منهج البحث

قال المؤلف في ص١١: «أحب أن أكون واضحًا جليًّا وأن أقول للناس ما أريد أن أقول لهم دون أن أضطرهم إلى أن يتأولوا أو يتمحلوا ويذهبوا مذاهب مختلفة في النقد والتفسير والكشف عن الأغراض التي أرمي إليها.»

شق المؤلف للقراء عن صدره وأراهم ما فيه من نية الخروج عن الأدب إلى الطعن في الإسلام، وقد عرف أن من الصراحة ما لا يجد في النفوس منفذًا، فجنح في كثير من المواضع إلى استعمال الجمل التاريخية أو الأدبية في قضاء مآرب الدعاية، ونشر فيها روح التنكر للحق، لكيما تسلك هذه الروح في قلوب المستضعفين من الناس وتُبقي بها أثرًا، دون أن يشعروا بما ينويه المؤلف في نشرها.

فالمؤلف قد اضطر الناس بما يبثه في كتابه من أرواح غير طيبة إلى أن ينتقدوا ويكشفوا عن الأغراض التي يرمي إليها ولو احتملوا هذا اللون من التعب وحملوا عليه وزر الرد والدفع والمناقشة.

•••

قال المصنف في ص١١: «أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه (ديكارت) للبحث في حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث.»

من المتحزبين لمنهج ديكارت «من استخرج منه نتائج على هوى ذوقه، وبنى عليه مذاهب بعيدة عنه مثل: «مالبرنش» و«سبينوزا» و«فردلا» ومنهم من اقتصر على التمسك بأفكار «ديكارت» والاعتماد على نظامه ليحاموا عن الحقيقة الدينية والأدبية مثل: «أرنود» و«بوصويه» و«فنلون» وبعضهم اتخذه عثرة في سبيل العقائد مثل: «بايل».١

وإذا سبق لأناس أن أشربوا حب منهج «ديكارت»، واستخرجوا منه نتائج على هوى أذواقهم، أو اتخذوه عثرة في سبيل العقائد، وجب علينا ألا ننخدع لما وعد به المؤلف من أنه سيصطنع هذا المنهج الفلسفي، وحق علينا أن نحترس من أن يتبع خطوات «سبينوزا» فيفرغ لنا نتائج في قالب شهواته، أو يقتدي على آثار «بايل» فيمد في طريق العقائد الصحيحة أسلاكًا شائكة.

•••

قال المؤلف في ص١١: «والناس جميعًا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوًّا تامًّا.»

إذا كان منهج ديكارت يرجع إلى أن الشك أساس الفلسفة وتعرّف الحقائق وألا يسلم بشيء إلا بعد أن يفحصه العقل، فإن هذا المنهج ليس بالغريب عند علماء الشرق، فالذين يدخلون في المباحث النظرية لا يستعملون إلا عقولهم غير قليل، وممن صرح بهذا المسلك أبو حامد الغزالي حيث قال في المنقذ من الضلال: «إن اختلاف الخلق في الأديان والملل ثم اختلاف الأمة في المذاهب وكثرة الفرق، بحر عميق غرق فيه الأكثرون … ولم أزل في عنفوان شبابي — منذ راهقت البلوغ إلى الآن وقد أناف السن على الخمسين — أقتحم لُجَّة هذا البحر … وأتفحص عقيدة كل فرقة وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطل ومستن ومبتدع … وقد كان العطش إلى درك الحقائق دأبي وديدني … وحتى انحلت رابطة التقليد وانكسرت عني العقائد الموروثة.» وقد أفصح عن مثله الفيلسوف ابن خلدون وحث على العمل عليه في التاريخ بوجه خاص حين قال في مقدمته:٢ «فهو (التاريخ) محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به عن المزلات والمغالط؛ لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم. والحيد عن جادة الصدق، وكثيرًا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثًّا أو سمينًا، لم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط.»
وقال فيها أيضًا:٣ «فإذًا يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم حتى يكون مستوعبًا لأسباب كل حادث واقفًا على أصول كل خبر. وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحًا، وإلا زيفه واستغنى عنه.»

ولا بدع أن ينبت الشرق رجالًا لا يستقبلون المطالب العلمية إلا بعقولهم فإن من يتلو القرآن ولو بغير تدبر، يعرف أن من مقاصد الإسلام بعث العقول من مراقد الخمول، وتحريرها من أسر التقليد، فتراه يدعو بالبرهان وبيان الحكمة غير مقتصر على الموعظة والمعجزات المشهودة، ويطالب ذوي الآراء المبتدعة بالحجة. ويذم كل من قلد في عقيدة ما له بها من سلطان.

والآيات المتضافرة في هذا المعنى قد نفخت في العقول روح التفكير وانطلقت بها تخوض في كل علم وتبحث في كل واقعة. فالمذهب الذي يرى للباحث أن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه، لا يسخط عليه رجال الدين الذي كان بالعقل حفيًّا، ورفع العلم والحكمة مكانًا عليًّا، وإنما يزدرون الكاتب يحسب أن تصور هذا المذهب يكفي وسيلة إلى التهجم على كل علم فيمشي في غير سبيل، ويدلج بغير دليل، ثم يزعم بملء فمه أنه أحاط بما لم يحط به أحد من قبله.

•••

قال المؤلف في ص١٢: «فلنصطنع هذا المنهج حين نريد أن نتناول أدبنا العربي القديم وتاريخه، وقد برأنا أنفسنا من كل ما قيل فيهما من قبل وخلصنا من هذه الأغلال الكثيرة الثقيلة التي تأخذ بأيدينا وأرجلنا ورؤوسنا فتحول بيننا وبين الحركة الجسمية الحرة، وتحول بيننا وبين الحركة العقلية الحرة أيضًا.»

ليس في الأدب العربي أغلال تشد على طلابه فتحول بينهم وبين حركاتهم الحرة جسمية كانت أو عقلية، وطالما تناولته أنظار ذهبت في البحث كل مذهب فأماطت عن طريقه أذى كثيرًا، ثم أبقت باب النقد من ورائها مفتوحًا على مصراعيه، فمن ساعده قانون البحث على طرح قسم آخر من حسابه بسطوا له وجهًا رحبًا، ونسجت له ألسنتهم الصادقة شكرًا خالدًا. فللمؤلف أن يحرك جسمه وعقله كيف يشاء، وله أن يتناول أدبنا العربي القديم وتاريخه بالبحث والاستقصاء، وله أن يستقبلهما بعد أن يبرئ نفسه من كل ما قيل فيهما من قبل، وما عليه إلا أن يعلم أن للبحث في العلوم قوانين لا يسع «ديكارت» إلا أن يؤمن بها، وأن من وراء جدران الجامعة المصرية أقلامًا تغار على الحقيقة أكثر من غيرته على الشك فيما يراه الناس حقًّا.

•••

قال المؤلف في ص١٢: «يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي تاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتنا، وننسى ديننا وكل ما يتصل به، وأن ننسى ما يضاد هذه القومية وما يضاد هذا الدين. يجب ألا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح.»

قال المتنبي:

عجبًا له حفظ العنان بأنمل
ما حفظها الأشياء من عاداتها

فنقد هذا البيت عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز حيث قال: كان ينبغي أن يقول: ما حفظ الأشياء من عاداتها؛ لأن المعنى على أنه ينفي الحفظ عن أنامله جملة، وإضافته الحفظ إلى ضميرها في قوله: «ما حفظها الأشياء.» يقتضي أن يكون قد أثبت لها حفظًا. فنقول على هذا المثال كان ينبغي للمؤلف أن يقول وننسى الأديان؛ لأنه يريد أن يضع في أذهان القراء أنه أصبح عن الدين في ناحية، والإضافة في قولنا: «ديننا» تقتضي أن يكون قد أثبت لنفسه دينًا، ولا نتجاوز هذا إلى نقد الإضافة في قوله: «قوميتنا» لأنا لا نريد نقد المؤلف وإنما نريد نقد كتاب «في الشعر الجاهلي».

•••

قال المؤلف في ص١٢: «ذلك أننا إذا لم ننس قوميتنا وديننا وما يتصل بهما فسنضطر إلى المحاباة وإرضاء هذه العواطف.»

لو نسي المؤلف قوميته ودينه لما تطوح في البعد عن الحقائق إلى هذه الغاية، ولكنه ربط قلبه بعواطف تضاد هذه القومية وهذا الدين فاضطر إلى محاباتها وإرضائها، وستناجيك الفصول الآتية بسطوة هاتيك العواطف وما تفشت فيه من أدب وتاريخ.

•••

قال المؤلف في ص١٢: «وهل فعل القدماء غير هذا؟ وهل أفسد علم القدماء شيء غير هذا؟»

للقدماء عواطف دينية وأخرى قومية وقد تأخذ عاطفة العقيدة أو القومية من خف وزنه فيقول ما ليس بحق، أما الذين أوتوا العلم الراسخ والاستقامة فإن الذي يتقصى أثرهم بذكاء وإنصاف يقف على أنهم كانوا يطلقون أعنة النظر في كل بحث ويأخذون أنفسهم بالأدلة من محسوس العقل.

وهذه مؤلفاتهم في العلوم النظرية من إلهيات وكونيات، أو في العلوم السمعية من شرعيات وأدبيات، تشهد بأنهم كانوا في حرية الفكر والتحري في الرواية بالمنزلة التي تجعلهم أساتذة العالم ونجوم هدايته.

كانوا يستقبلون البحث بعقولهم ولم يروا أنفسهم في حاجة إلى التجرد من دينهم؛ لأن حقائقه الناطقة لا يعترضها العلم في كبير أو صغير، ولو فرضنا أن إتقان البحث يتوقف على التجرد من الدين، وصنعوا ما صنع المؤلف عند أخذه في هذا النحو الجديد من البحث، لعادت بهم أحلامهم الراجحة إلى لباس التقوى، ولم يرزأهم العلم من دينهم شيئًا، ولم يرزأهم دينهم من العلم نقيرًا.

•••

قال المؤلف في ص١٢: «كان القدماء عربًا يتعصبون للعرب، أو كانوا عجمًا يتعصبون على العرب، فلم يبرأ علمهم من الفساد؛ لأن المتعصبين للعرب غلوا في تمجيدهم وإكبارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم؛ ولأن المتعصبين على العرب غلوا في تحقيرهم وإصغارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم أيضًا.»

خذ مثلًا من الأمثلة التي يضربها المؤلف للدلالة على أن عاطفته استولت على قلمه، وإذا ظهرت العاطفة على القلم، فلا تسمع إلا غلوًا في القول وجحودًا لكثير من الحقائق. هل رأيت كاتبًا شرقيًّا أو غربيًّا، بقي على دينه أو تجرد منه، احتفظ بقوميته أو تبرأ منها، يساعده قلمه وقد تصدى لبحث علمي أن يقول: كان القدماء عربًا يتعصبون للعرب، أو كانوا عجمًا يتعصبون على العرب. ألا يقوى عقله أمام هذه العاطفة على أن يزحزح القلم قليلًا ولو إلى أن يقول: كان من القدماء عرب وكان منهم عجم.

في القدماء عرب يتعصبون للحقيقة أكثر مما يتعصبون لقوميتهم، وفي القدماء عجم يتعصبون على الزور والبهتان أكثر مما يتعصبون على العرب، وهذان الفريقان لم يسرفوا على أنفسهم أو على العلم، ولم يغلوا في تمجيد العرب وما هموا بتحقيرهم، وهم معظم من قاموا ببحث العلوم وتدوينها. ولسنا في حاجة إلى سرد أسماء هؤلاء وبسط القول فيما قدموه للشرق من علم قيم وعمل صالح؛ إذ لا بد لهذه الطائفة المستنيرة من أن يدرسوا تاريخ سلفهم، ويدركوا مغزى الكلمات التي يصبها أمثال المؤلف في آذانهم.

•••

قال المؤلف في ص١٢: «كان القدماء مخلصين في حب الإسلام، فأخضعوا كل شيء لهذا الإسلام وحبهم إياه، ولم يعرضوا لمبحث علمي ولا لفصل من فصول الأدب أو لون من ألوان الفن إلا من حيث إنه يؤيد الإسلام ويعزه ويعلي كلمته، فما لاءم مذهبهم هذا أخذوه وما نافره انصرفوا عنه انصرافًا.»

درس القدماء من المسلمين علومًا شتى ولم يتلقوها كما يتلقاها الإمَّعة من الرجال بمتابعة وتقليد، فخاضوا غمارها وسابقوا واضعيها في الوقوف على أسرارها وأبصروا فيها حقًّا وباطلًا، ولم يقتصروا في علمهم بالحق حقًّا على دليل موافقته للدين، ولا في معرفتهم للباطل باطلًا على دليل مخالفته له، بل كانوا يترسمون في ذلك منهج المنطق الصادق ويقرعون الحجة النظرية بمثلها، وعدم ارتدادهم عن الإسلام لا يدل على أنهم أخضعوا له كل شيء وإنما هو الدين القيم يخضع له الحق بنفسه ولا يحوم الباطل في ناحيته.

وأما العلوم الأدبية فربما كان الباعث لهم على وضعها وتدوينها تمهيد الوسائل إلى فهم الكتاب والسنة، ثم انطلقوا في فنونها إلى ما لا تمس إليه حاجة الإسلام في حال. وأخذُها من حيث إنها تؤيد الإسلام وتعزه وتعلي كلمته لا يستدعي تحريفها عن مواضعها أو خلطها بما ليس من قبيلها، فإن في الحقائق المؤيدة للإسلام لغناء عن محاولة تأييده بالزور والانتحال.

وعلى المؤلف حرج فيما رمز إليه بقوله: «لهذا الإسلام» فإن الناس يعتقدون — وما اعتقدوا إلا حقًّا — أن من خدم الإسلام خدم السياسة الرشيدة والمدنية المبصرة والإنسانية الكاملة.

•••

قال المؤلف في ص١٣: «أو كان القدماء غير مسلمين يهودًا أو نصارى أو مجوسًا أو ملحدين أو مسلمين في قلوبهم مرض وفي نفوسهم زيغ، فتأثروا في حياتهم العلمية بمثل ما تأثر المسلمون الصادقون، تعصبوا على الإسلام ونحوا في بحثهم العلمي نحو الغض منه والتصغير من شأنه، فظلموا أنفسهم وظلموا الإسلام وأفسدوا العلم وجنوا على الأجيال المقبلة.»

العلوم إما عائدة إلى العقل وما كان المسلمون ليقلدوا فيها يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا أو ملحدًا أو مسلمًا ولو كان ناسكًا تقيًّا. وإما عائدة إلى الشرع، وهذه إما أن تكون رواية، والرواية لا يتلقونها إلا من مسلم بلوا سيرته فكانت مظهر الصدق والعدالة، وإما أن تكون استنباطًا، والذين استنبطوا وتقلد الجمهور مذاهبهم كانوا على ذكاء واستقامة بحيث لا يدرج بينهم متعصب على الإسلام ينحو نحو الغض منه والتصغير من شأنه، وقد وضعوا فوق هذا موازين يعرف بها صحيح الرواية من سقيمها، ويميز بها خالص الآراء من رديئها. وإما أن تكون أدبًا أو تاريخًا، وهذه الفنون وإن أخذ منهم نقدها وتمحيصها أقل مما أخذ من العلوم الشرعية، قد أقاموا لها معالم تهتدي بها الأجيال المقبلة وتكفيهم شر أولئك المتعصبين، وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن الجوزي قد نقدا صاحب الأغاني الذي يستمد منه المؤلف أدبه وعلموا الأجيال المقبلة أنه لا يوثق بروايته ولا يعول عليه في تحقيق علم أو تاريخ.

ولا أحسب أمة يوجد فيها أمثال هؤلاء النبغاء، يروج بينها ما يصنعه المتعصبون على الإسلام للتصغير من شأنه دون أن يجد ناقدًا ومفندًا.

•••

قال المؤلف في ص١٣: «ولو أن القدماء استطاعوا أن يفرقوا بين عقولهم وقلوبهم وأن يتناولوا العلم على نحو ما يتناوله المحدثون، لا يتأثرون في ذلك بقومية ولا عصبية ولا دين ولا ما يتصل بهذا كله من الأهواء، لتركوا لنا أدبًا غير الأدب الذي نجده بين أيدينا، ولأراحونا من العناء الذي نتكلفه الآن.»

كأن لم يبق في المؤلف رمق من احترام التاريخ فأخذ يتحدث عن القدماء في هذه النزعة المتناهية غلوًّا يشبه غلو اللعانين في الأسواق! في القدماء من استطاعوا أن يفرقوا بين عقولهم وقلوبهم، وفي المحدثين من تضاءلت عقولهم حتى تفانت تحت سلطان أهوائهم، ولكن المؤلف لا يصدق أن أحدًا فرق بين قلبه وعقله حتى يخرج على الدين ولو في كل بحث مرة أو مرتين.

وليس من الميسور أن تجادله بالتي هي أحسن ما دام قانعًا بأن كل من يعتنق دينًا قامت الآيات البينات على صحته، لم يضع بين عقله وقلبه حاجزًا، وأن من يسوق الشاهد من الأغاني ونحوه دون أن يبحث في رواته ويدري صحة طريقه، فذلك الذي جعل بين عقله وقلبه سدًّا لا تستطيع العاطفة أن تظهره، ولا تستطيع له نقبًا.

•••

قال المؤلف في ص١٣: «فلندع لوم القدماء على ما تأثروا به في حياتهم العلمية مما أفسد عليهم العلم.»

حكى التاريخ أن أفرادًا قصر في الفهم باعهم أو قل في أدب النفس نصيبهم فأساءوا التصرف في العلم لأهواء شتى، وشهد قبل هذا بأن الجهابذة من القدماء نظروا فأحكموا النظر، ورووا فصدقوا في الرواية، وأنهم تصدوا بأنفسهم إلى إصلاح ما يلحق العلم من آفة الاحتيال أو سوء التأويل.

فلا تثريب على القدماء وإنما التثريب على تلك الفئة التي لا تخلوا من أمثالها العصور، حتى العصر الذي أزبد فيه كتاب «في الشعر الجاهلي» وأرغى.

قال المؤلف في ص١٣: «ولنجتهد في ألا نتأثر كما تأثروا وفي ألا نفسد العلم كما أفسدوه. لنجتهد في أن ندرس الأدب غير حافلين بتمجيد العرب أو الغض منهم، ولا مكترثين بنصر الإسلام أو النعي عليه.»

يعد المؤلف قراء كتابه بأنه سيجتهد في ألا يتأثر كما تأثر القدماء وفي ألا يفسد العلم كما أفسدوه، وقد خانه قلمه ولم يستطع أن يجني لنا من حديثه المسهب ثمرة.

قال المؤلف: إنه سيجتهد في درس الأدب غير حافل بتمجيد العرب ولا مكترث بنصر الإسلام، وقد صدق القراء وقال ما لا يخطر على قلوبهم سواه. وقال: إنه سيجتهد في درس الأدب غير حافل بالغض من العرب ولا مكترث بالنعي على الإسلام، وهذه الجملة لا تكاد تلتقي مع الواقع، فإن المؤلف احتفل بالغض من العرب منذ خلعوا الجاهلية من أعناقهم، واكترث بالنعي على الإسلام وألحف في هذا النعي حتى ركب من التعسف ما أفسد عليه علمه، وجعله يتشبث بقصص لا يسيغها المذهب الجديد.

•••

قال المؤلف في ص١٤: «ولا معنيين بالملايمة بينه وبين نتائج البحث العلمي والأدبي.»

يرمز المؤلف بهذا إلى ما يكتبه صراحة من أن الدين والعلم على خلاف، وهي كلمة يضاهي بها قول فئة تجادل بغير بينة وتقضي على غير نظام.

للعقل أحكام قاطعة وهي ما تستند إلى يقينيات كالمشاهدات والمتواترات، وللعقل أحكام غير قاطعة وهي ما تستند إلى ظن، وقد رفع الله الظنون بعضها فوق بعض درجات، فمن الظن ما يقوى فيوشك أن يكون علمًا، ومن الظن ما يضعف فيكون شكًّا، وقوة الظن وضعفه يرجعان إلى تفاوت الأمارات والدلائل التي توجده وتربيه في النفس.

وليس من قبيل العلم أو الظن الذي يكاد يكون علمًا ما يعترض نصوص الدين في قليل أو كثير، وإذا وجد في الظنيات البعيدة عن حدود العلم ما يعترض قرآنًا أو سنة، آثرنا العمل على ما في القرآن والسنة الثابتة وتركنا أمثال هذه الظنون يموج بعضها في بعض، ويتقلب فيها أصحابها إلى يوم الفصل. وما تسميه هذه الفئة البائسة علمًا وتزعم أن الدين على خلافه، لا يخرج عن هذا الظن الذي لا يغني من الحق شيئًا.

ومن المكايد التي تنصبها هذه الفئة لاقتناص المستضعفين من الناس، أن يقولوا في غير خجل: إن الدين يتلقنه القلب، أما العلم فمورده العقل، والقلب غير العقل، ويمكن في زعمهم اطمئنان الإنسان إلى عقيدتين متناقضتين، يطمئن إلى إحداهما بقلبه؛ لأنها واردة من ناحية الدين، ويطمئن إلى أخراهما بعقله؛ لأنها انساقت إليه بالدلائل العلمية. ولا يلتبس على ذكي أو غبي أن مرمى حديثهم هذا إنما هو سلخ النفوس من كل ما أرشد إليه الدين من علوم إلهية أو أدبية أو اجتماعية.

•••

قال المؤلف في ص١٤: «فإن نحن حررنا أنفسنا إلى هذا الحد فليس من شك في أننا سنصل ببحثنا العلمي إلى نتائج لم يصل إلى مثلها القدماء.»

وقع إلينا أن من مريدي (ديكارت) من توسل بمذهبه إلى استخراج نتائج على هوى ذوقه، ومنهم من اتخذه عثرة في طريق العقائد. ونزعة المؤلف ترمي إلى أنه يجري على هذا الأثر ولا ينشد إلا هذه الغاية، وها هو ذا قد أسهب في كتابه ما شاء أن يسهب، ولم يضع يده على نتيجة، ما خلا عثرات يلقيها في سبيل العقائد، وأقوال يفصلها على قياس أهوائه، وموعدك بحث الفصول القادمة وما أنت من بحث هذه الفصول ببعيد.

•••

قال المؤلف في ص١٤: «فأنت ترى أن منهج «ديكارت» هذا ليس خصبًا في العلم والفلسفة والأدب فحسب، وإنما هو خصب في الأخلاق والحياة الاجتماعية أيضًا.»

إن منهج «ديكارت» كمثل منطق «أرسطو» لا يخرج العقل من غسق الجهالة أو الحيرة إلى وضح اليقين أو الرجحان، وإنما يرسم خطة التفكير. والسير في هذه الخطة موكول إلى ذكاء الباحث وأمانته، فإذا كان عقل الباحث غير موزون، أو كان حظه من الإخلاص هضيمًا، لا يروع الناس إلا أن يقول ما يستعيذ منه «ديكارت» ويتهانف٤ منه الذين أوتوا الحكمة «الجديدة».

وحسبك شاهدًا على أن هذا المنهج لا تصلح له إلا البصيرة الخالصة النافذة أن أحد دعاته وهو «سبينوزا» قد ابتغاه وسيلة إلى نظرية «الحلول» وهي نظرية ذاهبة في السخافة إلى مكان سحيق.

•••

قال المؤلف فى ص١٤: «وأنت ترى أني غير مسرف حين أطلب منذ الآن إلى الذين لا يستطيعون أن يبرءوا من القديم ويخلصوا من أغلال العواطف والأهواء حين يقرءون العلم أو يكتبون فيه ألا يقرأوا هذه الفصول. فلن تفيدهم قراءتها إلا أن يكونوا أحرارًا حقًّا.»

إني غير مسرف حين أطلب منذ الآن إلى الذين يستطيعون أن ينقدوا الجديد ويخلصوا من أغلال التقليد حين يقرءون العلم أو يكتبون فيه أن يقرأوا تلك الفصول، فقد تفيدهم قراءتها؛ إذ يجدون فيها المثل الأجلى لتهافت الديكارتيين على ما يسميه المناطقة تناقضًا أو تخيلًا.

والوجه الذي يخرج منه مقلدة هذا المنهج إلى ما يؤاخذهم عليه العلم هو أن واضعه يجعل من أركانه عدم التسليم بشيء إلا أن يكون واضحًا لدى العقل، ومن هنا يمكن لغير المخلص، إنكار بعض الحقائق بزعم إبهامها وعدم إيضاح أمرها، كما يمكنه تقرير شيء من الباطل بإيهام أنه فحصه فكان حقيقة واضحة.

فمنهج ديكارت لا يحمي المؤلف من أن يناقشه الأحرار حقًّا، فيوضحوا حقيقة أنكرها أو يفضحوا زورًا ادعى أنه حق لا غبار عليه.

١  دائرة المعارف للبستاني ٨ : ٧٢٨.
٢  ص٧.
٣  ص٢٣.
٤  التهانف: الضحك باستهزاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤