أرستوفان

شاعر الملهاة

عَلَمان يُذكران إذا ذُكر أدب اليونان التمثيلي؛ سوفوكليس وأرستوفان. الأول زعيم المأساة، والثاني زعيم الملهاة.

ولم يكن الأدب اليوناني يعرف في نشأته الملهاة أو الكوميديا، بل كان يُؤثِر المأساة أو التراجيديا ويحتفظ لها بالمكانة الرفيعة، ثم ظهرت بين حين وآخر بعض تمثيليات كوميدية لا تحتل من الأدب منزلةً لها قيمتها، بل كان الغرض منها تسلية الجمهور، وإشاعة روح اللهو والمرح والفكاهة. ثم استقلَّت الملهاة عن المأساة، واختُصَّت بيوم مُعيَّنٍ لتمثيلها في أثناء الاحتفال بأعياد ديونيسوس إله الخمر، وهناك يتبارى المؤلِّفون وتُمثَّل رواياتهم واحدةً بعد أخرى في الملعب الكبير أو المسرح الخاص بالإله ديونيسوس في سفح الأكروبوليس، حيث لا تزال آثاره باقيةً حتى اليوم. ويُمنح صاحب أفضل ملهاةٍ جائزةً تتطلَّع إليها الأنظار، وتدور عليها الأطماع.

وليست الملهاة بضاعةً أثينية، وإنما وفدت إلى مدينة أثينا من صقلية، التي عرفوا عنها كذلك فن الخطابة. وفي أوائل القرن الخامس قبل الميلاد ساعدت الديمقراطية والحرية على ازدهار الملهاة حتى أصبحت في أثينا الطريقة المألوفة التهكُّم من الأخلاق والسياسة. وكانت تقاليد الاحتفال في عيد ديونيسوس تسمح بحرية لا حدَّ لها في القول، فلمَّا أُسيء استعمال هذا الحق صدر في عام ٤٤٠ق.م. قانونٌ يقضي بعقاب القذف الشخصي في الملهاة، ثم أُلغي هذا القانون بعد ثلاث سنوات، واستعادت الملهاة حُرَّيتها الواسعة في النقد، فكانت للأثينيين أشبه شيء بالصحافة الحرة في العصر الحديث.

ولسنا نعرف إلَّا الشيء القليل عن حياة أرستوفان؛ فقد وُلد عام ٤٥٠ أو ٤٤٤ق.م.، قيل في أثينا، وقيل إنه أجنبي عنها. ولقد سعى كليون، وهو الذي خلَّف بركليس في أثينا، إلى محاكمة أرستوفان ليُثبت أنه أجنبي عنها فيخلع عنه الحقوق التي يتمتَّع بها الأثينيون، غير أنه أخفق في ذلك، ممَّا يدل على صِحة انتسابه إلى المدينة. ويذهب بعض المؤرِّخين إلى أن غزو الإسبرطيين لأتيكا دفعه إلى هِجرة موطنه والاستقرار في أثينا، ولم يكن يُؤثِر معيشة المدن، فسخط على الحياة فيها كما سخط على الحروب التي أكرهتْه على هجرة الريف إلى المدينة. وهذا فيما يُقال هو السر في إيثاره السِّلم على الحرب في تمثيلياته.

وتُوفي عام ٣٨٠ ق.م.، وقد خلَّف ثلاثة أبناء لا يُحدِّثنا التاريخ عنهم شيئًا. وهو معاصر للحروب البلوبونية التي وقعت بين عام ٤٣١ وعام ٤٠٤، وأثَّرت أبلغ الأثر في حياة الإغريق. وظلَّ يُؤلِّف للمسرح فأنتج نحوًا من أربعين تمثيلية، عدَّها بعض المؤرِّخين اثنتَين وأربعين، لم يبقَ منها إلَّا إحدى عشرة.

وتمتاز هذه التمثيليات بالتحرُّر من القيود الأدبية التي كانت مفروضةً على المأساة بوجه خاص، كما تمتاز بحريةٍ واسعة في اختيار الموضوع والأسلوب والمنهج، ممَّا يُقارب بينها وبين الآثار الأدبية الحديثة، سواء أكانت خاصةً بالمسرح أم بغير المسرح. والناظر في هذه المسرحيات يرى أن جمهورها لا بد قد بلغ منزلةً راقيةً من الحياة العقلية، كما يرى أن حياة المدينة كانت على شيءٍ عظيم من الحضارة يُيسِّر لأهلها تذوُّق ذلك الفن الرفيع.

ولعلَّك توهَّمت أن كوميديا أرستوفان تُشبه تمام الشبه كوميديا المحدَثين التي تتوجَّه إلى تمثيل الأحداث الشخصية وأدب السلوك على وجه العموم، ويتألَّف نسيجها من المؤامرات والدسائس المتعلِّقة بالحياة الاجتماعية والمنزلية. ولقد عرف اليونانيون هذا اللون من الكوميديا ولكن في زمن مُتأخِّر عن عصر أرستوفان، وميَّزوا بين النوعين؛ فالنوع القديم كان يُمثِّله كراتينوس الذي عاصر بركليس وشنَّ عليه الحرب في تمثيلياته، ثم نسج على منواله فيما بعدُ إيبوليس وأرستوفان، وقد تعاونا على التأليف معًا أول الأمر، ثم اختلفا فافترقا وتهكَّم كلٌّ منهما على صاحبه تهكُّمًا لاذعًا، غير أنهما اتفقا في المشرب وهو مهاجمة الديمقراطية. والنوع الجديد من الكوميديا هو المعروف باسم «كوميديا العادات»، ولم تُؤلَّف هذه المسرحيات إلَّا بعد وقوع أثينا تحت نير مقدونيا، وهي لا تُعالج السياسة. وأشهر المؤلِّفين في هذا النوع ميناندر الذي سار على نهجه فيما بعدُ بلاوتوس وتيرنس في روما. وتمتاز كوميديا العادات بعدم وجود الكورس أو الجَوقة، وعدم وجود «الباراباس» أو المونولوج، وهو الخطاب الذي يُوجِّهه رئيس الجَوقة للجمهور. ويُعَد «الباراباس» من الصفات الهامة المميِّزة لتمثيليات أرستوفان، وهو خطبة تُعبِّر عن رأي المؤلِّف يُجريها على لسان رئيس الجَوقة. ولها نظام مخصوص. وكانت تُلقى عادةً في ختام التمثيل، ويُضمِّنها الشاعر آراءه في أحاديث الساعة والنصائح التي يَوَد أن يتوجَّه بها إلى الناس.

وكما اختلف المؤرِّخون في سيرته اختلفوا كذلك في الحكم على فنِّه؛ يُصوِّر بعض النقاد بضاعته مزيجًا من الجمال والحكمة والفُحش أو البذاءة. فإذا كان مزاجه معتدلًا فلن تجد شِعرًا يُجاريه في جمال النظم. وحواره قطعةٌ من الحياة، ممَّا يُذكِّرنا بشكسبير وموليير. وإنك لتحس في شخصياته عبير الزمن، وروح العصر الذي كان يعيش فيه، حتى لقد قيل: إن من لم يقرأ أرستوفان لا يعرف الأثينيين حق المعرفة.

ويقسو عليه هؤلاء النُّقَّاد من جهة أخرى فيقولون: إن العقدة في روايته سخيفة لا تلحظ فيها عناية، وقد تنحَل عند منتصف الملهاة. ثم الفكاهة عنده ذات مستوًى منحطٍّ تعتمد على المحسوس من أمور البطون والتناسل ومخارج الفضلات؛ ففي ملهاة «السحب»، يمزج أقذر الفضلات البشرية بأسمى ما وصلت إليه الفلسفة من صفات. ويصف منافسَه القديمَ كراتينوس في بعض التمثيليات بالضعف الجنسي. ولقد أدَّى هذا الفحش والأدب المكشوف إلى صدور قانون يُحرِّم التهكُّم من الأشخاص، ومع أن ذلك القانون أُلغي بعد قليل، إلَّا أن الكوميديا السياسية التي تقوم على النقد السياسي والتهكُّم من الساسة والحُكَّام ماتت مع موت أرستوفان، وحلَّت محلَّها كوميديا العادات والسلوك.

ويرى بعض النُّقاد أن الضحك الذي يبلغ حد القهقهة والقرقرة والإغراب هو عِماد الفُكاهة في ملهاة أرستوفان، حتى الآلهة لم تسلم من سخريته ولسانه الحاد. ولعلَّنا نعجب اليوم كيف يُسيء المؤلِّف في حقِّ الآلهة ويسمح لنفسه بهذه الجرأة، ولكن عجبنا يبطل إذا نفذنا إلى صميم المجتمع اليوناني وعرفنا روحه في ذلك الحين؛ فمن حق الشعراء الهزْليين أن يذهبوا إلى أقصى الحدود في فكاهتهم. وكان الشعب الأثيني سريع الفهم للنكتة، شديد الضحك للفُكاهة في ذاتها، حتى لو كانت تمس أشخاصهم، بل ذهبوا إلى أن الآلهة تشعر بالسرور من الفُكاهة الباعثة على الضحك كما يُسَر منها البشر. ويبدو أن الإغريق لم يُؤمنوا بآلهتهم الوثنية إيمان الاعتقاد واليقين. أمَّا الطبقة المستنيرة منهم فقد وجدوا في الآلهة لونًا من التشبيه البارع. وأمَّا الشعب فكانت عنايته منصرفةً إلى الاحتفالات والأغاني والرقص والمآدب، وإلى هذه المظاهر الخارجية التي تُثير الفضول دون أن يكمن وراء ذلك إيمان جِدي، أو إخلاص قلبي؛ فقد آمن الأثينيون بالآلهة عن طريق الخيال لا عن طريق العقل، وكانوا يُقيمون الطقوس المفروضة بغير تقوًى تصدر عن القلب. ولهذا السبب لا نجد الجمهور يهبُّ لتأييد الآلهة إذا مُسَّت بِشَرٍّ على المسرح، بل كانوا يتركونها تحمي نفسها إذا استطاعت.

وإذا كان أرستوفان قد استطاع أن يُؤثِّر في جمهور المستمعين على اختلافهم في الثقافة والرأي، وتباينهم في النشأة والثروة، فلا ريب أنه قد امتلك عِنان البيان، وأوتي حظًّا كبيرًا في تصريف شئون اللغة بكل أسلوب؛ وهذا هو سر العبقرية في شاعرنا الهزْلي؛ فإن أسلوب تمثيلياته هو الذي كفل لها الخلود.

ولستَ تجد لشعراء اليونان نظيرًا من جهة البساطة والوضوح والأناقة والرشاقة. وأرستوفان يبين بلسان قوي، ولفظ محكم، ونضد سويٍّ، فيمضي إلى صميم المعنى وينفذ إلى عين الموضوع. وقد يبدو على أسلوبه طابع التهلهل والإهمال، حتى إذا كشفتَ عنه الغطاء وجدتَ الغاية في الإبداع، ونهاية الكمال، وروعة الفن، وجمال الصنعة. وحواره يُفصح عن قدمٍ راسخة في الفن.

أمَّا أناشيده التي يُجريها على ألسنة الجَوقة، فإنه يُتابِع فيها خطا بندار وسوفوكليس، وهما زعيما فنِّ النشيد في الشِّعر اليوناني بلا منازع.

ومن المحسِّنات التي كان أرستوفان مغرمًا بها الاستعارة يكسو بها المعاني، فهو يُشخِّص الأفكار المجرَّدة فيلبسها ثوب الكائنات المتحرِّكة حتى يُسهِّل على الجمهور إدراكها والإحساس بها، ولم يكن يفوته الإشارة إلى مألوف الأعمال مهما تكن تافهةً أو فاحشة.

ولقد عابوا على أرستوفان هذه الحرية الواسعة في تصريف الكلام ممَّا ذكرناه عن الطائفة الأولى من النُّقَّاد، ثم قالوا: لقد كان أرستوفان قادرًا على تجنُّب الفُحش والإسفاف. ويحسن قبل أن نُصدر الحكم على هذا الشاعر أن ننظر في العصر الذي كان يعيش فيه، وفي نشأة الكوميديا اليونانية، وفي تأليف جمهور النظارة والمستمعين، فلا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن الكوميديا نشأت في أحضان الاحتفال بإله الخمر، وكان إله التناسل «فلونوريا» يمشي في الاحتفال حاملًا أعضاء التناسل، وكانت هذه العادات الدينية وما يصحبها من حرية لا تزال قائمةً في الوقت الذي ألقى فيه أرستوفان تمثيلياته. ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا كذلك أن حضور المسارح لم يكن مباحًا لجميع النساء أو الأطفال. وإلى جانب ذلك علينا أن نُحيط عِلمًا بالعادات الاجتماعية والخُلُقية المألوفة في ذلك العصر؛ فقد كان الأثينيون يتحدَّثون في صراحةٍ عن كل شيء، ولا يُثير في أنفسهم ما نَعُده اليوم فُحشًا وبذاءة؛ أي اشمئزاز. لهذا يجب ألَّا نعيب أرستوفان بالبذاءة والابتذال؛ لأنه كان يُتابع المألوف من العادات. وإذا كانت شخصياته التي يُصدرها وحشية الطباع، فإنه كان يصف المجتمع الذي عاش فيه، وهو كالمرآة التي ينعكس على صفحتها ذلك المجتمع. فإن قلت: إن بعض الحاضرين من علية القوم يأنفون من الألفاظ المبتذلة ويتذوَّقون الأدب غير المكشوف، قُلنا إن أغلب الحاضرين كانوا من الجمهور الذي يُحب القهقهة والفُحش، فكان على الشاعر أن يُقدِّم إلى السواد ما يطلبون وتشتهي أنفسهم؛ ليكسب التقدير والتصفيق والتهليل.

ومع ذلك فقد مدحه قوم من الصفوة، وهذا أفلاطون يسوق إليه المديح بعد وفاته، مع أنه هاجم سقراط في تمثيلية «السحب» مهاجمةً عنيفة، ومع ذلك لم يغضب منها سقراط الذي يروي أنه حضر تمثيلها طول الوقت. ويُحدِّثنا أفلاطون أن سقراط وأرستوفان خرجا بعد هذه التمثيلية صديقَين. ويُقال كذلك إن أفلاطون قدَّم هذه الملهاة إلى ديونيسوس الأول ملك صقلية. وأكبر الظن أن الملهاة تفاعلت على مرِّ الزمن فأشاعت عن سقراط الشُّهرة غير الحميدة التي قام من أجلها إلى المحاكمة.

ولقد عالج أرستوفان كل موضوع، ونزل إلى كل ميدان، وتحدَّث عن طبائع وأعمال الإنسان، غير أنه كان يقصر الخطاب على الأثينيين، فيُوجِّه النقد إلى الأخلاق الشائعة، والسياسة القائمة، والشِّعر الغالب، والفلسفة الجارية، والدين الموجود.

ويُعَد أرستوفان أرستقراطيَّ النشأة، واسمه نفسه يدل على النُّبل والشرف؛ ولهذا كان من الطبيعي أن يُهاجم الديمقراطية السائدة في عصره، وأن يجد فيها مادةً غزيرةً صالحةً للنقد. والواقع لا تستطيع الملهاة أن تعيش إلَّا على النقد اللاذع، وفي الديمقراطية والديماجوجيا مَعِين لا ينضب لشعراء الكوميديا. وليس معنى ذلك أن أرستوفان أدلى بدلوه في نظام الحكم والسياسة بحكم الفن والصناعة، بل عن اقتناع وإيمان. وآية ذلك أن آراءه السياسية لم تتغيَّر خلال تمثيلياته المختلفة؛ لأنها تقوم على شيء ثابت في طبيعة هذا الفنَّان.

الحكومة التي كان ينشدها هي الحكومة العادلة التي تُفسح المجال للحياة، ولا تستبد بالحقوق أو تحجر على العقول. ولو أن الأرستقراطية انتصرت كما كان ينبغي ثم استبدَّت، ما تردَّد في أن يُوجِّه إلى رجالها سِهام النقد والسخرية.

ولم يكن من اليسير على أرستوفان أن يطعن الديمقراطية، بحيث يشهد الجمهور مصرع نفسه ويُصفِّق للتحقير من شأنه، ومع ذلك فقد استطاع بعبقريته أن ينتزع إعجاب الجمهور فيُصفِّق له مع أن السخرية موجَّهة إلى النظارة والحاضرين.

وهو يكره الحرب ويُؤثر السِّلم؛ فقد رأينا أن الحرب هي التي دفعته إلى هِجرة الريف والذهاب إلى أثينا؛ لهذا السبب كانت أهداف الملهاة السياسية تطلب السلام. وقد بقيت لنا أربع تمثيليات سياسية؛ «الفرسان»: يُهاجم فيها كليون وسياسة الحرب على وجه العموم. و«الأخارنيون»: يُبيِّن فيها البؤس الناجم عن الحرب، وبخاصة هذا الذي يحلُّ بالمزارعين كما يُمثِّلهم ديقوبوليس الأخارني وأتباعه. و«السلام»: يُشيد فيها بنعمة السِّلم. و«لسستراتا»: وهي مؤامرة من نساء الإغريق على رأسهن لسسترانا الأثينية؛ لإرغام الرجال على إبرام الصلح.

وكانت أهدافه الخُلُقية غايةً في السمو؛ فهو يرمي إلى إصلاح مفاسد الشعب حتى يعود إلى صفائه القديم الذي استمدَّ منه القوة والإلهام؛ ولهذا السبب يُلح أرستوفان في إظهار «أهل ماراتون» على المسرح، وهم أولئك الذين يدين لهم الأثينيون بالحرية والعظمة في حربهم مع الفرس. والواقع ليس امتداح الشاعر للجيل الماضي نوعًا من الحنين أو العبث؛ لأن أحداث التاريخ تُثبت أنه على حق، ولأن العادات المستحدثة كانت العلة في انحلال الأثينيين؛ فقد تعوَّد الشعب الكسل، وماتت في نفسه حوافز الهمة منذ اتسعت المجالس النيابية لحكم الجمهور. ومن جهة ثالثة أفسدت تعاليم السفسطائيين الشباب؛ فهم يُقدِّمون إليهم حشدًا من النظريات ولا يحفلون بالأخلاق. هذه هي السموم الثلاثة القاتلة للأخلاق، والتي عُنِي أرستوفان لعلاجها؛ المجالس النيابية، والاجتماعات العامة، وتعاليم السفسطائيين. وسبيل أرستوفان في العلاج هو تذكير الشعب بفضائل السلف، في مُقابل العبث السائد عند الخلَف.

نجد هذه الآراء مبسوطةً في تمثيلية «السحب» التي يتهكَّم فيها أرستوفان على سقراط والسفسطائيين والتربية الحديثة. وفي ملهاة «الزنانير» يسخر من شغَف الأثينيين بالتقاضي، ويُبيِّن مساوئ المَحاكم. وفي ملهاة «الإكلزيازس» أو «مجالس النساء»، يسخر من المدن الفاضلة مثل جمهورية أفلاطون وما أشبه، وهي التي يطلب أصحابها تغيير النظم الاجتماعية والاقتصادية. وفي ملهاة «الطير» يضيق إقلبيدس وبستتاروس بأحوال أثينا، فيبنيان مدينةً جديدةً في مملكة الطير. ويرى بعض المؤرِّخين في هذه الملهاة تعريضًا بالحملة على صقلية وبمدينة ألقبيادس الفاضلة. وفي تمثيلية «بلوتوس» وهو إله الثروة، يُصيبه زيوس بالعمى فيفقد بصره، ثم يتخفَّى بلوتوس في زِيِّ الفقراء والمساكين، إلى أن يكتشف كريملوس أمره، وكريملوس هذا رجل شيخ أصابه الفقر من شِدة الكرم والجُود على أصحابه. ثم يُعيد أسقلبياذس، وهو إله الطب، إلى بلوتوس بصرَه؛ وعندئذٍ يُكافئ كريملوس مكافأةً حسنة، ويُوزِّع الثروة على البشر توزيعًا عدلًا على أُسس جديدة، فيُغني العادل ويُفقر الظالم.

وليست نظرات أرستوفان في الأدب أقل سموًّا من نظراته في السياسة والاجتماع والأخلاق. وهو لا يُهاجم الأدباء بدوافع شخصية، بل ينقد نقدًا عامًّا. ليس غريمه في الواقع هو أوربيذس، شاعر اليونان المشهور، ولكنه يتخذ من اسمه رمزًا لانحراف الذوق الأدبي، والبُعد عن البساطة الشريفة التي كانت تُميِّز طابع عصر بركليس. ولقد كان أوربيذس شاعرًا من شعراء المأساة المشهورين ولا نزاع، غير أن أرستوفان لم يُعجَب بطريقته في الأداء.

وفي تمثيلية «الضفادع» يسخر من أوربيذس ومن التراجيديا الحديثة، ويُصوِّر أرستوفان في هذه الملهاة ديونيسوس راعي الدراما ساخطًا على حالة الفن لأنها لا تُرضيه، فيذهب إلى بلوتون إله الجحيم ورَبِّ الموتى ليُعيد إلى الأرض شاعرًا من شعراء المدرسة القديمة الجديرة بالفن.

أمَّا في ملهاة «تسموفروز ياسوس» فإن أوربيذس يُستدعى للدفاع عن نفسه أمام نساء أثينا وقد اجتمعن في الاحتفال بعيد بعض الآلهة. هذا عرض سريع لما بقي بين أيدينا من تمثيليات أرستوفان التي كان يُصفِّق لها آلاف المتفرجين إعجابًا في مسرح ديونيسوس؛ فقد كان يتسع لخمسة عشر ألفًا من الأثينيين، وهو عدد يدل على مقدار ما بلغه فن التمثيل من أهمية وأثر في الشعب اليوناني. ولم يكن فوق المسرح سقف يُغطِّيه، فإذا جاء في التمثيلية ذكر الأرض والسماء والشمس والنجوم رأى النظارة أمورًا حقيقية إلى جانب ما يسمعون من شِعر وغناء وتمثيل، ممَّا يبعث على عمق الإحساس وصدق الشعور. وجرت عادة الممثلين أن يرتدوا أقنعةً تُخفي ملامحهم الحقيقية، فإذا كان أشخاص الرواية من الأحياء المعروفين، مثل أوربيذس أو سقراط، رسموا القناع بحيث يُشبه وجه ذلك الشخص. وكان النظارة من الجنسَين، وللنساء جانب خاص، وللرجال جانب آخر. ولم يكن يُسمح للمحصنات من النساء حضور الملهاة. وأمر النظارة عجيب حقًّا؛ فهم يأكلون الفاكهة، ويشربون الخمر، ويُقشِّرون اللوز والبندق وهم يتفرَّجون. ولقد اقترح أرسطو أن يكون مقدار ما يأكله النظارة من طعام مقياسًا لنجاح التمثيلية أو عدم نجاحها؛ لأنه الدليل على إقبال الجمهور واهتمامه. أضِف إلى ذلك التشاحن على الجلوس في المقاعد، والتهليل في وجه الممثِّلين استحسانًا أو الصفير استهجانًا، والدب على الأرض، والصفير والتصفيق، وقذف الممثل الفاشل بالزيتون والتين، بل بالحجارة. ومن الفكاهات التي يذكرونها أن أحد الموسيقيين اقترض حجارةً يبني بها داره، ووعد بردِّها لصاحبها ممَّا ينتظر جمعه بعد التمثيل. كيف إذن نلوم أرستوفان إذا مزج المعاني الشريفة، والآراء الفلسفية، بالفحش من الكلام إرضاءً لمثل هذا الجمهور؟!

وجرت العادة في سابق العهد أن تكون الجائزة التي ينالها أفضل شاعر في التراجيديا شاة، وأفضل شاعر في الكوميديا سلةً من التين وجرَّةً من الخمر، ثم تطوَّر الأمر في العصر الذهبي؛ أي في عصر بركليس، فأصبحت الجائزة مالًا. وكان عدد الحُكَّام عشرة يؤخذ برأي خمسة منهم فقط، ومع ذلك فكثيرًا ما امتدت يد الحُكَّام للرشوة أو تأثروا بهوى الجمهور. ويروي أفلاطون في كتاب «النواميس» أن القُضاة كانوا يخشَون الجمهور فيحكمون بما يشهدونه من تصفيق، ممَّا أدَّى إلى تأخُّر الفن في هذا «المسرح الشعبي».

وبعدُ فلم يكن أرستوفان أعظم شاعر هزْلي لأنه نال إعجاب الجمهور في عصره فقط، بل لأنه حاز تقدير صفوة رجال الفكر في زمانه وإعجاب المحدثين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤