للواقع! …

أما الدخول فها هو ذا يقين لا شك فيه، وأما الشك كل الشك فهو في أمر الخروج … متى يكون، وإلى أين يكون؟ أإلى رجعة قريبة من السجن وإليه؟ أم إلى عالم الحياة مرة أخرى؟ أم إلى عالم الأموات؟

في تلك اللحظة عاهدت نفسي لئن خرجت إلى عالم الحياة لتكونن زيارتي الأولى إلى عالم الأموات، أو إلى ساحة الخلد كما سميتها بعد ذلك … أي ضريح سعد زغلول …

ولم تقع مني هذه الرحلة بين الدار والسجن١ موقع المفاجأة؛ لأنني كنت أنتظرها منذ زمن طويل ولو على سبيل الحجز الذي ينتهي بإفراج سريع، ولكنني كنت لا أرى فرقًا بين أيام أو أسابيع أقضيها على ذمة التحقيق وبين مدة أقضيها في الحبس بحكم القضاء؛ لأنني كنت أقدر أن حبس التحقيق — وإن قصر — كافٍ لأن يصيبني بأكبر الضرر الذي يخشاه الناس من السجن، وهو ضرر العلة التي لا تزول، وعلى توقعي الاتهام والحبس كانت الأنباء تتوالى عليَّ بما يؤكد ذلك التوقع من جهات عدة، وسمعت النبأ اليقين في هذا الأمر من صديقنا المغفور له سينوت حنا بك، لقد لقيني مرة فاستوقفني، وقال لي: «حذارِ يا أستاذ!» فقلت له باسمًا: «لا يغني الحذر من القدر!» قال لي: «إني أروي لك ما أعلم لا ما أظن: إن مقالاتك تُراجَع في بعض الدوائر مراجعة خاصة، وإنهم ينتظرون يومًا معينًا ربما كتبت فيه ما يساعد على تأييد التهمة، ثم يقدمونك إلى المحاكمة بما استجمعوا من أدلة قديمة وحديثة!»

•••

وكان في نيتي أن أسافر صيف سنة ١٩٣٠ إلى لندن مع وفد مجلس النواب؛ لتمثيل مصر في مؤتمر المجالس النيابية الذي عُقِد تلك السنة في العاصمة الإنجليزية، فقد استخرجت جواز السفر السياسي، واشتريت دليل لندن ودليل العواصم الأوروبية التي كنت أنوي زيارتها، ولم يبقَ إلا تذكرة السفر والاتفاق على الموعد واللحاق بإخواننا الذين سبقونا إلى باريس ليشهدوا فيها الاحتفال بعيد الحرية، ثم بدا لي أنني إذا سافرت فقد أمهد بيدي وسيلة لنفيي في أوروبا سنوات بلا عمل، ولا قدرة على البقاء في ذلك الجو القارس أيام الشتاء، وربما كان منع عودتي أسهل على الوزارة من محاكمة قد تنتهي بالبراءة أو بعقوبة لا ترضيها … فعدلت عن السفر في اللحظة الأخيرة، وقلت إن السجن أحب من النفي الذي لا عمل فيه، ولا ضمان للصحة ولا للحياة!

وفي اليوم الثاني عشر من شهر أكتوبر دق الجرس أصيلًا وأنا وحدي بالمنزل؛ لأن أخي كان معتقلًا في قضية «البلطة» المشهورة متهمًا بالتآمر على حياة رئيس الوزراء، ولأن الخادم لم يعد من راحته الظهرية وصلاته العصرية، ففتحت الباب فإذا ضابط من رتبة «اليوزباشي» — على ما أذكر — يبادرني بالسؤال: هل حضرتك فلان؟

قلت: نعم …

فمد إليَّ ورقة من دفتر في يده على هيئة ذكرتني الكونت نيمور، وهو يلقي القفاز في محضر لويس الحادي عشر.

قلت: تفضل أولًا فاجلس.

•••

فتردد في الدخول، ثم دخل وجلس، فتناولت الورقة وقرأت فيها دعوة من صاحب السعادة النائب العمومي للحضور إلى مكتبه في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي، ووقعت على الدفتر — كما طلب الضابط — بأنني تسلمت الورقة. وأخذت في إعداد الكتب التي سأقرأها في السجن، والأدوية التي أتعاطاها، والملابس البيتية التي أحتاج إليها هناك، وزدت فأعددت الأغطية الصوفية التي تلزمني للفراش والغطاء؛ لأنني كنت حتى تلك الساعة أجهل «تقاليد السجون» وأظن أن الأغطية الخاصة مسموح بها كالملابس الخاصة أثناء التحقيق، وفي الفترة التي تسبق المحاكمة، ثم حضر الطاهي فأريته هذه الأشياء كلها، وقلت له: إنه سيحضرها لي في السجن غدًا عند اللزوم.

فظهر لي أنه لم يفهم … وأنه ينوي أن يقصد بها سجن الأجانب الذي كان أخي معتقلًا فيه.

فقلت له: «بل هي لي أنا في السجن الذي سيخبرونك عنه غدًا بدار النيابة!»

ووصفت له الدار واجتهدت أن أفهمه جهد المستطاع، وذلك جهد يعرف العارفون بالشيخ «أحمد» أنه ليس باليسير!

وذهبت في الموعد المحدد إلى دار النيابة، واستغرق التحقيق ساعات، ثم قال لي حضرة المحقق: «إنني آسف لأننا سنضطر إلى إبقائك عندنا قليلًا يا أستاذ!» وبدأ حضرات المحامين يوجهون نظر رجال النيابة الحاضرين إلى «الحيطة الصحية» الواجبة في هذه الحالة، ومنها اختيار السجن الذي يوافقني أثناء الحبس «الاحتياطي» أكثر من سواه، وكان الأساتذة المحامون — لحسن الحظ — من الخبيرين بمزايا سجون القاهرة التي تردد عليها في سنوات الثورة السياسية معظم المشتغلين بالقانون والسياسة، فأضافوا خبرتهم بالسجن إلى خبرتهم بالمحكمة، وقدرتهم على النصح السديد للمتهمين والموكلين، واستحسنوا أن يكون الحبس في «سجن مصر»؛ لأن الجو فيه أوفق لي من سجن الاستئناف … وقد كان …

فذهبت مع الضابط والجند في سيارة خاصة إلى «قره ميدان»، وتخطيت الباب فإذا هدوء غير مألوف لأن الوقت كان وقت الراحة عقب الغداء، وتوجه بي الضابط نحو حجرة الكتاب لتسليم ما عندي من الودائع وكتابة الأوراق التي لا بد منها لكل مسجون جديد، وما هي إلا لحظة حتى توافد الموظفون وكثر دخول السجانين ينظرون إلى القادم الذي سرى بينهم نبأ قدومه … وأخذ كاتب هناك مرح ثرثار يداعبهم واحدًا بعد واحد كلما مروا به وتصنعوا سؤاله عما يضمره لهم بريد اليوم، فيقول لأحدهم: «اطمئن … لقد عينوك مديرًا لمصلحة السجون …»، ثم يحدج ببصره كمن يستغرب دهشته، ويقول: «ألا تصدق؟ آه يا ابن الحلال معذور؛ فإنك في السجن ولست في البيمارستان …»

أو يقول لغيره: «تعالَ هنا … قرِّب أذنيك! قرِّب أيضًا» … ثم يناديه بصوت يسمعه كل من في المكان: «افرح … نقلوك إلى أسوان، لا تقل لأحد يا ولد!»

وهكذا في أثناء التسليم والتدوين، فاستعدت في ذهني موقف هملت وحفاري القبور … إذ يغنُّون وهم في ذمار الموت!

الليلة الأولى

لم يكن مكتب الموظفين إلا بمثابة «الأعراف» التي تفصل بين نعيم الحرية وجحيم الاعتقال، ولكنها «أعراف» تنقل من النعيم إلى الجحيم كما تنقل من الجحيم إلى النعيم … وقد كانت في اليوم الذي سجلت فيه اسمي بين الداخلين تسجل أسماء شتى للخروج، أو للإفراج كما يسمونه في لغة السجون!

وعبرنا مكتب الموظفين، ومكتب المأمور مع ضابط العنبر في هذه المرة، لا مع ضابط الشرطة الذي انتهى مقامه عند الباب، فاتجه الضابط إلى عنبر «ب»، وفتح الباب الحديدي، ودخلنا العنبر، فكان أول ما صادفنا فيه منظرًا عجيبًا لا تألفه العين: «أناسًا بملابسهم العادية جالسين القرفصاء في صمت لا يلتفت أحدهم يمنة ولا يسرة، ومن ورائهم نفر مكبون على الأيدي كما تمشي الدواب يزحفون زحفًا، ويتغنى أحدهم بصوت خفيض، والباقون يجيبونه بصدى — لا بكلام — يقولون فيه: «هيه هيه» … أما المغني فالذي أذكره من أنشودته الآن عبارة واحدة: «رايحه له فين! ده عليه سنتين!»

فقلت: فأل جميل وايم الله! وللفأل شأن كبير في «نفسيات» المسجونين، كما سيرى القراء في بعض هذه الذكريات …

وكان لا بد لي من «فرجيل» يصاحبني كما صاحب الشاعر الإيطالي «دانتي» في طبقات الجحيم؛ ليدله على أنواع العذاب، ودرجات المعذبين … فمن هؤلاء الجالسون القرفصاء؟ ومن هؤلاء المكبون على أربع؟ أهذا ضرب من العقاب في مكان العقوبات؟ وما بال أناس منهم يلبسون ثيابهم العادية على اختلافهم بين المعمم والمطربش، ولابس «الطاقية» … ولا يلبسون كأهل السجون؟

على أنني لم ألبث طويلًا حتى عثرت على الدليل الذي ينوب في جحيمنا عن فرجيل!

فقد كان على يسار الحجرة التي خُصِّصت لي حجرة للصحفي الظريف علي أفندي شاهين رحمه الله، وكان محبوسًا رهن المحاكمة في قضية مقالات ورسوم، قذف بها بعضَ الوزراء وعلى رأسهم إسماعيل صدقي باشا كبير الوزراء في تلك الأيام، وكان واقفًا عند باب حجرته ينتظرني بعد أن سبقت البشائر إلى العنبر بقدومي، فلقيني مرحبًا، وعلى مقربة منه اثنان أو ثلاثة من أهل بولاق «دائرتي الانتخابية» كانوا في مؤخرة صفوف الجالسين القرفصاء، فنهضوا يحيِّونني ويهمون بالصياح، لولا أن شاهدوا الضباط والسجانين فعادوا جالسين.

وعلمت بعد ذلك بهنيهة أن هؤلاء الجالسين القرفصاء هم المحبوسون على ذمة التحقيق ممن آثروا البقاء بملابسهم العادية.

وأنهم جلسوا تلك الساعة في انتظار الخروج «للطابور» الذي هو موعد الرياضة المصطلح عليه مساء كل يوم، وللمحبوسين شوق إلى موعده يفرحون به أشد من فرح الطلقاء بنزهة الأصيل على شاطئ النيل وطريق الأهرام!

•••

أما المكبون على أربع فهم أصحاب النوبة المنوط بهم تنظيف بلاط العنبر وتلميعه، وهم يتغيرون كل شهر مرة، ويقومون بهذا العمل طول النهار، ويؤثرونه على أعمال السجن الأخرى؛ لأنهم ينطلقون فيه على مدى واسع بعض السعة، ولا يُحبَسون في الحجرات.

قال دليلي أو «فرجيلي» بعد الشرح المتقدم: «وإن هؤلاء المساكين يعانون هذا العناء من أثر دعوة النبي يوسف عليه السلام.»

قلت: «وماذا أفادك الله؟!»

قال: لقد دعا يوسف ربه في السجن أن يغزر ترابه، ويحلي طعامه، ويقصر أيامه … فالتراب لا ينقطع لحظة عن أمثال هذا المكان.»

قلت: «يُخيَّل إليَّ أن يوسف — عليه السلام — قال: اللهم غزِّر رغامه، ولم يقل غزِّر ترابه؛ لأن السجعة تقضي بذلك!»

وما لبثت في السجن نصف ساعة حتى رأيت بعيني حرص الأقدار على إجابة ذلك الدعاء، فما هو إلا أن يزحف الماسحون من طرف العنبر إلى طرفه حتى يكون التراب قد سفا على المكان الذي تركوه.

وإلى هنا لم أكن قد تناولت طعام الغداء مع اهتمامي برعاية المواعيد في تناول الوجبات.

فأين الطعام؟ هل أحضره الطاهي أو نسي إحضاره، وفهم غير ما تعبت بالأمس في إفهامه إياه؟!

هنا ظهرت لي قيود السجن دفعة واحدة، فليس من المستطاع أن أعرف هذا الخبر الصغير إلا بعد أن أسأل السجان، وبعد أن يسأل السجان الضابط، وبعد أن يسأل الضابط البواب، وبعد أن يحيل البواب الأمر إلى المأمور وأطباء المستشفى، وبعد أن ينقضي في ذلك كله وقت غير قصير …

ولم يكن الذنب في هذه المرة على ذكاء «الشيخ أحمد» كما توهمت لأول وهلة، فإنه قد أحضر الطعام بعد انصرافي من دار النيابة، ولكنهم حجزوه على الباب حتى يتلقوا أمرًا بقبوله وانتظام حضوره، وحتى يراه الطبيب ويرى الأدوية التي معه، وحتى يتم الفحص عن حالتي الصحية وما يصلح لي من الدواء، ثم قبلوا الطعام والدواء، وردوا الغطاء والفراش؛ لأن السجن — كما قالوا — فيه الكفاية من غطاء وفراش!

•••

وفي هذه الأثناء بدأت أشعر بقشعريرة الرطوبة التي ينضح بها الأسفلت في أرض العنبر وسقوفه، ثم فرغ السجان وصاحب النوبة الموكل بحجرتي من إعداد سريرها وأدواتها ولوازمها، فألقيت نظرة على الغطاء الذي سيغنيني عن غطائي، فلم أطمئن إليه كثيرًا، ولكني قلت: لا بأس بالتجربة هذه الليلة، وبقيت متوجسًا من هذه النافذة المفتوحة على رأسي يندفع منها الهواء طول ليل الخريف … فما العمل فيها؟

قال دليلي أو «فرجيلي» علي أفندي شاهين: «لا عليك من هذه النافذة! فسترى كيف نعالج خطبها»، والتفت إلى صاحب النوبة فأوصاه أن يسدها بالحصيرة المفروشة على أرض الحجرة كما يصنع في حجرته هو، ففعل صاحب النوبة توًّا ليريني كيف يُحكِم هذه الصناعة، وضحك شاهين أفندي ضحك العلم والمعرفة وهو يقول لي: «احمد الله على أنهم لم يختاروا لك سجن الاستئناف. فهناك النافذة أربعة أضعاف النافذة هنا، ولا أمل في سدها بحال من الأحوال، فضلًا عن الظلام المطبق من الصباح إلى المساء.»

قلت: «الحمد لله!»

•••

وهبط ظلام الليل شيئًا فشيئًا، وعاد المسجونون قبل ذلك أفواجًا إلى الحجرات، وتعالت بينهم ضجة كضجة السوق في يوم زحام، ثم توالى إغلاق الأبواب، وإدارة المفاتيح في الأقفال، ثم بدأ «التتميم» أو المراجعة حجرة حجرة: كم يا ولد! … عشرة!

كم يا ولد؟ … أربعة … وهكذا إلى نهاية الدور، وفي كل عنبر أربعة أدوار، ولن يبرح السجان دوره حتى يستوثق من مطابقة العدد الموجود للعدد المكتوب في سجله المعلق عند الباب.

وازدادت الضجة بعد انتهاء المراجعة، فلم يكن للسامع أن يسمع إلا أسماء تتقاذفها أفواه رجال ونساء، وصرخات وأهازيج، وشتائم هي عندهم في منزلة التحيات المباركات! ثم سكنت الضجة بعض الشيء وتبين من هنا وهناك نداء مفهوم، وشرع اثنان في قافية من القوافي المعروفة في محافل الأعراس والموالد المصرية، وكأنهما علما بمقدم الصحفي الطارئ على السجن في تلك الليلة، فجعلا للصحافة قسمًا من هذه المساجلات المحفوظة …

– الأولاد تنادي وراك وتقول:

– إيش معنى؟

– المؤيد! المؤيد … وهو يعني «المقيَّد».

– فوق رأسك يا معلم علي.

– إيش معنى؟

– المقطم.

وهذه حقيقة واقعة وليست بمجاز؛ لأن بناء السجن وقع في حضن جبل المقطم.

– الرغيف في سقف بيتكم.

– إيش معنى؟

– كوكب!

– تطلع من هنا تقابلك في البيت.

– إيش معنى؟

– الحمارة.

وقس على ذلك ما يُقال، وما يسمع كرهًا ولا يُقال.

وقد أظلمت الحجرة عندي — حينذاك — ظلامين؛ لأن النافذة المغلقة حجبت كل ضياء يتسلل إلى الحجرة من فناء السجن المنار بنوره الضئيل، فلم أستطع أن أعرف مكان الكوب ولا سلة الطعام في ذلك الظلام، ولبثت أسمع الأصوات تخفت وتخفت حتى انقطعت أو كادت نحو الساعة التاسعة كما أنبأتني الساعة العربية التي تدق في مسجد القلعة، ولم يبقَ من مسموع إلا وقع أقدام الحراس على البلاط، وإلا صيحاتهم كل نصف ساعة يطيلونها، ويتنافسون في إطالتها، فذكرتني مبيت ليلة على حدود الصحراء، أسمع فيها صياح الذئاب.

(٤) خواطر في الصحة والمرض

في ديواني الأول قصيدة بعنوان «الشاعر الأعمى» أقول في مطلعها:

شكا الشاعرُ الباكي عمًى قد أصابه
وأظلمُ ما نالَ العمى جفن شاعرِ

ومنها أبيات يصرخ فيها الشاعر سائلًا:

لِمَنْ تَجمُل الأكوانُ إن كانَ لا يَرى
بدائعَها عينٌ ترى كلَّ باهرِ؟!
فما كانتِ الدنيا سوى حُسْنِ مظهرٍ
وما جادَ فيها الحظُّ إلا لناظري
وهل كنتُ أخشى الموتَ إلا لأنه
سيحجبُ عنِّي حُسْنَ تلك المناظرِ؟!

ثم ينعى الشاعر قسمته في الحياة، فيقول:

جَمَعْتُ شقاءَ العيشِ في ظُلمةِ الرَّدى
فياليَ من مَيْتٍ شقيِّ الخواطرِ!
أرى الصبحَ وهَّاجًا بمقلة نائمٍ
ويلحظُه قلبي بحسرةِ ساهرِ
فمَنْ لي إلى هذا الوجودِ بنظرةٍ
أراه ولم يُعمِ الترابُ بصائري

إلى أن يقول متأسيًا بنور البصيرة عن نور البصر:

فيا قلبُ أنفِقْ من ضيائك واحتسِبْ
لدى الشمسِ لألاءَ الوجوهِ النواضرِ

حادثة عارضة

قصيدة لا شك كان لها باعثها كغيرها من القصائد التي ينظمها الشعراء، وحي من خاطر نفساني أو حادثة عارضة. فما هو الخاطر النفساني هنا؟ أو ما هي الحادثة العارضة؟

هل كنت أحس في صباي ضعفًا في النظر بعث في نفسي الإشفاق من فقدانه، والمصير إلى مثل ذلك الظلام الذي شكاه الشاعر المنكود في بلواه؟

ذلك أقرب ما يرد على الخاطر في تفسير باعث القصيدة، ولكنه على قربه بعيد من الواقع؛ لأنني كنت أيام نظم الديوان الأول على أقوى ما يكون الإنسان بصرًا في صباه، وكنت — بالإيجاز — أستطيع أن أقرأ الصحيفة على نور القمر تحت قبة السماء.

•••

ومن الجائز أنني كنت لا أعرف هذه القوة في بصري، وأنني كنت أكبر وأجاوز الشباب والكهولة، ولا أدري مبلغ بصري من القوة، كما يتفق كثيرًا أن يجهل الإنسان ما يألفه من قوته ويحسبه من المألوفات التي لا غرابة فيها، ولم يكن هنالك ما يدعوني إلى القراءة على نور القمر؛ لأن المصابيح أوفر من أن تُفتَقد في مدينة كبيرة أو صغيرة، ولكنني أعلم الآن أنني استطعت أن أقرأ على نور القمر وأذكر ذلك جيدًا؛ لأنني حين اضطررت إلى هذه القراءة مرة واحدة كان ذلك مقرونًا بمناسبات متشابكة جامعة بين الجد والفكاهة، وبين ذكريات الأسرة والموطن، وغرائب الروايات، والتقاليد المتواترة في الريف، فليس في وسعي أن أنساها بعد حين، ولا أزال أذكرها اليوم كأنها حدثت قبل يوم أو يومين، ولم تمضِ عليها — كما مضى فعلًا — أربعون سنة أو تزيد.

وفي جوار أسوان — بلدتي — ضاحية صغيرة جميلة على مسافة قصيرة منها، أهلها من أقدر خلق الله على التشبيه المحكم أو على الإصابة بالعين كما اشتهروا في الإقليم كله، ويقال عنهم إن أحدًا منهم لا يملأ عينيه من الشيء إلى قضى عليه، وأصابه بما يعطبه أو يضره لساعته، وآية امتلاء العين من الشيء المنظور عندهم أنها تستوعبه بالتشبيه المحكم، فلا تعدو صفة من صفاته … فالتشبيه المحكم والإصابات القاتلة في عرف القوم مترادفان …

أمثلة من التشبيهات

قالوا إن أحدهم نظر إلى بستان من التين، فصاح إعجابًا بثمراته المتفتحة: «ما هذا التين الذي يحكي خياشيم السمك؟!»

وقالوا إن أحدهم رأى رهوانًا محلى السرج واللجام بالألوان المختلفة، فصاح قائلًا: «أتراه يحمل بيارق الأحمدية؟!» … يعني طريقة من الطرق الصوفية تُسمَّى بالطريقة الأحمدية، ويحمل أتباعها الرايات المتعددة بمختلف الألوان …

وقالوا: إن أحدهم نظر إلى ساقية بخارية، فقال: «إنها تبلع البحر بحُوته …»

وقالوا غير ذلك كثيرًا من أمثال هذه التشبيهات، ولم ينسوا مرة من المرات أن يردفوا التشبيه بذكر العاقبة التي تلحق به على الأثر، وهي التلف والبوار …

وكان في هذه الضاحية عرس نعرف أصحابه، وذهبنا نشترك في إحياء العرس، فمر القطار بالصحف قبل وصوله إلى أسوان، وجاءتنا الصحيفة فطويناها حتى خرجنا من الدار نتنسم الهواء فوق كثيب من الرمال البيضاء، وفتحت الصحيفة على غير التفات مني إلى الخطر المزعوم من وراء هذه المجازفة … وإذا بزميلي يختطفها من يدي على عجل، ويصيح بي: «ويحك! … أتريد أن تعمى؟! ألا تعرف أين أنت؟! … أهنا مكان تقرأ فيه الصحيفة على نور القمر وتسلم من العاقبة؟!»

حادث بطرائفه ومناسباته لا يُنسَى، فليس في وسعي إذن أن اجهل أنني كنت على قوة مبصرة خارقة فيما بين الخامسة عشرة والثلاثين، وليس الباعث على نظم القصيدة — قصيدة الشاعر الأعمى — أنني أشفقت من مصير كذلك المصير الذي وصفته بتلك الأبيات.

أما الباعث في الواقع فلا أعرفه على التحقيق، ولكنني أظن ظنًّا أنه يرجع إلى مطالعاتي في تلك الفترة، وأكثر ما كنت أحفظ يومئذ شعر أبي العلاء، وشعر ملتون في قصيدة الفردوس المفقود، ولعلي قرأت يومئذ لأول مرة قصيدة الشاعر المحدث الضرير فرنسيس فتح الله مراش التي يقول في مطلعها:

هل عادَ عندك يا زمانَ بعادي
خطبٌ تعاندُني به وتُعادي؟

ويقول منها:

يبدو النهارُ لِكُلِّ عينٍ أبيضًا
ولأعيني مُتوشِّحًا بسوادِ

وليست هي على طائل من جودة الشعر، ولكنها على ضعفها معبرة عن شعور صحيح.

أحكام سن الأربعين

ومضت الأيام والسنون، وجاوزت الأربعين، فسمعت عن تقاليدها المرعبة بين أصحاب النظارات، وعملت بتلك التقاليد على غير اضطرار في مبدأ الأمر؛ لأنني كنت أستطيع القراءة نهارًا وليلًا بعد الأربعين، ولكنني أردت المزيد من الوقت في مطالعاتي الليلية، فصنعت النظارة بين الخامسة والأربعين والخمسين، ولم أستخدمها إلا قليلًا جدًّا في ذلك الحين …

ثم شعرت في السنوات الأخيرة بالحاجة إليها تزداد على مر الأشهر، ولا أقول على مر الأعوام، وكدت أنسى قصيدة الشاعر الأعمى في الديوان الأول بعد ما نظمته من قصائد الدواوين المتوالية، فإذا بهذه القصيدة أثبت القصائد إلى ذاكرتي خلال السنتين الأخيرتين …

«عملية جراحية» وإلا فلا نظر! …

وهانت العملية والعمليات مع هذه العاقبة المحذورة التي يهون معها فقد الحياة …

وتمت العملية بسلام، ودخلت في ظلام الغماء راضيًا به مغتبطًا بسواده المحتوم؛ لأنه الليل الذي يطلع على فجر الضياء …

وتشاء المقادير أنني أضع الغشاء على عيني في صبيحة اليوم الذي أظلمت بعده سماء مصر الجديدة حيث أقيم؛ لأنني أجريت العملية في أواخر شهر أكتوبر، وفي تلك الأيام مُنِيَت مصر الجديدة بغارات الخريف المشئوم …

إن كان في تلك البلية رحمة من رحمات الغيب فرحمتها أنها لم تتقدم يومًا واحدًا، ولم تفاجئنا والمشرط بين العين ويد الطبيب القدير، ثم أطبقت البلية ساعات من أحلك ساعات الليل والنهار على السواء، فحمدت الله الذي لا يُحمَد على المكروه سواه … حمدته لأنني ألازم موضعي بحكمة وشجاعة أو بغير حكمة ولا شجاعة! … ولأنني أطفأت النور قبل أن تتصايح الأصوات حول الدار: أطفئوا الأنوار … أطفئوا الأنوار …

ظلمات فوق ظلمات

ولعلك تسألني عن تلك الساعات الطوال كيف كنت أقضيها، وبأي الأطياف والأشباح كنت أعمر ظلماتها وأملأ فراغها! …

والحق أنها كانت ظلمات من أحلك الظلمات، وأنها كانت فراغًا من أثقل الفراغ، ولكنني لم أسعد فيها — أو لم أشق — بطيف من أطياف الظلام ولا بهاجس من هواجس الفراغ، ولست أعجب لذلك لأنني تعلمت من تجارب الليالي والأيام أن الشواغل إنما تكون على قدر الحيرة والقلق، وأنه حيث يكون في الأمر قولان أو عدة أقوال فهناك التردد والاضطراب، وهناك الهواجس والأخيلة والأوهام والأشباح، وأما مسألة البصر فأي اختلاف فيها …؟! وأي حيرة وأي موازنة وأي ترجيح؟! … إنما هو القبول والاستسلام أو الرفض والخلاص من الظلام إلى الظلام!

وقد كنت أنتظر إحدى النتيجتين ولا أزيد، وكان جانب الرجاء — بحمد الله — أقوى في النفس من جانب الخوف والقنوط، فتراجعت الأشباح والأطياف إلى ظلماتها، وقضينا الساعات الطوال بالشواغل التي تضحك ولا تبكي وتسلي ولا تشجي، ومنها ما يضحك السامع ضحكتين لا ضحكة واحدة! … لأنه يضيف إلى ضحكة العبث ضحكة المثل القائل: «إن الزمار يموت ويداه تلعبان!»

ومن أمثلتها الكثيرة مثل «البحث اللغوي» في إطفاء الأنوار …

إنهم يسمونه في سورية ولبنان «بالتعتيم» ونسميه في مصر بالإظلام أو إطفاء الأنوار.

ونحن في جوار الغارات الجهنمية نستمع إلى زلازلها وضوضائها، ونتساءل: أيهما الصحيح؟ …

ونمضي في التعليق بين قائل: إن التعتيم خطأ؛ لأن العتمة ظلام خاص بأول الليل، وقائل: إنها ظلام الليل على إطلاقه، ونتشاور برهة في الموازنة بين التغمية والتغشية والتخفية، وغيرها وغيرها بديلًا من التعتيم ومن الإظلام … وكلها كالشر الذي تخفيه بلاء لا خيار فيه!

وانجابت الغمة

وانجابت الغمة بحمد الله، وأسفر الصباح بعد ليالٍ مطبقات، وإنني لأصدق النور حقه فأقول: بل أسفرت الغمة عن فجر أو شفق، ولم تسفر عن صباح أو نهار.

ولا بأس بالفجر والشفق في عالم الشعر والشعراء، فربما طاب لنا الفجر كما يطيب الشفق بوحي من ذوق الجمال وغبطة السكينة والسلام، وإن لم يكن في سطوعه ولمعانه ندًّا للصباح أو قرينًا للنهار.

١  في أوائل سنة ١٩٢٨م اجتمع البرلمان اجتماعًا خاصًّا في عهد وزارة الرئيس مصطفى النحاس للبحث فيما يُدبَّر للحياة النيابية بين القصر ودار المندوب السامي، ووقف عباس محمود العقاد خطيبًا، فهاجم أعداء الأمة وأعداء الدستور، ونطق بكلمته المشهورة: «إن الأمة على استعداد لسحق أكبر رأس في البلد يخون الأمة ويعتدي على الدستور.» وفهم القصر أن المقصود بهذه الكلمة الملك فؤاد، وكان العقاد متمتعًا وقتئذ بالحصانة البرلمانية كنائب في البرلمان، فلما حلت الحكومة البرلمان … ثم جاءت حكومة إسماعيل صدقي دبرت قضية «العيب في الذات الملكية» من المقالات التي كان يكتبها وقتئذ عن الرجعية، فقضت المحكمة بحبسه تسعة أشهر من ١٣ أكتوبر سنة ١٩٣٠ إلى ٨ يوليو سنة ١٩٣١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤