إله أرسطو

«كان الفكر الإنساني منذ القِدم يُحاول إدراك معنى الكون وسر الخليقة، ولا تزال آراء أرسطو جبَّارةً في جِدَّتها حتى في عصرنا هذا.»١ (الثقافة)

يذهب أغلب مؤرخي الفلسفة إلى أن إله أرسطو هو «المحرِّك الذي لا يتحرَّك»، ويغفلون كثيرًا عن الصفات التي نسبها أرسطو إلى الله.

ومن الإنصاف للمعلِّم الأول، ولتاريخ الفلسفة، أن يُقال إن الله عند أرسطو هو المحرِّك الذي لا يتحرَّك، الواحد، الحي، التام الوحدة، لا ينقسم، وليس بذي عَظْم، لا مادي، وهو موجود، وفعل خالص، وصورة محضة، وعقل محض، ومعشوق لذاته.

بل يجب أن يُقال أكثر من ذلك: إن أرسطو في محاورة له «في الفلسفة» نادى بالبرهان الوجودي، وخلاصة الدليل «أن الموجودات بعضها أفضل من بعض، فهناك إذن موجود أفضل منها جميعًا، هو الكمال المطلق، وهو الله». وقال بدليل الإبداع في نفس المحاورة، وضرب مثلًا بقوم يتأمَّلون لأول مرة جمال الأرض والبحر، وعظَمة السماء والنجوم، فينتهون إلى أن هذه جميعًا من صنع الله. وأرسطو يتأثَّر في هذا الدليل الأخير خطا أفلاطون، وما ذكره في محاورة بارمنيدس وغيرها.

إلَّا أن أرسطو في مقالة «اللام» من كتاب ما بعد الطبيعة أو الفلسفة الأولى، يعدل عن هذه الأدلة، ويبتعد عن آراء الجمهور الدينية، ويستخلص الدليل من المبادئ التي تتلاءم مع جملة فلسفته، ومع رأيه في الفلسفة الأولى.

وبرهان المحرِّك الذي لا يتحرَّك هو البرهان الذي اختُص به أرسطو فاشتُهر به. ويقتضي فهم هذا البرهان الكلام في الحركة والمحرِّك والمتحرِّك والزمان؛ ولذلك يجب أن ينظر الباحث إلى كتاب ما بعد الطبيعة، وفي كتاب الطبيعة، السماء والعالم.

والحركة هي تغيُّر أو تبدُّل أو انتقال يشمل المتحرِّك، وهو الجسم، ويقتضي محرِّكًا. ويذهب أرسطو إلى أن حركة العالم أزلية، وليس لها أول ولا آخر، وكل جسم فهو متحرِّك بالفعل أو بالقوة.

وكل حركة فيه في زمان، فلا حركة بغير زمان، والزمان مقياس الحركة.

فإذا كانت الحركة أزلية، فإنها ناشئة عن ارتباطها بالزمان، والزمان أزلي.

فإن قلت: وما الدليل على أزلية الزمان؟ أجاب أرسطو: خُذْ أي مُدة أو لحظة، تجد أنها وسط بين الماضي والمستقبل؛ فالزمان آنات متصلة، ولو وقفنا عند أي مُدة، فهذه المُدة جزء من الزمن المتصل من الماضي إلى المستقبل. وإذن فلا أول للزمان؛ لأن أول الزمان حاضر له ماضٍ ويتبعه مستقبل، فالزمان أزليٌّ لا أول له ولا آخر.

ولمَّا كان الزمان عدد الحركة أو مقدارها، وكان الزمان أزليًّا، فالحركة إذن أزلية بالضرورة.

ومن هذا الوجه يتبيَّن أنه من التناقض قَبول فكرة الحركة على أنها ذات بداية وذات نهاية؛ إذ يقتضي ذلك القول بوجود «قبل» على مبدأ الحركة، و«بعد» على نهاية الحركة، وهذا خُلف وتناقض؛ لأن «القبل»، وهو الحالة السابقة، و«البعد» وهو الحالة اللاحقة، يتضمَّنان فكرة الحركة.

•••

ينبغي إذن أن نُسلِّم — كما يقول أرسطو — بأزلية الحركة.

ولا يمكن أن تكون أزليةً إلَّا إذا كانت دائرية.

وهذه الحركة الأزلية الدائرية هي الحركة الأولى المتصلة للعالم، وجميع الحركات الأخرى مُترتَّبة عليها، ومتعلِّقة بها؛ ذلك أن سائر الحركات الأخرى تقع بين حدَّين متقابلَين، والتغيُّر المستقيم ذو بداية ونهاية؛ أي إنه يتردَّد بين نهايتَين.

الحركة الدائرية فقط هي الحركة المتصلة؛ لأنها تنتهي من حيث بدأت. وكذلك الحركة الأزلية المتصلة إلى ما لا نهاية دون انقطاع، ليست إلَّا للحركة الدائرية.

هذه الحركة الدائرية الأزلية هي على التحقيق حركة «السماء الأولى». أمَّا إنها دائرية فلا تحتاج إلى برهان؛ لأنها واضحة لنا بالمشاهدة المحسوسة، وما دامت دائرية، فهي أزلية.

•••

فما على حركة «السماء الأولى»، وما علة أزليتها؟

لو قلنا إن المتحرِّك لا بد له من محرِّك؛ لذهبنا مع سلسلة المحركات إلى ما لا نهاية. فلا بد أن نضع حدًّا يكون أصلًا، أو مبدأً للحركة، وهذا الحد لا يتوقَّف إلَّا على ذاته، فهو على حركة ذاته. غير أن المحرِّك الذي يتحرَّك بذاته يقتضي بالضرورة جزأَين؛ جزءًا متحرِّكًا، وجزءًا محرِّكًا لا يتحرَّك. إذَنْ فالعلة الأولى للحركة الأزلية محرِّك لا يتحرَّك. هذا المحرِّك الذي لا يتحرَّك هو الله.

ومن صفاته أنه «موجود» ما دامت الحركة التي تتوقَّف عليه أزلية.

ومن صفات هذا المحرِّك أنه «تام الوحدة»؛ لأن الحركة الأزلية التي نشأت عن وجوده متصلة، والاتصال يقتضي الوحدة.

والله حيٌّ لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، وحياته دائمة أزلية، لأنه يُحرِّك السماء الأولى وما فيها من نجوم وكواكب حول الأرض، والسماء كائن حيٌّ تُحرِّكه نفس، كما أن هناك عقولًا للكواكب التي تزيد على الخمسين وهي التي تُحرِّكها.

ولا يكفي أن نقول إن المحرِّك الأول واحد، فهو أيضًا غير منقسم؛ لأنه غير ذي عظم أو مقدار. ولا يمكن أن يكون ذا مقدار أو عظم؛ لأن كل عظيم فهو متناهٍ، وهو يُحرك في زمان لا متناهٍ، والمتناهي لا يُحرِّك اللامتناهي؛ فهو إذن غير ذي عظم ولا ينقسم.

ولمَّا كان الله عاريًا عن التغيُّر، فإنه هو ذاته، ووجوده ضروريٌّ ضرورةً مطلقة؛ ذلك أنه فعل خالص لا يشوبه شيء من القوة؛ لأن ما بالقوة قد يتحقَّق وقد لا يتحقَّق. فإذا كان المحرِّك الأول موجودًا بالقوة فقد لا يفعل، ولن تكون حركته أزلية.

وما الدليل على أن الله فعل خالص؟

يذهب أرسطو في سبيل إثبات ما يريد إلى أن مبدأ الأشياء فعل خالص، وأنه من الخطأ اعتبار القوة سابقةً على الفعل، وأن أصل الأشياء القوة المجرَّدة، كما يذهب القدماء من رجال الدين، وهم الذين أخرجوا العالم من الظلام والليل، وكما يذهب الفلاسفة القائلون بأن اختلاط المادة هو مبدأ الأشياء.

فإذا كانت المادة والقوة حقيقتَين أوليَين، فمن أين جاءت الحركة وهي انتقالٌ من القوة إلى الفعل؟

من المسَلَّم به في نشوء الكائنات الحية أن المبدأ هو البذر، ولا يبلغ الكائن كماله إلَّا في آخر الأمر. غير أن البذر يخرج من الكائن الكامل. فليس المبدأ هو البذر، بل هو هذا الموجود الكامل. وإذن فالحقيقة الأولى هي حقيقة الفعل والكمال.

فالمحرِّك الأول يُحرِّك العالم باعتبار أنه كمال مطلق.

والمحرِّك الذي لا يتحرَّك معشوق.

وليس المعشوق شيئًا آخر إلَّا المعقول؛ لأن موضوع العشق يُدرَك بالعقل والفكر؛ إذ بالفكر نُدرك الجميل والخير، وهما موضوعا العشق.

كان المعقول الأول، المعقول الأسمى، هو هذا المبدأ الذي نتحدَّث عنه. ولمَّا كان أزليًّا، لا ينقسم، وكان فعلًا خالصًا؛ فهو لا مادي. إنه الجوهر المعقول العاري عن كل مادة، وحيث كان كذلك فهو الموضوع الأسمى للعشق، وهذا هو علة فعله الدائم.

فالمحرِّك الأول يُحرِّك من حيث إنه معشوق، يتعلَّق به السماء والعالم جميعًا. والحركة التي يقتضيها هي فعل العشق الأزلي.

هذا الموجود الكامل، المعشوق الكامل الذي يجذب العالم نحوه، هو الذي تُسمِّيه الفلسفة: الله.

ولقد ميَّز أرسطو من أول الأمر عند البحث في عِلل الموجودات بين الطبيعة التي تبحث في الموجودات، الطبيعية الخاضعة للحركة والمتلبِّسة بالمادة، وبين الفلسفة الأولى التي تبحث في الله؛ أي الموجود الذي لا يتحرَّك، المفارق للمادة.

فالمحرِّك الأول هو هذا الموجود الذي لا يتحرَّك، المفارق للمادة. ونحن نعلم أنه لا يتحرَّك لأنه يُحرِّك من حيث لا يتحرَّك. ونعلم أنه مفارق للمادة ما دامت صفات الأزل والوحدة والفعل الخالص التي يتصف بها، هي صفات الموجود العاري عن جميع شوائب المادة.

والله عقل محض؛ لأن الموجود الأسمى لا يصدر عنه إلَّا الفعل الأسمى، وأسمى ضروب الفعل هو الفكر.

ولأن الفكر هو أسمى الأشياء، كان الله فكرًا خالصًا.

وينبغي ألَّا تُشبِّه الفكر الإلهي بالفكر الإنساني؛ ذلك أن الله فعل محض لا يشوبه شيء بالقوة، ولذلك لا يعتري فكره نقص.

وماذا يكون حال الله إذا اعتراه ما يعتري الإنسان إذا أخذته سِنة من النوم؟ وإذا كان الله عقلًا خالصًا فما موضوع الفكر الإلهي؟

لا بد أن يكون موضوع الفكر الإلهي شيئًا لا ينقسم؛ إذ لو كان منقسمًا كان ذا أجزاء؛ عندئذٍ ينتقل الفكر من جزء إلى آخر؛ فيخضع للتغيُّر.

فإذا كان موضوع الفكر الإنساني الأشياءَ المركَّبة، ولا يرتفع إلى إدراك الواحد اللامنقسم، فإن الفكر الإلهي حدس دائم متصل يُدرك الواحد المطلق اللامنقسم.

ولكن الواحد اللامنقسم هو الله.

فالله يدرك ذاته. وموضوع الفكر الإلهي هو ذاته. ولا يمكن أن يكون غير ذلك؛ لأن الله يعقل أسمى الأشياء، وكل ما عدا الله يعتريه النقص.

•••

ثم تساءل أرسطو — بعد أن حدَّد الطبيعة الإلهية — عن الصلة بين الله الكامل وبين العالم؟

آلله مفارق مفارقةً تامةً للعالم، أم هو يدخل في نظام العالم؟

يُجيب أرسطو بأن الله مفارق للعالم وحاضر في نظامه في آنٍ واحد. مثَله من العالم مثَل القائد من الجيش، يجمع «الخيرُ» بينهما، ﻓ «الخير» موجود في نظام الجيش وفي عقل القائد. بل «الخير» أكثر وجودًا في عقل القائد؛ لأن نظام الجيش لا يخلق قائده، بل القائد هو سر نظامه.

فالكمال موجود في الله المفارق للعالم، والكمال ظاهر في نظام العالم؛ ذلك أن العالم يقوم على النظام، سواء أكان ذلك في عالم السماء أم في عالم الكون والفساد، إلَّا أن النظام في عالم السماء أتمُّ وأكمل. وليس الكون فوضًى لا ضابط له ولا إحكام في أجزائه؛ إذ الواقع أن ما فيه من نظام يقتضي واحدًا حكيمًا.

١  نُشرت هذه الكلمة في عدد ٤ مايو ١٩٤٨، فعلَّق التحرير عليها بهذه السطور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤